مقدمة

بقلم  نظير عبود

«سنَّا» هي إحدى تراجيديات أربع بلغ بها الشاعر الفرنسي بيار كورناي (١٦٠٦–١٦٨٤) ذروة نتاجه المسرحى. والثلاث الأخَر هي: السيد، وهوراس، وبوليوكت. ويضيف إليها بعض النقاد والباحثين تراجيديا خامسة: «بومبايوس»، وكوميديا: «الكذاب».

ومن أبرز ما يسترعي انتباه الدارسين أن نتاج كورناي شبيه بحياته، يبدأ بفتوة لاهية ماجنة، تحب الدعابة والمرح، فيصل إلى شباب متنبه، بعيد الطموح، يتلمس طريقه إلى المجد، حتى إذا بلغ نضج الرجولة، اهتدى إلى التعبير الأفضل عن نبوغه، فأعطى زبدة ما في قلبه وعقله، ثم راح ينحدر، مع توالي الأعوام، نحو الأفول، من غير أن ينقطع عن العطاء، كأنه أراد أن يكون نتاجه قنطرة توازي تمامًا قنطرة حياته.

وهكذا رأيناه يضع مسرحيته الأولى: «ميليت» — كوميديا — وهو في الثالثة والعشرين من العمر. وخلال سبعة أعوام وضع سبع مسرحيات، منها خمس كوميديات: الأرملة، ورواق القصر، والتابعة، والساحة الملكية، والوهم الهزلي، وتراجيديا: ميديه، وتراجيكوميديا: كليتندر.

وفي الثلاثين من العمر أطلق أولى روائعه الخالدة: السيد، وأتبعها بهوراس وسنَّا، وبومبايوس، والكذاب، ثم راح ينحدر مع: تابع الكذاب، ورودوغون، وتيودور، وهيراكليوس، واندروميد، ودون سانش، ونيكوميد، وبرناريت، وأوديب، والجزة الذهبية، وسرتوريوس، وصفونسب، وأوتون، واجيزيلاس، واتيلا، وتيت وبيرينيس، وبسيكيه، وبولشيري، حتى انتهى إلى سورينا … وكانت هذه مؤسفة حقًا، فانقطع عن التأليف المسرحي نهائيًا، وانصرف إلى التأمل، ففاضت شاعريته ورعًا وتقوى في: الاقتداء بيسوع المسيح، وأناشيد فرض الكهنة، ومدائح العذراء.

كورناي الرائد

يعتبر كورناي، على الرغم من هنات الفتوة والشيخوخة، رائد المسرح الكلاسيكي الفرنسي، وفجر العصر الذهبي المعروف باسم الملك «لويس الرابع عشر». وهذا ما أعلنه ندّه ومنافسه جان راسين يوم استقبله في الأكاديمية الفرنسية، إذ قال:

في أية حال كان المسرح الفرنسي حين بدأ كورناي يعمل! في أية فوضى! وأي انحراف عن القواعد!

كان مسرحنا خاليًا من الذوق، خاليًا من معرفة الجمالات المسرحية الحقيقية، فالمؤلفون كانوا أشد جهلًا من المشاهدين، وكانت الموضوعات المطروحة، في أغلبيتها، مبالغات بعيدة عن المنطق والمعقول، لا أخلاق فيها، ولا خصائص مدروسة.. وكان الأداء أوفر فسادًا من التمثيل، وكل ما كانت تتحلى به المسرحيات، معنى ومبنى: نُكت لاذعة، وتلاعب بالألفاظ.

وبكلمة مختصرة، كانت قواعد الفن، والشرف، واللياقة كلها مرذولة ومنقوضة!

وهذه شهادة جديرة بالتدوين والحفظ.

عوامل وضع سنَّا

أجمع الباحثون على أن عوامل وضع «سنَّا» نوعان: أدبية وتاريخية.

فالعوامل الأدبية هي تلك التي نجمت عن «معركة السيد» فالنجاح المنقطع النظير الذي أحرزته هذه المسرحية أحدث في الأوساط الفكرية ما يشبه الإعصار، حتى أن الممثل موندوري الذي قام بدور «السيد» — رودريغ — كتب إلى بلزاك:

ليتك تأتي إلى باريس لترى هذه المسرحية التي سحرت المدينة. ازدحم الناس في القاعة حتى أصبحت الزوايا المخصصة للخدم أماكن مرموقة للأشراف.

وكتب الناقد بليسون:

يصعب وصف الترحيب الذي استقبلت به هذه المسرحية. فكل من رآها أراد رؤيتها من جديد، فما تعب أحد منها. وفى الأوساط والأندية كان التحدث عنها كل ما يقال ويُسمع، وكان الجميع يحفظون شيئًا من أبياتها عن ظهر قلب، وبوشر تعليمها للأولاد في أماكن عديدة من فرنسا، وانطلق مثل على الألسنة هو: «هذا جميل كالسيد».

ولم يكن إعجاب الملك أقل من إعجاب شعبه، فرفع كورناي وأباه إلى مرتبة الأشراف، مما أثار حفائظ الكتَّاب والشعراء، أمثال: ميريه، وسكوديري، وكلافريه، فاتهموا المؤلف بخرق «القواعد الكلاسيكية» ولا سيما وحدة الزمان والمكان، وادعوا أن القصة لا يمكن أن تحدث في أربع وعشرين ساعة، وأن حوادثها وقعت في أماكن عديدة.

وادعى ميريه أن كورناي «سرق» موضوعه من مسرحية اسبانية. فرد كورناي ردًا رصينًا لا يخلو من العنف قال فيه:

لست مدينًا بشهرتي إلا لي وحدي، ولا أظن أن هناك منافسًا لي لا أشرفه حين أعتبره ندًا.

وتدخلت الأكاديمية فحسمت الخلاف بقولها:

إن في السيد جمالًا نادرًا ما يكون له مثيل، وهو من أجمل الشعر المعروف حتى الآن.

واعتقد بوالو، رئيس المدرسة الكلاسيكية ومشترعها الأول أن «سنَّا» مدينة بوضعها لمعركة «السيد» وصاغ هذه الفكرة في بيت من الشعر هو:

Au Cid Persécuté, Cinna doit sa naissance

– إن سنَّا مدينة بولادتها لما عانت السيد من الاضطهاد.

أما العوامل التاريخية فهي أن حركة عصيان نشبت في منطقة نورمنديا عام ١٦٣٩، فقمعها الوزير ريشليو قمعًا داميًا، ونفى اثنين وعشرين من قادتها. ولما كان كورناي نورمنديًا، فقد اختار موضوع سنَّا الذي يمجد الحلم أملًا أن يستدر عطف الكردينال الوزير على مواطنيه المنفيين، فتأثر ريشليو، وأثنى على الشاعر بلا تحفظ، ولكنه لم يَلِنْ، ولم يصفح عن المنفيين.

قيمة «سنَّا»

نجحت هذه المسرحية نجاحًا يضارع نجاح سابقتيها: السيد وهوراس، فمثلت مائة وست وستين مرة، وأعرب النقاد عن إعجابهم بما فيها من:
  • تصوير الأخلاق والطباع تصويرًا مدروسًا، دقيقًا، عميق الغور، يبرز المزايا الخلقية، والخفايا النفسانية ابرازًا يزدان بروعة البيان، وسمو المناقب.

  • النقاش السياسي، وقد حذقه كورناي وأبدع فيه، وهو الذي نال جائزة في البلاغة والبيان والخطابة، إذ كان تلميذًا، وأحرز إجازة الحقوق في الثامنة عشرة من عمره، فجاء نقاشه السياسي متسمًا بما فُطر عليه من الفصاحة، وقوة الحجة، وسداد الرأي، وبعد النظر.

  • الإنشاء الزاخر بالقوة والإشراق، إن في رواية الحوادث، أو في الحوار، أو في عتاب الامبراطور، أو في رد فعل الندامة في نفس سنَّا.

وإذا كانت اميلي حبيبة سنَّا قد تميزت بقوة الارادة، والعجرفة وصلابة العود على مفهوم مخطئ للشرف، إلى جانب حب لاهب يقرب من الهيام، فإن أغسطس — وهو بطل المسرحية — يعطينا مثلًا عن «حاكم» ينشد الكمال. فهو سيد نفسه، مسيطر على أعصابه، يكبت عواطفه في سبيل الحق، ويقدس الواجب إلى الحد الأقصى، ويتحلى بالحلم الذي يتجاوز كل تخم. وهذا ما نلمسه في عفوه عن سنَّا، ورغبته في التخلي عن السلطة، وندمه على قسوته السابقة، مما جعله أنبل وجه، ليس في مسرحيات كورناي فحسب، بل في مختلف مسارح العالم والتاريخ.

أما سنَّا، وهو شخصية ثانوية بالنسبة إلى أغسطس، فإنه ما نقم على سيده، والمحسن إليه، وولي نعمته إلا استرسالًا منه في حب اميلي، فأقسم لها بقتل الامبراطور انتقامًا لأبيها فأصبح أسير قسمه، وهذا مفهوم آخر مخطئ لمعنى الشرف.

وأدوار الأشخاص الآخرين ليست سوى تكملة لتوالي حوادث القصة.

مقارنة لا بد منها

بقيت مقارنة بين كورناي ونده راسين يفرضها هذا البحث للإلمام بناحية بالغة الأهمية من المسرح الكلاسيكي الفرنسي.

قيل أن كورناي وراسين رميا إلى تثقيف مشاهدي مسرحياتهما، وتهذيب أخلاقهم، فانتهج كل منهما سبيلًا يختلف عن سبيل الآخر، إذ قدّم لنا كورناي قدوات صالحة، ومُثُلًا عليا، كأنه يقول لنا: افعلوا هكذا، انسجوا على هذا المنوال، بينما صوّر لنا راسين المثالب والعيوب، وحذرنا منها، كأنه يقول: اجتنبوا هذا لئلا تسقطوا.

فكان من الطبيعي أن يأتي مسرح كورناي صلبًا، بطوليًا، شامخ العنفوان، وأن يكون مسرح راسين عاطفيًا تتوالى عليه نوبات من الضعف والألم والأنين، فإذا براسين أقرب إلى الإنسان وإلى الشعور الإنساني، وإذا بكورناي يحلّق في ذرى يتصورها الخيال، وتعجز الارادة — مهما سمت — عن بلوغ رفعتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤