رسالة إلى ولدي

١

أي بني!

قرأت خطابك وأعجبني منك الدقة في النظام، واستقلالك بنفسك في تصرفك، واستفادتك من كل ما ترى، وأكتب إليك اليوم فأخبرك:

بأنه كان لك قريب من أعيان المنوفية ورث عن أبيه ثروة كبيرة تقدر بنحو ثلاثمائة فدان، ولكنه وقع في عادة سيئة هي لعب القمار، وكان مغفَّلًا فكان يشتريه اللاعبون بعضهم من بعض، وما زال به القمار حتى خسر كل أطيانه، وكان يستجدي أخته فلا تعطيه وتقول له إن ثروتك كانت ضعف ثروتي فأضعتها، ثم كان يستجدي قريبة له ولك فكانت تعطيه الجنيه أو الجنيهين شفقة به حتى مات بائسًا!

وكان أحد معارفنا رجل قانون كبيرًا وذا عقلية جبارة؛ كان إذا حدَّثك عن القمار شرحه شرحًا وافيًا وفلسفه فلسفة دقيقة، ومع ذلك وقع في هذه العادة السيئة، فكان يسهر ليله كله على مائدة القمار حتى أضاع ثروته، ثم اضطر آخر الأمر أن يبيع بيته ويصرف ثمنه في الميسر، ثم اضطر أن يبيع أثاث بيته حتى أضاع كل شيء، ثم مد يده لأقاربه الأغنياء فأعطوه مرة ثم كفُّوا أيديهم عنه، وركبه الهم الثقيل فانفجر شريان في مخه فمات، ولا يزال بيته يذكرني بمأساته. رحمه الله.

أعرف مصلحًا اجتماعيًّا كبيرًا، وعاقلًا دقيقًا لبقًا، هوى اللعب في البورصة فكسب نحو مائة ألف جنيه في لعبة، وابتنى منزلًا فخمًا، وأثثه أثاثًا فخمًا، ثم خسرها في لعبة أيضًا، وباع بيته الذي بناه، وأثاث بيته، وركبه الهم أيضًا، فالتجأ إلى الخمر يسرِّي بها عن همه. فما زال كذلك حتى وقع في عادة الخمر كما وقع في عادة الميسر، وأفرط في الشرب حتى انفجر مخه فمات!

أي بني!

إني أحذرك أن تكون كأحد هؤلاء تستهويهم المائدة فيلتفُّون حولها، وللشيطان مداخل في ذلك، فهو يستهوي أولًا بالجلوس على المائدة من غير لعب للتفرج على اللاعبين، ثم يستهويك باللعب من غير نقود، ثم يجرك إلى اللعب بالنقود، فإذا أنت مقامر، أعاذك الله.

أي بني!

وأعرف طبيبًا كبيرًا ماهرًا في صناعته، جره أصدقاؤه إلى اللعب فقضى ليله لاعبًا يكسب كثيرًا ويخسر كثيرًا، ثم ضجت زوجته من طول سهره، ومن كثرة خسارته، فطلبت منه الطلاق فطلقها، وسعدت، وندم.

أي بني!

يجب أن تكون لك ميزانية كميزانية الدولة المنظمة تعرف مقدار دخلك وخرجك، ولا تصرف قرشًا أكثر من دخلك.

بل لا يصح أن تصرف كل دخلك، فالليالي من الزمان حبالى، لا تدري، ماذا يحدث، وكم من المال تحتاج، وقاك الله شر السوء.

أي بني!

وكان لنا أستاذ كبير في مدرسة القضاء يتقاضى خمسة وثلاثين جنيهًا في الشهر، كما يتقاضى مائتي جنيه في السنة من الجامعة المصرية ولكنه كان مسرفًا في بيته، يقيم كل أسبوع حفلات استقبال، وحفلات رقص وموسيقى، ويستدين كل شهر ما يحتاج إليه بيته من خبز ولحم ولبن وغير ذلك. فإذا جاء أول الشهر اصطف الدائنون على باب المدرسة حتى يقبض الأستاذ مرتبه ويخرج فيوزع عليهم أكثر مرتبه، ولا يبقي منه إلا ما يكفي ثلاثة أيام، فكان يقول: لعن الله السبعة والعشرين يومًا آخر الشهر، وكان يمد يده إلى زملائه في المدرسة فيقترض منهم.

أي بني!

حذار أيضًا من أن تكون مثل هذا، بل لا بد أن تعيش عيشة اقتصادية لا إسراف فيها ولا تقتير، وأن تكون معيشتك منظمة وبمقدار ما تكسب، بل أقل مما تكسب: لا حرمان ولا بهرجة، واعلم أن اضطرابك وفساد ميزانيتك شهرًا واحدًا يجر عليك فساد العمر كله، وإذا فسدت ميزانيتك وأنت لم تتزوج بعد فأولى أن تفسد بعد الزواج، وقاك الله شر الدَّين.

واعلم أن ليست الأخلاق صدقًا وعدلًا وشجاعة فقط، بل إن من أهم الأخلاق تنظيم الحياة أيضًا، وسيرك في الحياة المالية بنظام وإتقان، ولأن يمد الناس أيديهم إليك يقترضون منك خير من أن تمد يدك تقترض منهم.

وفي الحديث: اليد العليا خير من اليد السفلى.

حفظك الله من هذه الشرور، وجعل يدك العليا دائمًا، والسلام عليك ورحمة الله.

٢

فلنرحم العامل المسكين!

أي بني!

وصلتني رسالتك التي تقص عليَّ فيها ذلك الحادث المؤلم الذي حدث في الورشة التي تعمل فيها، ولشد ما تألمت لوفاة ذلك العامل الكهربائي الذي كان يحاول إيقاف المولد الكهربائي فسرت الكهرباء في جسمه، ثم وقع صريعًا على الأرض، ولشد ما آلمني وصفك لهذه الحادثة الأليمة التي حدثت أثناء انهماككم في العمل … ورجائي ألا يمر عليكم مثل هذا الحادث من غير أن تخرجوا منه بدرس نافع، وعبرة مفيدة لكم ولمن حولكم من الناس.

لقد سرني ما فعلتموه إزاء أسرة الفقيد التي كانت يعولها، وما قدمتموه من مال وخدمات، وسرتني محاولاتكم العديدة في أن تلاشوا كل ما يمكن أن يؤدي إلى أن تتكرر مثل هذه الحادثة … ولكن هناك درسًا آخر قويًّا يجب ألا يفوتكم حين تنظرون إلى هذا الحادث، وهناك عبرة يجب أن يعيها الجميع.

أي بني!

هذا العامل هو أحد العمال الملايين الذين يعملون في تلك الأجهزة والآلات، ووفاته — بصرف النظر عن المسئول في هذه الحادثة — تدل على تلك المصائب والكوارث والمتاعب التي يلاقيها العمال وأسرهم من جراء القيام بأعمالهم القاسية المتعبة المملة المتكررة، ولست أريد في مثل هذا الموقف أن أعيد تلك الكلمات والجمل التي قيلت في مثل هذه الأحداث من أنه يجب علينا أن نضمن سلامة العامل، وأن نهيئ له أعمالًا أقل قسوة وأقل جهدًا، إلى آخر ما قيل في مثل هذه المواقف … ولكنني أريد الآن أن أخاطب فئة أخرى غير فئة العمال ورجال المصانع، أريد أن أخاطب الفئة التي يعمل من أجلها العمال، والتي تفوز في النهاية بهذه الأجهزة التي دفع ثمنها من راحة العامل وأعصابه وحياته! أريد أن أخاطب كل من يركب سيارة وكل من يستخدم تليفونًا، أريد أن أقول له إن عليه أن يعلم تمام العلم ويحس كل الإحساس بأن سيارته هذه قد تعذَّب أثناء صناعتها عمال كثيرون، وأن تليفونه هذا قد هلك وقت عمله صناع عديدون، حتى أخرج له بهذه الصورة التي يراها.

أريد أن يصل هذا الرأي إلى عقولهم حتى يفهموه تمام الفهم، وأن يشعروا به كل الشعور … حتى إذا ركبوا سياراتهم لم يفعلوا بها ما يفعله كثيرون من الشبان المراهقين هذه الأيام، وحتى إذا ما شاهدوا آلة التليفون أمامهم، وحثتهم أنفسهم أن يقتلوا بها أوقات فراغهم، وأن يقتلوا بها أعصاب الناس كما قتلوا بها قبل ذلك العمال والصناع، كان لهم من ضميرهم ما يردعهم ويوقفهم عند حدودهم.

أي بني!

لقد انتاب البعض شعور قوي في بعض الأوقات بما للآلات والمصانع من أضرار كثيرة على المجتمع … فرأوا أنها تفقد العامل حريته، وتضيق من نطاق تفكيره، وتفسد إنسانيته، وتجعله جزءًا من آلته، فكأنه ترس أو عمود فيها، ولكن سرعان ما رأوا ما تخرجه الآلات من أجهزة تساعد في تقدم الإنسانية ونهضة البشر، ورأوا أن إخراجها إلى الناس قد يوازي ما يقدمه العمال من مجهود وتضحيات، وما يبذلون من تعب ومشقة.

والآن أرجو أن يساعدنا هؤلاء الذين يعمل لهم العمال على الاحتفاظ بهذا الرأي، فلا يحاولون استغلال ما ينتجه هؤلاء الملايين من الصناع المساكين في قتل أوقات فراغهم على حساب أرواح البشر.

أي بني!

نصيحتي لك — استنتاجًا من هذا الحادث — أن يمتلئ قلبك رحمة على العامل الفقير الذي يتعرض لهذه الأخطار، وعلى البائس المسكين الذي لا يجد قوت يومه، وعلى المريض المسكين الذي لا يجد صحته، وعلى الجندي المسكين الذي يضحي بحياته في ميادين القتال.

أي بني!

بل إني لأرجو أن تتسع رحمتك فترثي للمجرم الذي وقع في إجرامه، وللغني الذي يبتز أموال الناس … بل وللعاهرة التي اضطرتها حاجتها إلى أن تبيع جسمها، ولرجال السياسة الذين قست قلوبهم فدفعوا بالملايين من الناس إلى مجزرة القتال! فكل إنسان في الوجود — فقيرًا أو غنيًّا — يستحق الرحمة إذا اتسع أفقك وبعد نظرك.

أي بني!

ارحم ترحم، وليس يضيع حادث اتخذته درسًا وانتفعت به، وفقك الله وأصلح حالك، والسلام.

٣

كتبت إليَّ تسألني عن عزمك ترك لندن، بعد حصولك على الدكتوراه، والسفر إلى سويسرا للتمرين العملي، فلا بأس من ذلك، وإن كنت أعتقد أن الوسط الإنجليزي خير من الوسط السويسري لسببين:

الأول أن الوسط الإنجليزي أجد، وأقل لهوًا وعبثًا.

والثاني أنك كنت تحضر الدكتوراه، وكنت مشغولًا برسالتك عن اللهو والعبث، فإذا أنت ذهبت إلى سويسرا بعد الدكتوراه اتسع زمنك ووجدت ما يدعو إلى اللهو والعبث.

ومع ذلك فلا بأس من سفرك بشرط المحافظة على ضبط نفسك، واعتدال الميل إلى اللذائذ وخضوعه لحكم العقل، فكن سيد نفسك ولا تكن عبدًا لشهواتك، وضبط النفس يتطلب منك ألا تسرف في الشراهة والدعارة والطمع والغضب والسخط والثرثرة والإدمان، وقاك الله شرها جميعًا، ولست أريد أن تكون زاهدًا فأمنعك عن كل متعة، وإنما أريد أن تكون معتدلًا مقتصدًا في اللذائذ، لا تفريط ولا إفراط، ولا دعارة ولا رهبانية، وأحذرك على الخصوص من أشياء ثلاثة، الخمر والنساء والقمار، فهي شر ما يبلى به الإنسان ويفسد عليه حياته، ويضعف روحانيته، ويقل من حريته، ويسوقه إلى أسوأ حال.

وسألتني هل تتزوج من إنجليزية أو لا، فأقول لك إني مع اعتقادي بمزايا الفتاة الأوروبية من نظافة ونظام، وعناية كبرى بشئون الزوج، أرى أكثر من حولي من المتزوجين بأوروبيات غير سعداء؛ لأنهم رأوا أن زوجاتهم الأوروبيات قد ساءهن ما شاهدن من الأمور في مصر فهن ينغصن على أزواجهن إذا رأين فقراء مدقعين بجانب أغنياء مترفين، ويسوءهن أن يرين فوضى وقذارة وما إلى ذلك، وظهر أنهن كن يتصنعن التأكيد بسرورهن من الإقامة في مصر.

ومع كل هذا فسلطان الحب فوق كل سلطان، فأنا أترك لك وزن هذه الأمور، وأترك لك الاختيار بعد أن أبديت رأيي.

وأيضًا فالرجل إذا تزوج بأجنبية رأى نفسه مضطرًا أن يؤنسها بسينما وتمثيل وهواء طلق ونحو ذلك، فكان ذلك مثار الشقاق المتصل.

ولكن حذار أن تنخدع بما تفعله الفتاة الأوروبية من تصنع وإظهار ود متعمل، وإعجاب بموسيقى تعجبك، وفن يروقك، حتى توقعك في أحبولتها، فميز بين الطبيعي والمصطنع، والسليقي والمفتعل.

كل إخوتك بخير، وجارتك فلانة حملت في الرابع، ولكن تربية الأولاد وكثرة النفقات اضطراها إلى الذهاب لطبيب للتخلص من هذا الحمل البغيض، ولكن ذلك من غير علم أهلها، فأنا أعلم الخطر الشديد الذي تتعرض له الفتاة، ولكن الله سلم فنجت وفرحت بهذه النتيجة، فمن أبى قلة الأولاد فذلك أحسن لتربيتهم وأصح بجسم أمهم، وأكثر تمكينًا للآباء من أن يحسنوا تربية أولادهم، ولكني نصحتها بألا تعود إلى مثل هذه العملية الخطرة، فالوقاية بادئ ذي بدء خير من العلاج بعد فوات الأوان.

أرجو أن تخبرني بما استقر عليه رأيك والسلام.

زارني اليوم فنان مصري قال إنه اتخذ من بيته في الضواحي معبدًا لفنه، ويتقن ما يرسم في بطء ولا يسأل عن الزمن، ولكن يسأل عن الإتقان، وقال إنه يحتفظ في رسمه بروح مصرية صميمة، ويؤلف بين النزعات المصرية القديمة ومقتضيات الوقت الحاضر، وأنه نجح في عمله وعرض ما صوَّره على الإنجليز فأعجبوا به، وقالوا إنهم لا يستطيعون تقليد هذا الرسم الشرقي، لأنه وسط بين الفن الشرقي القديم والفن الغربي الحديث، وقالوا إنها تشبه عمل الآلات الميكانيكية إتقانًا وجودة، وأوصوه بالاستمرار في العمل وتمنوا له النجاح.

وقال هذا الفنان إنه استطاع أن ينشئ مدرسة على مذهبه التحق بها سبعة عشر فنانًا مصريًّا، وقال إنه يشترط فيمن يتقدم إليه ألا ينظر مطلقًا إلى الناحية المادية، ومن أجل ذلك حرم عليهم بيع اللوحات أو المطالبة بترقيات وعلاوات. فحمدت الله أن يكون في مصر ثمانية عشر راهبًا فنيًّا. وأتمنى لك عند رجوعك أن تكون راهبًا علميًّا والسلام.

٤

يا بني!

اعتادت أمك وأنت في مصر أن تشملك بعطفها، وتغمرك برحمتها، فتوفر لك كل ما تحتاجه من طعام وشراب ومنام، فاعتمدت عليها في كل ذلك لا على نفسك. ثم هي تسخِّر الخدم في غسل الصحون وما إلى ذلك، فاعتدت الراحة واستسلمت إلى الترف، وفررت من تحمل أي مسئولية. فلما سافرت إلى لندن شعرت بعيب هذه التربية وأنها أفقدتك الاستقلال، وتعودت عادات جديدة لم تكن لك من قبل، فعهد إليك أن تغسل الصحون لنفسك، وأن تحافظ على مواعيد الأكل في دقة ونحو ذلك، ثم رأيت عادات جديدة لأمة جديدة، فأنصحك أن تتحرى وتدقق التحري في عادات القوم الذين نزلت بينهم، وتختار منها أحسنها، وقد قرأت كتابًا في النظم الاجتماعية في إنجلترا لم أذكر مؤلفه اليوم، فإذا ذكرته أرسلته إليك فاقرأه وكرر قراءته، وتعرَّف عادات القوم واجتهد في أن تعتاد ما هو خير منها، فالإنسان هو العادة، والعادة تكوِّن المخ تكوينًا خاصًّا، ولو أن خبرتنا بالمخ كافية لاستطعنا إذا نحن نظرنا إلى مخ إنسان لم نره من قبل أن نخبره بواسطة تركيبه وحجمه وشكله بصفات كثيرة من صفاته، وأن من خصائص المجموعة العصبية الذي أهمها المخ قابلية التشكل. ومعنى أن الجسم قابل للتشكل أنه إذا اتخذ شكلًا جديدًا احتفظ به واستمر عليه، كالورقة تثنيها فتحس شيئًا من مقاومتها، فإذا ضغطت عليها اتخذت شكلًا جديدًا واستمرت عليه حتى لا تعود إليه إذا بسطت وهكذا. وكذلك الشأن في الأعصاب فكل عمل وكل فكر يشكلها بشكل خاص، حتى إذا أريد منها أن تعمل العمل ثانيةً أو تفكر التفكير ثانيةً كان ذلك أسهل؛ لأن الأعصاب استعدت للعمل وتشكلت به، كراكب الدراجة يجد صعوبة في ركوبها أول الأمر، ويجد صعوبة في حفظ التوازن عليها، فإذا استمر عليها واعتادها كان ذلك من أسهل الأمور، ومن أراد التأليف صعب عليه التفكير أول الأمر، فإذا اعتاده كان ذلك فيما بعد سهلًا عليه.

فمن خصائص العادة سهولة العمل المعتاد كتعلُّم المشي للطفل، فكم يقاسي في سبيل ذلك، وكلما مشى وقع، وقد يستغرق تعلمه المشي شهورًا، يتعلم أولًا كيف يقف، ثم يتعلم الارتكاز على رجل واحدة عند اتجاه الأخرى إلى الأمام، ثم يتعلم تغيير الارتكاز من رجل إلى رجل حتى إذا اعتاد هذا كله كان يسيرًا عليه. وكالكلام فقد تقتضينا الكلمة استعمال عضلات الحلق والشفة واللسان، وقد تقتضينا الكلمة الواحدة استعمال كل هذه العضلات، فإذا اعتدناها وتمرنا عليها سهل علينا النطق، وتكلمنا من غير شعور بصعوبة ما. واعتبر ذلك بنطق الإنجليزي أو الفرنسي بالعين العربية أو الضاد العربية، كيف يجد صعوبة في ذلك عند النطق بهما حتى يعتادوها.

ثم إن العادة توفر الزمن والانتباه، فعند تعلِّم الشيء قبل اعتياده يكلِّف انتباهًا شديدًا وزمنًا طويلًا، كالكتابة عندما نتعلمها قد تحتاج كتابة سطر واحد إلى زمن طويل وانتباه تام واستحضار للفكر كله، فإذا صارت عادة استطاع الإنسان أن يكتب صفحات في زمن كان يكتب فيه سطرًا، كما استطاع أن يكتب وفكره مشغول بشيء آخر. وهذا هو الفرق بين صاحب المهنة وغيره، فصاحب المهنة ألِف الشيء وسهل عليه من طول ما اعتاده. واعتبر في ذلك الفرق بين اليد اليمنى واليد اليسرى، فمن طول ما اعتادت اليد اليمنى الكتابة ونحوها سهل عليها العمل وقصر الزمن، ولا كذلك اليسرى. وقد يكون أسهل عليك أن تعتاد عادات القوم من أن تعتاد العادات المصرية، لأن الرأي العام هناك شديد والتيار قوي، فمتى انغمست في التيار جرفك وسرت في سبيله. ثم اعلم أن للعادة قوة كقوة الطبيعة؛ ولذلك يقولون إن العادة طبيعة ثانية، فاصبر على الأمر في أول الأمر إذا وجدت مشقة قبل اعتياده، فأنت إذا اعتدته سهل عليك، ثم إذا اعتدته فحذار أن يجرفك التيار المصري بعد رجوعك فتنسى عادتك وتغيرها إلى أسوأ منها، فالمحافظة على الزمن وضبط المواعيد وصدق القول عادات حسنة في إنجلترا ومصر على السواء، فليست هي محمودة في إنجلترا غير محمودة في مصر، ولكن ربما كلفك المحافظة عليها في مصر مشقة أكثر مما اعتدتها في إنجلترا، لضعف التيار وضعف الرأي العام، ولكن المهارة الكبرى أن تقف في عاداتك التي تعودتها موقف الشجاعة والحزم، ولو كان ذلك ضد التيار وضد الرأي العام، ومن غير ذلك لا يمكن أن تتقدم مصر جيلًا عن جيل وزمنًا عن زمن، وقد يكلفك ذلك مشقة ولكن كما قلت لك من قبل، إن الصبر عند الصدمة الأولى.

أي بني!

لو قلت إن الإنسان هو مجموعة عادات لم تكن بعيدًا عن الصواب، فالعادة هي التي تكسب كل ذي حرفة سحنة خاصة، حتى لتدرك إن كان هذا مدرسًا أو طبيبًا أو خياطًا إذا أنت دققت النظر في شكله. وقوة العادة هي التي تجعل المسنِّين كأبيك يرفضون الآراء الجديدة برغم ما عند بعضهم من المرونة، وتجعل الشبان أمثالك يسرعون في اعتناقها؛ ولذلك قل أن تجد عندنا شيوعيًّا شيخًا؛ لأن الشيوخ ألفوا من صغرهم آراء معينة اعتادوها، وأما أمثالك من الشبان فلم يألفوا نوعًا خاصًّا من الآراء، فكانوا لذلك على استعداد لقبول ما تقوم البراهين على صحته، ومن أجل هذا قامت النصرانية والإسلام على أكتاف الشبان، أمثال فتية أهل الكهف، وأمثال عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وأمثالهما، لأنه لهم من المرونة ما يجعلهم يقبلون الدعوة الجديدة، بينما كان أمثال دريد بن الصمة الشيخ، والأعشى الشيخ أيضًا وأمثالهما لا يألفون الإسلام لأنهم شبوا على غيره. قال جان جاك روسو: «يولد الإنسان ويموت وهو مسترق مستعبد، يشد عليه القماط يوم يولد والكفن يوم يموت.» وهو يقصد بذلك إلى تقيده بالعادات من يوم أن يولد إلى يوم أن يموت، فهو من حين كان في بطن أمه مقيد بعادات موروثة من أبويه، ثم بعادات تعوَّدها مدى الحياة منذ أن كان طفلًا إلى أن صار شيخًا.

ومن نعم الله عليك وعلى أمثالك أن كانت العادة سهلة التغيير، فيمكنك تغيير العادات السيئة التي ورثتها عن آبائك وبيئتك في مصر إلى عادات أحسن منها وجدتها في إنجلترا؛ فيجب لذلك اتباع القواعد الآتية التي وضعها الأستاذان بين وجيمس وهي:
  • (١)

    اعزم عزمًا قويًّا لا يشوبه تردد، وضع نفسك في المواضع التي لا تلائم العادة القديمة، وارتبط ارتباطات كثيرة منافية لها، وإذا رأيت أن إعلان عزمك على تركها مما يبعدك عن العودة إليها، فافعل. فمثلًا إذا أحببت أن تترك التدخين فتعمد جلوسك مع أصحاب لا يدخنون واعلن بين أصدقائك أنك تركت التدخين، فهذا مما يعينك عليه.

  • (٢)

    لا تسمح لنفسك بمخالفة العادة الجديدة، إلا بعد أن تتمكن جذورها من نفسك وحياتك، فإنك إذا سمحت لنفسك ولو مرة بالتدخين انفلت العيار، كالبكرة تلف خيطًا عليها، فإذا سقطت البكرة ولو مرة واحدة انحلَّ من الخيط ما يحتاج لإعادة طيه إلى عشرات من اللفات؛ ولذلك كان العزم على ترك العادة السيئة مرة واحدة خيرًا من تركها بالتدريج، لأن التدريج يشوقك إليها باستمرار.

  • (٣)

    انتهز أول فرصة لتنفيذ ما عزمت عليه، فإن الصعوبة ليست في العزم، وإنما هي في تنفيذه.

  • (٤)

    حافظ على قوات المقاومة واحفظها حية في نفسك، وذلك بأن تتبرع كل يوم بعمل صغير لا تقصد منه إلا مخالفة نفسك وآرائك؛ لأن هذا يعينك على مقاومة المصائب إذا حان حينها، وأرجو الله لك التوفيق دائمًا.

حاشية: مرضت أمك مرضًا شديدًا، ألزمها الفراش، وارتفاع الحرارة، وألححت عليها استدعاء الطبيب فلم تقبل بحجتين:
  • الأولى: الاعتقاد في القدر، وأن ما كتب على الجبين تراه العيون، وما قدر على الإنسان فلا بد أن يراه.
  • الثانية: أن كثيرًا من الأطباء قد أخطأوا فأماتوا المريض، ألم تسمع ما فعلوا بفلان إذ عالجوه فمات، وبفلانة إذ عالجوها فماتت أيضًا؟ فماذا يغني الأطباء؟ وما زلت أقنعها في الحجتين، فقلت: لها: إن المسلمين الأولين كانوا يعتقدون في ربط الأسباب بالمسببات، والأرض إنما تنبت الزرع بالبذر والغيث، فما لم تزرع وتبذر وتروى لا تنبت شيئًا؛ ولذلك حاربوا بكل ما استطاعوا من قوى حتى نجحوا، ثم غلوا في الاعتقاد بالقدر فلم يربطوا الأسباب بمسبباتها فضلُّوا في عقيدتهم. وأما من الناحية الثانية فإن بجانب الأطباء القليلين الذين أخطأوا، أطباء كثيرين نجحوا، وإني لا أزال أعتقد أن الذين يكذبون لا يزال صدقهم أكثر من كذبهم، والذين يظلمون يعدلون أكثر مما يظلمون، والأطباء الذين يخطئون أقل ممن يصيبون، وهناك أشياء لا يخطئون فيها إلا نادرًا، كتحليل البول ومقياس درجة الحرارة، ونحو ذلك. وما زلت بها حتى اقتنعت، فاستدعيت الطبيب، وقد عالجها، فشفيت ولله الحمد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤