مقدمة

(نظرة عامة إلى العصور الوسطى – حياة دانتي – شخصيته – بعض مؤلفاته الصغرى – أصول الكوميديا – الكوميديا – ترجمة الجحيم، والدراسات الدانتية.)

***

يتشابه ثلاثةٌ من عظماء العالم في قوة الروح، ولطف الحس، وسعة الأفق، والثورة على القديم، وفي التطلع إلى بناء مجتمع إنساني مثالي، وإن اختلفت أداة التعبير عند كلٍّ منهم. فالأول دانتي أليجييري، الذي أراد في «الكوميديا» أن يقيم عالمًا جديدًا، أساسه العدالة والحرية والنظام والوحدة، والتطهر والصفاء والحب والأمل. والثاني ميكلأنجلو بونارُّوتي، الذي عبَّر في تماثيله الشاهقة وصوره الإلهية عن بناء عصر جديد، تسوده القوة والحرية والصدق والذوق الرفيع. والثالث لودفيج فان بيتهوفن، الذي هدفَ في ألحانه الرائعة إلى إقامة عالم مثالي، قوامه الحق والفن والحرية والسلام، وبلغ به الأمر أن تطلَّع إلى خَلق إله جديد! وفي كلٍّ من هؤلاء قوةٌ وضعف، وسذاجةٌ وحكمة، وبراءةٌ وإدراك عميق، وأسًى ونيرانٌ ودموع، وسخط ويأس ومرارة، وفلسفة وصوفية، وحب وصفاء وأمل وإيمان. خرج ثلاثتهم من الأسى والشجن بالصبر عليهما، وظفروا بالإبداع، وحلَّقوا في أجواز الفن الرفيع، بما لم يصل إليه غيرهم. صوَّروا الطبيعة، ورسموا الإنسان، ووصفوا الأرض والسماء، بالقلم والريشة والإزميل واللحن، وأخرجوا للإنسانية روائعهم الخالدة.

١

عاش دانتي أليجييري في النصف الثاني من القرن الثالث عشر، والربع الأول من القرن الرابع عشر، في عهد بدأت العصور الوسطى تُخفض فيه أشرعتها، وينبثق خلاله فجرُ عصرٍ جديد، عهد شهد ظهور اليوتوبيات، وتمثلت فيه آثار الماضي ووميض المستقبل. وكان ذلك عهدًا يشبه من بعض الوجوه القرن الثامن عشر في فرنسا، الذي مهَّد لعصر الثورة الفرنسية الكبرى. وإذا نحن ألقينا نظرة عامة إلى العصور الوسطى وجدنا إيطاليا والعالم قد تناولتهما أحداثٌ وظروفٌ شملت مختلف أوجه النشاط الإنساني، ومهَّدت جميعًا لظهور دانتي وعصر النهضة والعصر الحديث.

في ميدان السياسة، نجد الدولة الرومانية الغربية — بعد انقسام الإمبراطورية القديمة إلى شرقية وغربية — قد سقطت على أيدي البرابرة الجرمان سنة ٤٧٦. وأدَّى تدفق هؤلاء الغزاة إلى إحداث آثار عميقة في أوروبا وإيطاليا. وتعرَّضت إيطاليا لسيطرة القوط واللمبارد والفرنجة والألمان، فسادت بها حالةٌ من الفوضى والاضطراب زمنًا ليس بالقصير. ولم يستمر الأمر على ذلك النحو؛ إذ قامت محاولات لإيجاد نوع من الاستقرار السياسي، مثل ظهور الإمبراطورية الرومانية المقدسة، على أكتاف البرابرة الجرمان، التي شملت مناطق واسعة في أوروبا، وكانت إيطاليا جزءًا منها. ولكن سرعان ما أصابها التفكك والانقسام، وأصبح سلطانها اسميًّا، وعمل الملوك والأمراء على تحقيق مصالحهم الشخصية.

وفي السياسة الداخلية نجد أن نُظم الحكم قد تفاوتت في إيطاليا بين الديمقراطية وحكم الفرد. ونرى في فلورنسا مثلًا نهوض الكومون لحماية الشعب سليل اللاتين من طغيان النبلاء سلالة الغزاة الجرمان، ومن أطماع البابوية والإمبراطورية على السواء. ونجحت فلورنسا في إقامة دستور ديمقراطي، كما فُهمت الديمقراطية في ذلك العصر، وأصدرت ما يشبه إعلان حقوق الإنسان، وألغت رقَّ الأرض، وأعلنت أن الحرية حق طبيعي للإنسان، لا ينازعه فيه منازع، ولا يستند إلى إرادة الغير، وقالت إنها مصممة ليس على المحافظة على الحرية فحسب، بل على السعي إلى المزيد منها والتوسع فيها. وبذلك كانت فلورنسا سابقة، منذ القرن الثاني عشر للميلاد، على الثورة الفرنسية الكبرى. وامتازت البندقية بدستورها الذي يجمع بين عناصر الجمهورية والأرستقراطية والملكية، وذلك بمجلسها الكبير، ومجلس الشيوخ، ومجلس العشرة، والدوج الذي يُنتخب لمدى الحياة. ونجد في دوقية ميلانو مثالًا لحكم الفرد الذي يستند إلى قوة السلاح، على عهد آل فيسكونتي، وقد ظهر كلٌّ من هذه النُّظم وتطوَّر متأثرًا بالظروف المحلية، وأدَّى واجبه حسب روح العصر.

وفضلًا عن ذلك، فقد تعرَّضت الحكومات الإيطالية في الداخل والخارج للنزاع بين الجبلِّين أنصار الإمبراطور، والجِلْف أنصار البابا، وارتبطت به المصالح الشخصية والاقتصادية. وتدخَّل الأجانب في شئون إيطاليا تبعًا لمصالحهم. وقام كفاح مرير بين حكومات إيطاليا، مثل الكفاح بين فلورنسا وبيزا، وبين بيزا وجنوا، وبين جنوا والبندقية.

وفي إيطاليا ارتبط الدين بالسياسة كما لم يحدث في بلد آخر؛ وذلك أن البابوية حاولت أن تبذل جهد المستطاع لإيجاد حالة من الاستقرار في إيطاليا المضطربة. وقامت البابوية في ذلك بعمل خيري، ولكن أعوزتها وسائل الحاكم الزمني، أعوزتها فكرة الوراثة وما يرتبط بها من الاستقرار، وأعوزها نظام الحكم والقوة العسكرية، وبذلك وُجدت في ظروف لا تُحسد عليها، فاضطُرت إلى استخدام الجند واصطناع السياسة، وآزرت حزبًا على حزب، وحكومة على أخرى، ووقفت تُعارض أطماع الإمبراطورية. وأدت هذه الظروف إلى أن تخرج البابوية على واجبها الديني، كما انغمست في الحياة الدنيا، وخرج بعض رجال الدين على قواعد الدين، فأثار ذلك السخط في نفوس المخلصين للدين، وزعزع مركز الكنيسة في المجتمع الإيطالي.

عانت فلورنسا أهوالًا جِسامًا بسبب الكفاح الذي استعرَ بداخلها، واشتعلت بها نار الصراع الحزبي؛ بسبب مسألة زواج بين آل بووند لمونتي الجلف، وآل أميدي الجبلين. وتداول الجانبان النصر والهزيمة؛ ففي سنة ١٢٤٨ هُزم الجلف وطُردوا من فلورنسا، وفي سنة ١٢٥١ عاد الجلف منتصرين إلى فلورنسا. ثم انتصر الجلف مرة أخرى وطردوا الجبلين من فلورنسا، ومن بينهم فاريناتا دلي أوبرتي. وفي سنة ١٢٦٠ تجدَّد القتال، وانتصرت سيينا الجبلينية بتأييد مانفريد بن فردريك الثاني، في موقعة مونتأبرتي. وعُقد مجمعٌ من المدن الجبلينية، وتقرَّر هدم فلورنسا، ولكن فاريناتا دلي أوبرتي عارض هذا القرار بعزم شديد، وأنقذ فلورنسا من الدمار، وآثر بذلك مصلحة الوطن على مصلحة حزبه السياسي. ثم انتصر الجلف على الجبلين بمؤازرة الفرنسيين في موقعة بنيفنتو في سنة ١٢٦٨، التي هُزم فيها مانفريد وقُتل.

ونلاحظ من الناحية الاقتصادية أن إيطاليا بحكم موقعها الجغرافي كانت طريقًا للتجارة العالمية بين الشرق والغرب. وكان للإيطاليين في الشرق مراكز تجارية هامة. ولقد أدت الحروب الصليبية إلى نمو العلاقات التجارية بين الشرق والغرب. وظلَّت الجمهوريات والمدن الإيطالية محتفظة بمكانتها التجارية حتى كشف البرتغاليون طريق الرجاء الصالح، في النصف الثاني من القرن الخامس عشر. ولقد أدى تجمُّع الثروة المكتسبة من التجارة في أيدي النبلاء، إلى انصرافهم عن واجبهم الحربي، فاتخذوا لأنفسهم جندًا من المرتزقة. وعندما ضعفت قوتهم الحربية تأخر نفوذهم السياسي، وبذلك وُجدت الفرصة أمام الشعب للتغلُّب عليهم. وكذلك رفعت الثروة أفراد الشعب إلى مراكز ممتازة، فتغلبوا على النبلاء، أو عاشوا معهم جنبًا إلى جنب، فزال بالتدريج الحد الفاصل بين النبلاء والشعب. وعلى هذا نجد أن الثروة كانت من العوامل الفعالة في تغيير الميزان السياسي والاجتماعي في إيطاليا. وفضلًا عن ذلك، فقد أتاحت الثروة الفرصة لنشر العلم والأدب والفن. ومن الغريب في ذلك العصر أن أغلب التجار الأثرياء كانوا أصحاب فن وذوق، فعُنوا بالثقافة والآثار، واقتنَوا التُّحف والعاديات، وشجعوا رجال العلم والفن، عن إعجاب صادق وإيمان صحيح.

ومن الناحية العلمية العقلية، نجد أهل العصور الوسطى عامةً قد آثروا الإيمان على الفهم، والنقل على العقل، ولم يعرفوا في الغالب الابتكار والخَلق. على أن هذا لم يمنع بعض أنصار العقل من الدرس والبحث في نطاق تعاليم الكنيسة. ظهر مثلًا القديس أوغسطين في القرنين الرابع والخامس، ودعا إلى التعقل لبلوغ الإيمان، وإن كانت مدينة الله عنده هي السماء والكنيسة، ومدينة الشيطان هي الأرض. ولكن ما إن بلغت العصور الوسطى في أوروبا القرن الثاني عشر، حتى أخذ الفكر المسيحي يتغيَّر ويتشكَّل، نتيجةً للهدوء والاستقرار النسبي، وللتطور الطبيعي، وللتأثر بالفلسفة اليونانية، التي كانت الكنيسة قد وقفت في سبيلها، والتي بدأت بأفلاطون وانتهت إلى أرسطو. وقد ساعد فلاسفة العرب واليهود على تقريب هذه الفلسفة اليونانية إلى العقل الأوروبي، بفضل حركة الترجمة من العربية والعبرية إلى اللاتينية، في إسبانيا وإيطاليا على الخصوص، فضلًا عما قدَّموه من نتاجهم الفكري في الشرق والغرب. وفي القرن الثالث عشر — عصر العلم ودوائر المعارف — ظهرت ثمرات الفكر الوسيط، باتجاهاته المتنوعة. نادى الغزالي مثلًا بالتصوف والإيمان، بينما آثر ابن رشد العقل والمنطق، في سبيل الوصول إلى الله. وظهرت نزعةٌ قوية — تُساير ما وُجد من قبل — للتوفيق بين العقل والدين، وأسهمَ في ذلك ابن رشد وابن ميمون. وأفاد ألبرتو الكبير من شروح ابن سينا وابن رشد لأرسطو، وحاول أن يُكمل فلسفته بمستكشفات العلم، واستخدم الفلسفة في فهم اللاهوت. وكذلك تأثر القديس توماس الأكويني — زعيم الفلسفة المدرسية — بروح العصر، وعمل على التوفيق بين العلم والدين، وقام بتنصير فلسفة أرسطو وجعلها ملائمة لتعاليم الكنيسة، وإن كان قد خالف ابن رشد وعارضه في بعض نزعاته العقلية. ثم جاءت جهود طائفة من أحرار الفكر، وأولهم روجر بيكون الإنجليزي، الذي دعا إلى التجربة في العلم، ويُعتبر أبا العلم الحديث. وظهر أبيلار الفرنسي، الذي قال بأنه لا يجوز للإنسان أن يؤمن دون أن يفهم، وبذلك جعل العقل قبل الإيمان بشكل صريح. ووجدت هذه الآراءُ بيئةً صالحة في إيطاليا؛ إذ كانت قد نشأت بها أقدم جامعة في العالم بالمعنى الحديث، في بولونيا، في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، كما ذاعت هذه الآراء في الجامعات الأخرى التي نشأت في إيطاليا وأوروبا، مثل بادوا ونابلي وفلورنسا وباريس وأكسفورد وكمبردج، وأسهمت جميعًا في بعث الحركة العلمية في إيطاليا وأوروبا.

ومن الشخصيات البارزة في هذا العصرِ الإمبراطورُ فردريك الثاني، من أسرة هوهِنْشتاوفن، الذي ترك أملاكه في أوروبا وعاش في نابلي وصقلية. كان فردريك رجلًا واسع الأفق متعدد الجوانب، وسماه دانتي بالرجل العالم، وسماه أهل العصر «أعجوبة الدنيا». حاول فردريك توحيد إيطاليا والسيطرة على البابوية، فلعنه البابا، واعتبره أسوأ من الشيطان. والْتقى فردريك برجال الملك الكامل في الشام سنة ١٢٢٩، لا للحرب والقتال، بل لعقد معاهدة تجاه أعدائهما من المسلمين والمسيحيين على السواء. ويُعتبر ذلك نقطة تحوُّل في العقلية الأوروبية، في عصر الحروب الصليبية. وفي ناحية العلم، كان فردريك يجمع حوله العلماء من كل جنس ودين، ودرس بنفسه علوم العصر، وتعلَّم العربية، وتأثر بآراء ابن رشد، وقام بتجارب في النبات والحيوان والفلك والإنسان. وشهد عهدُه فترةً هامة في ظهور اللغة الإيطالية الوليدة. ويعدُّه بعض المؤرخين أول رجل في العصر الحديث.

ومن الناحية الروحية النفسية، اعتبر أهل العصور الوسطى عامةً الحياةَ على الأرض حياةً مؤقتة عادمة الأهمية، ومرحلةً للحياة الآخرة السعيدة، وأعوزتهم الشجاعة والثقة القائمة على الإدراك الصحيح، فخضعوا للخرافات، ولم يتذوقوا جمال الطبيعة، وعدوا الحياة من أسرار الله التي لا يجوز الكشف عنها، وكانت الغابات والجبال عندهم مأوًى للشياطين. ولم يعرفوا الفيض والزيادة عن الحاجة، ولم يُسخِّروا العلم في سبيل الحياة المادية، فعاشوا على الكفاف، وأحسُّوا بالتبرُّم والسخط، ودفعهم ذلك إلى الخروج على الحياة التي عاشوها، كرد فعل طبيعي لما سيطر على نفوسهم زمانًا طويلًا. وتفاوت ما دار بخَلَد الناس من الخواطر والاتجاهات في سبيل الخروج على تقاليد العصور الوسطى، وإيجاد مجتمع جديد.

ظهر في القرن الثاني عشر في تسكانا ولمبارديا، وفي أنحاء من أوروبا، جماعةٌ من المبتهجين الممتعين بالحياة، الذين تأثروا بالأبيقورية، ودعَوا إلى التمتع بملذات الحياة على الأرض لا في ملكوت السموات، وأظهروا روحًا وثنية ومجَّدوا آلهة اليونان، وامتازوا بالابتكار والسخرية، وحملوا على تعاليم الكنيسة، وهاجموا الفلسفة المدرسية وتقاليد العصور الوسطى، وبذلك كانوا رُوادًا لأحرار الفكر في العصور الحديثة.

وظهر أنصار بيترو والدو في فرنسا وإيطاليا، الذين دعَوا إلى الرجوع بالمسيحية إلى نص الكتاب المقدس، وقالوا بأنه لا يجوز أن تكون هناك صلةٌ بين الإنسان والله عن طريق رجل الدين. وقام في جنوبي إيطاليا الراهب يواكيمو دا فلورا، الذي تأثَّر بثقافة اليونان وبيزنطة والعرب والنورمان، وعامل الناس على اختلاف أديانهم بالعطف والرحمة والتواضع، وقال إن حرية الإنسان من روح الله. وتكلم بروح يسودها التشاؤم، وأعلن أن العالم تنتظره أيام حالكة السواد، وأنه يسمع نذير العاصفة من بعيد، وأن ضمير الإنسان سيتغير ويتطور بالتسامي والتصوف، وسيكون الرهبان المخلصون على رأس العالم الجديد، الذي سيُصبح أمل الإنسانية المرتقب. وظهر في وسط إيطاليا القديس فرنتشسكو الأسيسي، الذي لم يعرف السخط والتشاؤم، ولم يهدد العالم بالويلات، بل تغنى بجمال الطبيعة، ومجَّد الله في كل مخلوقاته من إنسان وحيوان ونبات، وامتاز بشعوره الإنساني، فأحبَّ الناس جميعًا حتى أولئك الذين كرههم المجتمع، وعامل الأخيار والأشرار والأغنياء والفقراء بالبر والرحمة، ودعا إلى إصلاح المجتمع على أساس من التفاؤل والحب والصفاء والأمل.

وإن كل هذه الاتجاهات المتفاوتة لَتدلُّ بوضوح على ما ساور نفوس أهل العصر من الحيرة والقلق، مع التطلُّع إلى بناء عالم جديد.

وأخيرًا، نلاحظ أن اللغة والأدب الإيطاليَّين قد تأخَّر ظهورهما عن نظيرَيهما عند سائر الأمم الأوروبية. ويرجع ذلك إلى أثر اللغة اللاتينية، التي لم تستطع إيطاليا — بحكم كونها مهد الحضارة الرومانية — أن تتخلص منها بسهولة، كما فعلت سائر أنحاء الإمبراطورية الرومانية. وكما يرجع هذا التأخر إلى ظروف إيطاليا السياسية، وما نالها من الاضطراب عقب غارات البرابرة الجرمان، والذي استمرَّ عدة قرون. منعت هذه العوامل الإيطاليين من ابتكار لغة جديدة في وقت مبكر، ولكنها احتجزت تلك المعاني الإنسانية التي جاشت في صدورهم، حتى تهيأت لهم فرصة التعبير عما في نفوسهم، وكان ظهور اللغة والأدب الإيطاليَّين على صورة فُجائية متدفِّقة.

في القرن الحادي عشر كتب الإيطاليون شعرهم باللغة الفرنسية، ثم كتبوه بلغة البروفنس، التي تأثَّر أدبها بأدب شعراء التروبادور، بما يحتويه من عناصر التراث العربي الشرقي، والذي تناول الطبيعة وعواطف الإنسان، ومما كان مخالفًا لتقاليد العصور الوسطى. وبذلك ساعد شعراء التروبادور في إيطاليا على إيجاد منفذ، يعبِّر الإيطاليون خلاله عما يدور بين جوانحهم. وفي أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر، بدأت تظهر اللهجات العامية المتعددة، التي كانت مزيجًا من اللاتينية ولهجات الغزاة البرابرة والتطورات المحلية.

وُجدت بعض مراحل مرت خلالها اللغة والأدب الإيطالي الوليد. قال المنشدون الدينيون أولًا شعرًا دينيًّا باللهجات العامية في بعض أنحاء إيطاليا. وظهر شعر يواكيمو دا فلورا الذي يهدد العالم بالويلات، كما نادى من بعده القديس فرنتشسكو الأسيسي في شعره بالحب والصفاء والأمل. ولقي ذلك كله سبيلًا سهلًا إلى قلوب الإيطاليين، الذين وجدوا فيه تنفيسًا عما جاش بين جوانحهم.

ثم جاءت المدرسة الصقلية، في النصف الأول من القرن الثالث عشر، وقد تأثر أدبها بالتراث اللاتيني واليوناني، وبثقافة الشرق والعرب والنورمان. وبدا في شعر هذه المدرسة عنصرٌ تقليدي، يتناول قصص العصور الوسطى، وأخبار الفرسان، وأساطير الشرق، والأخلاق والعلم، كما اشتمل على عنصر إنساني جديد يتناول بعض خفايا النفس البشرية، ومن شعرائها بييرو دلا فينيا.

وانتقل شعر المدرسة الصقلية إلى مدرسة بولونيا، في النصف الثاني من ذلك القرن، فاحتوى شعرها على كلا العنصرين؛ التقليدي والعاطفي الإنساني، ومن شعرائها جويدو جوينتزلي. واتخذت مدرسة بولونيا لهجة تُسكانا أداةً لها، وهي اللهجة التي ستصبح اللغة الإيطالية. ويرجع تفوُّق لهجة تُسكانا إلى أنها كانت بحكم موقعها المتوسط في إيطاليا، أبعد عن التأثر بلهجات الغزاة البرابرة، فأخذت تنمو وتتطور في بيئتها المحلية تطورًا تدريجيًّا أقرب إلى الاستقلال، حتى وصلت إلى مستواها الرفيع. يرجع هذا التفوق أيضًا إلى مركز تسكانا السياسي والمالي في المجتمع الإيطالي، ولظهور شعراء ممتازين من التسكان قالوا الشعر بلهجتهم العامية.

والمرحلة الأخيرة في هذا التطور اللغوي الأدبي هي مدرسة الشعر الحديث في تسكانا، التي نجد فيها كذلك آثار الشعر التقليدي، فضلًا عن شعر الطبيعة والعاطفة والإنسان. وكان من شعراء هذه المدرسة جويدو كافالكانتي ودانتي أليجييري.

هذا هو مُجمل الأحوال السياسية والدينية والاقتصادية والعلمية والنفسية والأدبية التي سبقت ظهور دانتي، وامتزجت كلها وتفاعلت، وعبَّرت جميعًا عن الاتجاه إلى تغيير المجتمع الإنساني وتطوره. وقد أدَّت العصور الوسطى واجبها وتطوَّرت خلال هذه العوامل إلى عصر النهضة، فالعصر الحديث. ولقد كان لظروف الحياة الإيطالية العنيفة المتنوعة المتعارضة المتفاعلة المختلفة المؤتلفة، بحسناتها وسيئاتها، أثرها الفعال في خَلق أجيال من العباقرة الإيطاليين، كانوا ثمرة العصر وبُناته على السواء، وأخرجوا نتاجهم الرائع في الفكر والعلم والأدب والتصوير والنحت والعمارة والسياسة والحرب … ومن هؤلاء دانتي أليجييري، الشاعر، الفنان، الجندي، السياسي، المصلح، المتصوف.

٢

معلوماتنا عن حياة دانتي قليلة، وتواجهنا فيها فجواتٌ ومتناقضات. وقد خلق بعض الكُتاب حوله جوًّا من الخيال والقصص، وتعسَّف بعضهم في دراسته. ولكن هناك من حاول فهمه على حقيقته، أو ما يقرب منها، ووصل بقدر المستطاع إلى دانتي الحي الواقعي.

وُلد دانتي في فلورنسا في أواخر مايو ١٢٦٥. وعُمِّد باسم دورانتي أليجييري، ومن المعاني التي تُقال في تفسير اسمه: حامل الجناح الباقي على الزمن. وهو ينتمي إلى أسرة يُقال إنها تنحدر من أصل روماني نبيل، وتُدعى أسرة إليزيي التي ترجع إلى عهد يوليوس قيصر. ويقال إن جده كاتشاجويدا دلي إليزيي قد اشترك في الحملة الصليبية الثانية في القرن الثاني عشر. وفي وقت ميلاد دانتي كانت أسرته أسرة متواضعة، ملكت بعض الأرض في ريف فلورنسا. وماتت أمه مونا بيلا وهو في سن مبكرة. وتزوج أبوه أليجييرو دي بلنتشوتي امرأة أخرى، وكان يعمل مسجل عقود واشتغل بالربا. ويظهر أنه لم يولِ ابنه العناية الكافية، أو على الأقل كان هذا هو شعور الابن نحو أبيه. ومات الأب ولمَّا يكمل دانتي دور الشباب بعد.

أحبَّ دانتي في سن التاسعة بياتريتشي ابنة فولكو بورتيناري، من أثرياء فلورنسا، ويقال إنه رآها بعدئذٍ في سن الثامنة عشرة، وربما شاهدها في بعض أماكن من فلورنسا، في حديقة أو كنيسة أو في بعض الحفلات. وتزوجت بياتريتشي سيمون دي باردي الثري، ثم ماتت في شرخ الصبا، فحزن دانتي لموتها حتى مرض.

انصرف دانتي إلى الدراسة، وتلقى التعليم السائد في عصره، واختلف إلى دير الفرنتشسكان في فلورنسا، حيث درس تعاليم القديس فرنتشسكو، كما تردد على دير الدومنيكان، حيث درس تعاليم القديس توماس الأكويني. ودرس بعض الوقت في جامعتَي بادوا وبولونيا. وعكف دانتي على دراسة القانون والطب والموسيقى، والتصوير والنحت، والفلسفة والطبيعة والكيمياء والفلك، والسياسة والتاريخ واللاهوت. ودرس تراث اللاتين، وألمَّ بتراث اليونان والشرق بطريق غير مباشر، وعرف ثقافة العصور الوسطى، وتعلَّم الفرنسية ولغة البروفنس، ودرس أدب التروبادور، وأدرك آثار الأدب الإيطالي الوليد.

ونشأت صلة ود وصداقة بين دانتي وبعض البارزين في فلورنسا، ومن هؤلاء برونيتو لاتيني. وكان لاتيني موظفًا في الحكومة، وقام بسفارة لدى ألفونسو الحكيم ملك قشتالة، وطُرد من فلورنسا بعد موقعة مونتأبرتي، وعاش في باريس بعض الوقت، ثم عاد إلى فلورنسا حيث شغل بعض الوظائف. وكتب لاتيني فيما كتب قصيدة إيطالية تُسمَّى «الكنز الصغير»، وتُعَد دائرة معارف صغيرة، وتحوي فكرة «الكوميديا»، وفيها الغابة الموحشة، وأحاديث عن الله وخَلق الإنسان والكواكب، وعن الفضائل، ويقابل فيها المؤلِّف عددًا من النساء اللائي يوجهن إليه الحديث والنصح، ويصحبه بعض الوقت أوفيديوس الشاعر اللاتيني، الذي يشرح له لذة الحب وأخطاره. وكان لاتيني أستاذ دانتي الروحي، وهو الذي شجعه على دراسة التراث اللاتيني وفرجيليو بخاصة، وعلَّمه كيف يطلب المجد ويُخلَّد اسمه. ومن أصدقاء دانتي في فلورنسا جويدو كافالكانتي، الذي وضع شعرًا رقيقًا في الحب، يتفق مع أسلوب مدرسة الشعر التسكاني الحديث. وعلَّم كافالكانتي دانتي أسرار الشعر، و«أن الحب والقلب الرقيق شيءٌ واحد».

fig1
دانتي.

هكذا كان دانتي رجلًا واسع الثقافة، دءوبًا على القراءة والدرس، وكان يجد لذةً كبرى في هذه الدراسات المتنوعة، وفي قول الشعر، واستعان بذلك على مواجهة كثير من المصاعب والمِحَن التي انصبَّت عليه في حياته القاسية، فوجد فيه ملجأ آمنًا مما ناله من الويلات.

ولم يقتصر دانتي على حياة الدرس والشعر، بل اشترك في الحياة العسكرية، وكان فارسًا ومقاتلًا شجاعًا. وحدث في سنة ١٢٨٥ أن تجدَّد توتر العلاقات بين الجلف والجبلين في إيطاليا، وتدخَّل في السياسة الإيطالية شارل الثاني الفرنسي، الذي آزر الجلف على الجبلين. وتجمَّع الجلف بزعامة فلورنسا، وتكتل الجبلين بزعامة أريتزو، والْتقى الجانبان في موقعة كامبالدينو في سنة ١٢٨٩. وفي هذه المعركة قاتل دانتي بشجاعة في طليعة فرسان فلورنسا، وتحمَّل هجوم فرسان أريتزو العنيف، ورأى تراجع فرسان فلورنسا خلف مُشاتهم لإعادة تنظيم صفوفهم، وشهد تأرجح المعركة وتطورها، وشارك في إحراز النصر الفلورنسي. وكذلك اشترك دانتي في القتال ضد بيزا، وأسهم في حصار قلعة كابرونا، الذي انتهى بسقوطها في أيدي القوات الفلورنسية، فكان دانتي في ذلك جنديًّا لا يتأخر عن أداء واجبه وقت الحرب.

واشترك دانتي في حياة المجتمع، واختلط بالشباب الفلورنسي، وتمتع بملذات الحياة. ثم تزوج جيما دوناتي. ولا نكاد نعرف شيئًا عن حياته في أسرته؛ إذ لم يكد يشير في آثاره إلى الحياة الزوجية. ولا نعلم هل فعل ذلك على طريقة شعراء التروبادور، الذين آثروا أن يُبقوا حياة الأسرة بعيدة عن الشعر والأدب، أو أن هناك من الأسباب الخاصة ما حمله على ذلك. وعلى كل حال، فإن جيما كانت امرأة صالحة، من أسرة طيبة ذات نفوذ في المجتمع الفلورنسي. وأنجب دانتي في نحو عشر سنوات من الحياة الزوجية ثلاثة أبناء على الأقل؛ بيترو وجاكوبو وبياتريتشي. وعاش في أسرته حياة معقولة. ولكن يظهر أن دانتي لم ينعم بالسعادة في أسرته؛ ربما لأن جيما لم تُقدِّر إحساسه الشاعري، ولم تدرك ما انطوى عليه من عبقرية، وإن كانت سترعى مصالح الأسرة عندما يتعرَّض دانتي للأذى وحياة المنفى والتشريد.

وسجَّل دانتي اسمه سنة ١٢٩٥ في نقابة الأطباء والصيادلة، التي كانت تشمل تجارة الجواهر والصور والكتب، وإن لم يمارس هو إحدى هذه المهن. وبذلك أمكنه أن يدخل الوظائف العامة والحياة السياسية، تبعًا لقوانين ذلك العهد. واشترك دانتي في بعض اللجان والمجالس الحكومية، فأصبح عضوًا في مجلس قبطان الشعب، ثم عضوًا في مجلس المائة. وأرسلته حكومة فلورنسا في سفارات إلى بعض المدن الإيطالية. ذهب مثلًا إلى سيينا لتسوية بعض مشاكل الحدود، وسافر إلى بيرودجا لكي يُعيد بعض المواطنين الفلورنسيين إلى وطنهم، وذهب إلى فرارا لكي يهنئ المركيز ديست بزواجه، وقصد إلى سان جيمينيانو لتدعيم حلف الجلف ضد الجبلين. وظهر اسم دانتي في سجلات الحكومة، يُبدي رأيًا، أو يدافع عن فكرة، أو يستدين مبلغًا من المال لعدم كفاية إيراده. ولما عُرف أنه رجلٌ مفكر، وشخص عملي، وعلى صلات طيبة بأفراد ممتازين، وأنه شاعر مثقف، اختير عضوًا في مجلس السنيوريا، الذي يمثل سلطة الحكومة العليا في فلورنسا، من ١٥ يونيو إلى ١٥ أغسطس سنة ١٣٠٠، تبعًا للدستور الفلورنسي، الذي اقتضى هذا التغيير السريع منعًا من الطغيان السياسي. وأبدى دانتي في الوظائف والمهام التي عُهد بها إليه رجاحةَ العقل وشجاعة الرأي والوطنية، وكان يُؤثِر المصلحة العامة على المصالح الخاصة، واعتُبر من أكفأ رجال السياسة في زمنه.

كانت فلورنسا في القرن الثالث عشر مدينة ناجحة ذات قوة حربية، وثروة متزايدة، وأخذ نجمها السياسي يعلو في الأفق، ومع ذلك فقد سادها الخلاف الحزبي بين آل تشيركي زعماء الجلف، وآل دوناتي زعماء الجبلين. وكانت بستويا تعاني من شقاق داخلي، شطرَ الجلف إلى حزبَي البيض والسود. ودعت بستويا فلورنسا أن تتولى حكمها بعض الوقت، على طريقة العصر، لتوطيد السلام والأمن بها. ونقلت حكومة فلورنسا بعض زعماء الجانبين من بستويا إلى فلورنسا، للعمل على استتباب وسائل الأمن. ولكن نتج عن ذلك إذكاء النزاع الحزبي العنيف في فلورنسا ذاتها، وانضم آل تشيركي إلى البيض، وآزر آل دوناتي السود، الذين كانوا أقرب إلى مسايرة السياسة البابوية، وبذلك أصبحوا أصحاب النفوذ في روما. وحدث بين البيض والسود في فلورنسا صدام مسلح، وحاول السود القيام بانقلاب لتولي الحكم، ولكن حكومة فلورنسا سيطرت على الموقف، وقرر مجلس السنيوريا، ودانتي عضوٌ فيه، نفي بعض زعماء الجانبين فترة من الزمن؛ تخفيفًا من حدة النزاع الحزبي، وكان من بين المنفيين جويدو كافالكانتي صديق دانتي، الذي مرض بالملاريا في منطقة ساراتزانا، ورجع بتدخل دانتي إلى فلورنسا، حيث مات بعد قليل.

لم يسكت السود على هذه الحال، بل عملوا على إعلاء شأنهم، وزاد اتصالهم بالبابا في روما. وحدث أن طلب بونيفاتشو الثامن، على عادة البابوات في ذلك العصر، أن تُقدِّم حكومة فلورنسا مائة فارس للقيام بالخدمة العسكرية على الحدود التسكانية. واتجهت الحكومة كالعادة إلى إجابة طلب البابا. ولكن دانتي وقف يُعارض أغلبية أعضاء مجلس السنيوريا، وحاول الدفاع عن مصالح فلورنسا في وجه المطامع البابوية، التي كانت آخذة في الازدياد. وعمل دانتي على أن يوجد الوحدة السياسية في فلورنسا، وبذل المستطاع لكي يحمل مواطنيه على تناسي الخلافات والأحقاد في سبيل مصلحة الوطن، ولكن دون جدوى، وذهبت دعوته أدراج الرياح، واتسعت شُقة الخلاف بين فلورنسا وروما، فأرسلت حكومة فلورنسا وفدًا إلى روما، للوصول مع البابا إلى اتفاق يصون المصالح، وكان من أعضائه دانتي.

واجه دانتي البابا بشجاعة، ولم يذعن لمطالبه، وبذلك أخفق الوفد في أداء مهمته. واستبقى البابا دانتي بعض الوقت، لكي يبعده عن مسرح الحوادث في فلورنسا. وخاطبت روما دانتي في وحدته بكلمات العظمة المسطرة على آثارها، والتي تحفظ ذكريات قيصر وأغسطس وشهداء المسيحية الأوائل. وكان البابا قد طلب وقتئذٍ إلى شارل دي فالوا، الأمير الفرنسي، أن يسير إلى فلورنسا، لكي يُعيد إليها السلام. وانضم السود إلى شارل، وهُزم البيض المتحمسون لقضية فلورنسا، وشوهد الجبن والخوف والخنوع، والتحول السريع لإرضاء السيد الجديد. وسيطر السود على الموقف بمعونة شارل. وصدرت أحكام للتنكيل بالبيض، ومن بينهم دانتي. اتُّهم دانتي في يناير سنة ١٣٠٢ بمعارضة قدوم شارل دي فالوا إلى فلورنسا، وبارتكاب الغش والسرقة، وباستخدام سلطان وظيفته في ابتزاز الأموال عندما كان عضوًا في مجلس السنيوريا. وفُرضت عليه غرامةٌ قدرها خمسة آلاف من الفلورينات، تُدفع في ثلاثة أيام، وتقرر عزله من الوظائف، ونفيه مدة سنتين. وعندما وصل دانتي إلى سيينا عرف بما ناله، فلم يدخل فلورنسا. وصدر في مارس سنة ١٣٠٢ حكم جديد يقضي بمصادرة أملاكه، وبإحراقه حيًّا إذا وقع في يد الحكومة. وكان ذنبه الحقيقي معارضة سياسة البابا والدفاع عن مصالح فلورنسا، فلقي جزاء ذلك حكم النفي والقتل، وحُرِّم عليه إلى الأبد رؤية وطنه، الذي هو نصف الحياة لمَن له قلب. ومرَّت بباصرة دانتي رؤى الصبا، وذكريات الحب والأهل والأصدقاء، وذكريات فلورنسا بقصورها وجسورها وطرقها ونواحيها المنعزلة، وبدأ حياة المنفى والتشريد.

لم يتبادر إلى ذهن دانتي لأول وهلة أنه لن يرى فلورنسا إلى الأبد. وكان حكمها عليه بالغش والسرقة والرشوة أسوأ عنده من الموت. والْتقى دانتي بالمنفيين من فلورنسا من آل تشيركي وآل أوبرتي وآل أباتي، الذين اجتمعوا في أريتزو الجبلينية، التي عطفت على هؤلاء الجلف المنفيين، ورحبت بمحاربة فلورنسا من جديد. وفي تلك الأثناء عرف دانتي عمدة أريتزو أوجوتشوني دلا فادجولا، ونشأت بين الرجلين صلة وطيدة، فأهدى إليه «الجحيم». واختار المنفيون من بينهم اثني عشر عضوًا، منهم دانتي، ليعملوا كمجلس يدبر شئونهم. وقرر المنفيون مهاجمة فلورنسا، ووُضعت تفصيلات الخطة لتنفيذ ذلك الهجوم. وتجمعت قوات من الجبلين والبيض من بيزا وبولونيا وبستويا، وكان عليها أن تجتمع في مكان قريب من فلورنسا في تاريخ محدد. ولكن تقدم بعضها وتأخر بعضها الآخر، وهجم الفلورنسيون البيض قبل وصول الإمدادات الضرورية، ودخلوا فلورنسا من باب سان جالو، ووصلوا إلى سان جوفاني. ولكن هذه القوات المتقدمة من البيض لم تستطع الصمود أمام الفلورنسيين السود، فانسحبت بعد أن تكبدت خسائر فادحة. ووجد دانتي أن الفلورنسيين المنفيين لا تسودهم خطةٌ موحدة، ويُعوِزهم الإدراك الصحيح، ورأى المنافسة تدب بينهم وبين حلفائهم من الجبلين. وكرهه مواطنوه المنفيون لصدقه وصراحته، وربما فكروا في قتله، وكان يتمنى أن يزول هذا الشقاق كله، وأن يعود السلام إلى وطنه، فابتعد عن هؤلاء المنفيين، وجعل من نفسه حزبًا هو العضو الوحيد فيه!

حياة دانتي غامضة بعد هزيمة الفلورنسيين المنفيين. يقول عن نفسه إنه انتقل من مكان لآخر، كسفينة دون شراع أو ملاح وسط العاصفة الهوجاء. ومن المعروف أنه ذهب إلى فيرونا سنة ١٣٠٤، حيث أحسن بارتلوميو دلا سكالا استقباله. ولكنه غادرها بعد قليل، ولا يُعرف خط سيره على وجه التحقيق. يُقال إنه قضى بعض الوقت في لوكا، ثم ذهب إلى وادي لونيد جانا، وزار فورلي، وربما تولى التدريس العام أو الخاص في بولونيا، وزار بادوا، حيث الْتقى بجوتو، وأوحى كلٌّ منهما للآخر ببعض آثاره. وربما انتقل بعض الوقت إلى منطقة ليفورنو وجنوا. ويقول بعض الباحثين، ومن بينهم بوكاتشو وفيلاني، إنه ذهب إلى باريس ودرس في السوربون في الفترة من سنة ١٣٠٨ إلى سنة ١٣١٠. ويذهب آخرون إلى أنه بلغ أكسفورد في أسفاره، وإن كانت الأدلة على هذه الرحلات خارج إيطاليا غير وافية.

تولى هنري السابع عرش الإمبراطورية الرومانية المقدسة سنة ١٣٠٩. وكانت تُراوده مطامع وأحلام سياسية، وأراد أن يحقق السلام في أوروبا، وقرر أن يَعبُر الألب لزيارة إيطاليا، بعد انقطاع الأباطرة عن زيارتها منذ زمن غير قصير، وتُوِّج في ميلانو بتاج ملوك اللمبارد الحديدي سنة ١٣١١. عندئذٍ تجددت آمال دانتي في إقرار السلام في إيطاليا، وفي العودة إلى وطنه فلورنسا. كان دانتي يؤيد فكرة الإمبراطورية العالمية لتوطيد السلام وتحقيق السعادة على الأرض، فكتب رسالة إلى أمراء إيطاليا وشعوبها، يحضُّهم فيها على الانضواء تحت لواء الإمبراطور، ولكن لم يُصغِ إليه أحد، بل أخذت المدن الإيطالية تقف في وجه الإمبراطور، وعملت فلورنسا على تكوين الحزب الجلفي لمقاومته، وألغت أحكام النفي على الخصوم السياسيين لكي تتألف القلوب، باستثناء أقلية، كان منهم دانتي. واستولى الإمبراطور على بريشا، وأخذ دانتي يُحرضه على أن يضرب مباشرةً فلورنسا رأس الأفعى، ولكنه لم يستطع. وسار الإمبراطور بإزاء الشاطئ حتى بلغ روما، حيث تُوِّج بتاج الإمبراطورية سنة ١٣١٢. وأخيرًا قرر مهاجمة فلورنسا في أغسطس من تلك السنة. وتجمعت لديه قواتٌ من الجبلين والبيض. ولكن فلورنسا لم تستسلم، ونهضت للدفاع عن كيانها، وجمعت قوات من مدن الحلف الجلفي، ووقفت في وجه الإمبراطور. وظل هنري مترددًا أمام المدينة، وتفشى المرض بين قواته، فاضطُر إلى الرحيل عنها دون قتال في أوائل سنة ١٣١٣، واتجه صوب بيزا، ولكنه أُصيبَ بالحمى على مقربة من سيينا، ومات، ودُفن باحتفال مهيب في كاتدرائية بيزا. وبذلك أخفقت فكرة الإمبراطورية العالمية، وبكى دانتي بدموع الخيبة والغضب معًا.

وأخيرًا سنحت الفرصة سنة ١٣١٥ لعودة دانتي إلى وطنه، عندما وافقت حكومة فلورنسا على إرجاع بعض المنفيين إليها. وكتب أحد أصدقاء دانتي إليه بذلك، ولكن على شرط أن يعترف بأنه مخطئ، ويدفع غرامة مالية، ويطلب الغفران في حفل رسمي، حيث يسير النادمون في موكب علني وهم حفاة الأقدام إلى معمدان سان جوفاني. وصحيح أن العودة إلى الوطن، ورؤية ضفاف الأرنو، ولقاء الأصدقاء، كان حلمًا جميلًا لم ينقطع عن مراودة دانتي، ولكن نفسه الأبية لم تقبل هذه الشروط المهينة. فكتب إلى صديقه يتساءل: أهذا هو النداء المجيد الذي يرجع به دانتي إلى وطنه، بعد أعوام من حياة المنفى؟! وقال إنه من العار على من قضى وقته في الدرس الطويل أن يستجدي مثل هذا العطف والرحمة، وإنه إذا وُجدت طريقة أخرى فإنه مستعدٌّ لسلوكها بكل سرور للعودة إلى وطنه، وإلا فإنه لن يدخل فلورنسا أبدًا. وقال بمرارة إنه سيرى الشمس والنجوم في كل مكان! عندئذٍ حكمت فلورنسا بقطع رأس دانتي إذا هو وقع في يدها، وذلك في الوقت الذي كان يطلب فيه أن تضع فلورنسا على رأسه إكليل الغار!

مضى دانتي في حياة المنفى والتشريد. وامتطى أحيانًا دابة، وعبر الأنهار والتلال، وسار أحيانًا على قدميه، وقد تفقَّد دراهمه، وهو يحمل أوراقه وحوائجه القليلة. وسافر تارة ليلًا، وتارة أخرى نهارًا، وارتحل طورًا في رفقة بعض الأمراء أو التجار أو عامة الناس، وسافر أحيانًا وحيدًا، دون أن يحسن معرفة الطريق، وربما اعتدى عليه بعض الرعاع، وكان من المحتمل أن يهلك في بعض حله وترحاله. وانتقل دانتي في شمالي إيطاليا. ولقي أحيانًا الترحاب وحُسن الوفادة عند الأمراء، وعمل بعض الوقت سكرتيرًا ونديمًا ودبلوماسيًّا ومعلمًا لكي يكسب القوت. وعاش أحيانًا أخرى فقيرًا مشردًا، وجاع، وطلب المأوى، وتمزقت ثيابه، وما كان أشقَّ على نفسه أن يرتقي سلالم الغير طلبًا للطعام! وما كان أشدَّ ما يجد من ملوحة في خبز الآخرين!

عاد دانتي إلى فيرونا حوالي سنة ١٣١٦، وقضى بعض الوقت في ضيافة كانْ جراندي دلا سكالا، وكان أميرًا غنيًّا معجبًا بالعبقريات، واجتذب إليه الشعراء ورجال العلم والفن. وتوطدت الصلة بين الأمير ودانتي، حتى أهدى إليه «الفردوس»، وكان هو أول مَن يُطلِعه على أناشيد «الكوميديا»، ثم يستنسخها وينشرها بين الناس. وكان الأمير الشاب صاحب مغامرات في الحرب والحب، وكان أحيانًا يبدو متغطرسًا لا يبالي بشعور الآخرين، ولم يرتح دائمًا لقوة دانتي واعتزازه بنفسه. وصدرت عنه أحيانًا بعض أقوال وتصرفات جرحت شعور دانتي. وعهد إلى دانتي بتسوية بعض المشكلات البسيطة التي تنشب بين أهل فيرونا، وكان عليه أن يفرض عليهم بعض الغرامات، وكان ذلك عملًا قليل الأهمية بالنسبة لدانتي. واحتمل دانتي ما ضايقه إلى القدر الذي استطاعه. وأحس أخيرًا أنه أصبح عبئًا على الأمير، وشعر أن الوقت قد حان لكي يضرب في الأرض مرة أخرى، وأصبحت فيرونا سجنًا له بكل ما فيها من فن وذوق وجمال، فغادرها. ولكنه ظل يحتفظ بذكرى القصر الذي آواه وأحسن إليه، وبقي على تقديره لكانْ جراندي دلا سكالا.

انتقل دانتي بين بعض المدن، مثل مانتوا وجوبيو وأوديني. وما إن اجتاز حدود رومانيا حوالي سنة ١٣١٧ حتى سارع أميرها جويدو نوفلو إلى دعوته إليه في رافنا، وجنَّبه مئونة السؤال؛ لأنه كان رجلًا كريمًا شاعرًا يدرك ما يجول بنفوس العظماء من الأسى عند طلب المعونة. وكانت رافنا وقتئذٍ تعيش على ماضيها العظيم، وتضم ذكريات فرنتشسكا دا ريميني، التي كان الأمير من أسرتها. وقرر الأمير لدانتي مكانًا مستقلًّا لإقامته، وعهد إليه بالعمل أستاذًا وسفيرًا، حتى لا يعيش عالة على أحد. وأصبح لدانتي في رافنا أصدقاء وتلاميذ. ومن أصدقائه جوفاني دل فرجيليو، الأستاذ في بولونيا، وراينالدو كونكوريدجو، أسقف رافنا، وبيترو جاردينو. وجاء إليه ابنه بيترو، الذي كان محاميًا، وجاكوبو الذي تتلمذ عليه، وجاءت أسرتا الابنين، وقَدِمت عليه ابنته بياتريتشي، التي أصبحت راهبة في دير سان استيفانو دل أوليفيا في رافنا. واعتاد دانتي أن يسير طويلًا في غابة رافنا، وعلى شاطئ الأدرياتيك، ويصغي إلى صوت الريح بين الأشجار العالية، ويستمع إلى صفق الأمواج، ويفكر ويتأمل. وهكذا أَضفَت رافنا على دانتي السلام والهدوء في أواخر أيامه.

وحدث عراكٌ في البحر بين تاجرٍ رافنيٍّ وسفينة بندقية، انتهى بمقتل القبطان البندقي وبعض رجاله. فأدى ذلك إلى أن تقطع البندقية علاقتها السياسية برافنا، وهددت بإقامة حلف عسكري لمحاربة رافنا. عندئذٍ لم يرَ جويدو نوفاو بدًّا من أن يرسل سفيره دانتي إلى البندقية للعمل على تسوية الموقف. ونجحت سفارة دانتي في تخفيف حدة التوتر في العلاقة بين البندقية ورافنا، وأصبحت أساسًا لمفاوضات مقبلة بين الجانبين. ورجع دانتي وزملاؤه إلى رافنا بطريق البر، وعبروا منطقة ملأى بالمستنقعات، فأُصيبَ دانتي بالملاريا، ووصل رافنا مريضًا، ولم يحتمل جسده وطأة الحُمى، فأَسلَم الروحَ في ليلة ١٣-١٤ سبتمبر ١٣٢١. ومات دانتي ويداه فوق صدره، وكانت عيناه مغلقتين، ووجهه متصلبًا. مات ولم يكن يبدو أكان حيًّا أم ميتًا؛ لأنه كان ينام على هذه الصورة. وهكذا استراح أخيرًا دانتي العظيم.

وفي تلك الليلة لم ينم ولداه وابنته، ولم ينم أمير رافنا، ولم ينم مريدوه وأصدقاؤه. وأعلن جويدو نوفلو الحداد العام، وألقى رثاءً مؤثرًا أطرى فيه مزايا الشاعر العظيم، ووعد بإقامة قبر يليق بمقامه، ولكن حال عصف السياسة بحكمه دون تنفيذ ما وعد. وحمل جثمانَ دانتي صفوةٌ من أهل رافنا، ودُفن في كنيسة براتشافورتي للفرنتشسكان.

ويقص بوكاتشو رواية لا نعرف مداها من الصحة. يقول إن «الفردوس» ظل عدة شهور بعد موت دانتي ينقصه الأناشيد الثلاث عشرة الأخيرة، وبحث عنها أولاده ومريدوه دون جدوى. وظن بعض أن دانتي لم يكمل «الكوميديا»، وفكر ابناه في تكملتها على أحسن وجه مستطاع. وبعد عدة شهور ظهر الشاعر لابنه جاكوبو في الحلم — كما يروي بوكاتشو — وأخبره بمكان القصائد الناقصة في حائط بمنزل كان قد سكنه جاردينو، وهناك أمكن العثور عليها، وبذلك كملت «الكوميديا»!

أدركت فلورنسا بعد أكثر من نصف قرن من وفاة دانتي، ما ارتكبَته في حق ابنها العبقري من الظلم والجحود. وأرادت أن تُكفِّر عن خطيئتها، فعهدت إلى بوكاتشو، ثم إلى بيترو بن دانتي بدراسة «الكوميديا» للجمهور. وذاعت بالتدريج بين الناس، وانتشر صيتها في أنحاء من إيطاليا، فدُرست في أماكن كثيرة، مثل بولونيا وبيزا والبندقية وبياتشنزا … وكشف الناس في أبياتها عما خالج نفوسهم، واضطرم بين جوانحهم، فجَرَت على ألسنتهم وتغنَّوا بها. وزاد إحساس فلورنسا بجحودها، فحاولت أن تنقل رفات الشاعر لكي تدفنه في وطنه في حفل مهيب، ولكن رافنا عارضت أشد المعارضة، وبذلت فلورنسا جهودًا طويلة في هذه السبيل. وتدخل البابا ليو العاشر المديتشي في النصف الأول من القرن السادس عشر لنقل جدث الشاعر إلى فلورنسا، وسعى ميكلأنجلو لتحقيق هذا الغرض. ولم تستطع رافنا أن ترفض طلب البابا، وأوشك المسعى على النجاح، ولكن عند فتح مقبرته في رافنا وُجد التابوت فارغًا إلا من بعض عظام، ووقفت المساعي عند ذلك الحد.

وفي سنة ١٨٦٥، في فترة الاحتفال بعيد ميلاد دانتي الستمائة، أُقيمت بعض إصلاحات في كنيسة براتشافورتي، وظهر في أثنائها تابوتٌ خشبي داخل أحد الجدران، كان مكتوبًا عليه أن الأب أنطونيو سانتي كان قد أخفاه سنة ١٦٧٧، ووُجد به هيكلٌ عظمي، وافق قياس جمجمته قناع الموت لدانتي، كما اتفقت بقايا العظام التي وُجدت في عهد ليو العاشر مع هذا الهيكل المستكشف. وهذا يعني أن أحد القسس — وربما كان رئيس دير الفرنتشسكان — كان قد أخفاه في مكان ما في عهد ليو العاشر، ثم وضعه الأب سانتي سنة ١٦٧٧، حيث كُشف عنه سنة ١٨٦٥. ووُضعت بقايا دانتي هذه في تابوت من البلور ثلاثة أيام، ثم نُقلت في حفل مهيب إلى كنيسة براتشافورتي، وحضره مندوبو فلورنسا، ونُقش على تابوته: «ليست فلورنسا، بل أهواء الحزبية هي التي حكمت عليه بالنفي الدائم.» وأقامت رافنا برجًا تذكاريًّا به ناقوس من البرونز والفضة، أسهمت بلديات إيطاليا في نفقاته، وكانت فلورنسا قد شيدت قبرًا رمزيًّا لدانتي في كنيسة سانتا كروتشي، أقامه ريتشي سنة ١٨٢٩، ويتكون القبر من تابوت فارغ، يعلوه تمثالٌ جالس للشاعر، وقد تُوِّج بإكليل الغار، وإلى يمين التابوت تمثال سيدة واقفة، ترمز لإيطاليا، وتشير بيدها إلى الكلمات المحفورة أسفل تمثال دانتي، والتي تقول: «مجِّدوا الشاعر الأعظم»، تلك الكلمات التي جعل دانتي هوميروس يقولها في فرجيليو، في الأنشودة الرابعة من «الجحيم»، فاستعارتها إيطاليا لتقولها في دانتي. وإلى يسار التابوت تمثال سيدة أخرى، ترمز إلى فلورنسا، وهي منحنية أسفل التابوت، وبيدها إكليل الغار الذي كانت تود أن تضعه على رأسه حيًّا، وهي والهة تبكي، وستظل دائمًا تبكي، جزاء ما ارتكبت في حق ابنها العبقري من جحود ونكران للجميل!

٣

يقول بوكاتشو إن دانتي كان ذا وجه طويل وجبهة عريضة وأنف أقنى، وعينين لامعتين واسعتين، وذقن مُدبَّب، وكانت شفته السفلى أبرز قليلًا من العليا، وكان أسود الشعر، أسمر اللون، متوسط القامة. وعندما تقدمت به السن أخذ يسير في انحناء قليل، وكان في مشيته وقارٌ واتزان، وفي مظهره رقةٌ وعذوبة، وتبدو عليه علائم الحزن والتفكير والتأمل. وكانت ملابسه نظيفة مناسبة، وإذا تمزقت في أوقات الشدة أصلحها بنفسه. وكان يمتدح الطعام الطيب، ولكنه يقنع بأبسط الغذاء، ويأكل قليلًا، وفي ميعاد محدد. وكان قليل الكلام، وكانت قوته في الكلام والصمت على السواء، وكان يعرف قيمة الكلمة، ولم يكن يتكلم في الغالب إلا إذا سُئل، فكان يُجيب في أدب ورقة. وكان يتكلم أحيانًا بطلاقة وفصاحة.

إذا درسنا شخصية دانتي وجدناه رجلًا متعدد الجوانب، تبدو فيها أمارات التعارض. كان يدرس، ويغني، ويعزف الموسيقى، ويرسم، ويقول الشعر، ويشتغل بالسياسة، ويتمتع بالحياة ويزهد فيها، ويبدو خجِلًا صامتًا، ومع ذلك فهو جريء شجاع لا يرهب شيئًا. يبدو أحيانًا مسيحيًّا، وأحيانًا وثنيًّا، وتارة بابويًّا، وطورًا إمبراطوريًّا. والمرأة عنده نصف إلهة تقوده إلى الفضيلة والله، وهي أيضًا صخرةٌ أذلَّت كبرياءه وقادته إلى الشيطان. ويبدو صارم المظهر جاد الملامح، ويلوح شامخًا متكبرًا مشغولًا بأفكار عالية، ومع ذلك فهو وديع متواضع دمث الطباع. كان يقضي الساعات الطويلة عاكفًا على القراءة، فإذا تعب خرج إلى أحضان الطبيعة، ومشى مسافات طويلة، ونظر إلى السماء الصافية والسحاب المتغير والمرج الأخضر. وكان يجلس تحت الشجرة العالية، وينظر إلى أسراب الطير، ويلتهم الفاكهة الناضجة، ويقطف الأزهار الجميلة، ويرتشف النبيذ المعتق، ويعطف على الأطفال والمرضى والمحتاجين، وكثيرًا ما تطلَّع في الصباح إلى نوافذ الحسناوات، وترقب العذارى في الكنائس. وإن ما يبدو على دانتي من التعارض ما هو إلا مظهرٌ خارجي، والعباقرة فوق التقسيمات والمفارقات، وتتعاون آراؤهم وثقافتهم وأحاسيسهم على خَلق ثمراتهم. كان في دانتي عنصر من كل شيء، واستطاع أن يجعل من أحاسيسه المختلفة وما دار بين جوانحه مادةً لخلق «الكوميديا».

كان الحب عند دانتي هو الحياة، وما حياة شاعر بغير حب؟! وكان أهم حب عنده هو حب بياتريتشي — وموضع الكلام عنها في الفردوس الأرضي من «المَطهَر» وفي «الفردوس» — ولكن بياتريتشي لم تستطع أن تشارك دانتي في شعوره، بل سخرت من صدقه، وتقوَّلت عليه مع أترابها. وبدت له بياتريتشي في حياة المنفى كنجمة الصبح في صحراء الحياة. وقد بلغ حب دانتي لبياتريتشي حد الإعجاز، وفجَّر له ينابيع الشعر والفن. وهي عنده امرأة ناضجةٌ مكتملة، كما أنها مصدر الوحي والإلهام. وهي تطهِّر نفسه من الأدران، وتجعله قادرًا على رؤية الله، وتُحيله إلى عابد متصوف عاشق يقترب من الحبيب الأول.

ومع هذا فقد أحب دانتي غيرها من النساء. بكى عندما ماتت بياتريتشي، ولكنه كان في حاجة مُلحَّة إلى الحب. والْتقى عن طريق دموعه بغيرها من النساء. وربما لا يؤدي شيءٌ إلى الحب كما تؤدي الدموع مع الدموع، والزفرات مع الزفرات. أحب دانتي جنتوكا العذراء الصغيرة الجذابة. وأحبَّ فيوليتا التي جعلته يتنهد عند مرأى الورود. وأحب ليزيتا القوية الواثقة من نفسها. وأحب بيترا، المرأة الصخرة، وارتمى تحت قدميها، وظلت باردة أمامه كالصخر الذي يغرقه في أعماق البحر بعد النوء الشديد. وبذلك نحسُّ صدى الحب وشذا النساء في آثاره الرائعة. هكذا كان دانتي يعشق الجمال أينما وُجد، ويستجيب لنداء القلب، وما قلبه إلا جزءٌ من الطبيعة، يطير مع الرياح ويهتز مع النسيم، وينساب مع منحدرات المياه، ويشارك الثلج في نصاعته فوق قمم الجبال العالية، ويستيقظ مع الربيع الضاحك المزدهر.

fig2
دانتي وبياتريتشي عند جسر سانتا ترينيتا في فلورنسا.

وكان دانتي صاحب إحساس مرهف، جعله شديد التأثر، قادرًا على البكاء حتى يفقد الوعي. وكان له غرفةٌ يسميها غرفة الدموع. ويقول إن البكاء يجعله هشًّا متهالكًا حتى لا يكاد يعرفه أحد. ومن فرط الحزن يتحرك رأسه كأنه شيءٌ ثقيل لا حياة فيه. وتتعب عيناه من البكاء حتى تعجزا عن البكاء. بكى دانتي عندما أحب بياتريتشي، وبكى عندما فقدها سريعًا. وعندما تقدم في السن لم ينقطع عن البكاء، فكان يبكي في كهولته أحيانًا كما كان يبكي وهو طفل. بكى عندما أُهينَ شرفه، وعندما جاع وطلب المأوى، وعندما عجز عن تحقيق أمانيه. وبكى عندما كتب «الكوميديا». وبكى عندما شارك المُعذَّبين آلامَهم في «الجحيم». وبكى عندما عاتبته بياتريتشي في «المَطهَر». وبكى عندما سمع غناء الملائكة في «الفردوس». استخدم دانتي حساسيته المرهفة ودموعه المنهمرة في خلق «الكوميديا». والبكاء ميزةٌ ونعمة، ولا يمكن أن يكون البكاء غير جدير بالعظماء، ولكن ما أقسى بكاء الرجل المتكبر!

امتاز دانتي بالكبرياء ومدح النفس. كان مُعتزًّا بنفسه إلى حدٍّ جعله لا يحقد على الآخرين، وارتفع إلى المستوى الذي لم يجد عنده في البشر ما يحسدهم عليه. وكل رجال الفن الذين أُهينوا وجُرحت نفوسهم، عملوا لتأكيد ما مُنع عنهم، وكسبوا ثقة هائلة بنفوسهم، واعتزوا بملكاتهم، وأعلنوا عنها بالقول والعمل والإبداع، وكأن الفنان يقول لمن أساءوا إليه: إنكم لا تريدونني ولا تقدرون قدري، وإني أبدو أمامكم شخصًا نكرة، ولا مال عندي، ولست من أسرة بارزة، ولا سلطان لي، ومع ذلك فسيأتي اليوم الذي تُرغَمون فيه على إجلالي، وتسعَون إليَّ سعيًا، وسوف أقوم بخلق ما تعجزون عنه جميعًا، وتدركون أية رسالة انطوت عليها نفسي. هكذا أحس دانتي عندما عاش في المنفى، وعندما أخذ يكتب «الكوميديا». أحس دانتي بالتفاوت الهائل بين عبقريته وبين حياته الواقعة. وأخذ يمدح نفسه بنفسه، وإن كان قد اعترف بأن هذا لا يرضيه كل الرضا. قال دانتي إنه نابغة، وإن أسلوبه الجميل يضعه في مستوى هوميروس وفرجيليو، وإن كلماته ستصبح غذاءً للناس، وإنه صُلب لا يعبأ بالمصاعب، وإنه يتشرف بحياة المنفى. ونعَت «الكوميديا» بالمقدسة، وسمى نفسه بالحَمَل وسط الثعالب، وتكلم عن شجاعته في معركة كامبالدينو. كان دانتي يطمع في أن تُتوِّجه فلورنسا بتاج الشعراء. وبدا كأنه نبيٌّ أعزل، وملك بغير عرش. كان يحس أنه أعلى من الملوك والبابوات الذين عجزوا عن أداء واجبهم، وأصبحوا لا يصلحون للقيام بالمهام الخطيرة التي أُلقيت على كواهلهم. تكلم دانتي كإمبراطور وبابا، ولعن الملوك والبابوات. وتكلم باسم إيطاليا والعالم. فعل ذلك لإيمانه المطلق بأنه شاعرٌ عبقري، واعتبر أن مجد الشعراء أعظم من مجد الملوك والبابوات، واعتنق رأي أرسطو القائل بسيادة مَن له التفوق العقلي.

ونجد دانتي ساخطًا أشد السخط على المجتمع الذي عاش فيه. وكثيرًا ما بدا له العالم مليئًا بالأخطاء، وخِلوًا من كل فضيلة، واعتبر أعمال أكثر الناس تؤدي إلى انهيار المجتمع. وأثارت أعمال الملوك ورجال الدين في نفسه الاشمئزاز والسخط. واعتبر دانتي أغلب الرجال متغيرين متقلبين، وأكثرهم حيوانات بهيمية وأشبه بالموتى، والمبشرون والوعاظ كانوا عنده كالحيوانات، والقسس يملئون بطونهم التي لا تمتلئ، والبابا مُرتشٍ وخارج على تعاليم الكنيسة، والإيطاليون عنده لصوصٌ سِفلة وعبيد أذلَّاء، والفرنسيون متغطرسون، والإسبان بخلاء … وبذلك لم يكد يرضيه شيءٌ في زمانه، والحاضر عنده شرٌّ وفوضى ومدعاة للخجل. وكان دانتي يتطلع إلى ملجأ آمن في زوايا الماضي وثنايا المستقبل. لم يرضَ عظماء الرجال عن الواقع لأنهم أدركوا بإحساسهم المرهف ما لم يدركه غيرهم، ورأَوا بعيونهم الصافية ما عجز أهل العصر عن رؤيته. وليس من الإنصاف أن نعد دانتي متشائمًا، وأولى بنا أن نعده فوق التشاؤم والتفاؤل؛ إذ لم يكن سخطه تشاؤمًا ويأسًا من الحياة، ولكنه كان حافزًا على الإصلاح والتغيير. وسيحاول دانتي، على طريقته، إصلاح الناس والمجتمع بالشعر الرائع والفن الرفيع.

كان شعور العنف والقسوة جزءًا من شخصية دانتي المتعددة الجوانب، إلا أن ذلك كان شعورًا قوامه الرحمة، ويهدف إلى الخير والمصلحة. وهو لم يكن يقسو على أحد في الحياة الواقعة، ولكنه اتخذ من شعور القسوة عنصرًا في خَلقه الأدبي، وقد عبَّر عن ذلك في آثاره الرائعة. عندما قست عليه بيترا ولم تُبادله حبًّا بحب، قال إنها إذا وقعت في يده فلن يكون رحيمًا بها، وسيعاملها كالدب عندما يمزح. وفي «الجحيم» عامل بوكا دلي أباتي بعنف وقسوة، وانتزع شعر رأسه لأنه خان قضية الجلف. وعندما سأله ألبريجو دي مانفريدي أن يزيل عن عينيه الثلج المتجمد، حتى تجد دموعه لها مخرجًا، سخر به ولم يجب سُؤله، واعتبر أن من الكياسة والذوق أن يكون قاسيًا معه؛ لأنه غدر بالأصدقاء. وفي «الفردوس» امتدح دانتي القديس دومنيكو لأنه كان قاسيًا على أعدائه.

وكذلك كان حب الانتقام عنصرًا هامًّا في شخصية دانتي، وإن لم ينتقم من أحد في الحياة الواقعة. وقد عبر في آثاره عن لذته ورغبته في الانتقام. قال إن الإنسان ينال شرفًا عظيمًا إذا انتقم. وتكلم في «الجحيم» عن الانتقام الإلهي. ولم يجعل في «المَطهَر» امرأة ثكلى تطلب العدالة من الإمبراطور تراجان، بل جعلها تطلب الانتقام من قاتل ابنها؛ لأن العدالة قد فات أوانها، ولن يُعوِّضها شيء عن موت ابنها. وفي «الفردوس» يجعل دانتي الإمبراطور جستنيان ينطق بأن الانتقام مجد. وتتكلم بياتريتشي في السماء عن عدالة الانتقام. وارتفع دانتي بالانتقام إلى الله ذاته، الذي يغضب من خطايا البشر، فيسلِّط عليهم عذابه وانتقامه. وتحوي «الكوميديا» كلها معنى الانتقام، فهي انتقامٌ مثالي قدَّمه الفنان لنفسه وللناس. وإن كان دانتي قد امتدح في «المَطهَر» مَن صفح وعفَّ عن الانتقام، وعذَّب المنتقمين وطهرهم من الرغبة في الانتقام.

وكان شعور الأبوة والبنوة جزءًا واضحًا في شخصية دانتي. وهو قد فقدَ عطف الأمومة والأبوة في سن مبكرة. وجرب حياة الأسرة، وعاش في المنفى بعيدًا عن أبنائه. وشعر دائمًا أنه في حاجة إلى أن ينطق بلفظ الأم والأب، وأن يسمع نداءهما له. وقد عوَّض فرجيليو دانتي قدرًا كبيرًا من الحنان الأبوي الذي افتقده في أثناء حياته. في «الجحيم» يناديه فرجيليو ﺑ «يا ابني»، و«يا بُني الصغير»، و«يا ابني الحلو»، وينادي دانتي فرجيليو ﺑ «يا أبتي»، و«يا أبي الحبيب»، و«يا أبي الحلو العزيز»، و«يا مَن أنتَ أكثر من أب». وهو يحنو عليه ويرشده ويقبِّله ويحميه من الأخطار. واعتبر دانتي فرجيليو بمثابة الأم، عندما تفزع على صوت النيران وتهرب بولدها بعيدًا عن ألسنة اللهب. وكذلك يجعل برونيتو لاتيني يناديه بأيْ بُني. وهكذا ينطق كاتشاجويدا وآدم والقديس بطرس في «الفردوس».

كان دانتي شجاعًا جريئًا لا يرهب شيئًا في حياته العملية. فقد عارض سياسة بونيفاتشو الثامن، وحاول الدفاع عن مصالح فلورنسا، وبذلك وضع دانتي نفسه أمام قوة هائلة لم يكن يستطيع إنسانٌ أن يقف في سبيلها، ولم تكن هناك موازنة بين قوة الرجلين في المجتمع، ومع ذلك فقد وقف الرجلان وجهًا لوجه، ونظر كلٌّ منهما للآخر محاولًا تغليب فكرته. وقف البابا غاضبًا متكبرًا، ووقف دانتي جريئًا شجاعًا. قال البابا: «لماذا أنتم معاندون؟ اخضعوا لي؛ إذ لا غرض لي سوى توطيد السلام في فلورنسا.» ولكن دانتي كان يعرف أنه يريد توطيد السلام البابوي، فلم يُسلم ولم يُذعن. تشابه الرجلان في الصلابة والطموح والكبرياء، ولكنهما اختلفا في كثير من التفصيلات. كان بونيفاتشو رجلًا قويًّا بمركزه وسلطانه، غنيًّا بالذهب، وحوله الأمراء والنبلاء، على حين لم يكن لدانتي ثروة ولا سلطان. كانت قوة دانتي لا تزال خافية في عقله وقلبه وفنه. أراد بونيفاتشو أن يسيطر على الملوك والأمراء، على حين سيحكم دانتي من عليائه على الملوك والأباطرة والبابوات. وكان كلٌّ منهما خياليًّا؛ أراد بونيفاتشو أن يحقق المثالية الدينية التي تنتهي إلى شخصه، ويجعل في يده السلطة الدينية والزمنية على السواء. بينما كانت ترمي مثالية دانتي إلى أن تجعل الإمبراطور صاحب السلطة الزمنية، والبابا صاحب السلطة الدينية. وشعر كلٌّ منهما أنه مُلهَم من الله، بونيفاتشو كبابا، ودانتي كشاعر. احتقر بونيفاتشو، رجلُ الدين والسياسة والمال، صفةَ الشاعر في دانتي. ولم يعترف دانتي للبابا المرتشي بصفته الدينية والسياسية. لم يعترف دانتي بغير قوة الروح والفن. واحتفظ كل منهما بصفات موطنه. امتاز بونيفاتشو بالجفاف والصرامة والغلظة والتعصب السائد في رومانيا، على حين امتاز دانتي بصفات الفلورنسي، رجل الثقافة والأدب والذوق والفن. وكذلك اختلف الرجلان في المظهر؛ كان بونيفاتشو طويل القامة ممتلئ الجسم، بينما كان دانتي متوسط القامة نحيفًا، واتُّهم الاثنان بالرشوة، وإن كان بونيفاتشو وحده هو المرتشي. ولم يتصور البابا أن دانتي سيضعه في «الجحيم»، وسيقول عنه متهكمًا إنه القسيس الأعظم، وبأنه مغتصب الكرسي البابوي، وبأنه رجلٌ جشع منافق. هكذا وقف دانتي أمام بونيفاتشو بعزم لا يلين، وشجاعة لا توصف. ولقي دانتي، جزاءَ ذلك، الإهانةَ والنفي والتشريد، ثم كسب الخلود.

والوطنية من صفات دانتي البارزة. تكلم دانتي عن إيطاليا كثيرًا؛ تكلم عن مُدنها وقُراها وأنهارها وجبالها وكنائسها وأبراجها وأهلها، وأعطى صورة جغرافية لكثير من مناطقها، وحدد ارتباط الأشخاص بها. ولم يحب دانتي مكانًا في الأرض كما أحب إيطاليا، وفلورنسا بخاصة. فإيطاليا عنده حديقة الإمبراطورية، ومركز العالم. وفلورنسا هي الوطن النبيل، والمدينة العظيمة على نهر الأرنو الجميل، وهي المكان الجميل الذي نام فيه كالحَمَل، ومع ذلك لم يتكلم دانتي بعنف وقسوة كما تكلم عن إيطاليا وفلورنسا. قال عن فلورنسا إنها غابةٌ حزينةٌ بائسةٌ، وإنها مليئة بالحسد والكبرياء والبخل، وحكومتها سيئةٌ مضطربةٌ، وأهلها لصوصٌ ووحوشٌ، وقد أحبوا الذهب حتى أصبحت فلورنسا جديرة بأن تُسمَّى مدينة الشيطان. ويقول إن نساء فلورنسا الفاجرات يخرجن ولا حياء لهن لإغراء الناس بإبراز ثُدِيِّهن، التي ينبغي أن تُحفَظ لإرضاع أبنائهن الأبرياء. وعندما أخفق هنري السابع أمام أسوارها ازداد غضب دانتي، ونعتها بذئبة الأرنو، والأفعى، والعنزة المريضة، وكذلك لعن كثيرًا من أنحاء إيطاليا، ولا يكاد يوجَد مكانٌ بها إلا ويثير غضبه، ويفتح في جسمه جرحًا قديمًا. وأرض إيطاليا عنده ملأى بالأشواك والعواصف والجرائم والآثام. وهي الأرض الخائنة الخبيثة الحَسود العاصية. ويقول إن لوكا ملأى بالمزيفين، وبستويا موطن الوحوش، وأهل بيزا ذئاب، وبولونيا غاصَّة بالبخلاء والوصوليين، وأهل جنوا خِلوٌ من كل كياسة، ويستحقون الإذلال.

ربما لم يوجَد مَن لعن شعبه وبلاده كما فعل دانتي. وإن من يُلقي هذه اللعنات لا بد أن يكون قد تألم كثيرًا، فأفرغ ما في نفسه على ذلك النحو. والسباب واللعنات فن ولغة يفهمها الشعب الفلورنسي صاحب العواطف الحارة والتعبيرات العنيفة. على أن اللعنات لا تدل دائمًا على البذاءة والسفه، بقدر ما تدل على الحب والحرص على المصلحة. في الحقيقة لم يكره دانتي فلورنسا وإيطاليا، بل كره مساوئهما وأخطاءهما. كان حبه لهما أعظم من أن يحمله على الوقوف أمام أخطائهما موقف المتفرج المحايد. أحب دانتي بلاده، وساءه ما كانت عليه من الفوضى والانقسام، ولم يستطع السكوت عما كانت تعانيه. واستمد دانتي من ويلات إيطاليا ونكباتها وحيًا لشعوره الوطني الصميم، وصدرت عنه في سبابه ولعناته روحٌ وطنيةٌ عالية. خاطب دانتي إيطاليا بلفظ إيطاليا، وربما كان هو أول من أدرك قيمة وحدتها السياسية. نادى دانتي إيطاليا بالعبدة الذليلة، ونعتها بسفينة بغير شراع ولا ملاح وسط العاصفة الهوجاء، ودعاها إلى أن تنظر إلى سواحلها وأطرافها وأن تجمعها إلى صدرها، وسألها هل يعرف أيُّ جزء فيها معنى السلام والهدوء. واتجه إلى الله طالبًا الصفح والمغفرة، وسأله هل أدار نظره عن إيطاليا، وماذا يخبئ لها في طيات المستقبل من الأحداث! وبهذا أصبح دانتي نبي إيطاليا، وأعطى وطنه حلمًا سياسيًّا مستمدًّا من الواقع ومن غير الواقع، من الماضي والحاضر والمستقبل، من الدموع والأسى والزفرات الممتزجة بالرجاء والأمل. وظلت صيحاته تجري في دماء الإيطاليين، وأصبحت كلماته إنجيل الوطنية الإيطالية في القرن التاسع عشر.

وعلى الرغم مما نال دانتي من الآلام والمِحن والحياة الصعبة التي عاشها، وعلى الرغم من روح الصرامة والجِد الذي ساده، فقد توفر فيه روح التهكم والسخرية. ويظهر أن الذين يتعرضون للويلات والعذاب يصبحون أكثر الناس تهكمًا وسخرية. امتاز دانتي الصارم بالقدرة على المقارنات البهجة، واستخراج المشاهد المضحكة من نفسه ومن وجوه الناس ومن أعينهم وحركاتهم. وعرف دانتي وسط آلامه كيف يبتسم ويضحك، وكيف يبعث الآخرين على الضحك. كان يبتسم عندما يسمع القيل والقال عنه في فيرونا. وكان يتخلص بسرعة بديهته من بعض المواقف الحرجة. وكان يقابل السخرية بالسخرية، حتى ممن أحسنوا إليه. واعترف دانتي بميزة الضحك للنفس. وتهكم على لهجات إيطاليا المتعددة. وسخر من المبالغة في صناعة الشعر وتزيينه. و«الكوميديا» مليئةٌ بمواقف السخرية، التي صاغها دانتي حتى في مواضع الأسى والعذاب. سخر دانتي في «الجحيم» من فلورنسا، ومن بونيفاتشو الثامن، ومن الشياطين، ومن الهالكين المعذبين. وسخر من فرجيليو، وسخر من نفسه، وصوَّر أخطاءه وخوفه وتردده وشعوره بالخجل. وفي «المَطهَر» سخر دانتي من استاتزيوس، وحمل أرواح الآثمين على الضحك، وسخر من الجشعين حينما جعل بعضهم يُسأل عن طعم الذهب في فمه. وفي «الفردوس» سخر من الأرض، وسخر بجريجوريو الكبير وجعله يشعر بالندم. وتأثر دانتي في سخريته بصفات مواطنيه، ولكن تهكمه وسخريته كانت محدودة معتدلة رقيقة دون ضوضاء وضجيج.

ولم يحرص دانتي على جمع المال أبدًا، وربما وصل شعوره بإزائه إلى حد الكراهية في بعض الأحيان. وهو إن لم يكن من أسرة مُعوِزة، إلا أنها كانت أسرة محدودة الموارد. وكانت قِلة المال من عوامل إخفاقه في الزواج من بياتريتشي التي انتمت إلى أسرة تتمتع بالثراء والجاه، وبذلك ارتبطت قلة المال بحياته العاطفية منذ سن مبكرة. وكان أبوه يشتغل بالربا — كما رأينا — ولذلك عيَّر بعضُ الناس دانتي أحيانًا بأنه كان يعيش على أموال غيره، فزاد ذلك من عزوفه عن المال. وفي الوظائف والسفارات التي تولاها لم يكن يكفي دانتي مال الحكومة الفلورنسية، فكان ينفق من ماله القليل، وبلغ به الأمر حد الاستدانة أحيانًا لتغطية النفقات الضرورية. وكان اتهامًا عجيبًا ذلك الذي وجَّهه إليه خصومه السياسيون من حزب الجلف السود، واعتبارهم إياه مرتشيًا مستغلًّا وظيفته لابتزاز أموال الناس، فآل مصيره إلى النفي والحكم عليه بالموت!

وما أشق أن يُتهم بالرشوة والسرقة الرجلُ الأمين الذي يبذل من ماله، ويكلف نفسه فوق طاقتها في سبيل المصلحة العامة! وصحيح أن دانتي أحس بالفاقة والجوع في بعض فترات من حياة المنفى التي عاشها، ولكن ذلك لم يجعله يحرص قط على جمع المال، ولم يُستذل في سبيله أبدًا، بل كان ينأى عن سُبل جمعه، ويكتفي بما يصله منه لقضاء حاجاته الضرورية. واعتبر دانتي أن ذهب الدنيا كله منذ أقدم الأزمنة حتى عصره، لا يستطيع أن يريح نفسًا واحدةً أضناها في سبيله الكد والتعب. وما ارتبط بالمال من جاه وصيت وأبهة لم يساوِ عنده أكثر من نفثة ريح تغير اسمها إذ تغير مكان هبوبها واتجاهه. وأي مال أو جاه أو صيت كان من شأنه أن يُغري دانتي العظيم؟!

أحس دانتي، ككثير من العباقرة، بشعور العزلة والوحدة. ولم يطل عمر والديه حتى يتمتع بحياة الأسرة، ولم تدرك بياتريتشي قدره، ولم يكن له من بين رفقاء الشباب صديق حقيقي، وكان يقضي الوقت معهم في حياة اللهو والمرح دون أن يفهمه أحدٌ على حقيقته. ونعرف أن أخاه فرنتشسكو غير الشقيق قد عاونه بعض الوقت، ولكن لا يعلم أحد طبيعة العلاقة بينهما. ولم تطل حياته الزوجية، التي لم يذكر شيئًا عنها. وقد عاش ولداه بيترو وجاكوبو على مقربة منه في أواخر حياته، وقالا بعض الشعر. ولعل دانتي تألم عندما وجد مستواهما أقل من المتوسط. وفي الحياة السياسية وجد دانتي أن أغلب الناس يعملون لمصالحهم الذاتية، وتعوزهم حرارة القلب، وصفاء النفس، والإخلاص للوطن، فنأى عنهم جميعًا. وعلى الرغم مما لقيه من الصعاب في حياة المنفى، فقد أحسن بعض الأمراء استقباله، وقدَّره بعض رجال السيف والقلم، وأصبح له في رافنا أصدقاء ومريدون، كما رأينا. ولكن لم يوجَد بينهم مَن فهمه حق الفهم. كان أصدقاؤه ومعارفه يجتمعون من حوله هنا وهناك في شبه حلقة، وكان هو يدنو منهم وينأى عنهم، دون أن يمتزج بهم تمامًا، حتى لو كان في محيطهم. وقلائل جدًّا أولئك الذين أصبحوا له أصدقاء حقيقيين. وربما لم يوجَد له أصدقاء في فلورنسا سوى برونيتو لاتيني وجويدو كافالكانتي وفوريزي دوناتي. وربما لم يفهمه في حياة المنفى سوى جوتو وجويدو نوفلو.

ولم يكن دانتي يكره الناس أو يترفع عنهم. وبالعكس فقد أحب دانتي الناس على طريقته، ولكنه كره مساوئهم. وعلى رغم ما لقيه على أيدي مواطنيه من العنت والإرهاق والجحود، فإنه بذل من الخير لمواطنيه وللبشرية كلها ما لم يستطع أحد أن يبذله في سبيله. وهل استطاع دانتي أن يرفع أبناءه وأهله ومريديه إلى المستوى الذي تطلع إليه، في الذوق والإحساس وسعة الأفق والكياسة والسلوك؟ ومَن مِن الناس أمكنه أن يحس إحساسه ويرى ما رآه؟ وكم شارك الناسَ آلامهم وآمالهم، على حين لم يكد يشاركه أحد في أشجانه وأمانيه! وكم اتهمه الناس بما ليس فيه، على حين لم يكد يتهم أحدًا في الحياة الواقعة بما ليس فيه! وكم حاول بعض أهل العصر إهانته وإذلاله مع أنه لم يهن ولم يذل أحدًا! وكم أحس بكذب الناس ونفاقهم وخداعهم، على حين لم يكذب هو ولم ينافق ولم يخدع أحدًا أبدًا! وكم اشمأزت نفسه عندما رأى الأعين الشرهة على مائدة الطعام! وكم سخر دانتي ورثى عندما سمع أحكام الناس في الناس وفي الوجود، وكم تألم حينما سمع بعض معاصريه يدَّعي العلم بكل شيء، ويحاول أن يفرض رأيه وميزانه على الآخرين، وكأن كلًّا منهم وحده صاحب الرأي الصائب والفهم الصحيح!

حاول دانتي كثيرًا، في حدود معرفته واستطاعته، أن يُفسح صدور الآخرين، ويبعد بهم عن صغار الأمور ولغو الكلام، وعمل على أن يسمو بذوقهم، ويزرع في نفوسهم المعرفة والحكمة والحب والصفاء والأمل، ولكن دون جدوى. ومع ذلك فلم ييئَس. إن كان قد يئس من قومه ومعاصريه، فإنه لم ييئَس من الإنسانية في مجموعها. وحاول أن يسجل إحساسه وميزانه وأمله في تراثه الخالد، لعل بعض الناس يدركون يومًا بعض ما رآه وأحسه وتطلَّع إلى تحقيقه. أوَليست «الكوميديا» كلها محاولة هائلة لجمع ألوف العناصر المختلفة، المتعارضة، المؤتلفة، في الواقع وغير الواقع، وصياغتها في بناء محكمٍ منسجمٍ متآلف لبلوغ هدفه الأعلى؟! ومَن مِن قومه استطاع أن يدرك هدفه العظيم؟ هكذا كان على دانتي أن يعيش أغلب حياته وحيدًا حتى بين جموع الناس، ويشقى بوحدته ويسعد. ولم ينقطع دانتي عن الناس، بل اختلط بهم، وتغلغل في نفوسهم، وضرب صفحًا عن التفصيلات الصغيرة، وأدرك من خفايا البشر والوجود ما لم يكد يدركه غيره، دون أن يمتزج بالناس أو يمتزج به الناس، وربما على غير ما كان يرجو ويأمل.

على أنه لا لوم على أحد، ولا على دانتي ذاته، في هذه العزلة الروحية التي عاشها، ولا ذنب لأحد أنه لم يعرف قدره الحقيقي، ولم يمتزج بنفسه الصافية، وهذا هو بعض الثمن الذي تدفعه العبقرية، لكي تبلغ أسمى ما في الوجود. وأقرب الناس إلى عصره، والذي فهمه وأُشرِب روحه العبقري ولكن بعد فوات الأوان؛ هو ميكلأنجلو، الذي شابهه وأحبه، وأراد أن يشيد له قبرًا من الرخام، عند محاولة نقل رفاته إلى فلورنسا، ولكنه لم يُوفَّق. ولجأ دانتي في وحدته الروحية إلى محراب الفن، فكان له خير مُعتصَم.

كانت الشدائد التي انصبَّت على دانتي هي بوتقة العبقرية. فعندما تعرَّض دانتي لصنوف العذاب، وعندما عاش بين المطامع والأحقاد، وعندما فقد الأهل والوطن وسلام النفس، وعندما تبخرت أمانيه، أصبح دانتي هو دانتي. وفي أعماق بؤسه استطاع أن يكشف عن ثروته التي لا تُقدر. وصحيحٌ أن دانتي لم يكن في حياته صاحب سلطان، ولم يملك سلاحًا يُعوَّض به في ميدان الحياة العملية، مِما أصابه من جحود أهل العصر، ولكنه ملكَ سلاح الفن. وأيُّ سلاح أقوى؛ الجهل المطبق، والحسد البغيض، والحقد القاتل، والنفاق المهين، والزهو الفارغ، والطبل الأجوف، والجاه الكاذب، والسلطان الزائل، والمال المزيف، أو الفن العبقري الخالد؟! وإنه لمن سخرية القدر أن جعل الجهلاء الأذلاء من أنفسهم قضاة ليحكموا على دانتي الأبيِّ العالم الفنان! صحيحٌ أن بعض المعاصرين قد حاولوا أن يحكموا على دانتي، ويقيسوه بمقاييسهم التافهة، ولكن كانت أحكامهم في الحقيقة حكمًا عليهم لا عليه. وصحيح أن دانتي قد خسر في أثناء حياته وأخفق، ولكنه خسر وأخفق لكي يكسب ما لم يكسبه أحد. خسر دانتي أشياء تافهة، ولكن بقي له العلم والتجربة والفن والإيمان. وإذا كان دانتي قد أُهدرَ دمه، وخُلعت عنه أرديته، فقد تسربل من جديد بأثواب لا تبلى من الفن الرفيع.

أحس دانتي بحاجته إلى أن يواجه ما ناله من المِحن بالخَلق والإبداع. وهكذا عمل دانتي ليل نهار، وضرب وطرق، وكتب ثم مزق الورق، وبكى، ونفث روحه فيما كتب، وبذلك انتقم لنفسه الأبية العزيزة المتكبرة، المُثخَنة بالجراح. خسر دانتي أشياء زائلة، ولكنه ظفر بما لم يكد يظفر به إنسان. ولم يكن لظفره حد، عندما أكسبه فنُّه الخلودَ. وماذا فعل العَجَزة من معاصريه؟ وأي شيء كانوا يستطيعون أن يفعلوه؟ إن هؤلاء المعاصرين الذين حكموا عليه بالنار تارةً، وبالحديد تارةً أخرى، في فترة سنوات قلائل، قد ماتوا وهم أحياء، وأصبحوا ترابًا تذروه الرياح. أما هو فقد ظل وحده، على الرغم من كل شيء، شامخًا خالدًا منتصرًا على الإنسان الغادر، وعلى الزمان الفاني!

هذه جوانب وصور من حياة دانتي وشخصيته، لعلها تساعدنا على فهم عبقريته الفذة، وتذوُّق آثاره الرائعة، وتقدير ثمراته الرفيعة، والنهل من نبعه الفياض الصافي. وسوف نعرض لنواحٍ أخرى من شخصيته عند ترجمة «المطهر»، ثم «الفردوس».

٤

كتب دانتي عددًا من المؤلفات الصغرى، تُعَد مراحل في نموه الأدبي، وتُمهِّد لآيته الكبرى «الكوميديا». أولها «الحياة الجديدة»، التي كتبها بلهجة تسكانا (العامية) نحو سنة ١٢٩٣، وهي عبارة عن قصة شبابه. والمقصود بالعنوان أنها بعثٌ جديد بسبب الحب الذي أحسه نحو بياتريتشي. وتحوي شعرًا ونثرًا. فيسبق القصائدَ الظروفُ التي قيلت فيها، ويليها شرح وتعليق عليها حتى تُصبح أقرب إلى الفهم. وهي تحتوي على عنصرَي القصة واليوميات. ويتكلم دانتي فيها بنصف صوت، فلا يُفصح دائمًا عن المقصود. وفيها تصوير لبعض مظاهر الحياة في فلورنسا، بقصورها وشوارعها وكنائسها، والريف المحيط بها. وتشمل عنصرًا من الصناعة والافتعال، بما أورده فيها من المناقشات، وتأثر في ذلك بتقاليد العصور الوسطى. ولكنه بذل جهده لكي يبني ويرسم ويعبِّر بفن رقيق. وتسرد «الحياة الجديدة» ثلاث مراحل في تاريخ حب دانتي؛ الأولى مرحلة الشباب الباكر، ويتغنى فيها بمزايا بياتريتشي. وفي الثانية يبدو أكثر جِدًّا، ويشيد بالفضائل التي تشع منها. وفي الثالثة يفقدها بالموت. يشرح دانتي في المرحلة الأولى كيف سيطر الحب على قلبه عندما رأى بياتريتشي في سن الثامنة، وقد بدت وهي تلبس ثوبًا بسيطًا أحمر اللون. وعندما يتصور موتها يأخذه الحزن، ويدعو العشاق إلى البكاء، ويبكي ويطلب الرحمة، وينام كطفل أفحمه البكاء. ويذكر أثر التحية المرفوضة في نفسه. ويروي ذهابه إلى حفلة ساهرة، ربما كانت حفلة زواج بياتريتشي، وكيف استند إلى جدار حتى لا يسقط. ويذكر لبعض من سألنه عن حبه أنه لا يقصد به إلا التمدح ببياتريتشي وتمجيدها! وعنده الحب والقلب الرقيق شيءٌ واحدٌ. وتحمل محبوبته الحب في عينيها، فتجعل من ينظر إليها رقيق المشاعر، وعندما تحيِّي الآخرين تبدو رقيقة نبيلة، وتعقل الألسنة، وتظهر أنها جاءت من السماء إلى الأرض لكي تقوم بالعجائب. وعندما ماتت حزن عليها حزنًا شديدًا، وأصبحت فلورنسا عنده كأرملة. ولما ماتت أصبحت ملكًا له، لا يشاركه فيها أحد، ولا يذكر دانتي ما يجعلنا نتصور أنه كان محبوبًا لديها، وهو لا يكذب، ولا يتظاهر بغير الحقيقة، ويذكر المواضع التي تعرَّض فيها للسخرية بسبب حبه العنيف. وأخيرًا يروي أنه رأى بياتريتشي في رؤيا، ووعد — إذا مد الله في أجله — أن يقول عنها ما لم يقله رجل في امرأة من قبل. وفي «الحياة الجديدة» نواة «الكوميديا» بما فيها من ألم وبكاء، وما تحويه من زُهد وتصوُّف، وما تتضمنه من أرواح الملائكة ورؤى السماء.

وكتب دانتي «الوليمة» باللهجة التسكانية، في الفترة بين ١٣٠٦ و١٣٠٨ على وجه التقريب. والكتاب وليمة علم ومعرفة، وله طابع دوائر المعارف بالنسبة للعصر. وقصد دانتي أن يضع هذا الكتاب في أربعة عشر فصلًا، ولكنه لم يُتم منه سوى أربعة فصول. وهو يحتوي على ثلاث قصائد، يتلوها شرحها اللغوي ثم الرمزي، ثم ألوان المعرفة التي بسطها دانتي. و«الوليمة» نوع من «الحياة الجديدة» إلى حدٍّ ما، ولكن باعثها ليس الحب، بل الفلسفة والمعرفة. والفصل الأول عبارة عن مقدمة يذكر فيها أن كل إنسان بالطبيعة صديق لكل إنسان، وأن هذا الشعور الإنساني يجعل من المحتم على من نال حظًّا من المعرفة أن يقدم هذه المعرفة إلى سائر الناس، وهذا شعور إنساني نبيل، يوضح ما انطوت عليه نفس دانتي من حب الخير، والرغبة في رفع مستوى المجتمع. ويتكلم دانتي عن اللغة الإيطالية، ويدافع عنها كلغة جديدة، وكتعبير عن إحساسه بوحدة الوطن الإيطالي. ويتناول الفصلُ الثاني خلودَ النفس، وتقسيم السموات، متبعًا علم الفلك عند اليونان والعرب. ويذكر أنه قد تعزى بقراءة بعض كُتاب اللاتين، وأنه أحب الفلسفة التي ظهرت له في ثوب سيدة رقيقة. ويتناول الفصل الثالث الفلسفة، والنفس، وطبيعة الحب، والعقل، ومركز الإنسان في العالم، والصداقة، والشمس كرمزٍ لله، ومشكلة الشر. ويبحث الفصل الرابع في الأخلاق، ومعنى النبالة التي تقوم على الخلق والمعرفة، لا على أساس الثروة أو النسب. ويتكلم عن الإمبراطورية الرومانية، وضرورة إقرار السلام على يد الإمبراطور، ويذكر استقلال البابا والإمبراطور، كلٌّ في النطاق المخصَّص له. ويشير إلى الحياة الفعالة وحياة التأمل، وأهمية كل منهما للإنسان. ويذكر دانتي في مواضع متفرقة من «الوليمة» مسائل تتعلق بشخصه، والظروف التي تعرَّض لها، وبأحوال فلورنسا، والحوادث المعاصرة. ويُلاحَظ على أسلوب الكتابة أثر الألفاظ والتراكيب اللاتينية، ومع ذلك فإن هذا الكتاب يُعَد أساسًا للنثر الإيطالي الفني والعلمي، وقد عبَّر به دانتي عن مسائل العلم والفلسفة والنفس والأخلاق والسياسة، بوضوح وصدق وبساطة، وهو لا يخلو من الحرارة والتلوين.

ووضع دانتي كتابه «عن اللغة العامية»، في الفترة التي كتب فيها «الوليمة». وضع هذا الكتاب باللغة اللاتينية لخاصة المتعلمين. ولم يُتم منه إلا الجزء الأول وقسمًا من الجزء الثاني، ولا نعرف مدى الكتاب الذي كان ينوي أن يكتبه. أظهر دانتي في هذا الكتاب أنه رائد في ميدان اللغة. وتكلم في الجزء الأول عن الفارق بين اللاتينية والعامية، واعترف بالعوامل الأساسية في تغير اللغات المستمر، تبعًا للزمان والمكان. وهو يتناول الأسرات اللغوية الرئيسة في أوروبا في الشرق والشمال والغرب، ويقول بوجود ثلاثة فروع كبيرة للأسرة اللغوية الغربية، وهي اللغات البروفنسية والفرنسية والإيطالية. ويعترف دانتي بأن لغة البروفنس هي أول لغة كُتِب بها الشعر الغنائي، وأن اللغة الفرنسية امتازت بكتاباتها النثرية الجميلة، وأن الإيطالية قريبةٌ من اللاتينية، وظهر بها شعرٌ غنائي رقيق. ويميز دانتي في إيطاليا بين أربع عشرة لهجة محلية. ويقول إنه ليس من بينها لهجة واحدة تصلح لأن تكون لغة أدبية رفيعة. ويتكلم عن خصائص اللغة التي تُحدد وحدة إيطاليا العقلية. وفي الجزء الثاني يبحث استخدام اللهجة العامية في الشعر، ويذكر أمثلة من الشعر البروفنسي والفرنسي والإيطالي. ثم يتكلم عن كتابة القصائد، عن الموضوع والوزن والقافية والتركيب والأسلوب واللغة، لكي يصبح الشعر جديرًا بالاسم.

وآخر كتاب نَعرِض له من مؤلفاته الصغرى هو كتاب «الملكية»، الذي كتبه في الفترة من ١٣٠٩ إلى ١٣١٣ على وجه التقريب. وانتهى من وضعه بعد أن تبدد حلمه السياسي، الذي كان يأمل في تحقيقه على يد الإمبراطور هنري السابع. وكتبه باللاتينية لأنه لم يقصد أن يكون كتابًا لعامة الناس. وتأثر في كتابته — بدرجات متفاوتة — بفلسفة أرسطو، وبآراء الرومان، وبالكتاب المقدس، وتعاليم توماس الأكويني، وبشيء من فكر ابن رشد.

يقول دانتي في الكتاب الأول من «الملكية»: إن الله قد زود الناس جميعًا بحب الحقيقة، وإن عليهم أن يعملوا لخير الأجيال القادمة، وأن يؤدوا لها ما أداه لهم أسلافهم، وإنه يقصد بكتابته خير المجتمع الإنساني، ويقول إن الغرض من الحضارة استكناهُ العقل الإنساني، واستنباط الملكات للعمل على أساس من العلم والمعرفة. ويتكلم عن السلطة الزمنية الملكية أو الإمبراطورية العالمية، ويسوق الأدلة على ضرورتها لحياة البشر، ويقول: إن الجنس البشري يصبح أقرب إلى الله إذا زاد اتحاده وترابطه.

ويذكر دانتي الحرية التي يتكلم عنها كثيرٌ من الناس بألسنتهم، ولكن لا يفهمها إلا القليل. ولا تقوم الحرية عنده على المصلحة الذاتية أو الشهوات، وإلا أصبح الناس في مستوى الوحوش الضارية. والحرية عنده أساس لتحقيق السعادة في الدنيا والآخرة. وعنده أن الديمقراطية والأوليجاركية والدكتاتورية تحوِّل الناس إلى عبيد لجماعة أو طبقة أو فرد. ويرى أن ليس الشعب للحاكم، بل الحاكم للشعب، وليس الشعب للقوانين، بل القوانين للشعب. والملوك والحكام هم خُدام الشعب، وقد تأثر في ذلك برأي توماس الأكويني.

ويقول دانتي إنه يَصلُح للحكم مَن يستنبط مِن الآخرين أحسن ما فيهم، ولكي يمكنه أن يفعل ذلك ينبغي أن تتوفر فيه صفات الخير التي يتطلبها من الغير. ويقول إنه لا بد من العمل بدلًا من الكلام، وإنه تَلزَم لحياة المجتمع الوحدةُ والنظام والعدالة وحب الخير والحرية والسلام. وعنده أنه لا يحقق ذلك سوى ملك أو إمبراطور عالمي واحد، يحقق الانسجام والتناسق العام، ويمنع طغيان الأمراء المحليين، الذين تتفاوت بيئاتهم وتقاليدهم. ثم يأسى دانتي على ما يجتاح الإنسانية من العواصف والزوابع، لتعدد الحكام في العالم، وجشعهم، وشهوة التملك عندهم.

وفي الكتاب الثاني من «الملكية» يتكلم دانتي عن الإمبراطورية الرومانية، التي كانت عنده إمبراطورية إلهية، قامت على الحق، الذي هو إرادة الله. والرومان عنده أنبل شعوب الأرض، وقد نشأت إمبراطوريتهم بمعجزة سماوية. وقضى الرومان بفتوحهم على التنافس والصراع بين الجماعات والشعوب، وحققوا الحرية والسلام. ويقول إن الطبيعة تحقق أهدافها عن طريق أقوام عديدين، ومنهم مَن يمتاز بملكة الحكم، ومَن يولَد لكي يُحكَم، وكلهم يؤدون دورهم الطبيعي في المجتمع الإنساني. ويذكر أن النصر يتم للمنتصر بحكم الله وقضائه، وعنده أن المتبارزين ينبغي ألا يتبارزوا بدافع من الكراهية أو الحب، بل للتعاون على تحقيق العدالة. وكذلك الحال عنده في الحروب. ويُندد دانتي بالبابوات الذين تدخلوا في أعمال الأباطرة وأضعفوا الإمبراطورية.

وفي الكتاب الثالث من «الملكية» يعترف دانتي بأنه مُقدِم على ما قد يُغضب بعض الناس، ولكنه لا يضحي بالحقيقة في سبيل الأصدقاء، ويستمد الشجاعة من أرسطو والكتاب المقدس؛ لأن مَن يدافع عن الحقيقة تحرسه قوة الله. ويتكلم عن الشمس (رمز البابا) والقمر (رمز الإمبراطور)، ويقول: إن للقمر دورته المستقلة عن الشمس، وإذا استمد منها ضوءًا فهذا يجعله يؤدي دورته بطريقة أفضل. وأوضح خطأ الفكرة القائلة بأن الإمبراطور يستمد سلطته من البابا؛ لأن الإمبراطورية وُجدت وازدهرت قبل ظهور البابوية، وعلى ذلك فالكنيسة ليست مصدر سلطة الإمبراطور. ويقول إن الإنسان هو الكائن الذي يتميز بجسم مادي قابل للفساد مع روح باقية، وإن غرضه المزدوج هو السعادة في الأرض، والسعادة في الحياة الآخرة. ولذلك يلزم الإنسانَ دليلان؛ البابا الذي يقوده إلى السعادة في الآخرة بالدين والإيمان، والإمبراطور الذي يقوده إلى السعادة في الدنيا بالفلسفة والحكمة والقانون والحرية. وللبابا ميدان السلطة الروحية، وللإمبراطور مجال السلطة الزمنية. وعنده أن كلًّا من البابا والإمبراطور يستمد سلطته من الله مباشرةً. ولا يجوز عند دانتي أن يتدخل البابا في الشئون الزمنية، ولا أن يتدخل الإمبراطور في الشئون الدينية. وليس معنى هذا أن تنقطع الصلة بينهما، بل على الإمبراطور أن يخضع للباب كأبٍ روحي، يستمد منه الضياء والرحمة، التي تعينه على أداء واجبه الزمني.

أراد دانتي بالفصل بين السلطتين المحافظةَ عليهما؛ لأن خروج إحدى السلطتين عن مجالها يهدد مصلحة المجتمع. والوصل بينهما قائمٌ في استعانة الإمبراطور بسلطان البابا الروحي. وهدفَ دانتي بذلك إلى حماية إحدى السلطتين من طغيان الأخرى، مع إيجاد التفاهم والتوافق بينهما. وهنا نجد أصالة الفكر السياسي عند دانتي، وخروجه على الفلسفة السياسية في العصور الوسطى.

هذه صورة عن بعض مؤلفات دانتي الصغرى، بألوانها المختلفة من عاطفة وفكر وعلم وفلسفة وسياسة. وتُعَد كلها كإعداد وتمهيد ومقدمة لأثره الرائع «الكوميديا».

٥

لم يكن دانتي بطبيعة الحال أول مَن تناول في «الكوميديا» عالم ما بعد الحياة. ولقد تناولَت ثقافة البشر هذه الناحية منذ أقدم العصور، في أقطار شاسعة امتدت من سيبريا إلى الصين والهند وبابل ومصر وسوريا وفارس واليونان وروما وإسكندناوة وأيرلندا والأندلس. نجد مثلًا المصريين القدماء قد عرفوا في ديانتهم الجحيم المظلمة بما تحتويه من ألوان العذاب، وتصوروا الفردوس بما فيه من أنواع النعيم والسعادة الأبدية، وعندهم أوزيريس يزن أعمال الناس، ويدفع بهم إلى الجزاء العادل. وفي ديانة البابليين تهبط عشتروت إلى الجحيم، حيث عذاب الزمهرير والجوع والعطش والبرص، لتبعث تاموز إلى الحياة. وعند اليهود أرض الظلام، التي تقع تحت الأرض، وتتلقى الأخيار والأشرار على السواء. وفي ديانة الفرس جحيمٌ ومطهرٌ وفردوسٌ، والإنسان ميدان معركة بين أهورا مازدا إله الخير، وأهريمان ملك الظلمات والعالم السفلي. وفي ديانة الهند يهبط يودهيشتيرا إلى الجحيم، حيث رائحة الإثم والجثث والديدان والهوام والطيور والكواسر وأمواج اللهب، ويصعد البطل أرْجنا إلى السماء مأوى المؤمنين، حيث الأزهار الجميلة والحوريات تحت الأشجار الخضراء، والأنغام السماوية، ويصل البطل محاطًا بالملائكة وصفوة البراهمة إلى حضرة رب الأرباب. ويذكر هوميروس في الإلياذة عالم الموتى والأبالسة وأنهار الجحيم، وأبواب السماء ونعيم الفردوس. ويتكلم في الأوديسة عن زيارة أوليسيس للعالم السفلي، وحديثه مع أشباح الموتى. وفي بعض محاورات أفلاطون، مثل فيدون وفيدروس والجمهورية، كلامٌ عن مصير الأشرار الذين يلقَون العذاب في مهاوي الجحيم، وعن مصير الصالحين الذين ينعمون بمباهج الفردوس. وتحتوي ثقافة الإتروسكيين على عالم ما بعد الحياة، وما يشمله من الشياطين والرعب والفزع، وبعض رسوم مقابرهم تُعَد كمقدمات لجحيم دانتي. ويذكر فرجيليو في الإنيادة هبوط إينياس إلى العالم السفلي، ويصف ما شهده في مدينة ديس من وحوش خرافية وشياطين وأنهار ونيران وعواصف، ويسرد أنواع الآثمين، كمرتكبي خطايا الجسد والبخلاء والذين حاربوا أولياء نعمتهم، والزانين، ثم ينتقل إلى أرضٍ خضراء سعيدة، فيها رقص وغناء، وذات أضواء، وهي موئل مَن جُرحوا في سبيل أوطانهم، ومكان الرهبان والصادقين ومن بذلوا خدماتهم للآخرين. ويشير لوكانوس في «فارساليا»، واستاتزيوس في «أنشودة طيبة»، وأوفيديوس في «التحولات»؛ إلى عالم الموتى.

وكذلك نجد تراث المسيحية في العصر القديم وفي العصور الوسطى مليئًا بأفكار وصور متنوعة عن العالم الآخر، ومفعمًا برؤى القديسين وقصص المغامرين عن ذلك العالم. فنجد في «الكتاب المقدس» إشارات متعددة متفرقة عن العالم الآخر. ونجد الرؤيا في آخر «العهد الجديد»، التي ترجع إلى أواخر القرن الأول الميلادي، وتُنسب إلى القديس يوحنا الإنجيلي، نجدها تشتمل على عذاب الآثمين وسط حشد من الوحوش والحيوانات الخرافية. ونجد رؤيا القديس بولس التي وُضعت في القرن الرابع، ثم نمت حتى القرن الثالث عشر، قد وصفت عذاب الآثمين في الجحيم بين النيران والأفاعي والزمهرير، وسجلت مسير السعداء الذاهبين مع الملائكة إلى نعيم الفردوس. وللأيرلنديين رحلاتٌ خيالية إلى العالم المجهول، مثل رؤيا (أو مطهر) القديس باتريك في القرن الخامس، التي زار فيها الجحيم، وشهد الأفاعي والوحوش والنيران ونهر المعدن السائل بالغليان، ورأى الشياطين على شاطئه تطعن الآثمين بخطاطيفهم، ورأى بِركة الكبريت، والمعذبين المصلوبين على الأرض، وعذاب الزمهرير، والقبور التي تندلع منها ألسنة اللهب. ومن ذلك أيضًا رحلة القديس براندان في القرن السادس الذي وصل في سفينة مع بعض الرهبان إلى منطقة الملعونين، حيث شهد يهوذا فوق صخرة وسط المحيط. ونجد رحلة الجندي الراهب توندال في القرن الثاني عشر، الذي زار العالم الآخر، ورأى عذاب النار والثلج، وشهد الشياطين بخطاطيفهم ونهر الكبريت، ورأى لوتشيفيرو — إبليس — مقيدًا بالأغلال، كما شاهد الأبرار في الفردوس ينشدون الترانيم العلوية، والملائكة يحلِّقون في السماء. وقد تُرجمت هذه الرحلات إلى أكثر من لغة أوروبية في القرن الثاني عشر.

وفضلًا عن ذلك، فقد وُجد في إيطاليا في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، جماعةٌ من كتاب الرؤيا (المشاهدة)، وصفوا الحياة في عالم ما بعد الحياة، مثل الراهب يواكيمو دا فلورا، الذي رأى نهر الكبريت المحترق يعلوه جسرٌ يؤدي إلى حديقة الفردوس. وتكلم الراهب ألبريجو عن عذاب الجليد والأفاعي وبحيرة الدم الآني والنيران، والشيطان المقيد بالأغلال في مركز الجحيم، والجسر الذي يؤدي إلى السماء. وكذلك تناول القديس توماس الأكويني الجحيم والمطهر والسماء، ووفَّق في ذلك بين المسيحية وفلسفة أرسطو. ووضع بونفوزين دا ريفا من ميلانو «كتاب الكتب الثلاثة»، الأسود للجحيم، والأحمر لعذاب المسيح، والذهبي للفردوس. وكذلك شاعت في فلورنسا أسطورة المركيز أوجو دي براندبرج، الذي ضل السبيل في غابة مظلمة، وشهد الآثمين ينالون العذاب. وعُرفت أيضًا رؤيا ماتيلدا دي مجدبورج عن الجحيم والمطهر والفردوس. وتداول الفلورنسيون رؤيا ماتيلدا دي هاكتبورن عن الجحيم والفردوس.

وتراث الإسلام مليءٌ بصور متنوعة عن العالم الآخر. يذكر «القرآن الكريم» والحديث وكتب التفسير، وفقهاء الإسلام وعلماؤه، ومتصوفوه وأدباؤه، نماذج شتى عن عالم ما بعد الحياة. ويتناول ذلك في مجموعه دركات الجحيم، وعذاب الآثمين بالنار، والصديد، والأفاعي وشواظ اللهب، والقطران الآني وخطاطيف الشياطين، والبرص والجرب والزمهرير، والريح العاتية، والصراط، والجسر، والبرزخ، والأعراف، والشوق إلى الله، والتطهر، والتوبة، ومعارج السموات، ووردة السعداء، وصفاء النفس، والنور الإلهي، ونعيم الفردوس. ومن ذلك أيضًا القصص الإسلامي الذي تناول رحلات الأبطال المغامرين إلى العوالم المجهولة، وما فيها من الأخطار والعجائب، والتي انتشرت بخاصة في القرن العاشر الميلادي، في الخليج الفارسي والمحيط الهندي، وبلغت العراق ومصر، ومن ذلك النوع بعض قصص ألف ليلة وليلة.

ولقد انتقل هذا التراث الإسلامي عن عالم ما بعد الحياة ودنيا المغامرات والعجائب، إلى أوروبا من عدة طرق؛ عن طريق الحضارة العربية في الأندلس، الذي كان كعبة العلوم والفنون في أوروبا، وعن طريق العرب في صقلية وجنوب إيطاليا، وعن طريق الحروب الصليبية، التي أذكت الحركة التجارية والثقافية بين الشرق والغرب. وظلت صقلية في عهد النورمان وفي عهد الجرمان، وعلى الأخص زمن الإمبراطور فردريك، مركزًا للعلم والمعرفة. ودرس بعض الرهبان المسيحيين اللغة والثقافة العربية، وعرف العالم الأوروبي آراء المسلمين في عالم ما بعد الحياة منذ القرن التاسع الميلادي. انتشرت هذه المعرفة في إسبانيا وفرنسا وإيطاليا وإنجلترا، ودُرست أقوال المسلمين في هذا الصدد، وعلى الأخص آراء ابن رشد وابن سينا. وتُرجم القرآن الكريم لأول مرة ترجمة ملخصة إلى اللغة اللاتينية في النصف الأول من القرن الثاني عشر. وعُرفت صور من الإسراء والمعراج الإسلامي بلغات مختلفة في أوروبا، منذ القرن الثالث عشر. وظلت هذه الصور تتواتر في كتابات العلماء ورجال الدين والأدباء في أوروبا حتى أواخر القرن الخامس عشر. ومثال ذلك كتابات رودريجو إكزيمنيز أسقف طليطلة، في النصف الأول من القرن الثالث عشر. والرحلة الخيالية التي كتبها رايموندو لوليو القطلوني في النصف الثاني من القرن الثالث عشر، عن البعث والعقاب والثواب ونعيم الفردوس في الإسلام. والتاريخ الإسباني العام الذي أمر بكتابته ألفونسو الحكيم ملك قشتالة. وما كتبه ريكولدو دا بنينو الراهب الدومنيكي الفلورنسي عن العرب، في مطلع القرن الرابع عشر. وقصيدة فاتزيو دلي أوبرتي بالإيطالية عن معراج النبي محمد عليه الصلاة والسلام، بعد زمن دانتي، بعد منتصف القرن الرابع عشر. وكذلك ما دوَّنه الأب روبرتو كاراتشولو عن ذلك بالإيطالية في أواخر القرن الخامس عشر.

وفي أثناء القرن الحالي درس بعض المستشرقين مسألة العلاقة بين «كوميديا» دانتي والتراث الإسلامي. ومن الأمثلة على ذلك ميجويل آسين بلاثيوس المستشرق الإسباني، الذي وضع سنة ١٩١٩ كتابًا بالإسبانية عن «العلم الإسلامي لما بعد الحياة في الكوميديا الإلهية»، ثم وضع له ملخصًا بالإسبانية تُرجم إلى الإنجليزية، وكان هناك اتجاه لنشر ترجمة الأصل الإسباني الكامل إلى الفرنسية، ولكن ذلك لم يتم بعد، لخلاف بين ورثة المؤلف والناشر بول جوتنر في باريس. درس هذا العلَّامة موضوعه نحو عشرين سنة، ووازن بين «كوميديا» دانتي ومؤلفات بعض متصوفي الإسلام، مثل محيي الدين بن عربي، ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وكتابات المحدِّثين والمفسرين، وبعض صور الإسراء والمعراج النبويَّين. وتكلم عن أوجه الشبه بينها وبين عوالم «الجحيم والمطهر والفردوس» عند دانتي. وقال بلاثيوس إنه من المحتمل أن برونيتو لاتيني — أستاذ دانتي وصديقه — الذي انتقل بين قشتالة وفلورنسا، قد حمل إلى دانتي بعض المعلومات الشفوية أو الخطية عن وصف الإسلام والمسلمين للحياة الآخرة. وقد أثارت نظريته مناقشات في الجو العلمي، وأيَّده بعض الباحثين، وعارضه آخرون.

وفي سنة ١٩٤٩ أصدر إنريكو تشيرولي، المستشرق الإيطالي وسفير بلاده في طهران، مؤلَّفًا بعنوان «كتاب المعراج ومسألة المصادر العربية-الإسبانية للكوميديا الإلهية». ونشر تشيرولي في كتابه الترجمةَ اللاتينية والفرنسية القديمة، لإحدى صور المعراج الإسلامي. وتُلخَّص قصة هذه الترجمة في أن ألفونسو العاشر ملك قشتالة، أمر بترجمة هذه الصورة من صور المعراج الإسلامي من العربية إلى القشتالية. وقام بالترجمة إبراهيم الحكيم الطبيب اليهودي سنة ١٢٦٤. ثم طلب ألفونسو إلى بونافنتورا دا سيينا الإيطالي ترجمتها من القشتالية إلى اللاتينية والفرنسية القديمة، في نفس السنة؛ لإذاعتها فيما وراء الحدود الإسبانية، وكان ذلك متمشيًا مع سياسة الملك ألفونسو في تشجيع العلوم والفنون. وبذلك أيَّد تشيرولي فكرة بلاثيوس في احتمال نقل برونيتو لاتيني لدانتي بعض المعلومات عن الإسراء والمعراج الإسلامي.

كانت الفرصة إذن سانحة أمام دانتي لكي يُلم بعلم ما بعد الحياة عند المسلمين بطريق غير مباشر، مما كان معروفًا لدى علماء الغرب، في العصر الذي عاش فيه. ومن المحتمل أنه اطلع على الترجمة اللاتينية والفرنسية للمعراج الإسلامي المشار إليه، ولا يبعد أنه استمع إلى بعض الرهبان الذين كانوا على علم برأي الإسلام وعلماء المسلمين عن عالم الآخرة. وأقرب الشبه بين دانتي والإسلام قائم في بعض الصور القرآنية، وبعض آراء المفسرين، وبعض أفكار المتصوفين الإشراقيين كابن عربي، عن بعض صور «الجحيم والمطهر والفردوس». والصلة ضعيفة بين دانتي وأبي العلاء المعري في «رسالة الغفران»؛ لاختلاف الطريقة والمضمون العام في كل منهما.

هذه فكرة عاجلة عن عالم ما بعد الحياة قبل دانتي في الشرق والغرب. ولا ريب أن دانتي، الرجل المثقف، قد اطلع على كثير من هذه العناصر المتنوعة. ولكن هذا لا ينقص من أصالته شيئًا. وإذا كان في «الكوميديا» أوجُه شبه بما سبق دانتي من الأفكار عن عالم ما بعد الحياة، منذ أقدم العصور حتى زمنه، فإنها تختلف وتتميز ببنائها وتفصيلاتها ومضمونها وهدفها. وصحيح أن دانتي قد استخدم المادة التي وصل إليها، في عالم الآخرة، كما في سائر فروع العلم والمعرفة، واقتبس من هنا وهناك، وتأثر بهذه الناحية وتلك، إلا أنه أضاف، وحوَّر، وغيَّر، ولوَّن، ونظَّم، وخلق، وفاض بفنه الرائع في بناء «الكوميديا».

٦

يُقال إن دانتي بدأ بكتابة بعض أناشيد «الجحيم» في فلورنسا باللغة اللاتينية، ثم أعاد كتابتها بلهجة فلورنسا، وهو في حياة المنفى. ويقال إنه انتهى من كتابة «الجحيم» سنة ١٣١٤. ويظهر أنه أنهى «المطهر» في حدود سنة ١٣١٦. وكتب «الفردوس» في رافنا. وأطلق دانتي لفظ «الكوميديا» على قصيدته الخالدة، وهو لفظٌ مأخوذ عن اليونانية القديمة، بمعنى أغنية تُغنَّى بلغة العامة، وتجري على اللسان دون تكلُّف وتصنُّع. وكذلك قُصد بهذا اللفظ أنها تبدأ في غابة موحشة مظلمة، وتنتهي إلى السعادة الإلهية. وسماها الدارسون والناشرون فيما بعد «الكوميديا الإلهية»، ومن هؤلاء بوكاتشو في كتابه عن «حياة دانتي»، وناشر «الكوميديا الإلهية» في البندقية سنة ١٥٥٥. والمقصود بذلك ما تناوله دانتي فيها، مما هو فوق متناول البشر. ويقول دانتي في كتاب إهدائه «الفردوس» إلى كانْ جراندي دلا سكالا، إن لقصيدته ثلاثة معانٍ؛ المعنى اللفظي، وموضوعه حالة الروح بعد الموت، والمعنى الرمزي، وموضوعه الإنسان بما يناله من جزاء على ما فعل، والمعنى الصوفي، وموضوعه الخروج بالناس من البؤس في الحياة الدنيا، وقيادتهم إلى طريق الخلاص والسعادة في الحياة الآخرة.

«الكوميديا» نوع فريد من الشعر، وليس لها نظير فيما سبق وفيما تلا من القصائد الطويلة، من ناحية بنائها العام، ومضمونها الشامل المنوع، وهدفها في الدنيا والآخرة. ويمكن أن تُسمَّى «الدانتيادة»، على غرار تسمية «إلياذة» هوميروس، و«إنيادة» فرجيليو. وينتظمها العدد ثلاثة، رمز الثالوث المقدس. وهي تنقسم ثلاثة أناشيد؛ «الجحيم والمطهر والفردوس». و«الجحيم» مقسمة إلى مدخل وتسع حلقات، و«المطهر» مقسم إلى تسعة أفاريز والفردوس الأرضي، و«الفردوس» مقسم إلى تسع سموات وسماء السموات. ويتكون كل نشيد من ثلاث وثلاثين أنشودة، يُضاف إليها مدخل «الجحيم»، فتصبح كلها مائة أنشودة، أي: مربع رقم عشرة، وهو العدد الكامل، ورمز الوحدة واللانهاية في العصور الوسطى. وأبياتها ثلاثيات، وكان دانتي أول من ابتدع طريقتها، وأناشيدها متقاربة الطول، وأقسامها الثلاثة متساوية الطول على وجه التقريب. وتبلغ «الجحيم» ٤٧١٠ أبيات، و«المطهر» ٤٧٥٥، و«الفردوس» ٤٧٥٨، ومجموعها ١٤٢٣٣ بيتًا. «والكوميديا» رحلةٌ خيالية إلى العالم الآخر، استغرقت في نظر أغلب النقاد سبعة أيام، وبدأت في مساء الخميس ليلة الجمعة ٧-٨ أبريل سنة ١٣٠٠، وانتهت يوم الخميس ١٤ أبريل. واستغرقت زيارة دانتي «للجحيم» حوالي ثمانٍ وأربعين ساعة، وزيارة «المطهر» أربعة أيام، واستغرقت زيارة «الفردوس» نهارًا واحدًا، وكان الزمن الباقي للعبور بين «الجحيم والمطهر والفردوس».

وإذا نحن وقفنا قليلًا أمام أقسام «الجحيم»، موضوع هذه الترجمة، وجدنا أولًا الأنشودات الثلاث الأولى تشمل المقدمة والمدخل، ثم تأتي حلقات «الجحيم» التسع. والحلقة الأولى هي اللمبو، الذي يُعَد كمقدمة للجحيم الحقيقية، ويشغل الأنشودة الرابعة. وتبدأ الجحيم الحقيقية من الحلقة الثانية، وتنقسم قسمين؛ الجحيم العليا والجحيم الدنيا أو مدينة ديس. وتتكون الجحيم العليا من أربع حلقات، من الثانية إلى الخامسة، وتشمل الأنشودات من الخامسة إلى الثامنة، وهي موضع عذاب مَن ارتكبوا الخطيئة، لأنهم لم يتمالكوا أنفسهم أمام الظروف والمؤثرات، وخطاياهم أخف من غيرهم. وتتكون الجحيم الدنيا من أربع حلقات، من السادسة إلى التاسعة، وتشمل الأنشودات من التاسعة إلى الرابعة والثلاثين، وهي مكان عذاب مَن ارتكبوا خطايا أكبر لانطباع نفوسهم على الشر والفساد.

تمثل «الجحيم» الشباب الحر الطليق المتكبر الثائر، وتصور الفطرة والغرائز الإنسانية لإشباع ميولها، وهي الخطيئة والعذاب والمأساة والحياة الدنيا. ويمثل «المطهر» التجربة والنضج والفكر، والتوبة والتطهر والأمل. ويصور «الفردوس» الكهولة والطهارة والصفاء، والحرية والخلاص والنور الإلهي. و«الكوميديا» كلها مرآة الحياة، وقصيدة الإنسانية الكبرى. وهي فنٌّ رفيع يهدف إلى تغيير الإنسان وإصلاح المجتمع. وقصدَ دانتي أن يجعل منها بداءة لعصر جديد، وكأنه أراد بذلك أن يضع كتابًا مقدسًا جديدًا يهدي البشر إلى سواء السبيل. وبدا فيها دانتي كأنه أورفيو جديدٌ لعالم جديد.

ولكن كيف السبيل إلى تغيير النفس البشرية؟ وما الوسيلة إلى إصلاح المجتمع؟ وجد دانتي أن تغيير العقائد والقوانين والنُّظم والطبقات والحكومات والمظاهر لا يؤدي إلى إصلاح حقيقي، وأدرك أن العظات الدينية وتعاليم الفلسفة لا تكفي أغلب الناس لسلوك الطريق القويم، بل ينبغي تغيير روح الإنسان في باطنه. ووجد أن الإنسان أذنٌ وعين وذوق، وخوف ورغبة، وحب وكراهية، ويأس وأمل. وينبغي إذن تصوير الحياة، وإيضاح خفايا النفس، ونشر العلم والمعرفة. وأراد دانتي بهذا أن يكون مصلحًا ومعلمًا للبشر. وقد حمل معه كرسي الأستاذية في كل مكان؛ في البيت والجامعة والقصر والكنيسة والحديقة والطريق. وهو نفسه كان يطلب العلم والمعرفة على الدوام. ولكي يتم نشر المعرفة بين الناس وتتغير نفوسهم، كان لا بد من أن يلجأ إلى أداته السحرية؛ الفن. ويجمع الفن الحياة كلها، ويضم المعارف والوقائع والأحلام والأماني والمُثل، ويَنفُذ عن طريق الإبداع إلى النفوس، ويأسرها بالجمال والقوة والإحساس، ويربِّي، ويهذِّب، ويعلِّم، ويَصقُل. وهكذا آمن دانتي برسالته العليا. وعلى ذلك، فإن «الكوميديا» إحدى المحاولات الهائلة، التي قام بها شاعر لإصلاح الإنسانية. وهي معجزة من الشعر أراد واضعها أن يقوم بمعجزة روحية لإصلاح البشر.

«الكوميديا» كاتدرائية ضخمة، وعمارة شاهقة، متناسقة البناء، مترابطة الأجزاء، يعتمد فيها السابق واللاحق بعضه على بعض. وجعل دانتي فيها الإنسان والدنيا والآخرة والعالم والله في بؤرة واحدة. ووضع في إطارها العام كل المعارف والجزئيات الدقيقة المادية والمعنوية. واستمد دانتي ذلك من ثقافته الواسعة، من الميتولوجيا، وحضارة القدماء، وتراث المسيحية، ومن أوروبا وأفريقيا وآسيا، ومن الشرق والغرب، ومن ظروف الحياة التي عاشها، ومن إحساسه المرهف الذي لم يكد يحسه إنسان.

ألغى دانتي في «الكوميديا» فوارق الزمان والمكان، ومزج بين الأسطورة والتاريخ، وبين الواقع والخيال. وقدَّم بريشة الفنان صورًا مأخوذة من الحياة الواقعة. ومن ذلك ما نجده في «الجحيم»، موضوع هذه الترجمة، مثل: صُغريات الزهور التي تنحني بصقيع الليل، ثم تقف على سيقانها عندما تُكلِّلها أشعة الشمس، وتساقط أوراق الشجر في الخريف، ونظرات الحكماء الهادئة، وكلامهم النادر الرقيق، والعاصفة الجهنمية التي لا تهدأ أبدًا، والحمام الذي يطير بأجنحة ثابتة إلى العش الحبيب، والعاشقين اللذين يذوبان وجدًا وهيامًا، والكلب الجائع الذي يلتهم الطعام ولا يجدُّ إلا في افتراسه، والوحش الذي يهبط كما تسقط الأشرعة بقوة الريح، وسريعي الغضب الذين يتضاربون بالأيدي والصدور والأقدام وقد غمرهم طين المستنقع، والقارب الذي ينطلق فوق سطح الماء بسرعة فائقة، والضفادع التي تختفي من الأفعى وتغطس إلى قاع المستنقع، وشُهب النار التي تسقط على الرمل سقوطَ الثلج في جوٍّ دون رياح، والحائك العجوز الذي يُحملِق في سَم الخِياط، وبُناة السفن الذين يعكفون على عملهم في مصنع سفن البندقية، والطهاة وهم يطهون اللحم في القدور، والزارع الذي يستريح على سفح التل ويرقب الحباحب في أسفل الوادي، والراعي الذي يتولاه اليأس لسقوط البرَد، والفتى الذي يهرول في تسريح الجياد وسيده في انتظاره، والأم التي تهرب أمام النيران وتأخذ وليدها بين ذراعيها وهي شبه عارية، والعظاية التي تنتقل من عوسج لآخر زمن الصيف، والسائر فوق الصخور الوعرة، ومرضى الاستسقاء والملاريا والبرص والجرب، والراقصين والمصارعين والمبارزين.

ورسم دانتي في «الكوميديا» السهل والجبل، والصحراء والغابة، والجدول والنهر والبحر، ومطلع الشمس وغروبها، والنجوم، والحيوان، والنبات. ولم يفلت جزءٌ من الجسم البشري من الخارج والداخل، إلا رسمه أو أشار إليه. وصوَّر البكاء والعويل وضربات الأكف والتنهد، والبسمات والضحكات والترنم بالأغاني. ورسم طبائع البشر؛ شهوة الجسد، والجشع والشره، والأمومة والأبوة، والكذب، والسرقة، والبخل، والإسراف، والحقد، والأنانية، والغضب، والنفاق، والغدر، والحب، والصفح، والتوبة، والتطهر، والصفاء، والأمل، وخلاص النفس، والسلام.

وفي «الكوميديا» موتى وأحياء، وفقراء وأغنياء، وأشرارٌ وأطهار، وبابوات وملوكٌ وأباطرة، وأطفال ونساء، وداعرون وقديسون، وشعراء وعلماء، وفلاسفة وموسيقيون، وأبالسة وملائكة. وبها شخصياتٌ حية، تحس، وتعبِّر، وتأسى، وتبكي، وتتطهر، وتبتهج وتسعد. وفيها الصبر والجَلَد، والخوف والتردد، واليأس، وقوة النفس التي تظفر في كل معركة. وفيها الحكمة البالغة، والمثل السائر، والعظة والعبرة، والثورة، والرقة والدُّعابة، والعنف، والسخرية والتهكم، والإيمان والأمل.

ويتكون كل بيت في «الكوميديا» من أحد عشر مقطعًا، وقوافيها في الغالب هي أ ب أ، ب ﺟ ب، ﺟ د ﺟ … وتسير أبياتها الثلاثية كوحدات وموجات مترابطة متتابعة، الواحدة في إثر الأخرى. ولا زخرف ولا صناعة في شعره، ولغته دقيقة محددة، وكلماته مختارة، وأسلوبه موجَز مركَّز، وتصبح لغته أحيانًا لغة إشارات. وكثيرًا ما تبعث كلماته القليلة أمواجًا طويلة من الفكر والتأمل. ويصنع أحيانًا تمثالًا ضخمًا في ألفاظ موجزة. وليس مثل دانتي مَن يحس الحقيقة، ويعبِّر عنها بأمانة وسهولة، حتى ليبدو أحيانًا حينما يكتب كأنه يتكلم. ويمتاز أسلوبه بملاءمة كل المواقف. وعنده الأسلوب العالي الرفيع، والكلام العامي البسيط الذي يجري على ألسنة الناس. وهو يكتب أقوى الشعر وأفخمه، كما يكتب أجمل الشعر وأرقَّه. وتصبح لغته أحيانًا كنقاب من البلور، أو كنيران متأججة، أو كموسيقى عذبة ترفع الإنسان إلى أسمى الوجود. ونجد عنده ألحانًا رقيقة كحركة الطير، وأخرى عنيفة كغضب الوحش الثائر، وغيرها حزينة كالدمع المنهمر، وأخرى سعيدة كأنغام القيثارة. ونجد أبياتًا بطيئة، وأخرى سريعة، وغيرها قوية قاسية، وأخرى راقصة كالأهازيج. وتبدو كلها متسقة متآلفة كألحان السيمفونيا، وتنساب روح دانتي بين الأفكار والمعاني والصور، وتتسلل في ثنايا الكلمات والمقاطع والحروف الساكنة والمتحركة، التي تشبه الألحان الجريجورية تارةً، وألحان بالسترينا أو باخ أو هيندل تارةً أخرى، وتشبه أحيانًا موسيقى بيتهوفن أو فاجنر.

ويجعل دانتي شعره فياضًا بالحياة؛ بالمفاجأة، والاقتراب التدريجي من الهدف، وبالضوء، واللون، والصوت، والحركة، والحوار. واستخدم الاستعارة والتشبيه والرمز بفنٍّ عظيم. ولم يتخذ رموزه من المعاني المجردة، بل من الأحياء الذين يشعرون ويتكلمون ويتحركون، ومن الحيوان والنبات ومظاهر الطبيعة، التي تخلق الجو المناسب، وتحدد الهدف المقصود. ودانتي نحَّات، وحدَّاد، ومُصوِّر، ورسام، ومهندس، وموسيقيٌّ، في وقت واحد. واستخدم لهجة فلورنسا العامية، وأحيانًا اللاتينية القديمة والوسيطة، ولهجات إيطالية أخرى، ولهجات فرنسية، وخلق لنفسه لغةً عظيمة. ومع أنه من أعظم شعراء الأرض، فإنه كثيرًا ما يعترف بالعجز، ويصمت، ويستنجد بآلهة الشعر. وقد قام دانتي بعمل يساوي خَلق لغةٍ جديدة، عندما جعل لهجة فلورنسا العامية لغةً غنية، نبيلة، ناضجة، قوية، رقيقة، سخية، قادرة على التعبير عن كل شيء. وبذلك أصبحت لغة الحديد، والنار، والعاصفة، والذهب، والصخر، والشمس، والزهر، والطير، والموسيقى.

صحيح أن «الكوميديا» ثمرة العصور الوسطى وعنوانها، من حيث هيكلها العام، وتقسيمها، وقواعدها الخلقية، ومعنى العقاب والثواب، ومن حيث تأثرها بفلسفة المدرسيين، وتمشيها مع جغرافية بطليموس، وتصويرها لكثير من أحوال المجتمع المعاصر، ومع هذا فهي بداءة للعصر الحديث؛ وذلك لأن دانتي خرج فيها على كثير من تقاليد العصور الوسطى، وضرب معاول في قيودها وأوضاعها، وحطم خلالها أبا الهول، وتغلغل في صميم الحياة الواقعة. ومن أمثلة ذلك أنه وضع البابا في «الجحيم»، مع أنه مقدس عند المسيحيين ومكانه في «الفردوس»؛ لأنه هدد مصالح فلورنسا، ولم يرعَ روح المسيحية. ووضع مانفريد في «المطهر»؛ لأنه أبدى الشهامة والنخوة، وكان جديرًا بسلوكه وإباحيته أن يوضع في «الجحيم». وجعل سيجر دي برابنت، المتهم بالهرطقة، في «الفردوس»؛ لأنه مات في سبيل الدفاع عن الرأي. وأراد دانتي أن يقيم إمبراطورية عالمية يحكمها إمبراطور واحد. وقصد أن يحقق السعادة في الحياة الدنيا بالحكمة والعدالة والحرية والسلام، وفي الآخرة بالتطهر والصفاء والإيمان. ورسم الطبيعة والإنسان. وخلق نماذج بشرية حية تُصوِّر شتى العواطف الإنسانية. وخلق في «الجحيم» مواقف العطف والرحمة، وفي «الفردوس» مواضع التهكم والسخرية. حطم دانتي خلال «الكوميديا» الأرض قِطعًا صغيرة، وشيَّد منها عالمه الضخم، ولكنه عالم قديم جديد، كشف فيه أسرار النفس، واختلطت السماء بالأرض، وامتزج الأحياء بالأموات، واقترب الإنسان من الله، وانسابت أصوات الدنيا الصاخبة في أعطاف «الفردوس» الهادئ الصافي.

أراد دانتي بهذا كله أن يخلق عالمًا جديدًا تسوده الوحدة والصفاء والسلام. وكان ذلك حلمًا رائعًا، وأملًا عريضًا، سعى دانتي إلى تحقيقه في السياسة والفن والحياة. وقد راود ذلك غيره من رجال العلم والفلسفة والسياسة والفن، السابقين واللاحقين، ولا يزال يراود الإنسانية حتى اليوم. ولكن هل سيفطن البشر إلى مواطن العجز والقصور، ويعترفون بالخطأ، وهل يمكنهم أن يبلغوا مثل هذا العالم المثالي، أو ما يقرب منه، بوسائل دانتي أو بغيرها؟ أم أن هذا شيء سيظل، ربما لصالح البشر، أملًا لا يُرتجى!

٧

ليست ترجمة «الكوميديا» هي الكوميديا ذاتها. ولا يمكن أن تؤدي الترجمات ما أراد دانتي التعبير عنه تمامًا. وقد أعرب دانتي نفسه عن عدم اعتداده بترجمة الشعر، التي تضيِّع موسيقاه ونغمه. ومع ذلك فقد عكف كثير من الدارسين على نقل «الكوميديا» إلى لغاتهم، ليشترك أكبر عدد ممكن من الناس في تذوق المعنى والهدف الذي قصد إليه دانتي. فقد كان هو نفسه حريصًا على نشر المعرفة والفن والذوق بين الناس، حينما كتب «الكوميديا» بلهجة فلورنسا، حتى يقرأها مَن لا يعرفون اللاتينية، وهم الأكثرية. ومن أهداف ترجمة «الكوميديا» على العموم، توجيه بعض الناس إلى تعلم اللغة الإيطالية، لقراءة «الكوميديا» في نصها، وبذلك تُتاح الفرصة لتذوقها وفهمها على حقيقتها، والتمتع بما فيها من جمال رائع وفنٍّ عظيم.

ولقد اعتمدتُ في ترجمة «الجحيم» على عدة طبعات إيطالية؛ لأن دانتي لم يترك من «الكوميديا» نسخة واحدة بخط يده، وترجع أقدم نسخة خطية إلى نحو أربع عشرة أو خمس عشرة سنة بعد وفاته (١٣٣٥ أو ١٣٣٦). ولذلك فقد اعتمدت على ثلاث طبعات إيطالية رئيسة؛ طبعة الجمعية الدانتية الإيطالية، وجعلت لها المقام الأول. وطبعة أكسفورد. وطبعة ماريو كازيلا. كما رجعت إلى طبعات إيطالية أخرى، نشرها بعض المختصين في الدراسات الدانتية، وكذلك رجعت إلى بعض الترجمات الإنجليزية (والأمريكية) والفرنسية شعرًا ونثرًا، للاستئناس بطريقتها في التغلب على صعوبات الترجمة. كما اطلعت على الترجمتين العربيتين السابقتين ﻟ «الكوميديا» و«الجحيم». وقد مر عملي في هذه الترجمة بأكثر من دور؛ حاولت أولًا أن أكون قريبًا من النص الإيطالي، ثم حاولت القيام ببعض التصرف، ثم رجعتُ إلى الاقتراب من النص الإيطالي، ولم أتصرف إلا في أضيق الحدود، وأشرت إلى ذلك غالبًا في الحواشي.

ويظلم دانتي مَن يحاول ترجمة «الكوميديا» إلى لغة أخرى بأسلوب فصيح موحد. وهناك ترجمات عظيمة في حد ذاتها تمتاز بالفصاحة والفخامة، وتُعَد صياغتها في اللغة الأجنبية فوزًا كبيرًا، وقد تؤدي خدمة جليلة لنجاحها في تقريب دانتي إلى أهل تلك اللغة. ونرى ذلك في ترجمة فرانسيس كاري الإنجليزية الشعرية مثلًا، التي اتبع فيها أسلوب ميلتون، فوجدَت آذانًا صاغية عند الإنجليز في القرن الماضي. وكذلك نلاحظ على الترجمة الإنجليزية الشعرية التي صنعتها دوروثي سايرز للجحيم والمطهر قوة الصياغة وفخامة الأسلوب في كل بيت، ولا شك أنها ترجمةٌ عظيمة، ولكنها تخالف أسلوب دانتي وطريقته. وأفضل ترجمات «الكوميديا» هي الترجمات التي يحاول مترجموها التجاوب والتموج مع دانتي، والانتقال معه من الشعر الفخم والقول الجزل، إلى الكلام البسيط العامي الذي يجري على ألسنة الناس في الشارع والبيت، وذلك مثل ترجمتَي سنكلير وأيرس الإنجليزيتين النثريتين، وترجمة تشاردي الإنجليزية الشعرية. ويَحسُن بمترجمي دانتي إلى إحدى اللغات الأجنبية أن يراعوا أن ما دخل على اللاتينية القديمة الصافية من الألفاظ الغريبة، وما حدث من الخروج على أصالتها هو الذي أوجد لاتينية العصور الوسطى؛ وما أصاب اللاتينية القديمة ولاتينية العصور الوسطى، من الخروج على القواعد، والتأثر بالألفاظ الغريبة، وبالألفاظ والتعبيرات العامية هو الذي ساعد على خَلق اللغة الإيطالية، حينما اكتملت لها عوامل التطور التي حولتها إلى لغة جديدة.

ولذلك حرصتُ قدر المستطاع على متابعة أسلوب دانتي بوصفه معبِّرًا عما تناوله بأساليب متنوعة، وباعتباره خارجًا على سلطان اللاتينية، حتى أصبح بمثابة خالق للغة جديدة، حينما جعل لهجة فلورنسا (العامية) جديرة بالقول العظيم. وجعلتُ وضع الأبيات قريبًا من الأصل الإيطالي بقدر المستطاع، وإن كنت قد كتبت أبيات كل ثلاثية دفعة واحدة عند الطبع. واحتفظت بكتابة أسماء الأعلام كما وردت في لغاتها الأصلية في الغالب، إلا ما أصبح مشهورًا في إيطاليا، أو كان أخف نطقًا في الترجمة، فقد كتبته بالنطق الإيطالي. ولعلي أكون قد جعلت النص الإيطالي واضحًا مفهومًا للقارئ العربي، ولقد بذلتُ جهد المستطاع لكي أبلغ هذا المستوى، وعلينا أن نراعي اختلاف النصوص، وتطور اللغة، واختلاف الشراح، وغزارة ما كتبوه، ولا أزعم أن هذا هو أفضل ما يمكن في هذا الصدد، ولكني لم آلُ جهدًا فيما فعلت. وتستلزم قراءة دانتي الأناة والتريث، والرغبة في المعرفة، والقدرة على الاستيعاب والتذوق.

وما من أمة متحضرة إلا وبها مختصون في دراسة دانتي. ولقد بدأتْ دراسة حياة دانتي وآثاره بعد موته في القرن الرابع عشر، في فلورنسا وأنحاء من إيطاليا، وانتقلت هذه الدراسة إلى خارج إيطاليا منذ أواخر القرن الرابع عشر. وظلت هذه الدراسة مستمرة، تنشط تارةً وتفتر تارةً أخرى. ومنذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر، زاد اهتمام الباحثين بالدراسات الدانتية، ولا تزال هذه العناية قائمة حتى اليوم. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر أُنشئت الجمعيات الدانتية في كثير من دول الغرب، مثل جمعية دانتي في درسدن سنة ١٨٦٥، وجمعية دانتي في أكسفورد سنة ١٨٧٦، وجمعية دانتي في كمبردج في الولايات المتحدة الأمريكية سنة ١٨٨٣، والجمعية الدانتية الإيطالية في فلورنسا سنة ١٨٨٨. وعُنيت الجامعات الغربية — إيطالية وغير إيطالية — بالدراسات الدانتية. وعكف الباحثون — وبعضهم من رجال الدين — على دراسة حياة دانتي، وعلى تحقيق نصوص مؤلفاته الإيطالية واللاتينية، وتُرجمت مؤلفاته إلى اللغات الأجنبية، وكُتبت الشروح والتعليقات، والمؤلفات العامة والتفصيلية، ووُضعت المعاجم والفهارس، ونُشرت الدوريات الدانتية، وكُتبت المقالات في الدوريات المختلفة، وطُبعت القراءات الخاصة، ووُضعت كتب المراجع، وعُنيت دور الكتب والجامعات الأوروبية والأمريكية بجمع المؤلفات الدانتية.

ومن تتسع له الفرصة لقراءة دانتي، يُجتذب إليه، ويصبح تلميذًا له، بل تلميذًا في ميدان العلم والمعرفة على وجه العموم. ولدانتي مئات الألوف من الدارسين والتلاميذ والمعجبين في أنحاء العالم المتحضر كافة؛ لأنه شاعر فنان حكيم صوفي، عبَّر أصدق التعبير عن كل ما يقع تحت أعين البشر وإحساسهم. ومن العلماء والأدباء الأعلام في الدراسات الدانتية: باسكولي، وكاردوتشي، ودي سانكتس، ودوفيديو، وزنجاريلي، ودل لونجو، وبيترو بونو، وبابيني، من الإيطاليين. وشلوسر، وباور، وبومر، وفيجلي، وفوسلر، من الألمان. وبارلو، ومور، وتوينبي، وجاردنر، وتوتزر، وسايرز، من الإنجليز. ولونجفلو، ونورتون، ولوول، وهوايت، وويلكنس، وتشاردي، من الأمريكيين. وأوزانام، وأوفيت، ولونيون، وجييه، وماسيرون، من الفرنسيين. وبلاثيوس الإسباني، وسكارتاتزيني السويسري.

ورجَّح إدوارد مور في أواخر القرن الماضي أن طبعات كتابات دانتي وترجماتها والمؤلفات والبحوث الدانتية، تأتي في المرحلة الثانية بعد الكتاب المقدس في طبعاته المختلفة والبحوث المتعلقة به. وسواء أصح هذا الترجيح في زمنه أم لم يصح، وسواء أصح بالنسبة للوقت الحالي أم لم يصح، فإن التراث والمؤلفات الدانتية من أعمق وأضخم ما أنتجته العقول. ومن الأمثلة على ضخامة التراث الدانتي أن نُسخ «الكوميديا» المخطوطة في العالم يتراوح عددها بين ٥٠٠ و٦٠٠ نسخة. وعندما أراد ويلاردفيسكي أن يضم بعض المؤلفات والمراجع الدانتية إلى مكتبة جامعة كورنيل بالولايات المتحدة الأمريكية — بمناسبة جمعه مكتبة خاصة عن بتراركا — توقع أنه سيجمع عن دانتي نحو ٣٠٠ أو ٤٠٠ كتاب، ولكنه عندما قضى بعض فترات باحثًا منقِّبًا في إيطاليا وخارجها عن هذه الكتب، هالَه ما تجمع لديه منها؛ إذ بلغ ٧٠٠٠ مجلد، ووضع لها تيودور كوخ فهرسًا طُبع في نيويورك ١٨٩٨–١٩٠٠، ويقع في مجلدين يبلغ عدد صفحاتهما أكثر من ٦٠٠ صفحة بالحجم الكبير! وأصدرت ماري فاولر ملحقًا بالإضافات الدانتية حتى سنة ١٩٢٠، وبذلك بلغت هذه المجموعة وقتئذٍ ٩٧٧٥ كتابًا! ويحتوي مثلًا كتاب باسيريني وماتزي عن المراجع والبحوث الدانتية، في الفترة من سنة ١٨٩١ إلى سنة ١٩٠٠، على ٥٩٤ صفحة، ويشمل ٤٣٩٢ رقمًا، أي: ٤٣٩ رقمًا في السنة مع إغفال المستخرجات! وبلغ التراث الدانتي الذي صدر في النصف الأول من القرن الحالي أكثر من ٢٢٠٠٠ رقم! وأورد إيفولا في كتابه عن المراجع الدانتية، من سنة ١٩٢٠ إلى سنة ١٩٣٠، أورد ٣٧٥٣ رقمًا!

وتُرجمت مؤلفات دانتي، وعلى الأخص «الكوميديا»، إلى كثير من لغات العالم، مرات عديدة في كل لغة. تُرجمت «الكوميديا» مثلًا إلى الإنجليزية أكثر من ٧٥ ترجمة جزئية وكاملة، منها أكثر من ٤٠ ترجمة كاملة! وتُرجمت «الجحيم» وحدها إلى الإنجليزية أكثر من ٢١ ترجمة، وتُرجم «المطهر» وحده أكثر من ٨ مرات، وتُرجم «الفردوس» وحده أكثر من ٥ مرات. ومن أحدث الترجمات الإنجليزية ﻟ «الكوميديا» ترجمة دوروثي سايرز، التي ترجمت «الجحيم» شعرًا، وصدرت في طبعة بنجوين ست مرات من سنة ١٩٤٩ إلى سنة ١٩٥٥. وأصدرت ترجمة «المطهر» شعرًا في الطبعة ذاتها سنة ١٩٥٥. وهي تعمل الآن في ترجمة «الفردوس». ومنذ سنة ١٩٤٨ إلى سنة ١٩٥٥، نُشرت ترجمات «الكوميديا» أو جزء منها إلى الإنجليزية شعرًا أو نثرًا، لستة من الأساتذة والشعراء القدامى والمُحدَثين في الولايات المتحدة الأمريكية، وهم هوايت وأيرس وبرجن وتشاردي وهوس ونورتون، وقد عمل كلٌّ منهم مستقلًّا في ترجمته الخاصة، ولا يزال عمل من لم يكملها منهم جاريًا! وتُرجمت «الكوميديا» ترجمة كاملة إلى الفرنسية أكثر من ٢٢ ترجمة، عدا الترجمات الجزئية. وأحدث ترجمة فرنسية هي ترجمة ألكسندر ماسيرون النثرية، التي طُبعت في باريس ١٩٤٧–١٩٥٠. وتُرجمت «الكوميديا» كاملة إلى اللغة الألمانية أكثر من ٢٢ مرة. وتُرجمت إلى الإسبانية أكثر من ٨ مرات، ومرتين — على الأقل — إلى اليونانية الحديثة. وهناك ترجمات ﻟ «الكوميديا» إلى لغات أخرى، كالروسية والبولندية والسويدية والرومانية والمجرية والبرتغالية والعبرية واليابانية والفارسية. وتُرجمت «الكوميديا» ٤ مرات إلى اللغة اللاتينية. وتُرجمت إلى أكثر من ١١ لهجة من لهجات إيطاليا المحلية.

وكان متوسط طبع «الكوميديا» في نصها الإيطالي في أثناء القرن التاسع عشر أكثر من ٤ طبعات في العام، في أوساط الدراسات الدانتية في العالم. وفي القرن نفسه بلغ متوسط طبعات مؤلفات دانتي كاملةً وجزئية، والمقالات والبحوث في الدوريات المختلفة، أكثر من ٢٠٠ في العام، في إيطاليا والأراضي التي تتكلم الإيطالية.

هذه بعض أمثلة عن مدى عناية العالم المثقف بدانتي والدراسات الدانتية، التي لا تزال ماضية إلى الأمام حتى اليوم، بعناية فائقة وصبر عظيم.

وكذلك وجد دانتي عناية كبيرة من جانب رجال الفن؛ فقد تناول دانتي وبعضَ نواحٍ من مؤلفاته الرسامون والمصوِّرون والنحاتون والموسيقيون، الذين وضعوا رسومًا كروكية، أو صورًا ملونة وغير ملونة، وصنعوا التماثيل، وألَّفوا الألحان التي تعبِّر عن بعض ما جال في ذهن دانتي أو جرى به قلمه. ومن هؤلاء: جوتو، وسنيوريلي، وبوتتشلي، وميكلأنجلو، وتزاندوناي، من الإيطاليين. وديلاكروا، ودوريه، ورودان، من الفرنسيين. وبليك ووستماكوت وهوليديي، وروستي، من الإنجليز. ولِيست المجري، وفاجنر الألماني، وتشايكوفسكي الروسي.

ومع أن حظ دانتي مع أبناء اللغة العربية قليل جدًّا، إلا أن الأمر لم يخلُ من بعض الدارسين الراغبين في المعرفة، الذين تناولوا بعض نواحٍ منه، أو ترجموا شيئًا عنه. ومن هؤلاء قُسطاكي الحمصي، الذي كتب تسع مقالات في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق سنتَي ١٩٢٧ و١٩٢٨، عن الموازنة بين «الألعوبة» الإلهية ورسالة الغفران، وجعل فيها دانتي سارقًا لأفكار المعري وصوره، وقال إنه كان جديرًا بدانتي أن يتخذ المعري — وليس فرجيليو — دليلًا له ومرشدًا في رحلته الخيالية، وأظهر بذلك أنه لم يستطع أن يتذوق ما عند دانتي من فن عظيم! وقد تأثر في ذلك بما كتبه قلةٌ من الكُتاب الذين لم يستطيعوا أن يتذوقوا أدب دانتي وفنه، وعلى الأخص برتون راسكو الأمريكي، الذي مسخ فن كثير ممن تناولهم من «عمالقة الأدب»! وعندما نشر كامل كيلاني رسالة الغفران للمعري في القاهرة سنة ١٩٣٠، لخص في آخر كتابه جحيمَ دانتي تلخيصًا وافيًا، وأشار إلى أثر المعري في دانتي، دون أن يناقش الموضوع. وكتب محمود أحمد النشوي عشر مقالات في مجلة الرسالة في القاهرة سنة ١٩٣٤، بعنوان بين المعري ودانتي، لخص فيها «الجحيم» و«المطهر»، وتكلم عن بعض أوجه الشبه والخلاف بين الكوميديا والغفران. وكتب دريني خشبة ست مقالات في مجلة الرسالة في القاهرة سنة ١٩٣٦، عن دانتي والكوميديا الإلهية والمعري ورسالة الغفران، لخص فيها حياة دانتي، وأشار بإيجاز إلى مؤلفاته الصغرى، وأورد ملخصًا ﻟ «الجحيم» و«المطهر» و«الفردوس»، وكذلك لخص الفصل السادس من إنيادة فرجيليو، ونفى تأثُّر دانتي بالمعري، وأشار إلى أثر بعض الصور القرآنية، والإسراء والمعراج الإسلامي، في كوميديا دانتي. ونشر عمر فروخ في بيروت سنة ١٩٤٤ كتابًا عن حكيم المعرة، أورد في آخره فصلًا موجزًا عن دانتي والكوميديا الإلهية، وتأثُّرها بالمعري والتراث الإسلامي.

وكتب محمد مندور في كتاب نماذج بشرية، في القاهرة سنة ١٩٥١، مقالين عن بياتريتشي، وعالج بقلم الأديب الفنان دورها في «الحياة الجديدة»، وكيف كانت مصدر الإلهام لدانتي، وشرح مكانتها في «الكوميديا»، وعلى الأخص في «المطهر»، وكيف أنها كانت وسيلة لبلوغ دانتي مراتب السعادة الأبدية. وكتابة محمد مندور تدل على عُمق الفكر، ورفعة الذوق، ودقة الحس. ونشرت مجلة كتابي في القاهرة سنة ١٩٥٣، ثلاث مقالات قدَّمت فيها موجزًا عن حياة دانتي، ولخصت «الجحيم» و«المطهر» و«الفردوس». وكتب محمود محمد الخضيري في مجلة رسالة الإسلام في القاهرة سنة ١٩٥٣، مقالًا عن أثر الإسراء والمعراج الإسلامي في كوميديا دانتي، بناء على نظرية آسين بلاثيوس، يؤيدها إنريكو تشيرولي، بكشفه الحديث عن إحدى قصص المعراج الإسلامي المترجمة إلى اللاتينية والفرنسية القديمة، والتي سبقت الإشارة إليها. ووضعت عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) كتابًا عن الغفران للمعري في القاهرة سنة ١٩٥٤، أنكرت في آخره تأثُّر دانتي بالإسلام بعامة، وبالمعري بخاصة، وقصَرَت تأثره على تراث العصر القديم والعصور الوسطى، وإن كانت قد قست في وزنها لآراء آسين بلاثيوس دون مبرر. وهناك صفحاتٌ طيبة عن دانتي وآثاره، باعتباره أحد قادة الفكر المصلحين، في كتاب هربرت فيشر عن تاريخ أوروبا، في القسم الثاني من تاريخ العصور الوسطى، الذي اشترك في ترجمته ومراجعته محمد مصطفى زيادة، والسيد الباز العريني، وإبراهيم أحمد العدوي، وطُبع في القاهرة سنة ١٩٥٤. ونشر محمد العزب موسى في مجلة الرسالة الجديدة في القاهرة سنة ١٩٥٥، مقالًا عن دانتي أليجييري شاعر إيطاليا، تناول فيه حياته ومؤلفاته الصغرى، ولخص «الجحيم». وفي كتاب آنخل جُنثالث بالنثيا عن تاريخ الفكر الأندلسي، الذي نقله حسين مؤنس عن الإسبانية مع الإضافة والشرح والتعليق، في القاهرة سنة ١٩٥٥؛ فصلٌ عن دانتي والإسلام، تناول شرح نظرية آسين بلاثيوس في تأثر دانتي في «الكوميديا» بالتراث الإسلامي الديني والصوفي والقصصي.

ولم يعتمد أغلب هؤلاء الكُتاب في دراستهم على اللغة الإيطالية مباشرةً، أو لم يعتمدوا عليها اعتمادًا كافيًا، ومع ذلك فلهم فضل كبير في محاولتهم إعطاء صورة عامة عن دانتي وآثاره.

وكذلك كتب طه فوزي — وهو من خِيرة العارفين باللغة الإيطالية — الكتاب العربي الوحيد، فيما أعرف حتى مايو سنة ١٩٥٥، عن دانتي أليجييري، في القاهرة سنة ١٩٣٠. وهو كتاب موجز جيد، أعطى فيه الكاتب صورةً واضحة عن حياة الشاعر، وقدَّم ملخصًا حسنًا ﻟ «الجحيم» و«المطهر» و«الفردوس»، كما أشار إلى مؤلفات دانتي الصغرى، وإن كان قد اعتمد في وضعه إلى حدٍّ كبير على كتاب أ. ياني، بعنوان «جولة في قارب صغير: كتاب عن إلمامة أولية بدانتي»، المطبوع في ميلانو سنة ١٩٢٧.

وهناك بعض جهود في ترجمة بعض آثار دانتي إلى اللغة العربية. ومن ذلك ترجمة عبود أبي راشد ﻟ «الكوميديا» نثرًا، بعنوان «الرحلة الدانتية في الممالك الإلهية»، في ثلاثة أجزاء؛ «الجحيم» و«المطهر» و«النعيم»، ونشرها في طرابلس الغرب ١٩٣٠–١٩٣٣. ومع أن المترجم كان من العارفين باللغة والثقافة الإيطالية، وعلى الرغم من المجهود الكبير الذي بذله في هذه الترجمة، فإنه لم يعبِّر عن لغة دانتي بأسلوب عربي ملائم. وكذلك ترجم أمين أبو شعر «الجحيم» نثرًا، ونشرها في القدس سنة ١٩٣٨. ولغته لطيفة مقبولة، ولكنه تصرف في الترجمة دون ضرورة، واعتمد إلى حدٍّ كبير على ترجمة كاري الإنجليزية.

وقد حاولت أن أُسهِم في هذا الميدان؛ فنشرت مقالًا عن حياة دانتي وشخصيته، في مجلة الكاتب المصري في القاهرة سنة ١٩٤٨. وترجمتُ فصولًا تتناول بعض شخصيات من جحيم دانتي، مع التحليل والتعليق، نُشرت في مجلة كلية الآداب بجامعة «القاهرة» ١٩٤٩–١٩٥٠. وأخيرًا قمت بهذه الترجمة ﻟ «الجحيم».

هذه جهود قليلة جدًّا في هذا المجال، ومع ذلك فهي أفضل من لا شيء. ولعله يأتي يوم قريب أو بعيد، يدرك فيه الناطقون بالضاد أهمية دراسة دانتي وآثاره، لا سيما إذ كان أسلافنا في الجنس واللغة والدين والعلم قد أثَّروا، ولو بطريق غير مباشر، في بعض إنتاجه العظيم. وجدير بنا أن يظهر فينا من يتتبع هذه العلاقة المثمرة، كما فعل بعض علماء الغرب. وفضلًا عن ذلك فإن دانتي ثروة إنسانية هائلة؛ إذ مهَّد للخروج من العصور الوسطى إلى عصر النهضة والعصر الحديث، وأفاد منه أهل الغرب — بل الشرق أيضًا، كاليابان — على اختلاف لغاتهم. ودانتي — كما رأينا، وكما سنرى بقراءته — ينشر العلم، ويَصقُل النفس، ويربِّي الذوق، ويعلِّم السياسة، ويؤيد العدالة والحرية، ويقوِّي الروح المعنوية، ويدعو إلى التضحية والوطنية، ويزرع الإيمان والصفاء والأمل، ويحلِّق في أجواز من السعادة الروحية، ويخلق فنًّا رائعًا لا يدانيه فيه إنسان. وجدير بنا أن نشارك في الإفادة بهذا التراث الإنساني العظيم، ونُسهِم في دراسته وتعميمه بين قراء اللغة العربية.

وبعد، فهذه نواحٍ من دانتي؛ عن عصره، وحياته وشخصيته، ومؤلفاته الصغرى، و«الكوميديا»، وبعض الدراسات الدانتية. ولم أقصد في هذه المقدمة أن أُفصِّل وأوفي كل ناحية حقها من البحث والاستقصاء؛ إذ إن ذلك يقتضي زمنًا طويلًا وجهدًا كبيرًا، ليس في استطاعة دارس بعينه أن يؤديه بمفرده الأداءَ العلمي المناسب، ولكني قصدت أن أقدم من المعلومات ما قد يساعد القارئ العربي — ويساعدني أيضًا — على فهم «الجحيم» واستيعاب ترجمتها، ولعلِّي أكون قد بلغتُ بذلك بعضَ ما راودني من أمل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤