الفصل الثاني

ماهية الأدب الإنجليزي

تعريفات

في واحد من أشهر مشاهد الصف المدرسي لتشارلز ديكنز يطلب السيد توماس جرادجرايند الذي يؤمن بأهمية الحقائق من سيسي جوب تعريف الحصان، فترتعد الفتاة وتحاول جاهدة التوصل إلى الإجابة الصحيحة، فيقول السيد جرادجرايند «الفتاة رقم عشرين تعجز عن تعريف الحصان! الفتاة رقم عشرين ليست لديها أية حقائق عن واحد من أكثر الحيوانات انتشارًا! فلننظر إلى تعريف أحد الفتيان للحصان، هيا يا بيتزر.» وكان بيتزر ذو العينين الباردتين يعلم الحقائق المطلوبة: «حيوان من ذوات الأربع يتغذَّى على النجيل، له أربعون سِنًّا منها أربعة وعشرون ضرسًا وأربعة أنياب واثنا عشر من القواطع، وهو يُغَيِّر جلده في الربيع، وفي البلدان ذات المستنقعات يغير حوافره أيضًا، وحوافره صلبة لكنها تحتاج إلى حَدوات من الحديد، ويمكننا معرفة عمره عن طريق علامات في فمه» («أوقات عصيبة»، ١٨٥٤).

يثير جهل سيسي بالمصطلحات الصحيحة السخرية، فهي بالطبع تعرف الأحصنة أفضل من جرادجرايند فضلًا عن بيتزر، فهي أحد أبناء السيرك وقد عاشتْ طوال حياتها مع الأحصنة، وهي تحبها وتعتني بها وتحيا في عالم تُمتَطى فيه الأحصنة ببراعة شديدة. وتتمثل وجهة نظر ديكنز في أن المعرفة الحقيقية تأتي من الخبرة والعلاقة المباشرة، لا من الحقائق والنظم. وفي فترةٍ ما أُعجِب الناقد الأدبي المؤثر بجامعة كامبريدج د. إف آر ليفيس برواية «أوقات عصيبة» أكثر من كل روايات ديكنز الأخرى؛ وذلك لأنها تبرز بقوةٍ التعارضَ بين الحيوية التي يجسدها أبناء السيرك وبين قمع الروح الإنسانية الذي تؤدِّي إليه نظرية جرادجرايند التعليمية القائلة بأن الحقائق وحدها هي المهمة. كانتْ مدرسة جرادجرايند تسعى إلى اقتلاع قدرة الأطفال على التعجب والإحساس الشِّعري واللعب التخيلي؛ من أجل إعدادهم كي يصبحوا عُمَّالًا في المصانع أو تروسًا ميكانيكية في عجلة الإنتاج الرأسمالي في العصر الفيكتوري. وعلى النقيض من ذلك، فقد كان هدف معلمي الأدب في تُراث ليفيس إنشاء أجيال تتمتع بقوة الإحساس والفهم الإنساني. وكانت اللغة الإنجليزية غالبًا ما تُدرَس بحماس مُتَّقِد؛ فدراسة الأدب من المفترض أن تكون تجربة تُغير حياة الفرد وربما المجتمع.

ومِن ثَمَّ، فإن السؤال عن ماهية الأدب الإنجليزي قد تكون الإجابة عنه من وجهة نظر ليفيس وربما ديكنز أيضًا: «أمرٌ تعرفه عندما تمر به.» إن الأدب يعني تلك الكتب التي تحيا معها وتحبها، تلك الكتب التي تجسِّد «الحياة». وثمة نهج بديل معارض بالقدْر نفسه لروح السيد جرادجرايند، وهو تعريف الأدب بأنه تلك الكتب التي تشجِّع إيجابيًّا على القيام بحِيَل هائلة لتفسيرها، على نحو مشابه للألعاب البهلوانية التي يقوم بها لاعبو السيرك. والنصوص الأدبية هي تلك النصوص التي تُستخدَم فيها اللغة ببراعة شديدة، تلك النصوص التي تستجيب لمجموعة متنوعة من التفسيرات.

إذا كان الأدب أمرًا يجب أن تتعلمه بالفطرة، أو إذا كانت كلمة «أدبي» مرادفًا آخر لكلمة «هازل»، فإن تعريف «الأدب الإنجليزي» باختزاله في مجموعة من الحقائق يُعَدُّ تدميرًا لمتعته المميزة على طريقة جرادجرايند الرافض للخيال. كَتَبَ ويليام وردزوورث ذات مرة قائلًا: «إننا نقتل كي نقوم بالتشريح.» هل تشبه عملية وضع عمل أدبي في سياقه العام أو التاريخي أخذ كائن حي وقتله ثم وضعه على طاولة المعمل والشروع في تشريحه بمِبضع؟ هذا شعور شائع بين عشاق الكتب عندما يقابلون التحليل النقدي والتاريخ الأدبي لأول مرة، فضلًا عن النظرية الأدبية. وربما ينسَوْن أن العمل الأدبي ليس كائنًا حيًّا، بل إنه نتاج مهارة الكاتب وبراعته، ويجب على الأقل أن يزيد فهمُ أدوات صناعة الكاتب والرحلة التي يمر بها العمل الأدبي حتى يخرج إلى النور من المتعة التي نحصل عليها من المنتج النهائي، لا أن يقلل منها.

وثمة إجابة ذكية لأحد معلمي اللغة الإنجليزية على المقولة الصارخة: «إننا نقتل كي نقوم بالتشريح.» وهي تتمثل فيما يلي: «إذا كنتَ من محبِّي ركوب الدراجات فإن المتعة التي تحصل عليها من ركوب الدراجة بسرعة مائة ميل في الساعة على الطريق السريع لن تقل — بل على العكس قد تزداد — إذا تعلمتَ أيضًا كيف تفكُّ أجزاء الدراجة وفهمتَ طريقة صنعها وحاولتَ إصلاح أجزائها وأعدتَ تركيبها مرة أخرى، فعلى الأقل سوف تعطيك خبرتُك الميكانيكية مادة صالحة للمناقشة مع زملائك من محبي ركوب الدراجات، وكونك جزءًا من «مجتمع» محبي ركوب الدراجات ذوي المعرفة والعادات والتقاليد المشتركة سوف يعطيك متعة إضافية.»

ويمكننا قول أمر مشابه عن دراسة الأدب الإنجليزي؛ حيث يمكنها أن تضيف مستويات عديدة إلى متعة القراءة وخاصة معاودة القراءة، وهي تجعلك أيضًا جزءًا من مجتمع أدبي. وفي الواقع، تعد هذه أيضًا إحدى المُتَع الأساسية في الكتابة، فالكتابة من أكثر المِهَن التي تجعل صاحبها منعزلًا، ولكن الكاتب نادرًا ما يكون وحيدًا على مستوى فكره وعقله، فهو يستمتع بصحبة الكُتَّاب الذين يحبهم. كان جون كيتس مصابًا بالدرن ومدركًا تمامًا لنهاية مرضه، ولكنه صرَّح في أحد خطاباته بأنه كان يجد عزاءه في التفكير في أن اسمه سوف يُوضَع «بين الشعراء الإنجليز» بعد وفاته.

حوار مع الراحلين

غالبًا ما يمتهن الكُتَّاب مهنة الكتابة لأنهم قُرَّاء متحمِّسون، والأعمال الأدبية التي يقتنونها تساعدهم على تشكيل الأعمال الجديدة التي يكتبونها، وذلك غالبًا من خلال مزيج من المحاكاة الواعية والاستغراق اللاواعي والمقاومة النشطة أو رد الفعل المعاكس. وتظل أشهَر الجمل عن العلاقة بين «التراث» الأدبي و«الموهبة الفردية» لمؤلف جديد هي ما قاله الشاعر والناقد تي إس إليوت:

لا يوجد شاعر أو فنان من أي نوع ذا معانٍ خاصة به وحده، ولكن شأنه وقدْره يُقاسان بالمقارنة مع الشعراء والفنانين الراحلين. ولا يمكنك أن تقيِّمه وحده، بل عليك أن تضعه في مقارنة تبرز التضادَّ مع الراحلين، وإنني أقصد ذلك بوصفه أحدَ مبادئ النقد الجمالي لا التاريخي فحسب … وما يحدث عند إبداع عمل فني جديد يحدث في الوقت نفسه لكل الأعمال الفنية التي سبقتْه. وتشكِّل المعالم الحالية نسقًا مثاليًّا في ذاتها، ويعدل هذا النسقَ إدخال عمل فني جديد بينها (شريطة أن يكون جديدًا بالفعل) … فالحاضر يُغيِّر الماضيَ بالقدْر نفسه الذي يوجِّه به الماضي الحاضر.

«التراث والموهبة الفردية»، ١٩١٩

خضعت السياسة الضمنية الكامنة خلف احترام إليوت «للنظام» و«التراث» إلى دراسة متمعنة، ولكن الفكرة القائلة إن الشيء الجديد — الجديد حقًّا — يُغيِّر إدراكنا للشيء القديم؛ مبدأٌ فني ثابت لا يقبل الجدال؛ حيث يعتمد إبداع أدب المستقبل على حوار مع أدب الماضي.

لعلك تتعجب لسماع كلمة حوار، وتتساءل كيف يمكن لكُتَّاب الماضي أن يجيبوا عن أسئلة الحاضر. حسنًا، هذا بالضبط ما تتيحه لهم القراءة العميقة والتخيلية، ولذلك يعد الفن إحدى الطرق التقليدية لهزيمة الموت. وعندما يُلقِي ممثل بيتًا من إحدى مسرحيات شكسبير أو عندما تتناغم مع صوت جين أوستن المكتوب، يعود رجل تُوفي منذ أربعمائة عام أو امرأة تُوفيت منذ مائتي عام إلى الحياة مرة أخرى كما لو كان الأمر ضربًا من السحر، ولذلك غالبًا ما تكون قصائد رثاء الشعراء أقلَّ إثارة للحزن من مرثيات الأطفال أو ضحايا الحرب الكثيرين.

وهذا ما حدث من دبليو إتش أودن «في ذكرى دبليو بي ييتس» (١٩٣٩). ففي لحظة وفاة الشاعر «توقف تيار شعوره، وأصبح مِلكًا للمعجبين». ويتخيل أودن الشاعر كما لو كان شخصًا ذا إحساس عالي الجهد، وعندما تنقطع الكهرباء بالوفاة ينتقل التيار إلى قُرَّاء الشاعر، ثم تتحول الاستعارة ذاتها إلى صورة أخرى لفكرة لذرِّ رماد المتوفَّى:

إنه الآن مبعثَر في مائة مدينة
وممنوح برمته لعواطف غريبة لم يألفها …
إن كلمات رجل ميت
لَتَتَّخذُ الآن قوالبها الحية في أحشاء الأحياء.
(ترجمة: وفيق يوسف)

وفي الوقت الذي كان أودن يكتب فيه كان جثمان ييتس يرقد في فرنسا (وأُعيد دفنه لاحقًا؛ حيث طالب في إحدى قصائده بأن يدفن تحت جبل بين بالبين، وهو جبل كان يحبه في غرب أيرلندا)، ولكن قصائده كانت تحيا بالفعل في العديد من الأماكن. فما إن يُنشَر عمل أدبي حتى ينتمي لقرائه وليس لمؤلفه. ثمة حقوق قانونية مقيِّدة بعض الشيء فيما يتعلق بإعادة إنتاج العمل الأدبي واستنساخه، ولكن لا يوجد تحكم من حيث حقوق التأليف والنشر في تفسيرات القراء واستبطانهم. وكثيرًا ما كتب ييتس معبِّرًا عن مشاعر مألوفة — تضرع من أجل ابنته، مرثيات في ذكرى أصدقائه والرفاق الذين ضحَّوْا بحياتهم من أجل أيرلندا — ولكن الشِّعر يحيا عبر ما قد يطلِق عليه المحلل النفسي «الانتقال»؛ حيث يعاد تمثيل تأثيره عن طريق القراء الذين لا يعرفون الكاتب شخصيًّا. فعلى سبيل المثال يكتب شكسبير قصيدة حب، ولكنك عندما تقرؤها لمحبوبتك فهي تستسلم تمامًا لمشاعر غير مألوفة — مشاعرك ومشاعر محبوبتك — وتتخذ كلمات رجل ميت (مثل شكسبير أو ييتس) قوالبَها الحية في أحشاء الأحياء (القُرَّاء بعد وفاة الكاتب).

حول الشكل والأسلوب

قد تتمثل أول إجابة لك عن السؤال عن مفهوم الأدب في أن «الأدب هو الروايات والقصائد والمسرحيات»، وبالفعل تُعَدُّ كتابات جورج إليوت وتي إس إليوت وشكسبير أدبًا، ولكن جاكي كولينز روائية، و«جاك وجيل صعدا التل» قصيدة، وسيناريو فيلم الإثارة الذي قُدِّم العام الماضي نص سينمائي، فهل ترغب في إطلاق اسم الأدب على كل ذلك؟ إذا كانت دراسة الأدب تعني ببساطة دراسة الكلمات، فإن الإجابة لا بد أن تكون «نعم»؛ فالرواية الإباحية وأغنية الأطفال والفيلم الذي يحقق نجاحًا مدوِّيًا تتكون كلها من كلمات. ولكن الفيلم مختلف قليلًا؛ فهو يتكون من صور مرئية وحركات ومشاهد تُؤدَّى بالإضافة إلى الكلمات، ولكن الشيء نفسه ينطبق على الفرق بين مسرحية لشكسبير ورواية لجورج إليوت أو قصيدة لتي إس إليوت. وكذلك تختلف أغنية الأطفال قليلًا؛ فنحن لا نعرف مَنْ كاتبها، وغالبًا ما يكون انتقالها عبر العصور عن طريق الحفظ والتكرار لا النص المكتوب والنشر، فهي جزء مما نطلق عليه «التراث الشفهي»، ولكن كل أنماط الأدب المحلية القديمة لها أصول في التراث الشفهي.

أحيانًا ما تشير دراسة «الإنجليزية» في القرن الحادي والعشرين إلى دراسة كلمات اللغة الإنجليزية، وقد يكون موضوع الدراسة هو اكتشاف الدلالات أو «المعاني الكامنة» في الروايات الرومانسية الشعبية وأغاني الأطفال والمسلسلات التليفزيونية ولغة الإعلانات. ويمكنك أن تتعلم شيئًا عن التاريخ الثقافي عن طريق مقارنة الكلمات المكتوبة على ملصقات علب البقول المصنَّعة في الخمسينيات والثمانينيات من القرن العشرين والعَقْد الثاني من القرن الحادي والعشرين واكتشاف الفرق بينها. وهذا النوع من التحليل يُجرى بالفعل منذ الخمسينيات عندما نشر عالِم السيميولوجيا (واضع نظريات علم العلامات) الفرنسي رولان بارت كتابًا مفسِّرًا بعنوان «الأساطير» (١٩٥٧) استكشف فيه المعنى الثقافي لكل شيء بدءًا من المصارعة وحتى مساحيق الصابون، وذلك بنفس الدقة والاهتمام اللذينِ كان المفكرون الفرنسيون يقصرونهما على الأعمال التراجيدية لجان راسين وروايات جوستاف فلوبير. ولكن لا أحد يرغب في الادِّعاء بأن الكلمات المكتوبة على ملصق عبوة البقول المعلبة ضربٌ من «الأدب»، بل إن المسميات الأنسب من ذلك التي كان لبارت وتابعيه السبق في إطلاقها على الفروع المعرفية هي «السيميولوجيا» و«الدراسات الثقافية»، وسوف تجد مقدمات قصيرة جدًّا لتلك الفروع المعرفية في أماكن أخرى، رغم أنْ لا شيء يمنعك من تطبيق بعض أساليبها في التحليل على النصوص التي تُسمَّى أدبًا بالمفهوم التقليدي للكلمة.

إذا كان الشكل العَروضي كافيًا لإنشاء مقطوعة شعرية، فلا بد أن تنضم قصيدة «جاك وجيل صعدا التل» إلى نفس الفئة مع شكسبير. وحيث إن كل الأطفال الصغار يستمتعون بالأغاني المقفَّاة، وكل الثقافات بها أغانٍ وقصص منظومة، فهذا الانضمام ليس بالأمر السيِّئ. ولكنني لم أستهلَّ الكتاب بالقول بأن أول لقاء لك مع الأدب الإنجليزي كان عندما هدهدتْك أمك على ركبتيها وغنَّتْ لك إحدى أغاني الأطفال، فالمقابل الإنجليزي لكلمة «أدب» literature مشتق من كلمة لاتينية تعني «خطابات»؛ أي إنها أشياء مكتوبة. والتعريف الذي أرغب في البدء به هو تعريف يشير فيه الأدب إلى شيء «مكتوب»؛ أي إن له كاتبًا. وبهذا التفسير، فإن «الأدب» الغربي لم يبدأ عندما نُقِلت شفهيًّا قصص حرب طروادة وعودة أوديسيوس إلى دياره في اليونان، ولكن عندما خطَّ كاتب تلك القصص على لفائف البردي ونسبها إلى مؤلف؛ ملحمتا «الإلياذة» و«الأوديسة» لهوميروس. وبعد فترة من قراءة أعمال هوميروس، حتى المترجمة منها، تشعر أنك تسمع صوتًا شديد التميز، رغم أن ثمة صِيَغًا مكررة مشتقة من التراث الشفهي (البحر الداكن كَلَون النبيذ)، ولكن القصيدة لها بنية ونغمة تجعلنا نصدق أننا على صلة مع وعي المؤلف، وأن ثمة دليلًا يقودنا في الرحلة.

تدل فكرة الأدب ضمنًا على وجود مؤلف، ولكن هل وجود مؤلف كافٍ لإنتاج أدب؟ هل يجب أن يُمنَح مؤلفو القصص الرومانسية العامة التي تباع في المتاجر الكبرى مكانًا على نفس الطاولة بجوار جين أوستن؟ تعتمد إجابة هذا السؤال على كَمِّ الوقت المتاح لديك؛ فقد نُشرتِ المئات من الروايات الرومانسية الشعبية في حياة جين أوستن، وتمنحك قراءة بعضها فكرة مهمة عن احتياجات مستهلكي الأدب في مطلع القرن التاسع عشر وكيف أجادتْ فنانة مركبة مثل جين أوستن توظيف تقاليد الأدب الرومانسي وفي الوقت ذاته تفوقت عليها. ولكن من المستبعد أن تحصل على فوائد كبرى من إعادة قراءة الإصدارات المسلسلة من تلك الأعمال على غرار تلك الفائدة التي تحصل عليها من قراءة أعمال جين أوستن «مرارًا وتكرارًا».

بدلًا من القول إن «روايات ميلز وبون ليست أدبًا»، ربما يُفَضَّل القول إن «جين أوستن تكتب أدبًا جيدًا، ولكن روايات ميلز وبون أدب رديء»؛ فجين أوستن تكتب جملًا متقنة الصياغة وترسم شخصيات مركبة وتنسج حبكات روائية بارعة، بينما مؤلفو «ميلز وبون» يكتبون جملًا تافهة ومبتذلة ويرسمون شخصيات سطحية وينساقون وراء حبكات نمطية تفتقر إلى الإبداع. وقد يتيح هذا الفارق تقديم الفئة التي أطلق عليها جورج أورويل الأدب «الجيد الرديء» والتي ضم فيها مجموعة من القصائد البارزة ولكنها شديدة العاطفية والروايات الأدبية «المستغرقة في الخيال هربًا من الواقع» ولكنها جيدة الصياغة كالروايات الرومانسية وروايات الإثارة وجرائم القتل مجهولة الفاعل والخيال العلمي وقصص الرعب؛ حيث اعتبر «دراكولا» (١٨٩٧) لبرام ستوكر و«شرلوك هولمز» (١٨٨٧–١٩٢٧) للسير آرثر كونان دويل نماذج للأدب الرديء الجيد.

وتذكرنا شخصية أورويل أيضًا بأنه لا يكفي تعريف الأدب بأنه يتكون من الروايات والقصائد والمسرحيات، فلا يمكن بالتأكيد أن يكون أورويل قد كتب أدبًا عندما اختار شكل الرواية مثل «الخروج إلى الهواء الطلْق» (١٩٣٩) و«مزرعة الحيوانات» (١٩٤٥) ورواية «١٩٨٤» (١٩٤٩)، بينما لم يكتب أدبًا عندما اختار شكل المذكرات والتحقيق الصحفي مثلما فعل في «متشردًا في باريس ولندن» (١٩٣٣) و«الطريق إلى ويجان بير» (١٩٣٧) و«الحنين إلى كاتالونيا» (١٩٣٨). غالبًا ما يُبنَى الخيال على الواقع، وقد تستخدم الكتابات الواقعية نفس التقنيات الأدبية الخاصة بالكتابات الخيالية وتُكتب بنفس البراعة. ولم يُصبح أورويل هو أورويل لاختياره «الشكل» الأدبي، ولكن لتميز «أسلوبه» و«تعبيره» الأدبي.

عادة ما يعتمد النقد الأدبي في الحكم على الأعمال المكتوبة لا على أساس «ما يقال» ولكن على أساس «كيف يقال». وليس مستحيلًا على الإطلاق أن يُكتَب بحث علمي أو كُتَيِّب ديني أو سياسي أو مجلد في القانون أو مقال في جريدة أو حتى دليل تشغيل بأسلوب أدبي جذاب؛ حيث يمكن قراءة «اللفياثان، أو الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة» لتوماس هوبز (١٦٥١) و«أصل الأنواع» لتشارلز داروين (١٨٥٩) باستمتاع كبير بالأسلوب الذي كُتبا به. وعلى النقيض من ذلك، فإن الأسلوب الشديد التعقيد لبعض الأعمال الأدبية قد يكون عائقًا مؤكَّدًا أمام الاستمتاع بها. ودائمًا ما يكون الحكم على الأسلوب أمرًا شخصيًّا؛ حيث يعتقد بعض الناس أن فلاديمير نابوكوف الروسي المولد هو صاحب أفضل أسلوب في الروائيين الكاتبين باللغة الإنجليزية في القرن العشرين، بينما يجد آخرون أسلوبه متحذلقًا أكثر من اللازم.

يعد تحليل التأثيرات الأسلوبية المحلية أحد المكونات الرئيسة في الدراسة الأدبية للنصوص المكتوبة، ولكن الخطوة الأكثر إمتاعًا تأتي مع تمييز صوت المؤلف؛ فمؤلفو «الأدب» يقومون بأكثر من مجرد الاهتمام باختيار الكلمات وشكل الجُمل ومنحنى الحوار أو السرد، فهم يبتكرون صوتًا مكتوبًا له شخصية مميزة. «يمكننا أيضًا أن نبدأ بخطابات هيلين إلى شقيقتها»، هنا تحمل افتتاحية رواية «نهاية هاورد» (١٩١٠) البصمة المميِّزة لصوت إي إم فورستر؛ خجول، منكر لذاته، ذو نظرة ساخرة، شديد الوعي بالتشوُّش الذهني والارتباك والصعوبة التي نواجهها نحن البشر — أم تُرى هل كان فورستر يقصد «نحن الإنجليز»؟ — في التواصل بعضنا مع بعضٍ. وكان العنوان المؤقت لقصيدة «الأرض الخراب» (١٩٢٢) لتي إس إليوت التي تمثل الثراء الأسلوبي «أصواتٌ شتَّى لضمير واحد». وتكمن مهارة الكُتَّاب العظام في إحياء أصوات متعددة بنفس القدر من الإقناع، ولكن مع الإبقاء على بصمة صوتهم المميزة في الوقت ذاته. وكتب كاردينال نيومان في «فكرة جامعة» (الجزء الثاني، ١٨٥٨) قائلًا: «إن الأدب لا يعبر عن الحقيقة الموضوعية — كما يطلق عليها — بل عن الحقيقة الشخصية، ليس الأشياء بل الأفكار … إن الأدب هو الاستخدام الشخصي أو الممارسة الشخصية للغة … والأسلوب هو تفكير يُصَبُّ في اللغة.»

أدب القوة

عرَّف «قاموس اللغة الإنجليزية» لمؤلفه د. جونسون (١٧٥٥) الأدب بأنه «التعلم أو جملة ما أنتجتْه مهارة الإنسان من ضروب المعرفة». وعندما شرع إيزاك دزرائيلي في جمع مجموعة مؤلفات تُدعَى «طرائف الأدب» عام ١٧٩١، كان يعني بهذا العنوان «مجموعة من المعارف الطريفة». وإذا أخذنا عينات عشوائية من موضوعات متجاورة بين طرائفه، فلن نجد علاقة «أدبية» موحدة في الحال، مثل «عادات إقطاعية»، «جان دارك»، «مقامرة»، «تناسخ الأرواح»، «الآداب الإسبانية». وتشير كلمة «أدب» في الأصل إلى المجال الذي كان يُعرف باسم «الآداب الرفيعة»، وهو يشمل أعمال الفلسفة الأخلاقية والطبيعية والتاريخ والجغرافيا وفقه اللغة والمزيد.

وعندما انتهى تجميع قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية في نهاية القرن التاسع عشر، كان قد ظهر معنًى جديد أكثر تقييدًا للفظة الأدب، ألا وهو: «الكتابة التي تسترعي التفكير فيها بما لها من جمال الأسلوب أو التأثير العاطفي.» وقد ارتبط ظهور تلك الفئة الخاصة من الكتابة بمصطلح جديد وهو «الجمالي»، وهو المصطلح الذي نشأ لأول مرة في ألمانيا في القرن الثامن عشر، وكان صامويل تايلور كولريدج أكثر مَن قام بمحاولات لجعله متداولًا في إنجلترا. وعلم الجمال هو فن الحكم على الأشياء الجميلة.

ورغم أن كولريدج كان رائد النقد الجمالي، فقد ظل استخدامه لمصطلح «الأدب» بالمعنى التقليدي. وفي كتابه الذي يحمل عنوان «سيرة أدبية: صور من حياتي وآرائي الأدبية» (١٨١٧)، يشير إلى «الأدب المهذب» على طريقة مصطلح «الآداب المهذبة» الذي يرجع إلى القرن الثامن عشر. وفي الفصل الحادي عشر من الكتاب يشير إلى مسألة إذا ما كان من الممكن امتهان صناعة الكتابة أو احترافها، وهنا نجد الأمثلة التي يضربها كولريدج «للأداء العظيم في الأدب»، وهم شيشرون (سياسي ومعلم أخلاقي وخطيب روماني قديم) وزينوفون (مؤرخ وكاتب سِيَر إغريقي قديم) والسير توماس مور (مؤرخ وعالم لاهوت وسياسي ومؤلف «المدينة الفاضلة»، وهي دراسة/عمل ساخر/خيالي عن طبيعة المجتمع المثالي) والسير فرانسيس بيكون (سياسي ومؤرخ وكاتب مقالات وواضع نظريات قانونية ومؤلف دراسات عن المجتمع والمعرفة والأساطير ورائد المدرسة التجريبية) وريتشارد باكستر (عالم دين بيوريتاني وكاتب سيرة ذاتية) وإرازموس داروين (شاعر قام بتحويل المعرفة العلمية، وخاصة المتعلقة بعلم النبات وعلم الحيوان، إلى الصورة الشعرية) وويليام روسكو (كاتب سِيَر وشاعر وواضع نظريات قانونية ومؤلف كتيبات مهمة عن مناهضة العبودية). وتُعَدُّ معظم كتابات هؤلاء المؤلفين هادفة من الناحية التاريخية أو الأخلاقية أو العلمية أو السياسية أكثر منها من الناحية الجمالية أو من الأدب بوصفه أحد «الفنون الجميلة».

في سلسلة من المقالات التي نُشرتْ في «مجلة لندن»، وهي ساحة تضم الكثير من أفضل الكتابات الجديدة في مطلع العشرينيات من القرن التاسع عشر، قام توماس دي كوينسي (متعاطي الأفيون الإنجليزي) بخطوة جذرية جديدة؛ حيث عرَّف الأدب بوضعه «في مقابل» المعارف العامة المكتوبة. وكطريقة جزئية للتعامل مع مجلدات الأدب الكاملة بالمعنى الأصلي الواسع للكلمة، توصَّل دي كوينسي إلى تعريف جديد أكثر دقة:

إنَّ كلمة «الأدب» مصدر أبدي للالتباس؛ فهي تُستخدم بمعنيين، وهذان المعنيان قابلان للخلط بينهما. فبالمعنى الفلسفي للكلمة، يُعَدُّ الأدب النقيض المباشر والمناسب لكتب المعرفة. ولكن بالاستخدام الرائج فهو مجرد مصطلح ملائم للتعبير على نحو شامل عن إجمالي كتب أي لغة.

«رسائل إلى شاب أُهمِلت تربيته»، «مجلة لندن»، ١٨٢٣

يشمل المعنى الرائج مئات الآلاف من المجلدات التي جعلتْ دي كوينسي يشعر بالحزن كلما دخل مكتبة كبرى وأدرك أن الوقت لن يمهله إلَّا لقراءة نسبة ضئيلة منها. وبهذا المعنى، فإن الأدب قد يضم «قاموسًا، كتابًا في قواعد اللغة، كتابًا في قواعد الهجاء، دليلَ إحصاءات سنويًّا، دستور أدوية، تقريرًا برلمانيًّا، نظامًا للطب البيطري، دراسة عن لعبة البلياردو، جدول القضايا في محكمة، إلخ.» ومن ناحية أخرى، فإن ما يطلِق عليه دي كوينسي «المعنى الفلسفي» يجب أن يَستبعِد كلَّ ذلك حتى «الكتب ذات المكانة الأكبر» ككتب التاريخ وأدب الرحلات، أو في حقيقة الأمر «كل الكتب التي تفوق فيها أهمية الموضوع المراد نقله الطريقة أو الأسلوب المتَّبع.» «الأدب» إذن هو الكتابة التي يجب الحكم عليها طبقًا لمعيار الشكل ذي الأهمية؛ أي على أساس التأثير الجمالي أكثر من التأثير المعرفي.

وفي صياغة مستحدثة ملهمة وضع دي كوينسي «كتب المعرفة» معًا في كفة واحدة أسماها «اللاأدب». ما هو إذن النقيض من المعرفة الذي يعرِّف ماهية كتب الأدب؟ من الإجابات المحتملة أن نقول عن الأدب ما قيل غالبًا عن «الشعر»، فثمة مقولة قديمة تؤكد أنه في حين أن وظيفة الكتابة بوجه عام هي نقل الحقيقة، فإن الهدف المباشر للشعر هو نقل المتعة، وطبقًا لهوراس من روما القديمة، فإن فن الشعر يهدف إلى التعليم والإمتاع. كان د. جونسون يتبع هذا المبدأ التقليدي عندما قال إن الهدف من الكتابة هو التعليم بينما الهدف من الشعر هو التعليم عن طريق الإمتاع، ولكن بالنسبة إلى دي كوينسي فإن المتعة «نقيض مبتذل» للمعرفة، فالمتعة مشابهة للَّهْو الفارغ، ونحن لا نقرأ «الفردوس المفقود» لهذا السبب. «وفي تلك الحالة، فإن النقيض الحقيقي للمعرفة ليس «المتعة» بل «القوة». فكل ما هو أدب يسعى إلى نقل القوة، وكل ما ليس أدبًا يسعى إلى نقل المعرفة.»

تلك هي صيغة دي كوينسي النهائية؛ فالأدب يجعل قُرَّاءه «يشعرون بقوة وبوعي حيوي بالعواطف التي لا توفر لنا الحياةُ العادية مجالًا للشعور بها إلا نادرًا أو لا توفره أبدًا، وهي تلك العواطف التي كانت من قبل نائمة ولم تكن ظاهرة في الوعي.» وأول الأمثلة التي يطرحها دي كوينسي حول قوة الأدب هي مسرحية «الملك لير» لشكسبير في المشهد الذي يواجه فيه العاصفة: «وهكذا فقد رُوِّعتُ فجأة وانتابني شعور بأن العالَم لا نهاية له بداخلي.» أما المثال الثاني فهو يوضح فكرة الأدب بوصفه نقيضًا للعلم، فبينما يعتمد كاتب يسعى للمعرفة كالفيلسوف لايبنتس على العلوم الرياضية من أجل الكتابة عن الفضاء، فإن أشكال ميلتون العملاقة في «الفردوس المفقود» تحول الفضاء من مفهوم هندسي إلى قوة حية: «فقد تحوَّل على يديه من كونه شيئًا يمثَّل بالرسوم التخطيطية إلى عامل حيوي مؤثِّر في العقل البشري.»

كتب دي كوينسي في رسالته الرابعة من «رسائل إلى شاب» قائلًا إن «المعنى الصحيح لكلمة أدب هو مجموعة من أعمال الفن الإبداعي»، وكان استخدام كلمة «إبداعي» فيما يتعلق بالخيال أمرًا مستحدثًا تمامًا في مطلع القرن التاسع عشر. ربما كان دي كوينسي يفكر في الدعوى السامية التي افتتح بها وردزوورث قصيدته الموجهة إلى الرسام بنجامين روبرت هايدون «نبيلةٌ هي دعوانا يا صديقي! الفن الإبداعي.» ولما كان دي كوينسي يعمل على تنمية إيمان كلٍّ من وردزوورث وكولريدج بالدعوى النبيلة للشاعر، فقد عرَّف الأدب بأنه «مجموعة من أعمال الفن الإبداعي» تحديدًا، وكان أول مَن وضع له هذا التعريف الذي أصبح واسع التأثير ومؤثِّرًا جدًّا؛ فيمكنك أن تطلق عليه عن جِدٍّ مُبتَكِرَ مسمَّى «الأدب».

الأعمال المعتمَدة وذخائر الأدب

من المقولات التي لا يمكن الاعتراض عليها بشأن الأدب الإنجليزي أنه مادة للدراسة في شهادة إتمام الدراسة الثانوية في كلٍّ من المستويات العادية والمتقدمة في المناهج الدراسية المعتمدة حكوميًّا في بريطانيا، وهو أيضًا اسمُ مقرَّرٍ دراسي في العديد من الجامعات في عدد من الدول حول العالم. ومن الإجابات البسيطة نظريًّا، ولكنها قد تكون مفيدة جدًّا، عن السؤال حول ماهية الأدب الإنجليزي أن «الأدب الإنجليزي هو المحتوى المقرر للدراسة في المقررات المدرسية والجامعية الذي يحمل عنوان الأدب الإنجليزي.» فإذا كان العمل موجودًا في أحد المناهج، فإن ذلك يعني صلاحيته كي يكون أدبًا، وإلا فلا. وهي خطوة تنحو بالتعريف عن عملية إنتاج العمل، وأين كُتب العمل ومَنْ كتبه وبأي لغة كُتِب، وإذا ما كان مكتوبًا بأسلوب جيد واهتمام وصوت مميز أم لا، إلى الاستهلاك؛ هل يباع مجهزًا للتدريس؛ أي إنه حافل بالمقدمات النقدية والملاحظات التفسيرية ووصف للموضوعات النصية وقائمة بالمراجع من دراسات العلماء؟ هل يُسوَّق بوصفه أحد كلاسيكيات بنجوين أو كلاسيكيات أكسفورد العالمية؟ هل يستحق التحليل الدقيق في الصف المدرسي والدراسة النقدية في حالة الخضوع للاختبار؟ هل يمكن لدارسي الأدب الإنجليزي في المستويات المتقدمة أن يحصلوا على درجة الدكتوراه بالكتابة عنه؟

الكلمة التي تُستخدم أحيانًا لوصف الكتب الموجودة في أي منهج دراسي هي «الأعمال المعتمَدة»، وأحيانًا يقال إن الأدب الإنجليزي مرادف للأعمال المعتمدة. وربما يتعيَّن على المرء أن يتخيَّل مؤتمرًا افتراضيًّا لكل أساتذة الأدب الإنجليزي في العالَم يعملون فيه كهيئة اختبارات عالمية تحدد قائمة النصوص المفروضة للدراسة بعد ساعات (أو بعد أعوام؛ كي نكون أكثر واقعية) من المناقشة، وهي — كما اتفقوا — الكتب التي استحقتْ مكانة عالية في الأدب وكانت صاحبة الريادة فيه.

وتتضح المغالطة في ذلك التصور عندما نفكر في أصل كلمة «الأعمال المعتمدة»، ففي عام ٣٩٣ ميلادية وافق مجمع هيبو الكَنَسي تحت سلطة القديس أوجسطين على قائمة الكتب المعتمَدة التي تشكِّل العهدَ الجديد، ومنذ ذلك الحين، اعتُبرتْ كل الأناجيل والرسائل الإنجيلية الأخرى مُلفَّقة أو مُنتَحَلة، وهكذا أُغلقتْ لائحة الأسفار المعتمدة في العهد الجديد، رغم أن مارتن لوثر حاول — أثناء حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر — إزالة رسائل العبرانيين ويعقوب ويهوذا وسِفْر يوحنا. وظلت أسفار العهد القديم غير مستقرة لفترة أطول، ولكن في عام ١٥٤٦ وضح عقائديًّا (بالنسبة إلى الكنيسة الرومانية الكاثوليكية) في مجمع ترنت. وأصبحتِ الأسفار المعتمدة في كنيسة إنجلترا — والتي تختلف قليلًا — ثابتة بعد ذلك بسبعة عشر عامًا من بين أحكام العقيدة الأنجليكانية التي يبلغ عددها تسعة وثلاثين حكمًا.

ولا تكمن مشكلة المؤتمر الافتراضي المزعوم لأساتذة الأدب الإنجليزي في أنهم لا يملكون السلطة التي يملكها مجمع ترنت فحسب، بل أيضًا في أن الأدب الإنجليزي ككل لا يزعم أنه يقدم وَحْيًا إلهيًّا، ولا ينتمي للماضي السحيق فحسب، كما هو الحال في نصوص الكتاب المقدس المعتمدة. وثمة أعمال جديدة لديها «القدرة» على بلوغ تلك المكانة «المعتمَدة» لاحقًا تُنشَر كل يوم، وتنفَد طبعات الأعمال القديمة ويمضي وقتها وتُحذف المناهج الدراسية، وتُصبح أعمالٌ قديمة أخرى، لطالما كانت مهملة، موضعَ إعجاب؛ حيث كان ثمة وقت تُقدَّم فيه مسرحيات بومونت وفليتشر على المسرح أكثر من مسرحيات شكسبير، وفي حياة ويليام بليك كانت كُتبُه التنبُّئِيَّة المكتوبة يدويًّا لا تجد أكثر من حفنة قُرَّاء، ولكنها الآن نبعٌ لصناعة ثقافية مهمة، ونُشِرت عشرات القصائد الرائعة لجون كلير لأول مرة بعد وفاته بأكثر من مائة عام. وظلت «الأعمال المعتمَدة» في الأدب الإنجليزي في القرنين السابع عشر والثامن عشر لفترة طويلة تتكون من أعمال الرجال فحسب تقريبًا، ولكن في أواخر القرن العشرين أُعيدتْ طباعة الكثير من الروايات والمسرحيات والقصائد الرائعة للنساء مرة أخرى. لا يوجد في تاريخ تكوين الأعمال اللاهوتية المعتمدة مثل تلك التقلبات المتطرفة والسريعة. وتفرض دورة مبيعات الكتب في مكتبة الأدب الإنجليزي ضرورة التعامل بحرص مع فكرة الأعمال الأدبية المعتمدة بصورة السلطة والاستقرار اللذين تطرحهما.

تعطينا الشعبية النسبية لمسرحيات بومونت وفليتشر من ناحية وشكسبير من ناحية أخرى على مسرح لندن (كان تأثير بومونت وفليتشر أقوى في ستينيات القرن السابع عشر، وأصبحت السيادة التامة لشكسبير منذ ثلاثينيات القرن الثامن عشر) مصطلحًا أفضل من «الأعمال المعتمدة» وهو «ذخائر الأدب». فالمسرحية أو مقطوعة الأوبرا تصبح من الأعمال الكلاسيكية عندما تظل في ذخائر الأدب فترة طويلة. وتختفي بعض الأعمال المعمَّرة الصامدة بمرور الوقت، بينما يقوم المخرج المسرحي البارع بإعادة إحياء الجواهر المفقودة.

وفي القرن الثامن عشر، حاول الكثير من الناشرين تثبيت ذخائر الأدب عن طريق نشر طبعات متعددة المجلدات من كتاب «الشعراء الإنجليز»، واعتُمِد كتاب د. جونسون الذي يحمل عنوان «حياة الشعراء» بوصفه مقدمة إلى مثل تلك المجموعات، ولكن في مطلع القرن التاسع عشر ظهرتْ مجموعات جديدة تضم شعراء أحدث وتتجاهل العديد من الشعراء القدامى. وتتطور ذخائر الأدب الإنجليزي وتُشكِّلها أساسًا قُوَى السوق؛ أي إذا ما كان العمل قويًّا بما يكفي كي يخاطب عصرًا لاحقًا ويكسب جمهورًا ويحقق مبيعات للناشرين.

وتؤدي الآراء النقدية المتطورة دورًا مهمًّا ولكنه ليس الوحيد على الإطلاق في تلك العملية، مثل الذخائر الداخلية لمسرحيات شكسبير. ففي عام ١٨١٩ أكَّد مقال في «مجلة بلاكوود إدنبره» أن أعظم مسرحيات شكسبير التراجيدية الأربع هي: «هاملت» و«الملك لير» و«ماكبث» و«عطيل»، وفي عام ١٩٠٤ أيَّد الناقد المؤثِّر إيه سي برادلي هذا الرأي عن طريق تخصيص محاضراته المنشورة التي تحمل عنوان «تراجيديا شكسبير» لتلك المسرحيات مطلقًا عليها «الأربع الكبرى». وطوال مائتي عام ظلت تلك المسرحيات تحظى بمكان في الذخائر المسرحية وفي المناهج الدراسية، بينما لم تحظَ مسرحيات مثل «تيمون الأثيني» و«تيتوس أندرونيكوس» بذلك المكان. ولكن لاحقًا أصبحتْ «روميو وجولييت» أكثر مسرحيات شكسبير التي تُعرَض على المسرح، رغم أن برادلي والعديد من المحللين الأكاديميين الآخرين كانوا يأنفون منها إلى حدٍّ ما (فالمراهقون الذين يعيشون قصة حب ليسوا موضوعًا صالحًا لتراجيديا ناضجة، أليس كذلك؟) وفي الوقت ذاته، فإن «تيتوس أندرونيكوس» أصبحتْ مؤخرًا من أكثر المسرحيات التي يستمتع بها الطلاب ويحبونها؛ مما أدهش معظم دارسي شكسبير الذين وُلِدوا قبل عام ١٩٥٠. وقد واصلتِ الذخائر الدراسية والمسرحية سَيْرها معًا؛ ففي كلٍّ من الدراسة والمسرح تعد مسرحية «تيتوس أندرونيكوس» محورية، بينما تظل مسرحية «تيمون الأثيني» هامشية.

لم تتشكل ذخائر الأدب الإنجليزي على يد النقاد وصانعي الآراء ودُور النشر والمكتبات المنتشرة وقوانين حقوق النشر والتأليف ولجان المعاينة والفحص فحسب، بل أيضًا عن طريق الكُتَّاب أنفسِهم؛ إذ تعمل عمليات الترجمة والمحاكاة والاستيعاب والتفاعل على استرجاع أدب الماضي ومن ثم إعادة إحيائه، وهذا، مرة أخرى، هو حوار الأدب مع الموتى، وهي موهبة إليوت الفردية في تعديل التراث.

ظلال المستقبل

كتب بيرسي شيلي قائلًا إن الشعراء هم «كهنة ذوو إلهام غير مفهوم، وهم مرايا للظلال العملاقة التي يُلقِيها المستقبل على الحاضر» («دفاع عن الشعر»، ١٨٢١). وإذا لم يكن الوضع كذلك، فلن يكون أدب الماضي سوى مجموعة من الوثائق التاريخية. وبالطبع، فإن أدب الماضي هو بالفعل مجموعة من الوثائق التاريخية التي تستحق الدراسة التاريخية ويمكن استيضاحها بسهولة عن طريق تطبيق المنهج التاريخي، ولكن فكرة الأدب بالمعنى الخاص لدى دي كوينسي تحوي داخلها إيمانًا بقدرة الإنسان على ألَّا يتقيد بحدود التاريخ والزمان والظروف.

ويكمن تناقض الأدب في حضور المؤلف وغيابه في آنٍ واحد، فمن ناحية يُستدل على العمل بهُوية المؤلف المميزة، والتي أُطلِق عليها «الصوت المكتوب»، ومن ناحية أخرى كما يقول أودن فإن المؤلف يصبح هو ومعجَبوه واحدًا؛ حيث كتب أودن في مرثية ييتس نفسها قائلًا: «إن الشعر لا يجعل الأشياء تحدث.» ويعود بعد عدة أسطر قائلًا: «إنه يبقى/إنه طريقة تحدُث بها الأشياء، إنه فم!»

الأدب فم: فهو ذلك النوع من الفن الذي يستخدم الكلمات بدلًا من الصور (الفنون المرئية) أو الموسيقى، ولكن الأدب العظيم يشترك في بعض الخصائص الجوهرية مع الأعمال الفنية العظيمة في الوسائط الأخرى. فإذا لم يكن ألبرت أينشتاين قد توصل إلى معادلة «الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء» كان شخص آخر سيقوم بذلك بعدها ببضعة أعوام، وإذا لم يكن ثمة تشارلز داروين كان الفضل سيعود لألفريد والاس في اكتشاف أن التطور يعمل عن طريق الانتقاء الطبيعي طبقًا للمواءمة مع البيئة. ولكن إذا لم يكتب ميلتون «الفردوس المفقود» فلم يكن شخص آخر لِيكتبها، وإذا لم يكن ثمة بتهوفن كان تاريخ الموسيقى الغربية بأكمله سيختلف.

من القواعد الأساسية في العلم قابلية التحقق وقابلية التكرار والاستنساخ؛ حيث يجب أن يتمكن الباحثون الآخرون من التحقق من الأدلة التي اعتمدتَ عليها وتكرار النتائج التي حصلتَ عليها عندما يقومون بنفس التجربة التي قمتَ بها. ومن القواعد الأساسية في الفن عدم قابليته للتحقق وعدم قابليته للتكرار أو الاستنساخ. فرغم أن الأعمال الفنية غالبًا ما تهدف إلى إخبارنا بشيء عن العالم فليس من الضروري أن تكون قابلة للتحقق، وهي لا تعتمد على «الدليل»، وبالفعل فإن إحدى طرق وصفها هي أنها عوالم «ثانية» أو «أخرى» أو كما نقول الآن «افتراضية». ورغم أن الأعمال الفنية يجب أن «يُعاد إنتاجها» آليًّا حتى يصبح لها أي تأثير مستمر، فإنها لا يمكن «استنساخها»، وتلك هي الفكرة المهمة الكامنة خلف الدعابة في قصة خورخي لويس بورخيس التي تحمل عنوان «بيير مينار مؤلف دون كيخوتة» (١٩٤١). ومينار هو كاتب قصصي فرنسي في القرن العشرين ينغمس تمامًا في عالم «دون كيخوتة» لميجل دي ثربانتس من القرن السابع عشر لا ليترجم العمل فحسب، بل أيضًا ليُعيد إحياءه، وينجح بالفعل في نهاية الأمر عن طريق ترجمته حرفيًّا إلى اللغة الإسبانية الأصلية في القرن السابع عشر. وهكذا فإن بورخيس يضرب عصفورين بحجر؛ فمن ناحية فإن نسخة مينار تصلح لإثبات تميز عمل ثربانتس فحسب (فعندما سُئل الملحِّن روبرت شومان عن «مقصده» من إحدى مقطوعات البيانو التي ألَّفها، يقال إنه قد عزفها مرة أخرى)، ولكن من ناحية أخرى، فإن إعادة إنتاج العمل في سياق ثقافي مختلف يُغيِّر معناه (فالكلمات التي لم تكن عتيقة عند ثربانتس أصبحتْ مهجورة عند مينار).

يتأثر الأدب دائمًا بالسياق الاجتماعي والتاريخي، فلا يوجد نشاط بشري لا يتأثر بهما، ولكن الخاصية المميِّزة للعمل الأدبي الخالد على وجه التحديد هي قدرته على «مقاومة» السياق الخاص بالفترة التي يُصنَع فيها، بل أيضًا مقاومة عِلْم مؤلفه ونواياه. وقد علَّق جون كيتس في أحد الخطابات قائلًا: «إن الأمور التي أفعلها جزئيًّا بطريقة عشوائية يؤكدها فيما بعدُ حكمي في كثير من سمات اللياقة.» أي إن الفنانين لا يتحكمون تمامًا في العمليات التي أتتْ بإبداعاتهم إلى الوجود، وبالنسبة إلى كيتس، فتلك هي الخلطة السحرية للفن. ومن وجهة نظر الكاتب فإن العمل الأدبي نفسه هو ما يقوم بدور المتحكِّم، لا السياق التاريخي أو الأيديولوجي للفترة التي يُصنَع فيها كما يرى بعض النقاد العصريين.

والعمل الأدبي حقًّا له حياة مستقلة بذاته، مثل تمثال بيجماليون في الأسطورة الإغريقية، وتُعَدُّ قصيدة كيتس «أغنية إلى وعاء إغريقي» تأملًا في تلك الفكرة. وبمعنًى غامض نوعًا ما، فإن العمل الفني يصنع شكلَه الخاص؛ ومِن ثَمَّ فإنه يصنع مستقبلَه بعد أن يغادر يدَ الفنان. ويقول كيتس أيضًا إن «ما هو إبداعي عليه أن يبدع نفسه.» وحتى إن كان على سبيل المجاز فحسب، فإن العمل الفني العظيم كائن حي رغم كل شيء، وتتحدد عَظَمته عن طريق قدرته على التطور — كما تفعل الكائنات الحية الناجحة — عن طريق التكيف مع الظروف الثقافية الجديدة، وهو يحيا كي يواجه المستقبل الذي يُلقِي بظلاله على نشأته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤