الفصل السادس

بين الشعراء الإنجليز

شاعر البلاط

يغلب على تجربة الأدب الحديثة طابع الصمت والانعزال، ولكن الوضع لم يكن هكذا دائمًا؛ فالشعراء الملحميون القدماء لم يدونوا قصائدهم بل كانوا يحفظون رواياتهم ويَتْلُونها. فالقصائد في «حكايات كانتربري» عبارة عن قصص يتشاركها الناس لإضفاء الحيوية على رحلة، وتدور أحداث القصة العاطفية «السير جاوين والفارس الأخضر» أثناء حفل عيد الميلاد كي تؤدي دورها كقصة تصلح لقضاء أمسية شتاء طويلة، وكان جورج هربرت وويليام بليك يغنون قصائدهم.

يعد الشعر المسرحي بطبيعته سمعيًّا وجماهيريًّا، وكان الشعر الغنائي في أقدم صوره يُغنَّى بطريقة تنافسية. وفي بلاد الإغريق كان الشعراء الفائزون (مثل الرياضيين الفائزين) يتوَّجون بأكاليل الغار، وهو نبات مقدس عند أبوللو إله الشعر، وهو أصل مصطلح «شاعر البلاط». ومن الأنواع الأصلية للشعر الغنائي: القصيدة الغنائية، وهي قصيدة للمدح، والمَرْثِية، وهي قصيدة للحِداد والذكريات. وكان الشعراء يظفرون بالرعاية والمحاباة عن طريق كتابة القصائد الغنائية والمرثيات، وهي الطريقة الوحيدة لدعم فنِّهم قبل ظهور سوق أدبية حقيقية في القرن الثامن عشر.

لم يصبح شكسبير ثريًّا بالتربح من شعره بل من امتلاك أسهم في شركة للمسرح التجاري، ولم يحقق أي شاعر إنجليزي الثراء من مهنة النشر حتى عام ١٧١٤ عندما عقد ألكسندر بوب صفقة غير مسبوقة مع الناشر برنارد لينتوت لترجمة «الإلياذة» لهوميروس في ستة مجلدات بسعر ٢٠٠ جنيه إنجليزي للمجلد، وحصل أيضًا على ٧٥٠ نسخة مجانية للمشتركين؛ مما مكَّنه من الحصول على الجنيه الذي دفعه كل مشترك مقدمًا. وبالحساب بواسطة مؤشر أسعار التجزئة فإن تلك الأرباح تصل إلى حوالي ما يعادل ٢٠٠ ألف جنيه بأسعار اليوم، بينما باستخدام مؤشر متوسط الأرباح في مطلع القرن الحادي والعشرين فهي تعادل ما يزيد عن مليوني جنيه. وأنفق بوب نسبة كبيرة من الأرباح على اقتناء فيلا أنيقة في تويكنهام وإقامة حديقة بها مصممة بعناية.

تعتبر قصيدة إدموند سبنسر العاطفية الملحمية «ملكة الجن» (١٥٩٠–١٥٩٦) أول ملحمة قومية إنجليزية، واعتمد سبنسر على المادة الخام المحلية المتعلقة بالملك آرثر، وباستخدام الفن التوفيقي الذي تميز به العصر الإليزابيثي، فقد كساها بطبقة من التأثيرات الكلاسيكية (تحولات أوفيد السحرية بنفس القدْر الذي اعتمد به على موضوع فرجيل الأكثر صرامة)، مع العلاقات الرومانسية الخاصة بالملحمة الإيطالية في عصر النهضة (وخاصة «أورلاندو الغاضب» لأريوستو)، مع وضع سمة الابتكار الخاصة به. ويحل الفرسان الجدد محل لانسلوت وجاوين والآخرين: فارس الصليب الأحمر، وهو نسخة بروتستانتية مميزة من القديس جورج، والسير جيون الذي يجاهد من أجل الحفاظ على فضيلة ضبط النفس وهو يقابل امرأة فاتنة مغوية تُدعَى أكرازيا في عش للحب، وبريتومارت وهي محارِبة ترتدي ثياب الرجال ويقصد منها تحديدًا أن تغدق الإطراء على الملكة إليزابيث، ثم يأتي أرتيجال الباحث عن العدالة والذي يصحبه رجل حديدي يستخدم المِدرَس ببراعة يدعى تالوس، وهو ما يوحي بموقف متصلب من الثورة في أيرلندا، والسير كاليدور الذي يكتشف الذوق والتحضر في عالم ريفي، بينما كان آرثر نفسه يسارع إلى تقديم المساعدة في أوقات الأزمة. ربح سبنسر قليلًا من نشر القصيدة، ولكن المغامرة جعلتْه يحصل على معاش تقاعدي من الملكة إليزابيث الأولى.

وعلى غرار تشوسر وجون سكيلتون (معلِّم هنري الثامن) من قبله وبن جونسون وويليام دافينانت من بعده، فقد كان سبنسر شاعرًا للبلاط بصورة غير رسمية. وأصبح هذا الدور منصبًا ملكيًّا رسميًّا لأول مرة عام ١٦٦٨ عندما أنعم الملك تشارلز الثاني المثقَّف باللقب على جون درايدن الذي كان قد فاز بالحظوة في البلاط في العام السابق عند نشر «عام العجائب» ١٦٦٦، وهي قصيدة ملحمية تدور حول حدثين وقعا عام ١٦٦٦ صوَّرتْهما الأصوات البيوريتانية المعارضة علامتين على السخط الإلهي على حكومة تشارلز وأخلاقه: وهما الحرب الإنجليزية الهولندية التي شهدتْ أسطول العدو وهو يُبحِر عبر نهر ميدواي، وحريق لندن الكبير. وتمثل الرد السريع لدرايدن في رؤية نموذج إلهي للخلاص الإعجازي من نتيجة أكثر سوءًا وتصوير الملك نفسه وهو يدخل مستبسلًا إلى المدينة كي يساعد في إخماد الحريق.

تحول درايدن إلى الكاثوليكية الرومانية عام ١٦٨٥، وهو ما كان مناسبًا، فهو نفس العام الذي خلف فيه جيمس الثاني المجاهر باعتناقه الكاثوليكية شقيقه تشارلز الثاني. ومع الثورة المجيدة عام ١٦٨٨ وقدوم الملك ويليام والملكة ماري المعتنقين للمذهب البروتستانتي، خسر درايدن منصبه أمام الشاعر والكاتب المسرحي المنتمي إلى حزب الأحرار توماس شادويل، وهو الأول في طابور طويل من شعراء البلاط الذين سوف تسخر منهم الأجيال القادمة لكونهم أشخاصًا وصوليين رديئي المستوى حازوا مناصبهم نظير مصلحة شخصية أو خدمة سياسية. وقد هجاه درايدن بالفعل في «ماك فليكنو: هجاء للشاعر البروتستانتي المخلص تي إس» (١٦٨٢)، ويسخر ألكسندر بوب في ملحمته الساخرة «الحمقى» التي تضم إجمالي الكُتَّاب الرديئين من اسمه محرِّفًا إياه بحيث يصبح «ﺷ**ويل».

كان تأكيد الرومانسية على مشاعر الكاتب كما يتمثل في قرار ويليام وردزوورث بكتابة قصيدة ملحمية، لا عن التاريخ البريطاني أو الحرب الدائرة في السماء بل عن نموه العقلي؛ في حقيقة الأمر خصخصة للشعر. فقد كتب كيتس قصائد غنائية لا إلى الملوك أو الرعاة المحتملين بل إلى وعاء إغريقي، وإلى حالة الحزن، وإلى طائر البلبل، وإلى فصل الخريف. وإذا كان للشاعر دور عام، فقد تمثَّل في كونه نبيًّا يصرخ في البرية (رأى بليك وشيلي نفسيهما في ذلك الدور) لا متحدثًا رسميًّا للملك والأمة. ولذلك، ففي عام ١٨١٣ رحب الرومانسيون الأصغرون سنًّا؛ مثل بايرون وهازليت وجلين بقبول روبرت ساوثي لإمارة الشعراء، وهو مدافع سابق عن الثورة الفرنسية ورفيق كولريدج في مخطط خيالي لإنشاء مجتمع مثالي من علاقات الحب الحرة على ضفاف نهر سوسكويهانا.

أعاد ألفريد لورد تينيسون قدرًا من الكرامة إلى منصب شاعر البلاط؛ فقد بدا أن صوته يُعرِب عن مزاج عصره. وبعد مرور أربعة أعوام على حصوله على لقب شاعر البلاط عند وفاة وردزوورث، قرأ رواية في جريدة «ذا تايمز» عن مهمة فرقة سلاح الفرسان الخفيفة الكارثية أثناء معركة بالاكلافا في شبه جزيرة القِرْم، وخلال دقائق كان قد أطلق قصيدة من نَظْم بحر الداكتيل السريع الذي يعتمد على مقطع مشدد يَلِيه مقطعان غير مشددين: «نصف فرسخ، نصف فرسخ.» ثم مقطع مشدد يليه مقطعان غير مشددين: «نصف فرسخ إلى الأمام».

في وادي الموت
انطلق الستمائة
«إلى الأمام فرقة الفرسان الخفيفة!»
صاح آمِرًا: «املَئُوا البندقيات!»
إلى وادي الموت
انطلق الستمائة.

تنتقد القصيدة القيادة العليا (ارتكب أحدهم خطأً فادحًا)، وفي الوقت ذاته تُعلي من شأن شجاعة الفرسان ممتدحةً إياهم، وعلى غرار العديد من القصائد الإنجليزية البارزة التي تتحدى الفَناء فهي تكتسب الإلهام من المزمور الثالث والعشرين في ترجمة الإنجيل لعام ١٦١١: «أيضًا إذا سرتُ في ظل وادي الموت لا أخاف شرًّا؛ لأنك أنت معي.»

ولكن بالنسبة لتينيسون، فإن تلك القصائد العامة أقل أهمية من قصائد الحزن الشخصي التي كتبها؛ مثل سلسلة الرثاء المكتوبة ببراعة «تخليدًا لذكرى إيه إتش إتش» (١٨٥٠)، وهي مجموعة تراكمية من القصائد الغنائية التي أصبحتْ رحلة داخلية شبيهة بالملاحم. حققت «مهمة فرقة سلاح الفرسان الخفيفة» نجاحًا شعبيًّا، ولكن القراء المفكرين في العهد الفيكتوري في العصور المظلمة كانوا يجدون قيمة أكثر عمقًا في الرباعيات المؤلمة لقداس صديق تينيسون العزيز آرثر هالام، وقالت الملكة فيكتوريا بعد وفاة الأمير ألبرت «إن قصيدة «تخليدًا لذكرى إيه إتش إتش» هي عزائي بعد الإنجيل.»

يعد الشعر الغنائي الحديث غالبًا أداة للتعبير عن خلافات الشعراء مع أنفسهم (وهي جملة ييتس التي تنطبق تمامًا على تيد هيوز وجيفري هيل) أو لتخفيف الشكوى الشخصية والتافهة كليًّا من الحياة (وصف إليوت الانتقادي لقصيدة «الأرض الخراب» الذي ينتقد فيه ذاته والذي قد يكون فيليب لاركين قد استخدمه شعارًا). وفي الأوقات النادرة التي يظهر فيها شعر عام جادٌّ عالي الجودة، فإنه غالبًا ما يكون غاضبًا متحررًا من الأوهام مكتوبًا من وجهة نظر اللامنتمي أو تعاطفًا مع المطرودين، وتعد قصيدة توني هاريسون «في» التي كتبها في أعقاب إضراب عمال المناجم عامي ١٩٨٤-١٩٨٥ مثالًا رائعًا، وهكذا فإن شعراء الحداثة لم يميلوا إلى الترحيب بالعبء العام لمنصب شاعر البلاط.

أسى الحرب

ثمة مسحة رثائية في هواء تلك البلاد منذ نهاية الحرب العالمية الأولى.

جيفري هيل، ١٩٨١

وظلَّ بإمكان الشاعر ما بين الحين والآخر فقط أن يتحدث بالنيابة عن أمته، وكان من أول قصائد كارول آن دافي عند حصولها على منصب أول شاعرة للبلاط عام ٢٠٠٩ مرثية مؤثرة عن وفاة هنري ألينجام وهاري باتش، آخر جنديين من «الجنود البريطانيين» المحاربين في الحرب العالمية الأولى. وتحمل القصيدة عنوان «نداء البوق» (وهي متاحة عبر الإنترنت)، وتبدأ باقتباس من قصيدة ويلفريد أوين «اللقاء الغريب» (في كل أحلامي، أمام نظري العاجز/يندفع نحوي متدفقًا مختنقًا غارقًا)، ثم تُواصِل متخيلةً قتلى الحرب «هاري وتومي وويلفريد وإدوارد وبيرت» وقد عادوا إلى الحياة «مفعمين بالحب والعمل والأطفال والموهبة والجعة الإنجليزية والطعام الشهي»، وتنتهي القصيدة هكذا:

ترى الشاعر وهو يخفي مفكرته ويبتسم.
إذا كان للشعر حقًّا أن يخبرنا بالأحداث بتسلسل زمني عكسي،
فسوف يفعل ذلك.

إن الصورة المسيطِرة التي رسمتْها دافي هي لشريط أفلام يعاد من أوله، فنحن نتذكر المشهد الضبابي الأبيض والأسود للجنود الصغار وهم يصعدون فوق القمة ويُحصَدون كالعشب في المرعى. تخيَّل أنهم قد عادوا لأعلى مرة أخرى، ماذا لو كانوا قد عاشوا ولم يفقد الشعر الإنجليزي «ويلفريد» (أوين) و«إدوارد» (توماس)؟ ولكن الشعراء عاشوا من خلال قرائهم، بينما معظم القتلى لا يتذكرهم سوى عائلاتهم ويُتذكرون من خلال ما كُتب على شواهد قبورهم أو على الأنصِبة التذكارية. وهكذا يمكن للشعر بالفعل أن يخبرنا بالأحداث بتسلسل زمني عكسي عن طريق النظر في الماضي وتكريم أبطاله.

يضم أول مقطع شعري لدافي تلميحًا إضافيًّا لويلفريد أوين («من الجميل، من اللطيف، أن يموت المرء من أجل وطنه»)، وتذكر في المقطع الشعري الثاني أسماء الشعراء المتوفَّيْن وتومئ برأسها موافقةً على موقف كاتب زميل من الحرب العالمية الأولى من خلال أحزان جيادها المتألِّمة: فرواية الأطفال التي حازت تقديرًا في وقت ما «جواد الحرب» لمايكل موربورجو قُدِّمت على المسرح القومي في نسخة ناجحة كما كَتبت دافي، وفي المقطع الشعري الأخير يبدو أنها تُلمح إلى المفكرة التي وُجدت على جثة إدوارد توماس، وكانت سليمة ولكنها متجعدة من آثار الانفجار بعد أن سقط بالقرب من أراس في أبريل عام ١٩١٧، وتدير كلماتها شريط الماضي باعثةً أصواته إلى الحياة.

الشعر حوار مع الموتى: يدير مقطع «من الجميل، من اللطيف» الشريط إلى الخلف أكثر، ويلمح عنوان أوين بمرارة إلى بيت يُستشهَد به كثيرًا من قصيدة غنائية لهوراس: «من الجميل، من اللطيف، أن يموت المرء من أجل وطنه.» وتستحضر مراجعة مخطوطة الوثيقة الأصلية شعراء آخرين إلى الحوار، وهنا قد لا نرى تنقيحات أوين الدقيقة فحسب («غرغرة»، «قرقرة»، «جحوظ العينين»، «ارتعاش»، للجندي الذي يتوارى في الهجوم بالغاز)، بل أيضًا العلامات التي وضعها زميله الشاعر سيجفريد ساسون الذي ساعده على إتقان فنه عندما كانا يخضعان للعلاج من صدمة القصف في مستشفى كريجلوكهارت الحربي. ومن العناوين الأصلية «إلى جيسي بوب إلخ» و«إلى شاعرة بعينها» يتضح أن أوين يوجِّه سهامه إلى المدافعين العصريين عن «تلك الكذبة القديمة» أكثر مما يوجهها إلى هوراس. وكانت جيسي بوب واحدة من الشعراء الوطنيين المتحمسين الذين ينشرون بانتظام أبياتًا من الشعر على غرار ما يلي في صحيفة «ديلي ميل» يستحثُّون فيها الشباب على الالتحاق بالجيش وملاقاة حتفهم في أوحال فلاندرز:

fig4
شكل ٦-١: المخطوطة الأصلية لقصيدة «من الجميل، من اللطيف» بخط يد ويلفريد أوين، وتظهر فيها تنقيحات الشاعر نفسه واقتراحات أكثر لسيجفريد ساسون.
من يصلح للُّعبة الكبرى التي تُلعَب
لعبة التصادم الحمراء في القتال؟
مَن سيقف متأهبًا لصدور إشارة الانطلاق؟
مَن سيمد يد العون إلى وطنه؟
مَن يرغب أن يكون له دور في العرض؟
ومَن يرغب في مقعد في المنصة؟
مَن يعلم أنها لن تكون نزهة، في الغالب
ولكنه يحمل على كتفه بحماس بندقية؟
مَن الذي سيعود غالبًا متوكئًا على عصًا
ولن يحتجب عن الأنظار ويبتعد عن اللهو؟

كتب فيليب لاركين قائلًا: «لن توجد تلك البراءة مرة أخرى» عن الرجال الذين يرتدون قبعات قماشية ويقفون في صفوف طويلة غير متساوية منتظرين التطوع من أجل المَلِك والبلاد عام ١٩١٤ «مبتسمين كما لو كانت تلك/عطلة مرحة من عطلات البنوك في أغسطس» («إم سي إم إكس آي في»، «أعراس العنصرة»، ١٩٦٤).

fig5
شكل ٦-٢: «أمنية»: ملصق التجنيد في الحرب العالمية الأولى، مع صورة بريشة جورج كلاوسمان وقصيدة ريفية بقلم الشاعر الرومانسي صامويل روجرز.

ما هدف الشعر وقت الحرب؟ اشتُهر أوين بكتابة ما يلي: «بادئ الأمر لست مهتمًّا بالشعر، بل إن موضوعي هو الحرب وآلام الحرب، والشعر يكمن في الرثاء.» وقد وصف هو وساسون وإيزاك روزنبرج شاعِرينَ بالغضب والحزنِ الحالَ في الخنادق، وجعلوا من المستحيل على أي شخص بعدهم أن يقول: «من الجميل، من اللطيف» دون سخرية أو تحفُّظ. وقد صاغوا شعر الحرب نوعًا ما على نحو حاسم حتى أصبح من المستحيل تجاوزهم، رغم أن كيث دوجلاس قد قام بمحاولة مشرِّفة أثناء الحرب العالمية الثانية.

وبالنسبة للجنود أنفسهم فقد يكون الشعر مصدر عزاء مثلما كانت قصيدة «تخليدًا لذكرى إيه إتش إتش» بالنسبة للملكة فيكتوريا، وكم من حقائب ظهرت على الجبهة الغربية احتوتْ على نسخة من مرثية إيه إي هاوسمان «فتى شروبشير» (١٨٩٦). ويمكن للشعر أن يقدم نموذجًا أكثر رقة من الوطنية مما قدمتْه جيسي بوب، فعندما سئل إدوارد توماس كاتب النثر الريفي غزير الإنتاج عن السبب الذي دعاه للانضمام إلى سلاح الفنانين، انحنى وقبض حفنة من تراب إنجلترا، وقال: «مِن أجل هذا.» لقد جعلتْ منه هذه الحرب شاعرًا، واستُحضِرَت صورة إنجلترا التي تخيَّل الكثيرون أنهم يدافعون عنها في ملصق للتجنيد برعاية مترو أنفاق لندن، وُضِع فيه فِناء كنيسة ريفية بجوار بضعة أبيات عن الطمأنينة الريفية للشاعر الرومانسي صامويل روجرز.

وفي خضم أهوال للحرب تُقدِّم إيقاعات الحياة الريفية صورة للاستقرار والثبات، ويتأمل إدوارد توماس تلك الأبيات بلا شوفينية أو تعالٍ في قصيدة «لجام زوج الخيل» (١٩١٦): «شاهدتُ كتل التراب تتفتت وتنهار/بعد مرور شفرة المحراث وزوج الخيل المتعثر.» ويتبع توماس هاردي مسلكًا مشابهًا عند كتابة «في زمن تفتت الأمم» (١٩١٦، والعنوان به تلميح للنبي إِرْمِيَا الذي ذكر في العهد القديم «أنت فأسي في المعركة وأسلحتي في الحرب: وبك سوف أفتت الأمم»):

فقط مَنْ يمهِّد التربة ويسوِّيها
في جولة بطيئة صامتة
ممتطيًا جوادًا عجوزًا يتعثر ويتمايل
حاله بين اليقظة والنوم وهما سائران بتثاقل وبطء.

شعر الرغبة: جون دون

موضوعان فقط هما ما لا يثيران اهتمام العقل الجادِّ المولَع بالدراسة: الجنس والموتى.

دبليو بي ييتس، ١٩٢٧

ثمة نوعان من الشعر الرثائي؛ أحدهما قصيدة في ذكرى الموتى مثل قصيدة «لايسيداس» لجون ميلتون، وقد تكون المرثية إحياء لذكرى شخص معين أو تأملًا عامًّا حول الفقد والفناء، وأشهرها قصيدة توماس جراي «مرثية في فناء كنيسة ريفية» (١٧٥١) التي كُتبت على هيئة رباعيات ذات إيقاع خماسي التفاعيل: «الناقوس يدق منذرًا برحيل اليوم المنصرم … وسبل المجد لا تقود سوى للقبر.» ولطالما كانت مرثيات الزملاء من الشعراء والأحباء من أكثر الألحان ثراءً في الشعر الغنائي الإنجليزي، ويمتد خيط مرثيات الشعراء من إيرل سَري في ذكرى توماس وايت في القرن السادس عشر، إلى توماس كاري في ذكرى دون في القرن السابع عشر، إلى شيلي في ذكرى كيتس في القرن التاسع عشر (أدونيس)، إلى أودن في ذكرى ييتس في القرن العشرين. وتشمل مرثيات الأحباء قصيدة بن جونسون القصيرة الجميلة التي يطلق فيها على ابنه الذي فقده «أفضل أشعاره»، مرورًا بجنازة هنري كينج لزوجته (عشرينيات القرن السادس عشر)، إلى هاردي وهو يتذكر («قصائد عامي ١٩١٢-١٩١٣»)، وصولًا إلى دوجلاس دان («مرثيات»، ١٩٨٥) وتيد هيوز («خطابات عيد الميلاد»، ١٩٩٨) وكريستوفر ريد («شتات»، ٢٠٠٩) في العصور الحديثة.

والنوع الآخر من المرثية هو القصيدة العاطفية، فقد كان مصطلح «رثائي» يشير في بادئ الأمر إلى أحد البحور الشعرية التقليدية التي تستخدم عادةً للتعبير عن الأمور الحزينة، واستخدمه الشعراء الغنائيون الرومان كاتولوس وبروبرتيوس وأوفيد كثيرًا في أشعارهم العاطفية؛ لذا عندما ترجم كريستوفر مارلو «غراميات» أوفيد أطلق عليها «مرثيات أوفيد»؛ فعندما نُحِبُّ نبحث عن الشعر: والأشعار حسنة الصياغة تقوي من لغة العاطفة وتزيدها حِدَّة في إيقاع يجعل القلوب تخفق، بينما الصور البلاغية تفتح الأعين على آفاق جديدة، وتجمع القوافي بين الكلمات كما لو كانت قبلات. ولن نندهش إذا علمنا أن شعر أوفيد عن الشهوة هو حبل من الخيوط المجدولة يمر عبر الأدب الإنجليزي، بدءًا من قصيدة شكسبير «فينوس وأدونيس» (١٥٩٣) مرورًا بقصيدة كيتس «عشية عيد القديسة أجنيس» (١٨٢٠) إلى قصيدة كريستينا روسيتي «سوق العفاريت» (١٨٦٢) وأكثر من ذلك.

وفي التسعينيات من القرن السادس عشر أصبحت المرثية نمطًا يحظى بنفس شهرة السونيتة لنشر فن الحب، وفي إحدى مرثيات جون دون نجد استكشافه الشهواني على نحو رائع لجسد محبوبته:

ائذني ليديَّ المتجوِّلتين، ودعيهما
تذهبان للأمام، للخلف، للوسط، لأعلى، لأسفل
أمريكا يا وطني، يا أرضي الجديدة
مملكتي، يا أكثر موضع آمِن يخضع لحاكم واحد
منجم أحجاري الكريمة: إمبراطوريتي
كم أنا محظوظ لاكتشافك!
إن الالتزام بتلك القيود يعني الحرية
وأينما تستقر يدي فسوف أضع عهدي
تجرد كامل! كل المباهج تعود إليكِ
وكما الأرواح بلا أجساد، يجب أن تكون الأجساد بلا ثياب
كي نتذوق السعادة الكاملة.
(إلى عشيقته وهي تذهب إلى الفراش)

يلتقط دون لحظة تجربة العاشق بكل حِدَّتها ثم ينتقل إلى تأملها والتفكير فيها على نحو فلسفي ببراعة وتعقيد غير عاديين، وكما قال د. جونسون عن أبراهام كاولي تلميذ دون الذي كتب قصيدة يقارن فيها قلب العاشق بقنبلة يدوية «إن أكثر الأفكار تفاوتًا تَقترِن معًا بالعنف.»

كان شكسبير أكثر الشعراء موضوعيةً وتجردًا؛ فحتى بعد مرور أربعة قرون لم يتوصل أحد إلى التجارب الشخصية — إذا كان ثمة شيء كهذا بالفعل — الكامنة خلف سونيتاته المنظومة في ١٤ بيتًا، وعلى النقيض فإن دون يُبدي جانبًا من شخصيته خلال أعماله؛ حيث كان بالفعل أول كاتب إنجليزي بارز يكتب شعرًا عن حياته الخاصة، ولم يجعل أي شاعر آخر نفسَه موضوعَ كتاباته بتلك الطريقة المستمرة حتى مجيء وردزوورث والرومانسيين بعد ذلك بقرنين. وكان دون أيضًا أول أديب يكتب خطابات شخصية وحميمة ظلت باقية، وكان موضوع إحدى أُولَيَات التراجم في اللغة الإنجليزية، حيث كتبها عقب وفاته مباشرةً إيزاك والتون، فقد جعلتْ منه التقلبات الدرامية التي ميزت حياته موضوعًا نموذجيًّا.

وُلِد دون في عائلة متمردة عام ١٥٧٣؛ فوالدته سليلة الشهيد الأشهر في تاريخ إنجلترا السير توماس مور، وشقيقه مات في السجن بعد أن أُلقِيَ القبض عليه بتهمة استضافة قس كاثوليكي. والتحق دون نفسه بجامعة أكسفورد في سن الثانية عشرة؛ لا لأن عقله كان يسبق عمره (رغم أنه كان كذلك بالفعل)، ولكن كي يحصل على درجته العلمية قبل السادسة عشرة بحيث يتمكن من الاشتراك في قسم الولاء للكنيسة الأنجليكانية وللملكة. وفي العشرينيات من عمره نجح في البعد عن أصوله الكاثوليكية بما يكفي للحصول على منصب السكرتير الخاص للسير توماس إيجرتون حامل الختم، ولكنه وقع في غرام ابنة شقيق سيده المراهقة وتزوجها سرًّا، وهو زواج كلَّفه وظيفته، ولكن هذا الزواج استمر وكان سعيدًا، وهو ما يثير الدهشة قليلًا في ضوء علاقات دون الكثيرة التي كان يمارسها بلا خجل في شبابه. ورغم بدايته غير الواعدة، فقد أنهى دون حياته عميدًا لكاتدرائية القديس بول وأشهر واعظي عصره، وكانت مواعظه تجتذب جمهورًا ضخمًا منتشيًا كالذي كان يحضر مسرحيات شكسبير.

كُتِبت معظم أشعار دون لدائرة من الأصدقاء والرعاة، ولم يُنشَر منها سوى القليل جدًّا في حياته، وفي المجتمع الإليزابيثي الأرستقراطي المنغلق سرعان ما انتشر القول بأنه موهبة كبرى جديدة. وكانت أكثر قصائده التي لاقتِ الإعجاب «الهدوء» و«العاصفة»، وهما لوحة مزدوجة مبهرة مستوحاة من مغامراته البحرية إلى قادِس وجزر الأزور في خدمة إيرل إسكس ذي الشخصية الطاغية. وكانت مقطوعاته الهجائية التي كتبها في الوقت الذي قضاه محاميًا تحت التدريب في الهيئات القانونية الأربع في لندن ترسم صورًا شديدة الانتقاد للندن المعاصرة، ولكنها أيضًا تتصارع في مقطوعاته الموجزة المكوَّنة من بيتين مع السعي نحو الحكمة الروحية والإخلاص الديني:

على نحو غريب
الوقوف متسائلًا عن الصواب يعني ألَّا تضل
بينما النوم أو الخطأ يعني ذلك. على تل ضخم
شاهق وشديد الانحدار، تقف الحقيقة، ومَنْ
سيصل إليها، يجب أن يذهب في الجوار
وما تقاومه مفاجأة التل يكسب
ولكنه أيضًا يجاهد فجر الموت قبل الهَرَم
لترقد روحك في سلام، فلا أحد يمكنه العمل في تلك الليلة.
«هجاء» ٣

يُعَدُّ ديوانه «أغانٍ وقصائد» أقوى قصائد الحب في اللغة الإنجليزية، وتُعزَى مباشرتها في المقام الأول إلى الشعور بصوت يتحدث مباشرة إلى الحبيبة التي تشاركه الفراش وفي الوقت ذاته يدعو القارئ المستمع مصادفةً: «أتساءل بصدق: ماذا كنا نفعل أنا وأنت/قبل أن نحب؟» (الصباح المشرق)، «بالله عليكِ اصمتي ودعيني أحب» (التقديس)، «مرتين أو ثلاثًا أحببتك فيها/قبل أن أعرف وجهك أو اسمك» (الهواء والملائكة).

أكد بن جونسون أن دون قد كتب أفضل أشعاره كلها قبل سن الخامسة والعشرين، وأوضح دون نفسه الاختلاف بين شخصية الشاب دون المتهور وشخصية د. دون الموقَّرة في كاتدرائية القديس بول، ولكن الأشعار الدينية التي تحوَّل إليها في النصف الثاني من حياته، بل في الواقع لغة مواعظه احتفظتْ بالعاطفة، وكذلك احتفظتْ في حقيقة الأمر ببعض الشهوانية التي ميَّزتْ أعماله الأولى، ولكنه الآن بدلًا من أن يُغوِي عشيقة فإن الله هو مَن يأسِره لُبَّه ويستحوذ عليه:

اجعل قلبي يذوب بين يديك أيها الإله ثلاثي الأقانيم …
خذني إليك واسجنِّي
فما لم تأسرني فلن أكون حرًّا،
ولا طاهرًا ما لم تملأني نشوة.
«السونيتة الدينية» ١٠
يرفض دون الفصل بين تجارب الحواس والروح، وهو أفضل كاتب يجيب بجدية عن مطلب كولريدج القائل بأن كونك شاعرًا يعني «تنشيط روح الإنسان بأكملها»، وتتمتع تأملاته النثرية عن الموت بنفس القدر من الثراء في الصور البلاغية كتحليلاته الشعرية للحب:

ما من شخص يمثل جزيرة مستقلة بذاتها، بل إن كل شخص جزء من القارة، جزء من الكل … ووفاة أي شخص تنتقص مني؛ لأنني جزء من البشرية، ومِن ثَمَّ عندما تُقرَع الأجراس معلِنة عن وفاة إنسان من بني جنسك فلا تتساءل أبدًا لمن تُقرع تلك الأجراس؛ فهي تقرع لك أنت.

«عبادات في مناسبات طارئة»، الجزء السابع عشر

في الخلاف بين الكاثوليكية والبروتستانتية، بين الفلسفة المدرسية اللاهوتية و«الفلسفة الجديدة» لمذهب الشك العالمي، وبحثًا عن دَوْر عام مع الالتزام باستقامة النفس، يجسد دون قُدْرة الأدب على امتطاء الماضي والحاضر والتاريخ والديمومة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤