الفصل الثالث

بداية ظهور الأدب الإنجليزي

المسألة الأيرلندية

في عام ١٩٦٩ ابتاع الشاعر الأيرلندي شيموس هيني لنفسه هدية في عيد الميلاد؛ كتابًا بعنوان «أهل المستنقعات» للكاتب بي في جلوب، وهو كتاب يتناول موضوع اكتشاف هياكل لأجسام بشرية ترجع إلى عصر ما قبل التاريخ، محفوظة في مستنقعات الدنمارك. نشأ هيني في مزرعة وكان يشعر برباط قوي مع حياة الأرض، والقصيدة المميزة في مجموعته الشعرية الأولى «وفاة محبٍّ للطبيعة» (١٩٦٦) تحمل عنوان «الحفر». أصبح هيني مفتونًا بصورة أهل المستنقعات: انتمائِهم للأرض، فنائِهم (فأجسادهم تحمل علامات المِيتة العنيفة) وخلودهم (احتفاظهم بالشكل البشري على مدار آلاف الأعوام) في آن واحد، وكتب مجموعة من القصائد المستوحاة منهم. وفي قصيدة «العقاب»، يُجري قياسًا بين جثة إحدى سيدات المستنقع التي ضُحِّيَ بها من أجل بعض الطقوس وبين معاملة فتيات الروم الكاثوليكيات في بلفاست، اللواتي كنَّ يُغطَّيْنَ بالقار ويُقَيَّدْنَ بالسلاسل في الشُّرَف الأمامية؛ عقابًا لهن على مواعدة الجنود البريطانيين، وذلك في فترة «الاضطرابات» التي كان يُكتَب فيها. وقد اكتسب هذا القياس التشبيهي قوة، ولا سيَّما من الإهانة الإنجليزية المستمرة؛ حيث كان يُطلَق على الأيرلنديين «ساكنو المستنقعات».

وبوصفه كاتبًا أيرلنديًّا يكتب باللغة الإنجليزية، كان هيني شديدَ الإدراك لأن لغته التي يتحدثها والتراث الأدبي الذي كان ينخرط فيه ينتميان إلى شعبٍ استولى على الأراضي الأيرلندية وقمَع الشعب الأيرلندي. كان إدموند سبنسر، الشاعر «القومي» في عصر الملكة إليزابيث الأولى، مسئولًا حكوميًّا في أيرلندا، وكتب حوارًا سياسيًّا بعنوان «نظرة لدولة أيرلندا الحالية» يدافع فيه الصوت المهيمن عليه عن القمع العنيف للأيرلنديين المتمردين (رغم أن القصة أكثر تعقيدًا من ذلك؛ فالروح العدائية لدى سبنسر لم تكن موجَّهة إلى الغالِيِّين الأيرلنديين الأصليين قدْر ما كانت موجَّهة إلى «الإنجليز القدامى» — الأنجلوساكسونيين — الذين استوطنوا أيرلندا منذ القرن الثاني عشر، وهي لمحة مبكرة من الخوف الإمبراطوري الدائم من تحول المستوطنين المستعمِرين إلى أبناء للبلاد). وثمة قصيدة أخرى لهيني تحمل عنوان «صنيع الاتحاد»، وهي تدمج ببراعة بين الانضمام الرسمي لأيرلندا وبين الإخضاع الجنسي لخادمة أيرلندية على يد الشاعر الاستبدادي الإليزابيثي السير والتر رالي.

وفي قصيدة «مومياء تولوند»، يشق هيني طريقه وسط بلدة أهل المستنقعات:

ناطقًا الأسماء
تولاند، جروبال، نيبيلجارد،
مراقبًا الأيدي الممتدة
لأهالي البلدة،
الذين لا يعرف لغتهم.
هنا في يوتلاند
في الأبرشيات القديمة التي تُفني الرجال
سوف أشعر بالضياع،
حزينًا وفي وطني.
«النجاة من الأزمة»، ١٩٧٢

إنه في يوتلاند من حيث أتى الأنجلوساكسونيون: الموطن الأصلي للعرق الذي سوف يطرد السلت؛ قومه. وهكذا فهو «يشعر بالضياع» ولكنه في الوقت ذاته «في وطنه». قد تكون تلك هي الحالة الدائمة للشاعر، ولكن في عام ١٩٦٩ كان الإحساس المزدوج بالانتماء وعدم الانتماء شديدَ القسوة على كاثوليكي رصين ينتمي لأيرلندا الشمالية. كان هيني رجلًا فصيحًا مفوَّهًا، وكان يفتتن بأصوات الأسماء التي أُعطِيتْ لأهل المستنقعات كما يفتتن بالأسماء الأيرلندية القديمة في بلاده، ولكنه لم يكن يكتب باللغة الغاليَّة، وهكذا تصبح «الأيدي الممتدة» هي أيادي «مواطني بلاده» يعاتبونه على عدم معرفته بلغته الأم. وبعد ذلك بعدة أعوام، كتب برايان فريل صديق هيني مسرحية شديدة التأثير عن إعادة رسم خريطة أيرلندا بأسماء بريطانية جديدة («التراجم»، ١٩٨٠). وفي القصائد التي جمعتْ في ديوان «الشمال» (١٩٧٥) نجد أن لدى هيني شعورًا غامرًا بالقلق من أن كتابته بالإنجليزية ربما تُعتبر مشاركة في الخيانة.

على أحد المستويات، هو يتساءل عن احتمالية أن يكون أحد أبناء المستنقعات شاعرًا أو حارسًا للأرض واللغة أو وعاءً للحفاظ على حكايات القبيلة، فهذا كان الدور الأصلي للشعراء كما أقرَّ سبنسر نفسُه بنبرة من الحسد في «نظرة لدولة أيرلندا الحالية»:

ثمة فئة من الناس بين الأيرلنديين يُطلَق عليهم الشعراءُ المَلْحَمِيُّون وهم بديل عن الشعراء، وتتمثل مهمتهم في نشر المدح أو الذم في قصائدهم وأشعارهم، وهم يتمتعون بمكانة عالية وتقدير بالغ بين الناس؛ حتى إنَّ أحدًا لا يجرؤ على إثارة غضبهم.

السلت

ثمة تاريخ قديم يكمُن خلف هذا كله، حقيقة مُخزية للنسخة الإنجليزية من التاريخ الأدبي، وهي أنه قبل الإنجليز كان يوجد السلت، وكانت قصائد السلت — لا قصائد الغزاة الأنجلوساكسونيين المتأخرين — هي المُعادل القومي لمجموعة هوميروس التي بُنيَتْ عليها الحضارة الإغريقية. وتعد النسخة الأسطورية من شاعر الملاحم السلتي ملمحًا رئيسًا في تاريخ الأدب في تلك الجزر، وكانت القيثارة التي صاحبتْ أغنية الشاعر الملحمي رمزًا قويًّا ودائمًا، وخاصة في ويلز وأيرلندا، ولكن لما كانت حضارة السلت شفهية فإن قصائد الشعراء الملحميين لم تُدوَّن لعدة قرون.

وفجأة قال مارلو: «وهذا أيضًا أحد الأماكن المظلمة على الأرض» (جوزيف كونراد، «قلب الظلام»، ١٩٠٢). وللمفارقة، فبقدر ما كانت بريطانيا ستصبح يومًا إمبراطورية اتخذت من روما القديمة قدوة لها، فإن أقدم نص مكتوب حول بريطانيا العظمى لم يكتبه أحد أبناء البلد بل قائد حملة عسكرية استعمارية. وقد ابتكر يوليوس قيصر في الكتاب الخامس من «الحروب الغاليَّة» صورة دائمة لسكان الجزيرة المثلثة بعيدًا عن الساحل الشمالي لبلاد الغال: «إن كل البريطانيين في واقع الأمر يصبغون أنفسهم بالخشب الذي يسبب لونًا مائلًا إلى الزرقة، وهكذا يكتسبون مظهرًا أكثر إفزاعًا أثناء القتال، وهم يُطيلون شعورهم ويحلقون أجسامهم بالكامل ما عدا الرأس والشارب.» وقد أخفق قيصر في إنشاء مستعمرة في بريطانيا العظمى، على الرغم من أنه انتزع اتفاقًا على دفع أموال الضرائب لروما. أما أولوس بلاوتيوس الذي قاد قوة غازيَة بعد ذلك بقرن تقريبًا في عام ٤٣ ميلادية فقد كان أكثر نجاحًا؛ حيث دخلتْ في أعقابه الطرق والقصور وحمَّامات السباحة والأسوار لإبعاد البيكتس الذين يعيشون في الشمال وأخيرًا المسيحية، وسوف تصبح المقاومة البريطانية للغزاة الرومانيين جزءًا من الأسطورة القومية في القرون التالية. وأثناء حكم الملك جيمس الأول لإنجلترا، الذي كان أيضًا جيمس السادس ملك اسكتلندا وكانت لديه آمال في توحيد مملكتيه لإنشاء «بريطانيا» جديدة، أوحت المقاومة السلتية للاستعمار الروماني لشكسبير بحبكة مسرحيته «سيمبلين» (حوالي ١٦١٠)، ولجون فليتشر بحبكة مسرحيته «بوندوكا» (حوالي ١٦١٣، وهي طريقة مختلفة لكتابة اسم بوديكا).

ومع ذلك، فمن المهم أن الرومان لم يغزوا أيرلندا قط؛ مما يعني أن تراث الشعر الملحمي للسلت كان لا يزال حيًّا عندما حوَّل القديس باتريك أيرلندا إلى المسيحية في القرن الخامس. وشرع الرهبان المتعلِّمون في تدوين قصص الحضارة القومية والمحافظة عليها، ومنها سلاسل الشعر الملحمي؛ مثل سلسلة أولستر، أو سرد مآثر كوشولين وحركة «الفينيان» والإخبار عن فين أو فيون أولًا بين صفوة المحاربين التابعين لملك الملوك الأيرلندي.

لم يخترق الرومان ولا الموجة التالية من الغزاة — وهم الأنجلوساكسونيون — اسكتلندا أو أعماق ويلز؛ ومِن ثَمَّ عاشتِ القصص السلتية في تلك الأراضي أيضًا، ومرة أخرى، لم تُدوَّن تلك القصص لمئات الأعوام. وتخبرنا مجموعة «مابينوجيون» الويلزية التي تعني «تعليمات لصغار الشعراء الملحميين» عن بوي أمير دايفد وبرانوين ابنة لير، وتظهر تلك المجموعة في مخطوطة تعرف باسم «كتاب هرجست الأحمر» الذي يعود إلى أواخر القرن الرابع عشر. وفي اسكتلندا توارثت الأجيال قصصًا عن مآثر أويسين المحارب والشاعر الأسطوري في القرن الثالث وابن فين (فينجال).

لطالما كانت ترجمة تلك الملاحم المهمة إلى اللغة الإنجليزية — أو بالأحرى، التصرف الحُرُّ فيها وإعادة استنباطها — ملمحًا مهمًّا للعديد من فترات النهضة السلتية. وفي عام ١٧٦٠ وبعد إخفاق مشروع اليعاقبة السياسي لإعادة ملوك أسرة ستيوارت إلى العرش، حاول رجل اسكتلندي يُدعَى جيمس ماكفرسون إطلاق ثورة ثقافية بدلًا من ذلك، ونشر كتابًا بعنوان «شذرات من الشعر القديم جُمِعتْ في مرتفعات اسكتلندا وتُرجِمتْ عن الغاليَّة أو الأيرس». وبعد أن استحثَّه نجاح تلك المبادرة أتْبعها بعد عامين ﺑ «فينجال: ملحمة شعرية قديمة في ستة مجلدات»، ثم أتْبعها في العام التالي لذلك بملحمة من ثمانية مجلدات تحمل عنوان «تيمورا»، ويُزعم أنها من أعمال أوسيان (أويسين) نفسه:

هل تهب الرياح على درع فينجال؟ أو هل يُسمع صوت الماضي في قاعتي؟ … عاد الخريف برياحه أربع مرات وأثار أمواج بحر توجورما منذ أن كنت في هدير المعارك، وبراجيلا بعيدة للغاية!

«وفاة كوشولين»

هل كان يمكن لماكفرسون أن يعوض عن النسخة البريطانية المساوية لهوميروس؟ ظن الكثيرون ذلك، ولكنَّ آخرين تشككوا في الأمر، وخاصة د. صامويل جونسون، وهو رجل إنجليزي رافض للثقافة الاسكتلندية. وعندما سئل: «ولكن، هل تعتقد بالفعل يا د. جونسون أن أي شخص اليوم يمكنه كتابة مثل هذا الشعر؟» أجاب قائلًا: «نعم، الكثير من الرجال والكثير من النساء والكثير من الأطفال.» وقد دُعي ماكفرسون كي يقدِّم النُّسَخ الأصلية واضطُر إلى أن يختلقها. أنشئتْ لجنة للتحقيق على الطريقة البريطانية التقليدية، وتوصلتْ إلى أن ماكفرسون قد أجرى تعديلات على مجموعة من الأشعار الغاليَّة التقليدية بتصرف (كبير) وأدخل بينها أجزاءً من تأليفه، وأقرَّ العلم الحديث النتائج التي توصلتْ إليها تلك اللجنة. ورغم أن قضية أوسيان لم تخدم حركة اليعاقبة، فإن السمو العاطفي للغة القصائد ساعد في صرْف اهتمام الشعر الإنجليزي بعيدًا عن النمط الكلاسيكي الحديث الذي ظلَّ مسيطرًا طوال معظم القرن الثامن عشر. وحاول ويليام بليك ابتكار نوع جديد تمامًا من الملاحم «البريطانية الأصلية» في قصيدتَيْ «ميلتون» و«القدس» عن طريق رفض الأنماط اليونانية اللاتينية ومحاولة المزج بين أسلوب أوسيان وأسلوب كتب العهد القديم.

وبعد ذلك بقرن، قامت النهضة السلتية في أيرلندا بدور أساسي في ظهور قومية ثقافية مقنَّعة معارِضة للحكم البريطاني. ومن الشخصيات البارزة في تلك الحركة أعضاء من حركة الهيمنة البروتستانتية الأنجلو-أيرلندية القديمة؛ مثل الليدي جريجوري التي ترجمت العديد من القصص عن البطل الأسطوري كوخولين، وويليام بتلر ييتس الذي نشر «الحكايات الخرافية والشعبية للفلاحين الأيرلنديين» (١٨٨٨) و«جولات أويسين وقصائد أخرى» (١٨٨٩) و«فجر السلت» (١٨٩٣). وفي عام ١٨٩٩، مُثِّلتْ مسرحيتُه «الكونتيسة كاثلين» في المسرح الأدبي الأيرلندي الذي أسَّسه هو والليدي جريجوري. وفي ديسمبر ١٩٠٤، افتتح مسرح آبي «القومي» في دبلن أبوابه بحفل ثلاثي مكوَّن من مسرحية ييتس «على شاطئ بالي» (مسرحية حول كوخولين) و«كاثلين ني هوليهان» بالإضافة إلى «نشر الخبر» لليدي جريجوري، وهي مسرحية كوميدية تسخر من الطبقة الحاكمة الإنجليزية من خلال شخصية قاضٍ مغرور. وفي الليلة الثانية، استُبدلتْ بإحدى مسرحيات ييتس مسرحيةُ «في ظل الوادي» للكاتب جيه إم سينج، وهو كاتب مسرحي آخر ذو خلفية بروتستانتية مُوسِرة تحوَّل إلى القومية الثقافية الأيرلندية واستمد أعماله من الحكايات الشعبية، وفي حالته استمدها من حكايات جزر آران.

وفي قصيدة كتبها ييتس في ذكرى ميجور روبرت جريجوري ابن الليدي جريجوري، قال إن سينج قد وجد إلهامه «في واحد من أكثر الأماكن الحجرية المهجورة» الذي قَدِم إليه «قرب هبوط الليل على مجرًى مائي، عاطفي وبسيط كقلبه.» لم تقترن النهضة السلتية بالسياسة والقومية فحسب، بل أيضًا برغبة شاعرية في العودة إلى البساطة الريفية والإحساس المرهف مع ترسيخ الجانب الديني في المكان والمناظر الطبيعية.

الأنجلوساكسونيون

مع وصول الأنجلوساكسونيين في موجات متتالية من يوتلاند وأنجلن وساكسونيا وفريزلاند أحضروا معهم قصصهم الخاصة عن أبطالهم الأسطوريين، ولم تُدوَّن تلك القصص أيضًا إلا لاحقًا وأشهرها «بيوولف». وثمة جدل علمي قوي حول تاريخ تأليفها (هل هو القرن الثامن أم بعد ذلك بكثير؟) وتنتمي المخطوطة الوحيدة الباقية لأواخر القرن العاشر أو الحادي عشر، ولكنها اكتُشفتْ في القرن السادس عشر. وتجسِّد ملحمة «بيوولف» الشعر الإنجليزي القديم في أوج قوته، ولكن لأنها قد ظلت مجهولة فترة طويلة جدًّا وأحداثها تدور في إسكندنافيا، فإنها لم تؤثر على الأدب الإنجليزي حتى القرن التاسع عشر عندما ترجمت إلى اللغة الإنجليزية الحديثة. وفي العصور الحديثة، دُرِّست في الجامعات وتُرجِمت مرات عديدة، وأشهرها نسخة هيني تانب أتاحت له الفرصة كي يعقد صلحًا مع أساتذته الأنجلوساكسونيين، وذلك بعد المصالحة التي عقدت في اتفاق الجمعة العظيمة عام ١٩٩٩. وقد جذبتْه لغة القصيدة الراسخة وما بها من سجع ابتدائي: «تتمزق الأوتار/وتنفجر مواضع التقاء العظام.»

كان «أوسيان» شخصية وهمية إلى حدٍّ كبير، ومؤلف «بيوولف» مجهول، فمَن إذن أول شاعر إنجليزي يمكن تسميته — مثلما يمكن تسمية هوميروس — بالأب المؤسس الذي بدأ الرحلة من شعراء مجهولين ينشدون التراث الشفهي على مسامع مؤلِّفي «الأدب» المُوقَّرين؟

في إنجلترا الأنجلوساكسونية كانت الكتابة غالبًا حكرًا على الرهبان، وكانت معرفة القراءة والكتابة من اختصاص رجال الدين؛ أي القساوسة. ومِن ثَمَّ، فإن أقوى رواية عن أصل الأدب الإنجليزي توجد في أحد النصوص الكهنوتية التي كُتبت باللاتينية، وهو «التاريخ الكَنَسي للشعب الإنجليزي» لمؤلفه بِيد المُوقَّر (والذي يعتقد أنه قد كتب عام ٧٣١ ميلادية)، وهو تاريخ قومي ناشئ ينصبُّ الاهتمامُ الرئيسي فيه على الصراع بين المسيحية الرومانية والسلتية.

وطبقًا لبيد ففي وقت ما خلال أواخر القرن السابع عندما كان القديس هيلد رئيس دير ويتبي في الساحل الشمالي الشرقي لإنجلترا، كان يحيا رجلٌ يُدعَى كادمون يؤلف «أغاني دينية ورعة». درس كادمون الكتب المقدسة ومفسِّريها، محوِّلًا مقاطع من العهدين القديم والجديد «إلى أشعار شديدة البهجة ومثيرة للمشاعر باللغة الإنجليزية التي كانت لغته الأصلية.» ولم يتبقَّ من أعماله سوى مقطع واحد؛ حيث أتى زائر إلى كادمون في الحلم وأخبره بأن عليه أن ينظم شعرًا في مديح الخالق، وهذا هو ما كتبه:

علينا الآن أن نمدح حارس مملكة السماء
قوة ضابط المقاييس وإدراكه العقلي
صنع الأب المجيد والكل يتعجب
الرب الخالد، مغروس في المنشأ.
خلق أولًا لأبناء الأرض
السماءَ سقفًا، إنه الخالق المقدس
ثم الأرضَ الوسطى حارسةَ البشر
وبعدئذٍ صنع الرب الخالد
الأرضَ للبشر، إنه الأب القادر على كل شيء.

ومنذ بدايته في تلك السطور فإن الشعر الإنجليزي قد تردد صداه بلغة المديح والإعجاب، وأخذ الكُتَّاب على عاتقهم أن يكونوا حُماة «الأرض الوسطى» «المعرَّضة للخطر». وتُحاكي الشرارة الإبداعية لدى الشاعر تلك الموجودة لدى الخالق، فثمة خيط ذهبي يربط بين كادمون وبين تعريف صامويل تايلور كولريدج الذي تلاه بما يزيد عن ألف عام للخيال الشعري بوصفه تكرارًا في العقل المحدود لفعل الخلق الخالد في «الكينونة» المطلقة.

في عصر كادمون كانت إنجلترا لا تزال منقسمة إلى عدة ممالك، وقد سبق اكتشاف الشعر الإنجليزي تكوين الأمة الإنجليزية، فمتى ظهر الأدب «القومي»؟

كان لدى ألفريد، مَلِك ويسكس من عام ٨٧١ وحتى ٨٩٩، مفهوم جديد لدَوْره المَلَكي. فقد طمح إلى التميُّز في «كلٍّ من الحرب والحكمة»، واعتبر أن واجبه لا يقتصر على الحفاظ على مملكته من قبائل الفايكينج فحسب، بل أيضًا إقامة مركز ثقافي في بلاطه والإشراف على إنشاء مركز أدبي إقليمي. وقد ترجم (أو ربما فوَّض بالترجمة آخرين) الكتاب المقدس (نسخة نثرية من المزامير الخمسين الأولى) ونصوصًا مسيحية لاهوتية وعملية («مناجاة» لأوجسطين و«العناية الرعوية» لجريجوري) وفلسفة الرواقية الحديثة الرومانية («عزاء الفلسفة» لبويتيوس الذي سيترجمه تشوسر بعد ذلك بقرون عديدة). وقد بدأتْ مقدمة كتاب بويتيوس بالجملة التالية: «إن المَلِك ألفريد هو مَن ترجم هذا الكتاب، ونقله من اللاتينية إلى الإنجليزية كما يبدو أمامكم الآن. وهو يعمد أحيانًا إلى الترجمة الحرفية وأحيانًا ترجمة المعنى كي ينقل النص بأقصى قدْر من الوضوح والإفهام، مع أخذ العوامل الدنيوية المشتِّتة المتعددة والمتنوعة التي شغلتْه كثيرًا — سواء من ناحية العقل أم الجسد — في الاعتبار.» وفي الألفية التالية، سار كلٌّ من الملكة إليزابيث الأولى والملك جيمس الأول على خُطا الملك ألفريد بوصفهم ملوكًا يكرِّسون وقتًا للقراءة والكتابة والترجمة. ولطالما كانت الترجمة، التي سوف يُقسِّمها الشاعر جون درايدن في القرن السابع عشر إلى «ترجمة حَرْفية» و«إعادة صياغة» أكثر تحررًا و«محاكاة» إبداعية، مشروعًا دائمًا في الأدب الإنجليزي.

ورغم أن ألفريد ربما كان أول مَن أنشأ ذخيرة من الأدب باللغة الإنجليزية، فإنه لم يكن مَلِكًا للأرض كلها، فطبقًا لإحدى القصائد في «السجل التاريخي الأنجلوساكسوني» حدث في عام ٩٣٧ أن:

أثيلستان الملك،
السيد وسط النبلاء،
مانح السِّوار،
وسيد البارونات،
هو وشقيقه
إدموند أثلينج،
الذي جنى مجدًا
في المعارك يدوم أبد الدهر،
ذبحا بحد السيف
في معركة برونانبر،
أوقفا حائط الدروع،
قطَّعا خشب الزيزفون،
مزَّقا دروع المعركة؛
ابنا إدوارد بسيوف مطروقة.
«معركة برونانبر»، ترجمة ألفريد لورد تينيسون، ١٨٧٦

في تلك المعركة التي جرتْ أحداثها في موقع مُختَلَف في شأنه (وأغلب الظن أنها دارت في برومبورو على جزيرة ويرال)، هزم جيش ساكسوني تحالفًا من الفايكينج والاسكتلنديين والأيرلنديين. ومنذ ذلك الحين أصبح أثيلستان حفيدُ ألفريد أولَ مَلِك لإنجلترا بأكملها، ولكن الهوية الثقافية لأرضه ظلت هجينة. ورغم أن الأنجلوساكسونيين كانت لهم الغلبة، فإنهم تزاحموا مع تراث أبناء البلد من السلت والغزاة الإسكندنافيين والمبشِّرين المسيحيين. وعندما أتى النورمان عام ١٠٦٦ كانت الصورة قد ازدادت تعقيدًا.

بعد غزو النورمان

يتضح ملتقى الأنواع المختلفة من التراث العرقي واللغوي لأقصى درجاته في قصص بروتس مؤسس بريطانيا الأسطوري وقصص ملكها النموذجي آرثر؛ حيث تفوقت روما القديمة على اليونان عن طريق إعلان أصولها الأسطورية في هروب إينياس من طروادة، وبعد سقوط الإمبراطورية الرومانية استخدم المؤرخون البريطانيون نفس الوسيلة لتأكيد أصلهم العريق. وتُقابلنا تلك القصة لأول مرة في «تاريخ البريطانيين» لنينيوس في القرن التاسع، ويقصها علينا على نحو أكثر تأثيرًا في «تاريخ ملوك بريطانيا» جيفري أوف مونموث في القرن الثاني عشر. ولما كان رجلًا ويلزيًّا في أكسفورد عندما كانت إنجلترا يحكمها النورمان، فقد حاول جيفري التفوق على الساكسونيين عن طريق التأكيد على عراقة السلت الأرفع مقامًا.

في تلك الرواية، أُعطي البريطانيون نفس أصول الرومان، وقتل بروتس — حفيد إينياس — والده مصادفةً وذهب إلى المنفى، وقابل آخِرَ بقايا العِرْق الطروادي وحرَّرهم من الإغريق وقادهم في رحلة إلى جزيرة ألبيون الشمالية البعيدة التي كانت غير آهلة بالسكان ما عدا القلة الأخيرة من سلالة قديمة من العمالقة، ثم هبطوا في توتنس جنوب غرب البلاد وأعاد بروتس تسمية الجزيرة باسمه وأصبح أتباعه يُعرفون بالبريطانيين. ثم يستعرض جيفري باختصارٍ ألفَيْ عام من التاريخ البريطاني الأسطوري، وتضم سلالة الملوك التي افتتحها بروتس ملوكًا عديدين سوف يقدَّمون في الدراما في عصر الملكة إليزابيث والملك جيمس الأول، مثل لوكراين وجوربوداك وفيريكس وبوريكس ولير وسيمبلين. وينتهي الكتاب بوفاة آرثر أعظم هؤلاء الملوك وبالنبوءة القائلة بأن نسله سوف يعود للحياة يومًا ما. ومثل أنصار أسرة تيودور بعد أربعة قرون، فقد أشاروا إلى الأصل الويلزي لهنري السابع بوصفه دليلًا على أن تلك السلالة الجديدة تتكون من أصل آرثري حقيقي وفي النهاية وحشي/طروادي.

كانت سلالة بروتس أسطورة، ولكن رواية جيفري استمدت نقاطًا كثيرة من التاريخ الحقيقي، فقبل أن يغير الرومان اسمها إلى لوندينيوم استمدت أول مدينة بريطانية اسمها من قبيلة محلية قوية تدعى ترينوفانتس، وهكذا أمكننا إعادة تفسير اسم ترينوفانتيام بأنه تروينوفانتم؛ أي طروادة الجديدة. ويقول إدموند سبنسر في الكتاب الثالث من القصيدة الإليزابيثية «ملكة الجن»: «انحدر البريطانيون النبلاء من الطرواديين الجسورين/وبُنيَتْ تروينوانت من رماد طروادة القديمة البارد.»

كُتِب تاريخ جيفري بأسلوب النثر اللاتيني، ونقله إلى الشعر الفرنسي ويس الذي أهدى قصيدته «حكاية بروت» إلى الملكة إليانور (زوجة هنري الثاني) عام ١١٥٥. وفي عام ١٢١٥ تقريبًا، ترجمها إلى الإنجليزية الوسطى القديمة رجل يدعى لايامون «رجل القانون» الذي كتبها بلهجة الأراضي الوسطى الغربية في إنجلترا التي لا تزال تحمل رائحة اللغة الإنجليزية القديمة. احتفظ لايامون ببعض العناصر القوية من أسلوب شعر الجناس الاستهلالي القديم، وعلى غير المتوقع لم يستخدم سوى عدد قليل من الكلمات ذات الأصل الفرنسي، حتى عندما كانت ترجمته حرفية بعض الشيء، كما توسَّع في المادة المتاحة له وارتجل فيها مثلما فعل عندما قدَّم نبوءة العودة بعد وفاة آرثر:

حتى بعد تلك الكلمات أتى زورق صغير
مرتحلًا في البحر تتقاذفه الأمواج
وبه امرأتان في قمة الأناقة،
أخذتا آرثر في الزورق ودخلتا بجواره
وأرقدتاه ببطء ثم رحلتا.
ثم تحقق ما قاله مرلين من قبل،
سيكون ثمة أَسَف غير محدود عند رحيل آرثر،
وما زال البريطانيون يصدقون أنه حيٌّ
يعيش في أفالون مع أجمل الجنيات،
ودائمًا ما ينتظر البريطانيون الوقت الذي يعود فيه.
ولكن لم يولد بعدُ مَن يُمكِنه
إخبارُنا بالمزيد عن حقيقة آرثر،
ولكن كان ثمة ساحر يدعى مرلين
أعلن بالحرف أن آرثر سوف يأتي عونًا للإنجليز،
وطالما كانت أقواله صحيحة.

وبينما تبدو ترنيمة كادمون كما لو كانت بلغة أجنبية، فإن استخدام عبارات مثل: «امرأتان في ذلك المكان» في «حكاية بروت» للايامون بدأ يبدو شبيهًا باللغة الإنجليزية الحديثة. وفي ذلك التحول من البريطانية إلى الإنجليزية — يتوقع لايامون — أحد مظاهر الصراع السائدة في التاريخ القومي.

سوف يعود المَلِك آرثر بالفعل ولكن بطريق غير مباشر؛ ففي القرنين الثاني عشر والثالث عشر ظهرت حكايات فرسان المائدة المستديرة على الطريقة الفرنسية الرومانسية، وأبرزها ما كتبه كريتيان دي تروا، ثم أصبحت شيئًا أساسيًّا لإحياء شعر الجناس الاستهلالي الإنجليزي في القرن الرابع عشر، وذلك قبل أن تتعرض لأهم عمليات التنقيح في قصة توماس مالوري النثرية التي ترجع إلى القرن الخامس عشر وتحمل عنوان «وفاة آرثر»، والتي جمعتْ بين المصادر الفرنسية والإنجليزية، بالإضافة إلى تطويرات من ابتكار مالوري. وقد ضَمِن النص المطبوع لويليام كاكستون الذي يرجع لعام ١٤٨٥ توزيعًا على نطاق أوسع مما كان متاحًا في ثقافة المخطوطات اليدوية.

وفي القرون التالية عاد الشعراء إلى قصة آرثر، ومنهم ويليام وارنر (ألبيون، إنجلترا القديمة) وإدموند سبنسر (ملكة الجن) في القرن السادس عشر، وجون ميلتون في القرن السابع عشر (كان قد خطط لكتابة ملحمة عن الملك آرثر قبل أن يستقر على الموضوع الإنجيلي «الفردوس المفقود»)، ولورد تينيسون في القرن التاسع عشر (أناشيد الملك)، وسايمون آرميتاج في القرن الحادي والعشرين (ترجمة «السير جاوين والفارس الأخضر» و«القصة المسجوعة لوفاة آرثر»). وبالنسبة لآرميتاج، وهو شاعر مِن يوركشير على غرار تيد هيوز وتوني هاريسون، تجسد قصة رحلة جاوين المحفوفة بالمخاطر من كاميلوت إلى كنيسة الفارس الأخضر لهجة شعبية تنتمي إلى شمال إنجلترا:

عابرًا هولي هيد قدومًا إلى الشاطئ
في صحراء ويرال التي تخلَّى الإله والصالحون …
عن أهلها صِعَاب المِرَاس
إنه هنا يتشاجر مع الأفاعي والذئاب المُزَمْجرة
إنه هنا يشتبك مع الرجال المتوحشين الذين يسببون المتاعب في الجروف
أو مع الثيران والدببة والخنزير البري الغريب.
ترجمة سايمون آرميتاج، ٢٠٠٧

تشوسر مقابل لانجلاند

بُني الأدب الإنجليزي على النزاع بين المنتصر والمهزوم، بين المركز والأطراف، بين السلطة والتمرد؛ إذ يظهر فيه الروماني مقابل البريطاني، الساكسوني مقابل السلتي، النورماني مقابل الساكسوني، الكتابة باللاتينية أو الفرنسية مقابل الكتابة بالإنجليزية، البلاط مقابل الريف، الجنوب مقابل الشمال، الإنجليزية الفصحى مقابل اللهجة الإقليمية، لندن مقابل الأقاليم. ويتجلى العديد من مظاهر الصراع تلك بوضوح في التراث المتنوع لأعظم شاعرين في أواخر القرن الرابع عشر.

ولد جيفري تشوسر في لندن لأبٍ تاجرٍ للخمور، وعندما كان شابًّا قضى الخدمة العسكرية في فرنسا حيث أُلقي القبض عليه وطُلبتْ منه فدية، ثم حصل على رعاية الرجل العظيم النفوذ جون أوف جونت، والذي أهدى إليه أشهر قصائده الأولى «كتاب الدوقة» (حوالي ١٣٦٨) في ذكرى بلانش أوف لانكستر زوجة جونت الأولى. وكانت فيليبا، زوجة تشوسر، شقيقة محظية الدوق. وبتلك العلاقات كان من السهل على تشوسر أن يحصل على بعض المناصب المرموقة في البلاط. وكانت المهمة التي قام بها في جنوا وفلورنسا في خدمة الملك في بداية السبعينيات من القرن الرابع عشر؛ ذات أهمية خاصة على صعيد تطوره الشعري؛ نظرًا لأنها أعطتْه الفرصة لاكتشاف ثروات الأدب الإيطالي. ويشير البعض إلى أنه ربما يكون قد قابل المؤلفين البارزين في عصر النهضة الإيطالية بوكاتشو وبترارك، رغم أن معظم الباحثين يتجاهلون ذلك الاحتمال. وعند عودته إلى لندن، حصل على منصب مراقب الجمارك ثم كاتب أعمال الملك.

fig2
شكل ٣-١: جيفري تشوسر، في هامش مخطوطة «حكايات كانتربري» لإليزمير، إلى جانب «حكاية مليبي» التي يرويها الشاعر بنفسه.

كان الشعر بالنسبة لتشوسر إنجازًا وأداة لإبراز الذات، كان وسيلة للترقي في البلاط فضلًا عن كونه مهنة؛ حيث أفاد شعرُه نشاطَه المهني واستفاد منه؛ فقد تأثرت أعماله الأولى التي تزامنت مع علاقاته الفرنسية بالشعر الفرنسي (وخاصة الرؤيا العاطفية المجازية «قصة الوردة»)، بينما فترته الوسطى التي استمدت الإلهام من الرحلة لإيطاليا سيطرت عليها نسخته من قصة ترويلوس وكريسيدا التي كتبها محاكاة لمعالجة بوكاتشو لنفس الموضوع.

كان تشوسر دمثًا متعدد الثقافات واللغات، كان شاعرًا حديثًا واعيًا، وقبل كل شيء كان شاعرًا أوروبيًّا. وقد ذاع صِيتُ شعره وترجماته بين النخبة، وحتى عندما كتب «حكايات كانتربري» في أواخر حياته، وهي تحليل ساخر لأنماط الشخصية الإنجليزية التي يمثل كلٌّ منها دورًا مختلفًا أو «حالة» مختلفة في المجتمع، ظل يؤقلم النماذج الأوروبية ويحدِّث النماذج المتوارثة. ففكرة الحكايات المتعددة في نسيج واحد شامل مستمدة من «ديكاميرون» لبوكاتشو، وحكاية الفارس أُخذت من عمل آخر لبوكاتشو، وحكاية الطحان الفاسق كُتبت بأسلوب الحكاية الخرافية الفرنسية «فابليو»، وحكاية الراهب صِيغت طبقًا للمفهوم التقليدي للتراجيديا بوصفها سقوط العظماء، وحكاية قس الراهبة قصة رمزية أبطالها من الحيوانات على طريقة إيسوب، وزوجة باث شخصية إنجليزية هزلية استثنائية، ولكن افتتاحيتها وحكايتها تشتركان في نقاش جاد حول أدوار المرأة والسلوك المناسب لها، وهو نقاش يعتمد على مصادر مطَّلعة مثل البحث اللاتيني للقديس جيروم الذي يحمل عنوان «ضد جوفينيان».

ويعد ريتشارد الثاني (على غرار ريتشارد الثالث) أحد ملوك العصور الوسطى الذين عانَوْا من التأثير السلبي لأحداث أسرة تيودور، والصورة الذهنية الشائعة عنه مستمَدَّة من شكسبير: رجل ضعيف، منهمك في ذاته، أحاط نفسه بالمتملقين، وترك البلاد فريسة للدمار والخراب، وكان حتمًا أن يُطاح به في انقلاب قام به الرجل القوي هنري بولينبروك والد هنري الخامس صاحب الذكرى المجيدة. ولكن في الواقع قد تزعَّم ريتشارد الثاني ثقافة شديدة التعقيد داخل البلاط أوجد فيها تشوسر وصديقه جون جاور مكانًا للشعر.

وخارج نطاق البلاط كانت الأُمَّة قد بدأتْ تكتشف صوتها السياسي كما تثبت ثورة الفلاحين أو «الانتفاضة الكبرى» عام ١٣٨١ ومشروع «لولارد» لتحديث الدين وإدخال مظاهر الديمقراطية عليه. والقصيدة التي تجسِّد تلك التطورات هي قصيدة ويليام لانجلاند التي تحمل عنوان «رؤيا بيرس الحارث» (حوالي ١٣٧٠–١٣٩٠). وتشهد حقيقةُ أن تلك القصيدة الطويلة لها عدة نسخ مختلفة والعشرات من المخطوطات المختلفة على شعبيتها وعلى أن لانجلاند الذي لا نعلم عنه شيئًا غالبًا لم يتوقف عن تنقيحها (على سبيل المثال، عن طريق حذف بعض الفقرات السياسية المحرِّضة بعد عام ١٣٨١).

يستغرق راوي القصيدة في النوم على تلال مالفيرن في أقصى غرب إنجلترا، ويرى رؤيا عن «حقل جميل مليء بالناس»، وهم شعب إنجلترا الذين يكتب لهم عن البحث عن الحياة التقية، وفساد الأغنياء والأقوياء، ومناصرة السيد المسيح للفقراء والمحرومين. ولما كان لانجلاند إنجليزيًّا أكثر منه أوروبيًّا، ومحليًّا وليس حضريًّا في كلٍّ من اللهجة ووجهة النظر، وتقيًّا وليس فاسقًا، فقد أصبح يُنظَر إليه بوصفه النقيض التام لتشوسر. وبالنسبة إلى جون بول في ثورة الفلاحين، ومرة أخرى بالنسبة إلى رجال «الكومنولث» البروتستانتيين المتطرفين في منتصف القرن السادس عشر، أصبح اسم بيرس الحارث مرادفًا للمقاومة الإنجليزية القوية للاستبداد، سواء الملكي أم الكنائسي، الذي يأتي من مراكز القوة.

كلمة الله

متى بدأ الأدب الإنجليزي إذن؟ مع شعراء السلت، أم مع يوليوس قيصر، أم مع كادمون، أم مع ألفريد، أم مع القصيدة التي احتفتْ بموقعة برونانبر وتوحيد أثيلستان للمملكة؟ أم إنه لم يبدأ إلا مع تطور اللهجة الجنوبية الشرقية للغة الإنجليزية الوسطى التي يجسدها تشوسر، والتي أصبحتْ أساس اللهجة الفصحى في اللغة الإنجليزية الحديثة التي يطلق عليها إنجليزية المَلِك أو الملكة، وذلك رغم التعديلات التي أُدخِلت عليها عن طريق التحول الكبير في الحروف المُصوِّتة الذي حدث في القرن السادس عشر؟ بالنسبة إلى أبناء العصر الإليزابيثي، كان تشوسر أبا الشعر الإنجليزي رغم أوروبيته الأكيدة.

وثمة طريقة أخرى لإجابة السؤال، وهي القول إنه في البدء كانت الكلمة، فقد ظهر الأدب الإنجليزي للوجود عندما تحولت الكلمة إلى كائن حي في اللغة الإنجليزية؛ أي عندما تُرجِم أهم كتاب في تاريخ العالَم إلى العامية.

كان كادمون أبا التفسير الإنجليزي القديم للكتاب المقدس، ويمكننا بالتأكيد القول بأن الأدب الإنجليزي لم يبدأ بالملاحم التي كُتبت على طريقة هوميروس في مدح الأسلاف وأنصاف الآلهة والأبطال والمحاربين، بل إنه بدأ بالإيمان المسيحي، بالثناء على الله. وقد تَرجَم بِيد المُوقَّر أجزاءً من الإنجيل، ونقل ألدهيلم شعر المزامير إلى اللغة الإنجليزية القديمة في أواخر القرن السابع. وفي القرن الحادي عشر أخذ ألفريك على عاتقه مهمة ترجمة أجزاء كبيرة من العهد القديم. وفي القرن الثاني عشر أصدر راهب يدعى أورم مجموعة من الترجمات والتفسيرات المختارة، ثم أتى مشروع جون وايكليف في القرن الرابع عشر: ترجمة الكتاب المقدس بأكمله من الترجمة اللاتينية إلى العامية، وكتب وايكليف قائلًا: «إن ذلك يساعد المسيحيين على دراسة الإنجيل بنفس اللغة التي يفهمون بها كلام المسيح على أفضل وجه.» مما أثار ذعر السلطات الكَنَسية.

يخبرنا الإنجيل كيف تحولت الكلمة إلى كائن حي عندما وُلِد المسيح لمريم العذراء. وبالنسبة للنساء في العصور الوسطى كانت القدوة الدينية مثل السيدة مريم أُمِّ الإله، والنساء من أمثال مريم المجدلية التي أحبَّتِ المسيح والقديسات اللواتي استشهدن باسمه، مصدر الإلهام للشروع في الكتابة؛ فأدب المرأة في تلك الجزر كان أصله يرجع إلى الصلوات والتأملات والاعترافات بالإيمان وأغاني المدح وأدلة الحياة التأملية مثل «أنكرين ويس» (القاعدة الرهبانية للناسكات في مطلع القرن الثالث عشر) و«تجليات الحب الإلهي» (العبادات الروحانية لجوليان من نوريتش في أواخر القرن الرابع عشر) و«كتاب مارجري كيمب» (سيرة ذاتية روحانية في مطلع القرن الخامس عشر).

في القرن السادس عشر أطلق البروتستانتيون الإنجليز على أنفسهم «أهل الكتاب»، وكان الكتاب الذي يقصدونه هو الإنجيل، ولا بد أن يكون أهل الكتاب بالضرورة معنيِّين بالأدب. ما هو الهدف من الأدب؟ إنه محاولة لإضفاء معنًى على حياة الإنسان، وهو أيضًا الهدف من الإنجيل. إنه تنظيم حياتنا عن طريق «القصص»، عن طريق بنية تتكون من بدايةٍ ووسطٍ ونهاية، الشعور بأن التفاصيل والأحداث الفردية يمكن جمعها في نموذج يشكل وحدة كاملة؛ بتلك المفاهيم فإن الإنجيل أدبي والأدب إنجيلي، و«العهدان القديم والجديد» كما كتب ويليام بليك «هما الدستور العظيم للفن.»

وقد اختُرعت أداتنا الأولى لقراءة الأدب — وهي الهرمنيوطيقا أو فن التفسير — في المقام الأول بهدف تفسير الإنجيل. كان آباء الكنيسة يعلمون فنَّ التفسير الرباعي العددي الذي يتتبع فيه القارئ خيوطًا مختلفة للمعنى الحرفي (التاريخي)، والرمزي (المعنى الروحي الأكثر سموًّا)، والمجازي (الدرس الأخلاقي)، والروحي (التفكير في الأمور المستقبلية والأخيرة). وقد أتاحتْ مرونة هذا الفن التفسيري قراءة النصوص الدينية بطريقة دنيوية والعكس، وأتاحتْ أيضًا للقصص الوثنية أن تُفسَّر مجازيًّا بلغة مسيحية على طريقة القرون الوسطى في «التأويل الأخلاقي» للحكايات الشهوانية في «التحولات» لأوفيد؛ مما يُبدِّد الجدلَ القائم في التراث اليهودي المسيحي والإغريقي الروماني الذي كان أحد جوانب القوة الإبداعية التي أضفتِ الحيوية على الأدب الإنجليزي.

ويُعَدُّ الإنجيل أيضًا عنصرًا أساسيًّا في الأدب الإنجليزي استنادًا إلى طبيعته التعددية العامة، ويُعطِي مزيجُه من الأساطير والتاريخ والقصص الرمزية وأمثلتُه ورسائلُه ونبوءاتُه (حتى في سِفْر نشيد الأنشاد الذي يتناول الحب الشهواني) نماذجَ سابقةً للتنوع الأسلوبي في «حكايات كانتربري» ومسرحيات شكسبير المجمعة والقصائد الغنائية لوردزوورث وكولريدج وعوليس لجيمس جويس والكثير من الأعمال الإبداعية الهجينة الأخرى.

طالما كانت الترجمة محورية للأدب الإنجليزي، وذلك ليس بسبب اللغات المتعددة على تلك الجزر فحسب، بل أيضًا لأنها محورية للإنجيل ذاته. كان المسيح وحَوَارِيُّوه يتحدثون الأرامية، ولكن كتابهم دُوِّن بالعامية الإغريقية التي تُرجِمتْ بدورها إلى اللاتينية على يَدِ جيروم، ومنذ ذلك الحين تُرجِم إلى الإنجليزية وأُعيدتْ ترجمتُه مرات عديدة. وكانتْ نسخة الإنجيل المعتمدة التي صدرتْ عام ١٦١١، وهي الاستثناء الذي يؤكد القاعدة التي يُقرُّها المثل القديم القائل بأن الأعمال الأدبية العظيمة لا تكتبها لِجَان، ردًّا جزئيًّا على ما اعتُبِر الابتداعات الخطيرة لترجمة جنيف التي قام بها بروتستانتيون متطرفون منذ جيل مضى وترجمة ويليام تينديل التي سبقت ذلك. ومن المطالب التي وردت في التعليمات التي أُعطيَت لمترجمي إنجيل الملك جيمس: «الاحتفاظ بالألفاظ الكنائسية القديمة؛ أي إن كلمة كنيسة لا تترجم جماعة المصلين.» والقصد هنا أنه في نسخة تينديل لم تترجم كلمة «إكليسيا» إلى «كنيسة» بل إلى «جماعة المصلين». هل الكنيسة مجسدة في الهيئة الكنائسية المتسلسلة أم في مجتمع الإيمان ككل؟ إنه سؤال لاهوتي وسياسي في الوقت ذاته وأمر يتعلق بالتفسير اللغوي والأدبي.

كان الإنجيل العبري الإغريقي نفسه يتكون من قصص من الماضي مُعدَّة للتفسير في الحاضر وتنطبق على الأفعال الإنسانية في المستقبل، وهكذا، فإن كل الترجمات منذ كادمون مرورًا بالنسخة المعتمدة وحتى آخر التحديثات قد فسَّرتِ النصوصَ القديمة وتأثرتْ بالقوى التاريخية الراهنة في عصرها وراهنتْ على مستقبلها. ويمكننا قول الشيء نفسه عن الكلاسيكيات الأدبية؛ فالكُتَّاب يستجيبون لمجموعة معتمدة من الأعمال — أو بمعنًى عامٍّ فهم «يترجمونها» — من الماضي في ضوء حاضرهم على أمل أن تُقرأ في المستقبل. وفي حالة إنجيل عام ١٦١١ فقد سدد الرهان؛ فهو الكتاب الأكثر تأثيرًا على اللغة الإنجليزية والعقل الإنجليزي خلال الثلاثة القرون ونصفٍ التالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤