الفصل الرابع

دراسة اللغة الإنجليزية

الأدب في التعليم: من البلاغة إلى الخطابة

عندما ذهب كلٌّ من شكسبير في القرن السادس عشر وجون ميلتون في القرن السابع عشر وصامويل جونسون في القرن الثامن عشر إلى المدرسة، لا بد أنهم قد درسوا الأدب، ولكنه ليس الأدب الإنجليزي، بل كانت أدوات الدراسة اللغوية والأدبية كالقواعد اللغوية والبلاغة (تنظيم اللغة لأغراض الجدال القوي) وعلم العَروض (النظام العَروضي الذي يتكون منه الشعر) في صميم المنهج الدراسي. ولكن شكسبير وميلتون وجونسون درسوا قواعد اللغة اللاتينية وفن الخطابة لدى شيشرون والعَروض لدى بعض الشعراء مثل فرجيل وهوراس.

ومع حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، أصبح ثمة توسُّعٌ كبير في مدارس التعليم الثانوي للفتيان من الطبقات المتوسطة في المجتمع. وكانت القواعد تعني قواعد اللغة اللاتينية، والهدف من دراستها هو إعطاء الطلبة القُدْرة على التمكُّن من اللغة وإتقانها. أما البلاغة، فكانت تعني تعلُّم كيفية تنظيم حديثك: الحجج المؤيدة والحجج المعارضة وضرب الأمثال والبرهنة والاستنتاج، وهي تعني تقوية استعاراتك وإنشاء صور بلاغية متقنة وتعلم مئات الخطط (الأنماط اللفظية) والعبارات المجازية (تحريف المعاني المبتكر).

عندما يقول الملك هنري الرابع في مسرحية شكسبير: «قَلِقًا يظلُّ الرأسُ الذي يرتدي تاجًا.» فإنه يستخدم «المجاز المرسل»، وهو صورة بلاغية من الاستبدال يرمز فيها «الرأس» إلى الملك ويرمز «التاج» إلى فكرة السلطة. والخصوصية الناتجة قوية وبارزة، وذلك على النقيض من أية صيغة عامة (مثل: «أصحاب النفوذ والسلطان يصعب عليهم الخلود للنوم.») وعندما يبدأ ميلتون مرثاته التي تحمل عنوان «ليسيداس» بقوله: «ولكن مرة أخرى، يا أكاليل الغار، ومرة أخرى.» فهو يستخدم «التكرار»، وهو مخطط تتكرر فيه نفس الكلمات في بداية التعبير ونهايته، ويساعد تأثير الصدى في حفظ البيت بسهولة. وعندما يرغب ألكسندر بوب في المُجاورة بين الجادِّ والتافِه في قصيدته «اغتصاب خصلة شعر» تساعده في ذلك صورة بسيطة يُطلق عليها «زيوجما» أو العبارة الجامعة التي يشير بموجبها فعل واحد إلى اسمين: «أو لطخ شرفها أو قماشها المطرز الجديد … أو تفقد قلبها أو عِقْدها في حفل راقص.» حيث تُحدِث الأداة البلاغية تأثيرًا هجائيًّا. وعندما يتجاهل وردزوورث وادي شاموني في المجلد السادس من «المقدمة» كي يشاهد «مجموعة ساكنة من الأمواج الضخمة»، فإنه يجمع بين مصطلحات متناقضة، فكيف يمكن للموجة أن تكون ساكنة؟ وتعرف تلك الصورة باسم «الإرداف الخلفي»، وهي مثالية لاستحضار مفارقات الإدراك.

شكَّلت البلاغة كلًّا من الفكر والفن التكويني الإنشائي، وكانت تُدرَس بوصفها إعدادًا للحياة في خدمة الدولة. وقد تلقَّى أبناء الطبقة الوسطى من أمثال ويليام شكسبير وجون ميلتون تدريبًا في فنون اللغة كي يصبحوا محامين أو رجالَ دِين أو قساوسة في كنيسة إنجلترا أو سكرتارية للساسة، ولكن ثورة تيودور التعليمية كانت لها نتيجة غير مقصودة، فقد استغلَّ الكثير من الفتية حادِّي الذكاء مواهبَهم في مجالات مختلفة تمامًا؛ كشعراء وممثلين وكُتَّاب مسرحيين، وساهمتْ مسرحياتهم وقصائدهم في بناء الأمة عن طريق إحياء التاريخ والأساطير التي شكَّلت إدراك الشعب الإنجليزي لهويته، ولكن أيضًا عن طريق التجسيد الدرامي للصراعات في الحياة العامة والخاصة؛ حيث أُسقِط الطغاة وفُضِح مصدِّرو الأحكام الأخلاقية بوصفهم منافقين وثارتِ الزوجات على أزواجهن، وقام الشعراء والكُتَّاب المسرحيون أيضًا بمساهمةٍ كبرى في نشأة الحريات الحديثة.

لم يصبح الأدب الإنجليزي نفسه موضوعًا للدراسة الأكاديمية الرسمية حتى النصف الثاني من القرن الثامن عشر. فعندما دُعِي الفيلسوف آدم سميث لإلقاء مجموعة من المحاضرات العامة عن «البلاغة والأدب الجميل» في إدنبره في أواخر الأربعينيات من القرن الثامن عشر، خالف العادة المُتَّبَعة وتحدث باللغة الإنجليزية مستخدمًا العامية بالإضافة إلى أمثلة رومانية قديمة من التقنيات البلاغية والمحسِّنات اللفظية. وحذا هيو بلير حذو سميث عندما عُيِّن أستاذًا للبلاغة والأدب الجميل في جامعة إدنبره عام ١٧٦٠، وعند تقاعده نشر بلير محاضراته التي صدرتْ منها عشرات الطبعات وظلتِ المقدمة الأكاديمية التقليدية إلى فن النقد الأدبي لما يزيد عن نصف قرن، وانتشرتْ دراستها على نطاق واسع خاصة في الولايات المتحدة.

وفي غضون ذلك في إنجلترا كان مَن يتَّفِقون مع أحكام كنيسة إنجلترا فحسب هم مَن يُمكِنهم الالتحاقُ بجامعتَيْ أكسفورد وكامبريدج القديمتين؛ حيث كانت لغة الدراسة هي اللاتينية ومنهج الإنسانيات يقتصر على القدماء. ومِن ثَمَّ، فقد وضع المعارِضون للدِّين أو «المنشقُّون» عنه مقررات أكاديمية خاصة بهم يدرس فيها «الأدب الجميل» باللغة الإنجليزية، وكان تدريس ما نطلق عليه الآن الأدب الإنجليزي إحدى مهام جون أيكين عندما تولَّى وظيفة مدرس الأدب الجميل في أكاديمية وارينجتون عام ١٧٥٨، وأصبحتِ ابنتُه أنا ليتيشا أيكين (لاحقًا أنا باربولد) شاعرة ومحررة ذات شأن وشعبية، بالإضافة إلى كونها مدافعة عن الثورة الفرنسية ومؤيدة متحمسة لإلغاء تجارة العبيد ومن أوائل محللي الروايات المؤثرين؛ حيث ساهمتْ مجموعتُها من المختارات الأدبية المكوَّنة من خمسين مجلدًا بعنوان «الروائيون البريطانيون» والتي نُشرت عام ١٨١٠ أكثر من أي كتاب آخر في تكوين ذخائر الأدب القصصي الإنجليزي.

وخلف أيكين في تدريس الأدب بأكاديمية وارينجتون العالِم واللاهوتي المتطرف جوزيف بريستلي الذي رحَّب أيضًا بالثورة الفرنسية، وهكذا فقد ارتبط علم الأدب الإنجليزي بالمعارَضة وإدخال الديمقراطية في التعليم ومقاومة حُكْم النخبة للجامعات الراسخة. وكان من المفيد في هذا الصدد أن أعظم الشعراء الإنجليز يعتبر جون ميلتون، وهو ليس مؤلف الملحمة الدينية المميزة «الفردوس المفقود» فحسب، بل أيضًا مؤلف مقالات نثرية دفاعًا عن حرية الصحافة («أريوباجيتيكا»، ١٦٤٤) وعن الحق المطلق للشعب في خلع حُكَّامه («ولاية الملوك والحكام»، ١٦٤٩).

قدَّم العِلْمُ الجديد أيضًا فرصًا تعليمية للمرأة، فعندما غادر بريستلي أكاديمية وارينجتون انتقلتْ وظيفة مدرس الأدب الجميل إلى القس المؤمن بعقيدة التوحيد ويليام إنفيلد الذي أبدع مجموعة أدبية بعنوان «الخطيب» (١٧٧٤) وتحمل عنوانًا فرعيًّا هو: «نماذج متنوعة مختارة من أفضل الكُتَّاب الإنجليز ومنظمة تحت عناوين مناسبة بهدف تسهيل تحسين مستوى الشباب في القراءة والمحادثة.» وأصبح هذا الكتابُ هو الكتابَ المدرسي المقرَّر لتعليم البلاغة والخطابة باللغة الإنجليزية في كل أنحاء البلاد سواء في مدارس البنات أو الفتيان. وفي عام ١٨١١ نَشَرتْ أنا باربولد «الخطيبة»، وهو كتاب تكميلي يستهدف الفتيات خصوصًا.

وتضمنت الفئات التي عدَّها إنفيلد من الأدب القِصَص والقِطَع الأدبية التعليمية (على سبيل المثال، مجموعة من الفقرات المأخوذة من «مقال عن الإنسان» لألكسندر بوب في مقاطع شعرية ثنائية مقفَّاة) والخُطَب والمواعظ (الخطب السياسية: بعضها من البرلمان الحديث، والبعض الآخر من شكسبير) والحوارات (معظمها من المسرح، وخاصة مسرح شكسبير) والوصف (خاصة من شعر الطبيعة في القرن الثامن عشر) والقِطَع الأدبية «المثيرة للعاطفة» (أمثلة على الشعور الجارف ومعظمها مأخوذ من شكسبير رغم أن بعضها أحدث من ذلك، مثل وفاة يوريك في «تريسترام شاندي»). وتتمثل الفكرة في أن المعرفة الشاملة في تلك الصفحات الأربعمائة من المقتطفات سوف تُحسِّن من مفردات الطلاب وفصاحتهم، وفي الوقت ذاته تعمل على تهذيب عواطفهم وحِسِّهم الأخلاقي.

وضع إنفيلد أُسُسَ ما أطلق عليه فايسيمس نوكس — وهو مُصنِّف مجموعة مشابهة من المقتطفات الأدبية («مقتطفات رائعة»، ١٧٨٣) — «التعليم الحر»، ولم يكن المستفيدون منه أبناء الطبقة الحاكمة الذين ظلوا يدرسون الكلاسيكيات الإغريقية والرومانية حتى القرن العشرين، بل المتمردون من أبناء الطبقة الوسطى والنساء وسرعان ما انضمتْ إليهم الطبقات العاملة (عن طريق المشروعات التعليمية الميثاقية المتطرفة والمجمعات العمَّالية الأكثر تحفظًا) والرعايا المستعمَرين (بدءًا بإصلاح التعليم في الهند في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر). وإذا نظرنا إلى تعليم الخطابة وعلم اللغة الإنجليزية الناشئ من وجهة نظر واحدة، فقد كان الهدف منه غرس التوافق بين الاستخدام اللغوي والقيم الأخلاقية. ولكن بالنسبة للطلاب المتمردين في الأكاديميات المعارِضة والطبقة العاملة في العصر الفيكتوري، الذين علَّموا أنفسَهم وطليعة النساء اللواتي التحقْنَ بالجامعة والرعايا المستعمَرين مثل غاندي ونهرو، بالإضافة إلى طلبة وطالبات المدارس الثانوية في منتصف القرن العشرين من أبناء الطبقة العاملة؛ فقد كانتْ دراسة الأدب الإنجليزي اختبارًا قاسيًا للفكر الحر ووسيلة للحراك الاجتماعي.

النقد في المجال العام: د. جونسون

لم يبدأ التحليل المفصَّل للنصوص الأدبية الإنجليزية في النظام التعليمي، ولكن فيما يُطلَق عليه «المجال العام»، وهو نطاق المجتمع المدني الحضري أو «المهذب» الذي ظهر في القرن الثامن عشر وازدهر في البيئات الجديدة للصحف والمقاهي.

وقد وُضِعت المصطلحات الخاصة بالجدال على يد جون درايدن الذي يُطلَق عليه أحيانًا أبو النقد الإنجليزي في مقدمات مسرحياته وقصائده والمقالات التي كُتبت عنها، والتي ناقش فيها بوعْيٍ شديد تحديث الكتابة الإنجليزية وإضفاء الطابع الكلاسيكي عليها خلال عصر الاستعادة في أواخر القرن السابع عشر. ما هي المزايا النسبية للقدماء والمحدثين، للنماذج المحلية والعالمية، للشعر المرسل والشعر المقفَّى؟ ما هو التوازن الصحيح بين «الفن» و«الطبيعة» وأفضل الطرق لتحقيق أرجحية الصدق؟ ما الذي يشكِّل جوهريًّا الكتابة الجيدة؟ كما قال درايدن في مقدمته لقصيدة «حالة البراءة» (١٦٧٧) وتجسيده المسرحي لقصيدة «الفردوس المفقود» لميلتون، «يُقصَد بالنقد، كما قال أرسطو الذي استهلَّ هذا العلم، معيار للحكم السليم، وأهم جوانبه ملاحظة تلك الميزات التي تُدخِل السرور على القارئ اللبيب.»

في مقالات مجلة «ذا سبيكتاتور» التي كَتب أغلبَها جوزيف أديسون (١٧١١–١٧١٤) ومقالات مجلة «ذا تاتلر» التي كَتب أغلبَها ريتشارد ستيل (١٧٠٩)، ارتبطتْ موضوعات الأسلوب الأدبي بالمناقشات حول الهوية القومية والسلوك المهذب. ومن خلال مناقشات نادي نساء شكسبير (في الثلاثينيات من القرن الثامن عشر) وما نشرتْه النساء المثقفات (منذ الخمسينيات من القرن الثامن عشر فصاعدًا بقيادة إليزابيث مونتاجيو)، اشتركت النساء المُوسِرات في المناقشة، ولكن الشخص الذي سيطر على النقاش الأدبي في المجال العام في النصف الثاني من القرن الثامن عشر كان د. صامويل جونسون.

كان جونسون يحكم على الكُتُب وفقًا لبعض المبادئ البسيطة ولكنها ثابتة: «لا شيء يمكنه أن يُسعِد الكثيرين لفترة طويلة سوى تمثيلات الطبيعة العامة» (مقدمة إلى شكسبير). «إن الغاية الوحيدة من الكتابة هي إتاحة فرصة أفضل للقُرَّاء كي يستمتعوا بالحياة أو يتحملوها على نحو أفضل» (نقد سوم جينينز، «تساؤل حر عن طبيعة الشر وأصله»). «تتضح بدرجة كبيرة في هذا العمل المقدرتان الأكثر جاذبية للمؤلِّف، وهما أن الأشياء الجديدة تقدَّم في صورة مألوفة والأشياء المألوفة تقدَّم في صورة جديدة» (حياة ألكسندر بوب). وكانت آراؤه مؤثِّرة بفضل القوة المطلقة للُغَتِه.

كان جونسون ابن بائع كتب، وقد ترك الدراسة في جامعة أكسفورد لعجزه عن سداد تكلفتها وبدأ عمله في مجال التدريس، ثم أفلست المدرسة وانتقل من ليشفيلد إلى لندن مع الطالب ديفيد جاريك الذي سوف يصبح فيما بعدُ أعظمَ الممثلين في عصره، وربما في كل العصور. وكان إعجاب جونسون به بلا حدود، ولكنه كان دائمًا يُضمِر الشكوك تجاه المسرح، ويرجع سبب ذلك جزئيًّا إلى أنه كان من الصعب على المُعلِّم السابق أن يكافح لكسب قُوتِه من قلمه في عالَم الكُتَّاب المغمورين بينما الطالب الذي كان يتتلمذ على يديه قد حقق الثراءَ والشهرةَ غير المسبوقة على خشبة المسرح، وأيضًا إلى أن فنَّ التشخيص المتقلِّب الخاص بالممثلين يتناقض مع الفضائل السامية التي كان يتمتع بها جونسون من استقامة وصدق.

وفي مقدمة أول أعماله، وهو ترجمة لقصة رحَّالة، أوضح جونسون كيف كشفت القصة أن الطبيعة البشرية واحدة في كل البلاد، فداخِل كل فرد وكل مجتمع نَجِد «مزيجًا من الرذيلة والفضيلة، وصراعًا بين العاطفة والعقل.» وكان جونسون ثابتًا في سعيه نحو الفضيلة والعقل، ولكنه في الوقت ذاته لم ينكر خطاياه وقوة عواطفه، فقد كان يعلم حاجة البشر إلى بوصلة أخلاقية وروحية، ولكنه أيضًا يدرك قوة رغباتنا الجسدية.

لم تتمكن كلٌّ مِن «ذا سبيكتاتور» لأديسون و«ذا تاتلر» لستيل من الاستمرار في المنافسة، فأعاد جونسون وحدَه إحياءَ المقال بوصفه نوعًا أدبيًّا في مجلة «ذا رامبلر» التي كان يكتب آراءه فيها مرتين أسبوعيًّا (وتنشر يومي الثلاثاء والسبت) عن الكتب والسياسة والأخلاق والحياة. ولما كان جونسون أنجليكانيًّا يُغالِب ضميرَه وحزنَه في صلاته وتأملاته الشديدة التواضع، فقد وَجدَ العزاءَ الشخصي والحكمة السياسية في كلمات المسيح. وبينما كان يبني نظرية الحقوق على أساس عظة الجبل أصبح مناهضًا لكل أشكال العبودية، وعندما دُعِي إلى أكسفورد بصفته شخصًا مشهورًا صَدَم الأساتذةَ بالنَّخْب الذي اقترحَه بعد تناوُل الطعام: «إلى التمرد التالي للزنوج في جزر الهند الغربية.» وامتدتْ مبادئه إلى حياته الخاصة؛ حيث استضاف مجموعة مختلفة من المشرَّدين والضالِّين في منزله وأحبَّهم، وفي وصيته ترك معظم ممتلكاته ﻟ «فرانسيس باربر، خادمي الزنجي».

كان جونسون رجلًا ذا مثابرة غير عادية؛ فقد جمع بمفرده «قاموس اللغة الإنجليزية»:

آدامز [المدرس بأكسفورد] : ولكن يا سيدي كيف يمكنك القيام بذلك في ثلاثة أعوام؟
جونسون : لا شك عندي يا سيدي في أنني أستطيع القيام بذلك في ثلاثة أعوام.
آدامز : ولكن الأكاديمية الفرنسية التي تتكون من أربعين عضوًا استغرقتْ أربعين عامًا كي تجمع القاموس الخاص بها.
جونسون : بالفعل يا سيدي ذلك هو التناسب، دعني أرَ، حاصل ضرب أربعين في أربعين يساوي ألفًا وستمائة، ونفس النسبة بين ثلاثة وألف وستمائة هي الفرق بين رجل إنجليزي ورجل فرنسي.

وللإنصاف فإن «القاموس» استغرق منه ثمانية أعوام، ولكن ذلك لم يكن سببًا كي يعنِّف نفسه متهمًا إياها بالكسل كما كان يفعل دائمًا.

وفَوْر انتهائه من «القاموس» شرع في العمل في طبعة جديدة من المسرحيات الكاملة لشكسبير مصحوبة بتعليقات. كان النقد الأدبي في عصر جونسون تسيطر عليه المبادئ الفرنسية، وكان رد جونسون اللاذع هو المنطق الإنجليزي السليم، فبينما ورَّط الفرنسيون أنفسهم في قواعد الفن كان مبدأ جونسون الوحيد هو الصدق مع الحياة. وقد أقرَّ فولتير بهزيمته في «رعب» أمام قدرة شكسبير على المزج بين التراجيديا والكوميديا وبين الملوك والمهرجين، ويرد جونسون قائلًا إن تلك هي الحياة:

لا تندرج مسرحيات شكسبير بالمعنى الدقيق والنقدي تحت فئة التراجيديا أو الكوميديا، ولكنها تركيبات من نوع فريد؛ حيث توضح الحالة الحقيقية للطبيعة الأرضية التي تتميز بمزيج من الخير والشر والفرح والحزن بنسب مختلفة وأنماط لا حصر لها … والتي يُسرِع فيها العربيد إلى خمره وفي الوقت ذاته يدفن النائح صديقه.

عاش جونسون في عصر من المضاربة المالية والإنفاق غير المسبوق للمستهلك والصحافة القائمة على الإثارة، وقد أدت القوة الجديدة للصحافة إلى نشأة ثقافة المشاهير؛ فقد ملأتْ غرائب الممثلات والمحظيات أعمدة الإشاعات في الصحف، وأصبح جاريك أول ممثل عالمي حقيقي. وكان أيضًا عصرًا من الجدال السياسي العنيف، فبفضل الكُتَّاب والفنانين الساخرين، وبعضهم من الأيرلنديين (مثل جوناثان سويفت) والبعض الآخر محلي (مثل ألكسندر بوب وجون جيه وويليام هوجارث وجونسون نفسه)، اضطلع الأدب بدور حيوي في فضْح نفاق مَن يتدافعون على السلطة والنفوذ والتنديد بهم والسخرية منهم. وحقَّق جونسون تقدمًا في عالَم الكُتَّاب المغمورين بفضل عمله كاتبًا للمشاهد الهزلية في البرلمان. ولما كانت ثمة قيود على نشر ما يقال بالفعل في البرلمان، شرع في تلفيق الخُطَب ووضعها على ألسنة الأعضاء الموقَّرين، وفي إشارة إلى سويفت، أُطلق على العمود المخصص له في مجلة «ذا جِنتلمانز ماجازين» اسم «تقارير عن المناقشات في مجلس شيوخ ليليبوت.»

أثناء حياة جونسون وأعماله وحولهما نجد الكثير من الأمور التي ظلت تحدد مدى «الإنجليزية» لقرنين تاليين: ثراء اللغة، والإعجاب بشكسبير، ورفض التعرض للمضايقة والتحكم، وروح الدعابة والسخرية، وممثلون من الطراز الأول، وحب النميمة، واهتمام بخصوصية حياة الأفراد (قدَّم كتاب «حياة الشعراء» لجونسون مزيجًا رائدًا من النقد والسيرة)، والآراء السليمة والواقعية السوداوية، والقدرة على الاستمرار في الحياة ما دام تناوُل فنجان من الشاي أمرًا متاحًا.

أتاح المجال العام في القرنين التاسع عشر والعشرين مساحاتٍ شاسعةً للنقاش حول الأدب، وثمة خيط يربط بين فرانسيس جيفري في مجلة «إدنبره ريفيو» (التي تأسست عام ١٨٠٢) مرورًا بماثيو أرنولد ووالتر باتر في العصر الفيكتوري إلى «المعيار» لتي إس إليوت في العشرينيات من القرن العشرين إلى كتابات فرجينيا وولف في «الملحق الأدبي لمجلة تايمز» إلى برنامج جورج أورويل الإذاعي في البي بي سي أثناء الحرب العالمية الثانية إلى اتجاه إيه ألفاريز إلى نشر دواوين الشعر ونقدها في «ذا أوبزرفر» (١٩٥٦–١٩٦٦). كان معظم مكوِّني الآراء الأدبية كُتَّابًا إبداعيين، وبهذا المعنى فقد كانوا مراجعَ ثقات في تراث درايدن وجونسون. ومع هجرة الإعلام في القرن الحادي والعشرين إلى الفضاء الإلكتروني وجَوِّ المناقشات العامة الذي يميز عالَم المدونات ونقد القُرَّاء عبر الإنترنت الذي يمارس فيه الجميع دَوْر الناقد، حدث تدهور حادٌّ في احترام الرأي الرسمي. من ناحية، فإن ذلك يعني المزيد من إضفاء الديمقراطية على العملية التي بدأت في غرف المحادثة في مقاهي القرن الثامن عشر. ومن ناحية أخرى، فإنه يمثل انهيارَ فكرة المجال العام الذي اخترعه جونسون والذي يدعمه المنطق السليم والقيم الأخلاقية الجوهرية.

علم الجمال في مقابل التاريخ

في عام ١٧٧٤ نشر كاتب منشقٌّ من لندن يُدعَى ويليام كنريك مقترحًا لإنشاء «أكاديمية عامة لاستكشاف اللغة الإنجليزية وشرح الأدب الإنجليزي»، ولكن المخطط لم يُنفَّذ. ولم تظهر محاضرات عن الأدب الإنجليزي من النوع الذي يُلقَى الآن في الجامعات إلا في مطلع القرن التاسع عشر، وكان من رواد هذا النوع الشاعر والفيلسوف صامويل تايلور كولريدج (ابن رجل دين ريفي بكنيسة إنجلترا وتلقَّى تعليمه في جامعة كامبريدج) والصحفي الراديكالي ويليام هازليت (ابن قس منشق رائد وتلقَّى تعليمه في أكاديمية هاكني المعارِضة). وأثناء عصر الوصاية (١٨١١–١٨٢٠) ألقى كولريدج وهازليت العديد من المحاضرات المناظِرة، وكان كولريدج يلقيها في الموقع الأرستقراطي للمعهد الملكي المتفرع من شارع بيكاديللي في وسط لندن، بينما كان هازليت يلقيها في معهد سَري المُعارِض في مكان أكثر تواضعًا على الضفة الجنوبية لنهر التيمز.

كان كولريدج شديد الاهتمام ﺑ «نظرية» الأدب التي نشأت في فلسفة الجمال الجديدة التي يطلق عليها «علم الجمال» والتي ظهرت في أواخر القرن الثامن عشر في ألمانيا، واستمد مجموعة من نظرياته من المفكِّرين الألمان؛ حيث أوحى له إيه دبليو فون شليجل على سبيل المثال بفكرة أنه بينما أعمال الأدب التي بُنيتْ على أساس القواعد الكلاسيكية الحديثة مجرد أعمال «آلية»، فإن الكتابة الإبداعية «عضوية» يشكِّلها نموذج مستمد من الداخل.

وبالتوازي مع محاضراته طوَّر كولريدج نظرية الأدب الخاصة به في «السيرة الأدبية»؛ حيث يقول: «إن الخيال أو القوة الجامعة» هو «القوة الحية والأداة الرئيسة في الإدراك البشري.» وتعني كلمة «جامعة» القدرة على تشكيل أشياء متغايرة في كيان واحد. ولا يقل خيال كولريدج عن «إعادة في العقل المحدود لفعل الخلق اللانهائي في الكينونة المطلقة.» ويعرف الشعر هنا بأنه الخيال مطوَّعًا إلى أقصى درجة:

في أقصى درجات الكمال المثالي فإن الشاعر ينشط روح الإنسان بأكملها … وهو ينشر طابعًا وروحًا من الوحدة يمزج ويصهر (إذا جاز التعبير) الكل في الكل عن طريق تلك القوة التركيبية والسحرية التي أخصص لها حصريًّا اسم الخيال. وتلك القوة … تكشف عن نفسها في توازن الصفات المتعارضة أو المتنافرة أو التوفيق بينها؛ كالتماثل مع الاختلاف، والعام مع المحدَّد، والفكرة مع الصورة، والشخصي مع الممثِّل لغيره، والشعور بالتجديد والحيوية مع الأشياء القديمة المألوفة، وحالة عاطفية أكثر من المعتاد مع نظام أكثر من المعتاد، ورأي يقظ دائمًا ورباطة جأش ثابتة مع الحماس وشعور عميق أو متَّقد، والمزج بين الطبيعي والصناعي والتنسيق بينهما، وفي الوقت ذاته إخضاع الفن للطبيعة، والشكل مع الموضوع، وإعجابنا بالشاعر مع تعاطفنا مع الشعر.

«السيرة الأدبية»، ١٨١٧

ابتكر كولريدج مصطلح «النقد العملي» مطلِقًا إياه على فن اختبار القصائد الفردية على أساس تلك المبادئ القاسية، وبعد مرور قرن جعل الأكاديمي آي إيه ريتشاردز من هذا الفن أساسًا لمنهج الدراسات الإنجليزية في جامعة كامبريدج ذات المكانة المؤثرة، وقُرئتْ قصائد ومقاطع من النثر باهتمام شديد وخضعتْ للتحليل طبقًا لنجاحها أو إخفاقها في موازنة الصفات المتعارضة أو المتنافرة أو التوفيق بينها، وفي تماسك العواطف الزائدة والنظام الزائد، وصُنِّفت أعظم الأعمال بناءً على نجاحها في قول أشياء متعارضة في الوقت ذاته والتوصل إلى حلول معقدة نوعًا ما. وتمكن ويليام إمبسون — وهو أنجب الطلاب عند ريتشاردز — من التوصل إلى «سبعة أنواع من الغموض» (١٩٣٠) في نص واحد لشكسبير أو جون دون.

وصف أيضًا كتاب «محاضرات عن الشعراء الإنجليز» لهازليت (١٨١٨) التميز الأدبي بمصطلحات جمالية، معطيًا جون كيتس الذي كان من ضمن الجمهور بذرة فكرته عن «القدرة السلبية» (بمعنى: «عندما يصبح الإنسان بارعًا في الشكوك والأسرار والارتياب دون أن يبذل أية محاولة فورية لتحري الحقيقة والعقل»). ولكن في أولى «محاضراته عن الأدب المسرحي في عصر الملكة إليزابيث» التي ألقاها في العام التالي لذلك ونُشِرتْ في العشرينيات من القرن التاسع عشر، اتخذ هازليت مسلكًا مختلفًا؛ حيث ربط بين الأدب وسياقه التاريخي.

أكَّد هازليت أن أول سبب للازدهار الملحوظ للإبداع الأدبي في إنجلترا في أواخر القرن السادس عشر هو الإصلاح الديني الذي «أعطى دافعًا قويًّا وزاد من نشاط الفكر والتساؤل وأثار الكتلة الخاملة من التحيزات المتراكمة عبر أوروبا»، وكانت ترجمة الإنجيل إلى العامية هي «المحرك الرئيس في العمل العظيم.» وبالإضافة إلى الإصلاح الديني كانت ثمة نهضة للأعمال الكلاسيكية؛ «ففي الوقت نفسه تقريبًا استكشف المهتمون بحماسٍ المخزون الثري الساحر للأساطير الإغريقية والرومانية ومخزون الشعر الرومانسي في إسبانيا وإيطاليا وشرعوا في ترجمتها على نحو أثار إعجاب العامة.» ويستمر هازليت قائلًا: «ما أعطى أيضًا «دفعة» غير عادية لعقل الإنسان في تلك الفترة هو اكتشاف العالَم الجديد وقراءة الرحلات والأسفار.» ثم ظهر المسرح العام: «كانت خشبة المسرح شيئًا جديدًا، وكان على مَن يوفرون احتياجاتها أن يضعوا أيديهم على ما تطوله.» كان هازليت يستمتع بالانتقائية الثرية النشطة للمسرح في تلك الفترة وبمزجه على نحو مبهج بين الأمور المهمة والتافهة، وبين الشعر والنثر، وبين الملوك والمهرجين.

كانت آلام المخاض للمذهب البروتستانتي والنظرة المتجددة في تناول القدماء واتساع الآفاق الجغرافية ومهنة المسرح الجديدة كلها ضرورية لازدهار الأدب الإنجليزي في أواخر القرن السادس عشر، ولكن هازليت أضاف عنصرًا خامسًا حاول تصنيف العناصر الأربعة السابقة تحته؛ فقد زعم أن «العبقرية الطبيعية للبلاد» لم «تتألَّق أو تبدُ حقيقية قط كما فعلتْ في تلك الفترة.»

ثمة افتراض بأن إنجلترا كانت بطريقة أو بأخرى تتصرف بطبيعتها في عصر الملكة إليزابيث الأولى أكثر من أي وقت قبل ذلك الحين أو بعده، وهو زعمٌ يرتبط بالإعجاب الشديد بالملكة نفسها بوصفها أعظم الملوك الإنجليز، ولطالما استُخدم هذا الافتراض لتحفيز بريطانيا الحالية أو إسداء النصح لها. وفي الثلاثينيات من القرن الثامن عشر أَدخَل معارضو السير روبرت والبول، وهو أول رئيس وزراء حديث، سياسة الحنين إلى الماضي التي تتطلع إلى المثال الإليزابيثي لدعم سياسة خارجية أكثر عنفًا ودفاعًا عن مصالح الإنجليز الإقطاعية في مقابل المصالح التجارية البريطانية. ومن منظور سياسي مختلف تمامًا، كان حنين هازليت الخاص للتحرر من الاستبداد الذي رآه متجسدًا في الإصلاح الديني نتيجة لخيبة أمله العميقة في هزيمة الثورة الفرنسية والسياسات الشديدة الرجعية التي انتهجتْها الحكومة البريطانية في الأعوام التي تلتْ معركة ووترلو والتي أَلقَى فيها محاضراته.

كان هازليت يتهيَّب استخدام لغة الوطنية أكثر من الكثير ممن استخدموها؛ فكان يحيط وصفه للشخصية القومية بعبارات مثل «ربما» و«إذا جاز لي أن أقول ذلك دون إهانة أو تملق»، وكان مدركًا أن إثارة فكرة العبقرية الطبيعية للعِرق الذي ينتمي إليه تستتبع تقديم طريقة مختلفة عن الحقيقة للتفسير. حدث الانفصال عن روما، وتُرجِمت الأعمال الكلاسيكية وحدث التأثير الإيطالي، وعَبَر دريك ورالي المحيطات، وبنى آل بوربيدج مسرحهم الخاص، ولكن الشخصية القومية كان على أحد أن يخترعها، وهو ما تفعله الأمة في هذا الشأن. وقد يكون من الأصدق القولُ بأن الأدب الإليزابيثي أوجد شخصية للأمة، لا أن الشخصية القومية أنتجت الأدب الإليزابيثي.

منذ أن بدأ أفلاطون وأرسطو يضعان النظريات عن الشعر والمسرح في بلاد الإغريق، احتلَّ الأدب مكانًا بين الفلسفة والتاريخ. وقد اهتم النقاد ذوو التوجه الفلسفي مثل كولريدج بالخصائص البنيوية والمنطق الرمزي للأعمال الأدبية، أما النقاد ذوو التوجه السياسي مثل هازليت فقد أَوْلَوا المزيد من الاهتمام للطُّرُق التي تجسد بها الأعمال الأدبية ما أطلق عليه «روح العصر» أو تقاومها. وقد رسم كولريدج وهازليت الخطوط الفاصلة بين النقد «الشكلي» و«التاريخي»، وهو تعارُض تكرر ظهوره في «حروب النظريات» العديدة في الأدب في القرنين التاليين لإلقائهما لمحاضراتهما.

يجذب النقد الأدبي أشد درجات الاهتمام عندما يجمع بين ثلاثة دوافع مختلفة حددها ماثيو أرنولد في مقالاته النقدية بعد كولريدج وهازليت بجيل كامل، وهي الشكلية الموضوعية: «رؤية الشيء كما هو على حقيقته»، والحكم التاريخي: «تمحيص الكتب بناءً على تأثيرها في الثقافة العامة للأمم على حِدَة أو العالَم ككل»، وأكثر جدلًا من ذلك التبشير المدروس نيابةً عن «الثقافة» (والذي يعني لأرنولد المزاح وتحرر العقل بالإضافة إلى «الجدية الشديدة») في مقابل «التمسك بالتقاليد العمياء» (النصح اللطيف والبساطة المعتدة بذاتها): «معرفة أفضل ما في العالم علمًا وفكرًا ونشره.»

من الكاتب إلى القارئ

تبدأ إحدى المواد في «حديث المائدة» (الثاني عشر من يوليو عام ١٨٢٧) لكولريدج كالتالي: «أتمنَّى لو يتذكر شعراؤنا من الشباب الموهوبين تعريفي البسيط للنثر والشعر، فالنثر هو الكلمات في أفضل ترتيب لها، والشعر هو أفضل الكلمات في أفضل ترتيب لها.» وإذا اهتم الكُتَّاب باختيار أفضل الكلمات ووضعها في أفضل ترتيب لها، فإن القُرَّاء يُكِنُّون للنصوص الأدبية الاحترام لاهتمامها بالخيارات اللفظية الدقيقة، ودارسو اللغة الإنجليزية بحاجة إلى التمتع بالثقة في أنهم يقرءون الكلمات الصحيحة. ولكن الطريق من لحظة التأليف الأدبي بالريشة أو القلم أو الآلة الكاتبة أو برامج معالجة الكلمات حتى عملية القراءة طريق معقد تؤدِّي فيه كلٌّ من تغييرات المؤلف وتدخلات المحرر والأخطاء المطبعية دورًا.

وهكذا أصبح إنشاء نصوص دقيقة جزءًا مهمًّا من تاريخ الدراسات الإنجليزية. وفي القرن الثامن عشر شرع الباحثون في تنقيح أعمال شكسبير وميلتون وشرحها مستخدمين إجراءات وُضِعت لتنقيح الكلاسيكيات الإغريقية واللاتينية. وقد أدَّى التناول القاسي الذي قام به لويس تيوبالد لنصوص شكسبير إلى أن يطلق عليه ألكسندر بوب، وهو محرر أقل علمًا لأعمال شكسبير، ملك الحمقى في ملحمة ساخرة نُشرت كمحاكاة تهكمية ساخرة لطبعة أكاديمية كثيرة الحواشي (ملحمة «الحمقى»، ١٧٢٨-١٧٢٩)، ولكن ذلك لم يمنع ريتشارد بنتلي الباحث الكلاسيكي بجامعة كامبريدج من نشر طبعة من «الفردوس المفقود» عقب ذلك تحفل بالتنقيحات التي تدعمها تفسيرات علمية. ومِن ثَمَّ فإن بنتلي على سبيل المثال لم يصدق أن ميلتون العظيم قصد شيئًا متناقضًا على نحو غير لائق مثل «الظلام المرئي»، وصوَّب العبارة إلى «الكآبة الواضحة».

أشهر الشخصيات في تاريخ الأدب الإنجليزي هي شخصية هاملت لشكسبير. ففي قلقه وتأملاته، وفي صراعه مع ضميره وذاكرته، وفي صراعاته بين ذاته الخاصة والعامة، وفي التعارض بين دَوْره ابنًا وعاشقًا، يبدو أنه يجسد تساؤل الإنسان الغربي الحديث عن معنى الإنسانية. وفي مناجاته لنفسه فإننا نتخيل طهارة حياتنا الداخلية وحريتنا في أن نعتقد ما نريده وحتى حقنا في اختيار الموت. ويعترف هاملت نفسه قائلًا إنه مصنوع من «الكلمات، الكلمات، الكلمات»، ولكن إلى أي مدًى يمكننا أن نثق في معرفتنا بالكلمات التي صاغه منها شكسبير؟

تأمل أشهر بيت في الأدب الإنجليزي. نُشِرت «هاملت» لأول مرة عام ١٦٠٣ في مجلد من القطع الصغير يعرف باسم قطع الرُّبع (تُطبع ثماني صفحات من النص على ورق كبير الحجم ثم يُطوَى مرتين كي يصبح لدينا أربع ورقات بحيث تصبح كل ورقة رُبع حجم الورقة الأصلية)، وكانت صفحة العنوان تحمل العنوان التالي: «التاريخ المأساوي لهاملت أمير الدنمارك لويليام شكسبير. كما قُدِّمت على المسرح مرات عديدة عن طريق خدم سموِّه في مدينة لندن وأيضًا في جامعتي كامبريدج وأكسفورد وفي أماكن أخرى.» وفي هذا الرُّبع الأول تبدأ تأملات هاملت عن الحياة والموت: «أكون أو لا أكون، نعم ذلك هو الموضوع.»

وبعد مرور عام نُشِر ربعٌ ثانٍ مع صفحة العنوان التالية: «التاريخ المأساوي لهاملت أمير الدنمارك لويليام شكسبير، طُبع حديثًا وتم تكبيره إلى القدْر الذي كان عليه بناءً على النسخة الحقيقية الكاملة»؛ أي إنك إذا اشتريت الرُّبع الأول العام الماضي فأنت تمتلك نسخة معيبة لا تتضمن سوى نصف النَّص، وتحفل بالقراءات الخاطئة أو المنقوصة، بينما النسخة التي بين يديك الآن هي النص الكامل المعتمد. والآن تبدأ مناجاة هاملت بالصيغة التي أصبحت مألوفة: «أكون أو لا أكون، تلك هي المسألة.»

تضم المخطوطة الأولى ذات القطع الكبير والباهظة الثمن من مجموعة مسرحيات شكسبير، التي صدرت عام ١٦٢٣، نصًّا من مسرحية «هاملت» به اختلافات عديدة عن القطع الصغير، فهنا الافتتاحية «أكون أو لا أكون» هي نفسها كما في الرُّبع الثاني فيما عدا أن كلمة «المسألة» قد كُتبت بحرف استهلالي كبير، والبيت ينتهي بنقطتين؛ مما يدل على توقف طويل بدلًا من الفاصلة التي تدل على توقف قصير. ووردت في الحوار لاحقًا اختلافات متعددة، وأهمها الاستبدال المتكرر لكلمة «السماء» بكلمة «الله». ويتفق الرُّبع الثاني والمخطوطة الثانية على أن هاملت يتلفظ بتلك الأبيات بعد وصول الموسيقيين إلى إلسينور فيما تطلق عليه المخطوطة الفصل الثالث من المسرحية (فليس هناك تقسيم للفصول في الأرباع)، ولكن في الرُّبع الأول ظهرت مناجاة هاملت مبكرًا قليلًا عندما يدخل وهو يقرأ كتابًا.

وفي غياب مخطوطات شكسبير الأصلية، فإن الرحلة من كتابته للأبيات مرورًا بالأداء الأول للمسرحية وصولًا إلى النسخ المطبوعة الأولى لا يمكن تتبعها إلَّا عن طريق إعادة التشكيل الحدْسي بناءً على الأدلة الباقية من عادات الكتابة لدى الكُتَّاب المسرحيين في العصر الإليزابيثي وسلاسة النصوص في الذخائر المسرحية وممارسات دُور النشر الحديثة الأولى. ورغم أنه ما زال ثمة جدال أكاديمي حادٌّ حول وضع النصوص الثلاثة الأولى المبكرة ﻟ «هاملت»، يتفق معظم الباحثين الآن على أن الرُّبع الأول يعطينا لمحة عن النص الأول الذي قُدِّم على المسرح والرُّبع الثاني يأخذنا قريبًا من نص شكسبير الكامل. أما المخطوطة الأولى فهي تمثل النص الرسمي الذي قدمتْه على المسرح فرقة التمثيل التابعة له وهي فرقة رجال تشامبرلين (ولاحقًا رجال الملك)، وضمَّت مراجعات مسرحية وعنصرًا رقابيًّا نتيجة لقانون برلماني يحظر التلفظ بكلمة «الله» على المسرح.

كان نشر النصوص الأولى بداية لرحلة أخرى انتقلت فيها المسرحية إلى القُرَّاء والفرق المسرحية في عصور لاحقة، والانتقال النصي هو الشرط الأول لبقاء الأعمال الأدبية على مر التاريخ، فبلا طبعات لن يصبح ثمة شكسبير، وبلا محررين لن يصبح ثمة نصوص للدراسة في الصفوف المدرسية.

وثمة قرار جوهري اتخذه المحررون وأصبح مثيرًا للجدال لا سيَّما في حالة الأعمال المتعددة الأصول مثل «هاملت»، وهو اختيار نص أساسي تبدأ منه العملية. فبعض الاختلافات بين النصوص الأولى لمسرحيات شكسبير يمكن تفسيرها عن طريق الذاكرة الضعيفة لأحد الممثلين أو التنسيق الخاطئ لآلة الطباعة، ولكن بعض الاختلافات الأخرى تكون نتيجة لتنقيح المؤلف أو المسرح، وفي تلك الحالات يصعب الاختيار بين النسخة الأصلية والنسخ المُنقَّحة. وتعد الفروق بين النصوص الأولى لمسرحية «الملك لير» جوهرية، لدرجة أن بعض المحررين يرَوْن أن طباعة الرُّبع والمخطوطة معًا أمرٌ يستحق العناء؛ مثل النسخ المختلفة التي صدرت عامي ١٨٠٥ و١٨٥٠ لقصيدة وردزوورث «المقدمة» والتي تصدر أحيانًا في طبعات دراسية حديثة.

لا يوجد نص قاطع لشكسبير؛ حيث أدخلت عملية دقيقة من الوساطة التحريرية بين الكاتب والقارئ. ورغم أن أحوال شكسبير الخاصة في عمله ككاتب مسرحي تجعله حالة اشتهرت على نحو سيِّئ السمعة بأنها عسيرة، فلا يوجد أي مؤلف أدبي كبير لا يثير مشاكل تحريرية من نوعٍ ما.

وصلت إلينا «حكايات كانتربري» فيما يزيد عن ثمانين مخطوطة مكتوبة، وكلها ترجع إلى ما بعد وفاة تشوسر. ولا يعلم أحد إذا ما كان تشوسر قد أتم مشروعه؛ حيث تتمثل الخطة الأصلية التي ذُكرت في المقدمة العامة في أن يقص كل حاج قصتين في الطريق إلى كانتربري وقصتين في طريق العودة، ولكنها لم تتحقق بالطبع. ويمكن تفسير العديد من الاختلافات بين المخطوطات الأولى بالخطأ في النسخ الكتابي، ولكن بعض الاختلافات الأخرى قد تكون نتيجة التنقيحات التي قام بها المؤلف، فالمخطوطات المختلفة بها ترتيب مختلف لسرد الأحداث، وبعض القصص يبدو أنها مرتبطة بعضها ببعضٍ؛ مثل حكاية الطحَّان البذيئة في مقابل قصة الحب النبيلة الخاصة بالفارس، ودياثة الطحان في حكاية العمدة انتقامًا من النجار (وهي مهنة العمدة السابقة) في حكاية الطحان. وبعض القصص الأخرى مرتبطة بعضها ببعضٍ عن طريق تلميحات في الفقرات التي تربط بينها، ولكن ترتيب العديد من القصص لا بد أنه قد تحدَّد بناءً على قرار المحرر، وهي عملية مستمرة منذ أن أصدر ويليام كاكستون أول نص مطبوع من «حكايات كانتربري» في سبعينيات القرن الخامس عشر (بناءً على نص لا يتطابق مع أيٍّ من المخطوطات الباقية).

وكي تصبح النسخة المطبوعة مقروءة عليها أن تختار نصًّا واحدًا أو بحدٍّ أقصى نصين أو ثلاثة مختلفة مطبوعة بالتوازي أو على التوالي. ونظريًّا، فإن النسخة الإلكترونية ذات النص المدمج يمكنها الجمع بين كل النصوص الباقية لأحد الأعمال الكلاسيكية؛ حيث يمكن المقارنة بين ثمانين نسخة مختلفة من «حكايات كانتربري» بضغطة زر. ولكن ظهور النصوص الرقمية لا يضع حدًّا لتدخل المحررين، فما زال ثمة قرار يجب أن يُؤخَذ بشأن النص الذي يُعطَى الأولوية في الصفحة الرئيسة كنقطة بدء، بالإضافة إلى أن مشروعات التحويل الرقمي الضخمة مثل كتب جوجل قد تقدمتْ عشوائيًّا بتساهل على نحو يدعو للقلق فيما يتعلق بتحديد السلطة النسبية لنصوص معينة. ومن أول تلك المشروعات قاعدة بيانات ليون (الأدب عبر الإنترنت) للناشر تشادويك هيلي الذي أنشأ مكتبة قيِّمة من الشعر والمسرح الإنجليزي، ولكن قرار المحرر بحذف «النصوص» النثرية مثل الإهداءات والمقدمات والملاحظات التفسيرية وأمثالها من النصوص الرقمية يشوِّه صورتها الأصلية على نحو خطير.

يُعَدُّ النَّسْخ صورة طبق الأصل أفضلَ طريقة لتمثيل الصورة الأصلية للنصوص القديمة، وهو مفيد خاصة لتقديم المؤثرات المرئية، وهكذا فإن صورة طبق الأصل من قصيدة جورج هربرت التي تحمل عنوان «أجنحة عيد الفصح» (١٦٣٣) ذات معنًى أكثر من القصيدة ذاتها؛ فهي مطبوعة في العديد من النسخ والمقتطفات الأدبية يلتفُّ فيها الكلام بزاوية قدرها ٩٠ درجة بحيث يضيع تأثير أجنحة الطائر ومن ثَمَّ تبرز أجنحة الملاك.

إن نسخة فوتوغرافية طبق الأصل، أو نصًّا يتبع النسخة الأولى بدقة، سوف تترك العديد من مشاكل التحرير دون أن تُحَل. ولنأخذ مثالًا على ذلك برواية «التوقعات الكبرى» لديكنز (١٨٦١). فقد اعترض الروائي ويلكي كولينز، وهو صديق مقرَّب لديكنز، على النهاية الأصلية التي تتزوج فيها ستيلا مرة أخرى ويظل بيب أعزب. وهكذا فقد أدخل ديكنز تعديلًا على النهاية كي يجعلها أكثر قربًا إلى النهاية التقليدية مشيرًا إلى أن بيب وستيلا سوف يتزوجان، وأوضح قائلًا: «لقد جئتُ بأصغر عمل أدبي ممكن، ولا شك عندي أن القصة سوف تلقى قبولًا أكبر بعد التعديل.» ولكنه لم يكن واثقًا تمامًا من أنه قد فعل الصواب؛ حيث قال: «بشكل عام أعتقد أنه تغيير للأفضل.» وتنشر معظم الطبعات النهاية الثانية، ولكن جون فورستر صديق ديكنز وكاتب سيرته فضَّل النهاية الأولى كما كان رأي العديد من القراء المميزين للرواية (مثل جورج جيسينج وجورج برنارد شو وجورج أورويل وإدموند ويلسون وأنجوس ويلسون). ومن ناحية أخرى، فإن النسخة المعدَّلة تتميز ببعض الإبهام تمشِّيًا مع الغموض الذي يتخلل حبكة الرواية، فالسطر الأخير الذي يقول: «لم أجد أثرًا لفراق آخر عنها» قد يعني أن بيب وستيلا سوف يتزوجان، ولكنه قد يعني أيضًا أنهما لن يرى أحدهما الآخر مرة أخرى. وفي تلك الحالة، فإننا بحاجة بالفعل للتفكُّر في كلتا النهايتين ومناقشة مزاياهما النسبية.

fig3
شكل ٤-١: قصيدة «أجنحة عيد الفصح» في مجموعة جورج هربرت الشعرية «المعبد» (١٦٣٣). ونظرًا لتدويرها بزاوية ٩٠ درجة في العديد من النسخ الحديثة؛ مثل «مختارات نورتون في الأدب الإنجليزي»، فقد ضاع التأثير المُوحي بشكل الجناح.

نشر توماس هاردي ملحوظة تفسيرية مع الطبعة الأمريكية الأولى من رواية «تس سليلة دربرفيل» (١٨٩٢): «نُشِر الجزء الأكبر من الرواية التالية — بتعديلات بسيطة — في جريدة «جرافيك» ومجلة «هاربرز بازار»، ونُشِرت فصول أخرى مخصصة للكبار فقط في مجلة «فورتنايتلي ريفيو» و«ناشونال أوبزرفر» على هيئة حلقات غير منتظمة.» وكما لو كان الأمر غير معقد بما فيه الكفاية، تختلف النصوص الأمريكية المسلسلة عن البريطانية في تفاصيل كثيرة، وتختلف الطبعة الأولى الأمريكية عن البريطانية في جوانب أخرى، وتختلف نصوص التجارب الطباعية بعضها عن بعض وعن النصوص المنشورة، وضمَّ العديد من الطبعات اللاحقة تعديلات قام بها هاردي. وتتراوح الاختلافات بين النسخ العديدة المختلفة من رواية «تس» بين الرقابة التي فرضها محررو المجلات ومراجعة المؤلف الواعية بهدف إحداث تأثيرات جمالية، ولا يوجد نص واحد معتمَد لتلك الرواية أو لأية رواية أخرى لتوماس هاردي.

أيضًا يجب ألَّا نتخيل أن مشاكل الاختلاف النصي قد اختفتْ في العصر الحديث الذي تُطبع فيه الكتب من ملفات رقمية يُعدُّها المؤلفون أنفسهم؛ مما أزال العديد من الوسطاء مثل منضِّدي الحروف المطبعية بدار النشر الذين كانوا في الماضي مسئولين عن تعديل النصوص عن قصد أو عن غير قصد أثناء مرورها من الكاتب إلى القارئ؛ مثل الجملة التالية في الطبعة البريطانية الأولى من رواية إيان ماكيوان القصيرة «على شاطئ تشيزيل» (٢٠٠٧): «عزف لها النسخ «الخرقاء والمحترمة في الوقت ذاته» من أغاني تشاك بيري للبيتلز ورولينج ستونز لها.» لا تظهر تلك الجملة في الطبعة الأمريكية الأولى أو الطبعة البريطانية ورقية الغلاف التي ظهرت في العام التالي. ليس السبب خطأً مطبعيًّا بل ملاحظة ناقد ثاقب البصيرة؛ لأنه في الوقت الذي تدور فيه أحداث هذا المشهد في مطلع الستينيات من القرن العشرين لم يكن البيتلز أو رولينج ستونز قد سجَّلا أي أغانٍ لتشاك بيري. ولما كان ماكيوان مقتنعًا بأن هذا الخطأ الواقعي يقلل من مصداقية تلك القصة الخيالية فقد أمر بإزالته؛ مما يضع أمامنا خيارًا شائكًا في حالة مجيء وقت يُتهم فيه الباحث بإعداد طبعة رسمية من روايات إيان ماكيوان.

إن خيارات المحررين خيارات تفسيرية، وهي لا توفر الأساس اللازم لاستمرار تلك الكلاسيكيات فحسب، بل إنها أيضًا تجسد فعل القراءة العميقة المنتبهة التي يتطلبها منا الأدب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤