الرسالة الثانية عشرة

تجوال في بلاد الغال

خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وبرأه على أبدع تكوين، وصوَّره في أجمل مثال، وفطره على أكمل منوال، ثم أودع فيه من غرائب الغرائز وخَفِي الأسرار ومكنون القوى ما لا يرتاب في وجوده الحاذق الفطين أو يتخيله الدرَّاكة الفهيم أو يخطر على بال اللبيب الأريب، ولا يزال العلم يكشف لنا في كل يوم عن قِناع هذه الخبايا، ويكاشفنا بما في تلك الزوايا، ويطلعنا بمقدار تقدم العرفان على ما في الإنسان العاجز من آثار الاقتدار كلما قرن الإرادة بالعمل ووفق بين الفكر والتحقيق في مظاهر الوجود. وهذه كلها قضايا ثابتة عند من قدح زناد القريحة الصحيحة، وتدبر في سلائق الخلائق، وأرسل رائد التأمل إلى عجائب الارتقاء العصري، وما كان من نتائج سعي العقلاء في الأيام الخوالي.

أقول ذلك بمناسبة ما اشتهر به المصريون من الركون إلى السكون والخلود إلى الراحة والقناعة بالكفاف، وما ذلك إلا لتوفر العيش في بلادهم البارة بأهلها، وتيسر أسباب الكسب ونوال الرزق من غير ما كد ولا كدح، كما هو الشأن في الأمم المتوطنة بالبلاد الجليلة أو الأصقاع المجدبة القاحلة، أو البلاد التي ضاق ذرعها عن القيام بأود أبنائها، حتى اضطروا للنزوع عنها إلى ما هو أخصب وأبرك سعيًا وراء القوت أو طلبًا للرفاهية والنعيم.

وليس السكون من شئون المصريين دون من عداهم ممن يدبون على وجه الكرة الأرضية، فما هم وربك إلا كسواهم من طوائف المخلوقات الذين أفاضت عليهم يد العناية الأزلية نعمها المترادفة، حتى جعلت بلادهم مطمحًا لأنظار الغريب عنها يلتجئ إليها على الدوام، ويقرع أبوابها طلبًا للقرى والضيافة.

ثم إننا إذا نزلنا في سلم الكائنات إلى الحيوانات رأينا هذه النتيجة بعينها، فأنواع الدبابات وأصناف الحشرات وأطيار الهواء وأسماك الماء خاضعة لهذا الناموس الكوني العام، فما كان منها في وسط مشحون بالخيرات تراه من طبيعته ميالًا للسكينة وعدم العنفوان، وما كان بعكسه يكون من خلقه البطش والبغي والعدوان، وقد استمر الحال على هذا المنهاج حتى تأصلت هذه الأخلاق، وصارت وراثية في كلٍّ من الفريقين يتناقلها الأبناء عن الآباء والأحفاد عن الأجداد، ولكننا إذا قبلنا الموضوع وعكسنا القضية كما يفعل علماء الطبيعيات ببعض الحيوانات، لا تلبث الجبلات أن تتغير، والسجايا أن تتحور، والطبائع أن تتنوع وتتحول، والأميال أن تتبدل وتتعدل بحسب ما يقتضيه الحال ويستوجبه المقام.

لذلك كان البدو على العموم مجبولين على الترحال والضرب في أطراف البلاد، حتى إذا تمصروا أصبحوا كأهل الحضر أقل استعدادًا للهجرة والتغرب عن الأوطان والابتعاد عن الأرض التي نبتوا بها، واستقوا من مائها وتغذوا بنباتها.

ولما كانت بلاد الإنكليز كثيرة البعد عن أن يصدق عليها أنها من الخصب وتوفر الرزق، بحيث تكفي لمؤنة أهلها، تولد فيهم بالضرورة حب السياحة والسعي في مناكب الأرض، وبذل كل ما في وسعهم من الوسائط الحسية والوسائل المعنوية لجلب الثروة من أقطار الأرض وأطرافها إلى تلك الجزيرة التي يسكنون بها، ثم لما ضاقت عنهم التزموا بالاستكثار من الاستعمار والانتشار في سائر الأقطار، مثل الفينيقيين وأبنائهم القرطاجيين، ومثل الأغارقة (Ies Grecs) والرومانيين، ومثل العرب في أول دولتهم، والبرتغاليين والإسبانيين في مبدأ نشأتهم، ومثل الألمانيين واليونانيين وغيرهم من أمم هذا الزمان.

وبعد أن كانت السياحات للإنكليز من أول الحاجيات، أصبحت الآن من ضروريات الكماليات؛ لأنها رُسِّخَت في ملكاتهم وثبتت في أخلاقهم حتى إنهم فاقوا جميع أمم الأرض في هذا الموضوع.

وبعكسهم المصريون وأشباههم من الأقوام، فإنهم لم تحوجهم بلادهم للخروج من حوزتها ومبارحة حومتها؛ لكونها تكفَّلت لهم بلوازم الحياة ولم تضنَّ عليهم بما يسد رمقهم، حتى إنه ما أمكن ولا يمكن ولن يمكن أن يموت فيها أحد بسبب الجوع، كما هو حاصل في كل يوم بلوندرة وغيرها من مدائن الإنكليز، ولا يمكن أن لا يجد العامل فيها عملًا يغنيه عن بذل ماء الوجه وإخلاق الديباجة أو الانتحار إن كان في نفسه شيء من الشمم والشهامة. وأما لوندرة وحدها فقد شهد الأستاذ كيرهاردي نفسه، وأكد بأن عدد العمال الذين لا عمل لهم هو ١٠٠٠٠٠، ومعلوم أن أقل تعطيل في معامل أية مدينة من بلاد الإنكليز يوجب انقطاع الخبز عن مئات ألوف من العمال كما تشهد به التلغرافات.

فلا غرابة حينئذ في أن مصر لم تخرج كثيرين من أهل السياحة والريادة ومحبي الاستطلاع، ولكن ذلك ليس برهانًا على عدم استعداد أهلها لها، بل إن البارئ — جل وعلا — خصَّهم أيضًا بهذه الغريزة، كما حلَّاهم بصفاء القريحة، وجودة الذهن، وسمو المدارك، وغير ذلك من المزايا العقلية التي يعترف لهم بها حتى أعداؤهم من الأجانب.

وإنما الأعمال محك الرجال، فلا يصح للعاقل المنصف حينئذٍ إلا أن يسخر ويستخف بأولئك السائحين الذين جاءوا مصر، وحكموا بأن أهلها ليس فيهم اقتدار على السياحة وطلب العِز في التنقل، فإن أول طواف حول أفريقية كان في عهد الفراعنة الأقدمين، وعلى سفائن المصريين وبواسطة المصريين، خرجوا من بحر الروم مُغربين حتى تجاوزوا بحر الزقاق (بوغاز جبل طارق)، ثم اجتازوا بحر الظلمات (المحيط الأطلانطيقي) إلى أن بلغوا ما يعرف الآن برأس عشم الخير، ثم جابوا البحر الهندي وألقوا المراسي عند مدينة القُلزَم (قريبًا من السويس). ومن نظر في كتاب (مصر والجغرافيا) الذي وُفقت إلى إظهاره حديثًا أذعن بأنهم قد كانت لهم اليد البيضاء في الاكتشافات الجغرافية التي حصلت ببلاد السودان وغيرها، وإن كانت رسائلهم وتقاريرهم وكتاباتهم لم تنل حقها من الانتشار؛ حتى تكون بهجة في عين المحب وقذى في أعين المبغضين.

ولقد صدق الفرنساويون في المثل الذي أرسلوه، حيث قالوا: (إن الشهية تحضر وقت الأكل L’appetit vient en mangeant)، وأصدق منهم إمامنا البوصيري فيما أتى به من الحكم (إن الطعام يُقوي شهوة النَّهم)، فإني حينما أتيح لي مبارحة الربوع التي ألفتها والديار التي عهدتها (وهذه هي المرة الأولى) عرفت مقدار الحنين إليها والتوجع من مفارقتها، حتى لقد اشتد بي الوجد عليها وأنا بفلورانسة على مَقربة منها، ولا يعرف الشوق إلا من يكابده، ولا ينكر هذه العواطف النبيلة إلا من تجرد منها.

ولكنني كنت كلما طوَّحت بي الأسفار أستأنس إلى السياحة، وأرى في نفسي ما يجذبني إلى رؤية بلاد كثيرة وأقوام عديدة، حتى إنني لمَّا كنت بليفربول شعرت بما يدفعني إلى زيارة بلاد الغال، وقد دارت المكالمة بيني وبين بعض الإنكليز على ما عزمت عليه من التوغل في هذه البلاد فاستكبر هذا المشروع على شاب من المصريين، وقال لي: «إنه من باب المجازفة سيما مع قلة بضاعتي في اللغة الإنكليزية مع كوني لو كنت متقنًا لها لما أفادتني بشيء كثير؛ لأن أهل تلك البلاد لهم لسان آخر خاص بهم، وهو بعيد عن الإنكليزية بعدًا شاسعًا.» فقلت له: «ولمَ تقدمون أنتم إلى بلادنا وتكتبون عليها مع عدم معرفتكم بلساننا، ولا وقوفكم على أخلاقنا؟!» فقال: «إننا نستعين بما كتبه أسلافنا الذين خالطوكم وأقاموا بين ظهرانيكم، فضلًا عن انتشار لساننا في أوطانكم وكثرة التراجمة الذين نستخدمهم في التفهم والتفهيم.» فأجبته بأني «لا أرى من مانع في أن أكون لقومي مثل أولئك الأسلاف الذين تشير إليهم، وأني أستعين بترجمان من أهل تلك البلاد يفهمني بالإنكليزية وعلى قدر الإمكان ما ليس في وسعي إدراكه من لغة قومها، فإن الإنكليز والأمريكانيين لا بد أن يكونوا قدموا إليها، وحينئذ فلا شك في وجود نفر من أهلها بكلمونني بالإنكليزية على قدر ما أفهم».

ثم أحطت صاحبي بمشروع سياحتي في الأندلس والبرتغال، وأني لا أفهم كلمة واحدة من اللغة الإسبانية، فقال: «ذلك سهل عليك؛ لأنها قريبة من الفرنساوية والطليانية ولك بهما إلمام.» فسلمت له بسداد هذا الجواب، فقال لي: «وهناك عوائق أخرى ربما لا تقوى على مقاومتها، وهي البرد الشديد والرطوبة الزائدة وتوالي الأمطار في هذه البلاد الجبلية.» فقلت له: «وفوق ذلك فإني عازم على النزول إلى مناجم الفحم الحجري.» فهز رأسه وبرم شاربيه وتبسَّم ضاحكًا ثم قال بصوت متقطع: «إذا كان الكلام سهلًا على اللسان، فالعمل صعب على الإنسان.» فترجمت له ما قاله شعراؤنا «أنجزَ حُرٌّ ما وعد – وإن غدًا لناظره قريب»، ثم ودعته بعد أن وعدته بأني أكاتبه من هاتيك البلاد، وركبت القطار في عصر النهار.

ولما وصلت إلى مدينة شستر Chester استدعيت حَمالًا نَقَلَ متاعي إلى قطار آخر، وأعطيته جنيهًا ليستحضر لي تذكرة إلى لنجوثلن Lengollen ويرد لي الباقي، فذهب وغاب ثم رجع موفيًا بالمراد، فأتحفته بما قَدَّرني الله عليه؛ لأنني فكرت أنه كان في وسعه عدم الرجوع. ووصلت لنجوثلن في منتصف الليل أو قبله بقليل، وكان المطر متواليًا عليها بما لم أعهده في عمري، وأما البرد فيكفيني أن أقول إنه أهداني بالزكام مدة أربعة أيام، وسمعت للمياه خريرًا يشبه الهدير والزئير وكأنها متدفقة من صخور عالية متأطمة على جنادل متوالية متساقطة في جداول سافلة.

وبلغت النُزُل كالغريق لا يخاف البلل، فأوقدوا نارًا حامية اصطليت بها واستأنست لها، وما سمعت أذان الديكة في الأيكة وتسبيح الأطيار على أفنان الأشجار حتى وثبت إلى الشباك، وألقيت نظرًا متسارعًا إلى ما أمامي من المناظر، فإذا جبال شاهقة تكسوها خضرة رائعة، تتخللها أزهار شائقة، تكتنفها أشجار باسقة، تنساب بينها مياه دافقة، لونها ضارب إلى الاصفرار والاحمرار مثل مياه النيل المبارك أيام الفيضان، فانثلج فؤادي كما انثلج جسمي، وقَرَّت عيني بباهر هذه المناظر وجمال هذه الحال، حتى عَوَّلت على إطالة الإقامة في هذه المدينة الصغيرة التي يبلغ عدد سكانها ٣١٣٣ نسمة، فأخلدت إلى الراحة فيها وترويح البال بمرائيها بعد أن لاقيت من لَغَط المدائن الكبيرة وضجتها ومتناهي اضطرابها وحركتها، ما جعلني محتاجًا لقليل من الراحة حتى يعود لي النشاط لموالاة السياحة. ومن الغرابة أني عَلمتُ بعد مبارحتي لها بزمان أن أهل التجوال لا يحطون بها الرحال إلا للاستراحة.

فإنها مدينة صغيرة واقعة على نهر الدي (ومعنى دي باللغة الغالية: الأسود، وبالإنكليزية بلاك)، وتسمى بلسان أهلها لنجوثلن، وإن كانوا يرسمون اسمها في الكتابة هكذا (للنجولن)، وعلى نحو ميلين منها أطلال دارسة لدير قديم، وهي أجمل ما بقي من عمائر القدماء في شمال هذه الأراضي، وعلى ميل ونصف منها بقايا حصون منيعة قائمة بشكل مخروطي على تل مرتفع يطل على المدينة، ويصد عنها المغيرين عليها، وقد زرتهما بالتفصيل وشاهدت أعمال الحفر فيهما، وكشف ما كان دارسًا تحت الأرض منهما. وفيما وراء هذه الحصون يمتد النظر إلى مسافة أربعة أميال تشغلها جبال طباشيرية، تتخللها مروج أريجة ومراعٍ فسيحة، ويحف بالمدينة من الشمال إلى الجنوب وادٍ بَهي بهيج يبلغ طوله ٢٤ ميلًا، ينعش الفؤاد ويشجي النفس بنوره وزهره وخضرته، وقد آثرت التوجه إليه على عربة في طريق البر عن ركوب القطار، حتى أتمتع باجتلاء محاسنه وتسريح الطرف في مشاهده. ورأيت ما أبقاه فيه الدهر من آثار القصور الدارسة التي تتعلق بما كان لها من المكانة في الفخامة والجلال، وتشهد بأن الأيام خلعت عليها ما عندها من الجمال.

وقد تنقلت من هناك إلى قرى كثيرة حول لنجوثلن، وتحققت في أهل الغال بشاشة وبشرًا وائتناسًا ويسرًا مع الطباع الكريمة والأخلاق الفاضلة النبيلة، ولهم بالغريب حفاوة وأي حفاوة، فهم يتهالكون على خدمته والاجتهاد في مرضاته من غير أن تكون لهم غاية ما في ديناره، وخلاصة القول أني عهدت فيهم تلك السجايا البدوية العربية الفاضلة التي تتجلى مظاهرها في الأرياف والخلوات أكثر منها في المدائن والأمصار، وهذا ما حداني على إطالة المكث بلنجوثلن أكثر مما تستحق في الحقيقة، وخصوصًا أن الفندق الذي نزلت فيه وهو (هاند هوتل Hand Hotel) قد قام أهله بخدمتي فوق اللازم ويَسروا لي جميع المطالب بما كتب لهم على صحيفة فؤادي آيات من الشكر لا يمحوها الدهر، لقد وطنت نفسي على الذهاب إلى هذه المدينة إذا ساعدتني العناية بالقدوم إلى أوروبا مرة ثانية.

وقد رأيت النساء في بلاد الغال يفقن أضرابهن في بلاد إنجلترا الحقيقية، فيما هو من مميزات الجنس اللطيف مع ما هنَّ عليه من البساطة التي تستوجبها المعيشة الخلوية، وبُعدهن عن التأنق الذي يضطر إليه أترابهن حينما يطلعن في سماء الأمصار. وللسيدات في لنجوثلن جمعية خاصة بهن في دار هي في الحقيقة تُحفة للناظرين وطُرفة للقادمين، فقد حوت من آثار الصناعة وبدائع الأعمال ما لا يمكنني المقام من استيفائه الآن، فإنها كلها من الخشب القديم المشغول شغلًا دقيقًا على يد أمهر الصناع، وفيها طرائف قديمة ومجموعات نفيسة من حُليٍّ وجواهر ومتاع فاخر وصور ومناظر وأسلحة ونقوش وأشكال وأوانٍ، يليق بها أن تعرض في أهم المتاحف المعتبرة، وفيها رجام قبر من الرخام مكتوب عليه عبارة باللغة التركية.

وفي هذه المدينة الصغيرة أكثر من اثني عشر معملًا لغزل الصوف ونسجه، يديرها التيار والبخار، وقد تفرجت على بعضها ورأيت الصوف كيف يُفرز، ثم يُنظف، ثم يُغزل، ثم يُنسج، ثم يُغسل، ثم يُكوى، ثم يُلَف، وكل ذلك بواسطة الآلات، وتحت مراقبة شرذمة من الغلمان وثلة من البنات.

ولا أعلم كيف استولت عليَّ الرغبة في التوجه إلى منبع نهر الدي، ورؤيته وهو يخرج من البحيرة التي تتجمع فيها المياه المتساقطة من الجبال، فجهزني أهل الفندق بما يلزم، وأحضروا لي ترجمانًا صاحبني في ذهابي بالسكة الحديدية إلى مدينة بالا Bala، وسرت مسافة ساعة حول بحيرتها، ورأيت الجداول تنساب من قلل الصخور القريبة منها، وتنهال في حياضها، ثم تجري إلى الوادي فيتكون منها نهر الدي.

كل ذلك والمطر متوالٍ لا ينقطع إلا بمقدار خمس دقائق تطلع فيها الغزالة، ثم لا تلبث أن تختبئ وراء حجاب السحاب، يكتنفها قَوس قَزَح مزدوجًا، بل قد لا تمهلها الأمطار ريثما تختفي عن الأنظار، ولقد طاب لي المقام في هذه المدينة الهادئة المطمئنة مع ما فيها من التغيرات الجوية التي لا تخطر على بالِ مَن تعوَّد إقليمنا.

ولكني ما قدمت في الحقيقة إلى بلاد الغال إلا طمعًا في رؤية مناجم الفحم الحجري أس الصناعة وينبوع الثروة ومحور العمران في هذا الزمان، ذلك المعدن النفيس الذي يجدر بنا أن نسميه الحجر الكريم والإكسير الصحيح، فإنه فضلًا عن فوائده المتعارفة قد استخرج منه علماء الكيمياء أصباغًا باهية متنوعة وأعطارًا أذكى من جميع الأصناف المعروفة، وسكرًا يباع في الصيدليات، والدرهم منه يوازي أكثر من ثلاثين من أجود أنواع السكر المعتاد، وقد أثبتوا أن حجر الماس من الكربون، وبذلك يجوز لأهل البيان أن يقولوا إن الماس في الفحم في الحقيقة والمجاز (وسبحان من يفتق النور من رتق الظلمات، ويخرج الأحياء من الأموات)، وفيه غير ذلك من الجواهر والمنافع والمزايا التي ربما أتعرض لشرحها عند الكلام على المنجم الذي زرته بالتدقيق والتفصيل.

فإني قمت من لنجوثلن يصحبني ابن ربة النزل حتى وصلت إلى مدينة شيرك (Chirk) على طريق يشبه السكك الزراعية في بلادنا، وانعطفت منها إلى منجم بقربها، وما تمكنت من زيارته إلا بعد عناء شديد؛ لأن القوم حسبوني في أول الأمر رائدًا من طرف أصحاب المناجم الألمانية جئت أسترق أسرارهم وأقف على طرائقهم إلى غير ذلك مما يخشاه أهل الفن الواحد من بعضهم، ولكن المدير لما عرف صفتي ووطني واطلع على رقعة زيارتي، فتح لي الأبواب، ومهد أمامي الطرق، وأتحفني بكافة المعلومات، وأعطاني نسخًا من التقارير الرسمية والرسائل الفنية لأستعين بها على الإشباع في هذا الموضوع، ثم قام بنفسه وطاف معى جميع الأماكن وأحاطني بكيفية العمل، ثم أمر وكيله أن ينزل معي داخل المنجم بعد أن ألبسني رداءً قصيرًا من الجوخ الغليظ الخشن، وسَلمني هَراوة أتوكأ عليها وأستعين بها على التلمس في السير داخل هوة النفق الحالكة، وأعطاني مصباحًا من مصابيح الأمان أهتدي به في السير، وأستعين به على النظر، ثم قدم لي شيئًا من المرطبات وقال لي: (قد صرت الآن من عُمالنا، فاخضع لنواميسنا فبادر بالعمل بلا مهل.)
فامتثلت وانحنيت مع الوكيل في أحد الصناديق الموضوعة على المركبة المعدة لإخراج الفحم من جوف الأرض إلى وجهها، فهوت بنا المصعدة (Ascenseur)، وكان سطح الصندوق الأسفل يفر من تحت أقدامي بمناسبة سرعة الآلة في النزول حتى رست بنا على بعد ثمانمائة متر عن سطح البسيطة، فاستلمنا أحد العمال، وفتش جيوبنا لئلا يكون معنا شيء من الدخان أو الكبريت أو المواد القابلة للانفجار، ثم فحص المصباح الذي معنا (وكان الوكيل نفسه خاضعًا قبلي لهذا الاختبار) وبعد ذلك سمح لنا بالمرور، فسرنا من سرداب إلى سرداب صَاعدين هابطين مُقبلين مُدبرين بالتواء وانعطاف، بحسب اتجاه عرق الفحم في بطن الأرض، وكنا نمر على سكك حديدية عليها قطارات مختلفة الاتجاهات بحسب دفع البخار وجذبه بواسطة السلاسل الحديدية.

وفي الجهات المطمئنة رأينا خيولًا تجر العربات مشحونة بالفحم وتتركها بجانب المصعدة، فترفعها هذه إلى وجه الأرض، ولهذه الخيول التي لا تنقص عن الثلاثين اصطبلات في السراديب فيها كل ما تحتاجه من المئونة والراحة، وفي السراديب حنفيات للمياه وتنانير للنيران (في محلات مخصوصة) وآلات للبخار، وفوهة كبيرة عليها آلة عظيمة تُدخل الهواء بكثرة زائدة إلى هذه الهاويات العميقة. وهذا المنجم مركَّب من دورين أحدهما فوق الآخر، فالأول تحت سطح الأرض بمسافة ثلاثمائة متر، والثاني تحته بخمسمائة متر، وقد طفت فيهما ثلاث ساعات، ولم يتيسر لي أن أسلك في كل طرقاتهما؛ لأن ذلك يستغرق يومين أو ثلاثة.

ولكنني استعضت عن ذلك بالتوجه إلى أقصى ناحية وصل إليها العمال، واقتنعت بذلك ودخلت إلى أبعد نقطة في كليهما، حيث رأيت العمال يقيمون الأخشاب لإسناد السقف حتى لا ينهار عليهم. ولما كنت بحكم الشرط الذي اشترطه عليَّ مدير المنجم أُحسب في هذه السياحة الأرضية عاملًا من عمال المنجم أمرني الوكيل بأن آخذ المِعول بيدي، وأشارك العمال في قطع الفحم، فكان كذلك، وأخذ ما قطعته بيدي تذكارًا، ثم وقفت معجبًا باقتدار الإنسان، وإذا بفكر مُظلم تولاني فاقشعر منه جسدي ووقف له شعر رأسي؛ إذ مر على ذاكرتي كالسهم الخاطف تاريخ تلك الكوارث والقوارع الكثيرة الوقوع في المناجم وتذكرت أحداثها.

وهو ما كنت قرأته بالجرائد الإفرنكية في مصر في شهر مارس الماضي من الانفجار الذريع الذي حصل بأحد المعادن في بلاد البلجيكا، حتى إنه لشدة الرجة التي أحدثها جعل أهل البلاد البعيدة عن موقع هذه الطامة بمسافة خمسة كيلومترات يتخيلون حصول زلزال عنيف، وما لبث الخبر أن انتشر حتى توافد الناس أفواجًا إلى محل الوقعة الفظيعة، وأخصهم أهالي العَمَلة وعيالهم، واشتغل أهل الإقدام والجراءة بترتيب وسائل استنقاذ الأرواح من هذا الموت الزؤام، ولكن اجتهادهم ذهب أدراج الرياح، وضاعت مساعيهم سدى، فقد كتب الله أن تكون هذه الطامة عامة، فإنهم شعروا بتزعزع جديد في بواطن الأرض أعقبه صياح رنان (النار النار)، وأبصروا الشرر يتطاير في الهواء من بئر التهوية يحيط به دخان كثيف كان يتسارع إلى وجه الأرض نذيرًا باعتراك العناصر في أحشائها واجتماعها على إهلاك من فيها من العَمَلة المساكين بشرِّ أنواع العذاب المبين، ثم انهار أحد جدران بئر التهوية، فساعد على اشتداد النيران وقطع حبال الرجاء في الإنقاذ والفداء.

وكان الناس وهم في حالة اليأس يسمعون زئيرًا شديدًا يخرج من الأعماق، ويشعرون باضطراب وارتجاج، وفي بعض الأحيان كانت تهب عليهم روائح خصوصية وتهاجمهم أبخرة كبريتية، فتُعلمهم باشتداد الكرب وتوالي الخطب، وتنبئهم بأن الحريق آخذ في الازدياد، وأنه لا مطمع في استخلاص ضحايا النار، حتى اصفرت الوجوه وذهبت العقول وضاع الصواب، فأقبل كثير من الحاضرين وفيهم جم غفير من النساء يترامون على البئر وقد أحاط به الجند، ولم ينجحوا في صد المعتوهين عن اللحوق بآبائهم وأزواجهم وأبنائهم وأقربائهم لإنقاذهم من مخالب النار، إلا بعد أن أشهروا السيف البتار وتكاثفت جموعهم، فزحزحوا الناس بقوة السلاح، وهم ينظرون إليهم بعيون زائغة تنظر ولا ترى، وأفواه تصطك أسنانها وقد انعقد لسانها، ووجوه تولاها الذهول واعتراها الخبال، فصاروا كالأشباح بلا أرواح.

ولا أتذكر الآن بالضبط عدد الذين ذهبوا فريسة هذه القارعة، ولكني أذكر أنه يبلغ المائتين. وهذه حادثة واحدة من كثير دوَّنها تاريخ المناجم، وكنت أفكر فيها كلها، ولم يخرجني من هذا الحال إلا تناجي العمال بلسان الغال، فإنني لو كنت من البارعين في فن المفارقات لقلت إنه يتركب بحسب هذا البيان (أي النسخة باعتبار بعض المصريين):

قيراط
٢٤ ممزوجة مع بعضها ينشأ عنها اللسان الغالي
٨ ألماني
٢ إنكليزي
١٠ لاوندي
٢ يوناني
١ سرياني
١ عربي وعبري

وحينئذ بادرت بالخروج إلى وجه الأرض، وشكرت أفضال المدير وأنا أرتجف من هول الخطر الذي ألقيت بنفسي في تهلكته، ولكنني قلت في نفسي: إن الذي يجيء بلاد الإنكليز ولا يرى معادن الفحم الحجري، فلا يصح له أن يقول إنه كان في إنجلترا أو زار هذه الجزيرة.

ثم انطلقت من هذه المدينة (شيرك) إلى مدينة أخرى تفرجت فيها على معمل اصطناع الطوب المطبوخ (الآجر) بواسطة البخار، وهو معمل كبير يأخذ الطين اللازم من تَل كبير مجاور له. ثم انتقلت إلى مدينة أخرى قريبة منها، ورأيت فيها العَمَلة يلعبون بعد خروجهم من المعادن بالكرة بأقدامهم (الفوت بول)، وهو لعب رياضي خاص بالإنكليز ولهم فيه مهارة غريبة.

ومن هنا ركبت القطار راجعًا إلى شستر، وهي فيما بين بلاد الغال وبلاد الإنكليز، ولكنها تعتبر من الثانية، ومع ذلك فسأذكر عليها الآن تفصيلًا قليلًا.

هذه المدينة قديمة أسسها الرومانيون على مصب نهر الدي الذي يمر على لنجوثلن، وعدد سكانها ٣٦٧٩٤ نفسًا، ولا يزال فيها كثير من بقايا الرومان وأبراجهم وأسوارهم التي هي كشوارع معلقة في المدينة اعتاد الأهالي على النزهة والرياضة فيها، ويبلغ طولها ميلين، ومن الأمور التي انفردت بها أن برازيق الطريق يكون عليها حوانيت وخلفها مماشٍ فيها دكاكين أخرى، وفوق الحوانيت الأمامية يرتفع الدور الأول من المنازل، فيكون الشارع عليه من الجانبين صَفان من المخازن، وخلف كل منهما ممشى فسيح موازٍ للشارع وعليه دكاكين أخرى، وسقفه هو أرضية الطبقة الأولى من المساكن، وفيها كنائس عتيقة بعضها مشيد بالطوب الأحمر، وفيها ميدان فسيح تتسابق فيه الخيول في بعض أيام السنة. وخلاصة القول أن لها منظرًا انفردت به دون المدائن التي مررت عليها ببلاد المشرق وأوروبا.

وقد اشتهرت بصناعة الجُبن وإن لم يكن من طبيعة أهلها، فقد بيضوا صفحات تاريخهم بالذود عن حياضها، أيام كانت بلاد الإنكليز منقسمة إلى ممالك صغيرة كثيرة في عراك مستديم وحروب مستمرة.

وإلى هنا أستوقف اليراع عن الإفاضة في شرح ما عندي من المُعلقات والمُفكرات، فإن ما ذكرته عن بلاد الغال قليل في جانب ما استحصلت عليه من الفوائد والمعلومات، ولكن القليل دليل على الكثير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤