المقدمة الثانية

في كتاب «حِكَم فتاحوتب»

أقلُّ ما يُقالُ في وصف هذا الكتاب المُستَطاب: إنَّ واضعه لم يترك بحثًا اجتماعيًّا إلَّا وطَرَقَ بابه، ولم يدعْ موضوعًا أخلاقيًّا إلَّا وخاضَ عُبابَه؛ فبَيْنا تراه يذكر آداب الجدل والبحث، ويصف كلَّ مُجادل، ويشرح ما ينبغي في حقِّه؛ كالإذعان لِذي الحُجَّة، أو الرد عليه بالتي هي أحسن، أو الإعراض عنه بلطف حسْبَما يقتضيه خُلُقه، وتدعو إليه حاله، إذ هو ينصح لابنه أن يُغضي لأيدي الأمراء والحكام، وأن يسترشد العلماءَ والمرشدين ليهتدي بهديهم، ويتعظ بخبرتهم وتجاربهم. ولم يكن نُصْح فتاحوتب قاصرًا على تلك المسائل التهذيبية، بل تناول أهم المسائل الاجتماعية؛ فشرح ما يليق بالرجل نحو المرأة، وما يجب في حق الوالد على الولد، وأفاض في وصف معاملة الخدم، وأمر بالإحسان إليهم، والعطف عليهم، وذكر حقوق الأُجَراءِ والعُمَّال على أرباب المال والأعمال.

وإذا حاولنا أن نُلخِّص حِكم فتاحوتب في كلمة واحدة تكون شعارًا لمبدئه في الأخلاق، فلا نختار لذلك أفضل من قوله: «كُنْ مُحبًّا للخير والناس تكُنْ سعيدًا في الدنيا والآخرة.» ولكِنَّا نأخذ على الحكيم المصري أنه لم يكن يرمي إلى نشر المبدأ الذائع لدى علماء الأخلاق وقادة الأفكار من أهل المدينة الحديثة، وهو حب الخير لذاته؛ وإنما كان يذكر على الدوام أن الطاعة والخضوع وفعل الخير، والتأدُّب في الحديث، والاعتدال في العيش، والإحسان إلى الفقراء تؤدي جميعها بالمرء إلى السعادة.

وبعبارة أخرى يقول فتاحوتب للإنسان: «إنك إذا أطعت آباءك في صغرك، ووليَّ أمرك في كِبَرك، وأحسنت السياسة في رئاستك، وغمرت بكرمك خدمك وحشمك ومن يلوذ بك، واعترفت بذنوبك وتُبْتَ عنها إلى الله؛ فإنك تنال رِضى الملوك، وتبلغ أسمى الدرجات، وتكون لدى الله من المقربين.» ويرى القارئ أن الرادع الذي استعان به فتاحوتب لِصدِّ البشر عن فعل الشر هو رادع مادِّيٌّ محْض، أو هو من قبيل «اعملْ تؤْجرْ». وهذا الرادع المادي من وضْع حكماء الشرق الأقدمين. وكان هؤلاء الحكماء يفضلونه على الرادع الأدبي، وهو محاسبة النفس وتأنيب الضمير؛ لا لأنه أفضل منه، بل لأن قيادة العامة بواسطته أسهل؛ فهو من هذه الوجهة وحدها أوْلى وأنفع، وعلى هذا المبدأ جاءت الديانات كلها؛ فلا سبيل للاعتراض عليه إلا بالاعتراض عليها.

وقد يأخذ بعض النقَّاد على الحكيم فتاحوتب إغفاله ذِكر أمور شتَّى؛ كالرِّفق بالحيوان، فإنه لم يذكر في قانونه كلمة في هذا الشأن، مع أن التاريخ لا يحفظ ذِكر أُمَّة كانت أرفق بالحيوان من الأمَّة المصرية، التي وصل بها حبها للأنعام وإشفاقها عليها أنها حرَّمت ذبحها أو قتلها، وجعلت منها آلهة اتخذتها للعبادة، وانتحلت لذلك أسبابًا وأعذارًا شتَّى. وقد عثر النقَّابون في قبر فتاحوتب — واضع هذا الكتاب — على سطور منقوشة مؤدَّاها: أنه كان يستدعي في كل صباح قردًا وثلاثة كلاب يُطعمها بيده ويمسحها؛ إشفاقًا منه عليها،١ ويؤخذ هذا الخبر وغيره من الأخبار دليلًا داحضًا على أن الحكيم لم يغفلْ ذكر بعض الأخلاق الفاضلة والعادات المُستحبَّة إلَّا لأنها كانت مشاعة لدى أمَّته.
ومن المسائل الجديرة بالنظر ذِكْر المؤلف لإِله واحد غير متعدد «مع العلم بتعدد آلهة المصريين»، ووصْفه ذلك الإله الفرد بأنه «يُعاقب المُذْنب، ويُثيب المُحسن، ويعطي السائل، وينظِّم الكون، ويحب مخلوقاته، ويُراقب أعمالهم حَسَنَها وسيِّئَها، ويَكْلَؤُهم بعين لا تأخذها سِنة ولا نوم»،٢ ويرى القارئ أن هذه الصفات أسمى ما يُوصف به الخالق — سبحانه وتعالى — ولو كان الواصف من أساتذة اللاهوت في النصرانية أو علماءِ الكلام في الإسلام، فهلْ كان فتاحوتب مُوحِّدًا كآبائه الكهنة،٣ وكان يريد بتوحيد الله في كتابه الإقرار والاعتراف بالوحدانية من طرف خفي؟ ولَسْنا نخوض عُباب هذا البحث لأنه يدخل في باب الحُكم على الغائب بالغيب، وهذا الحُكم لا يَصدُق إلا مصادفة، وليس للمصادفات مجال في ميدان الحقائق؛ إنما نُجيب على هذا السؤال بما يظهر لنا، ويجوز موافقته للحقيقة مع خروجه عن حدِّ الفرض المستحيل؛ فنقول: ربما رغب الحكيم أن يكون لحِكَمه تأثير نافع في انتشار كتابه في سائر المدن والأقاليم، فرمز لله بأنه الفرد القادر على كل شيءٍ؛ ذلك لأن أهل كل مدينة مصرية قديمة كان لها إله خاص بهم؛ كآمون بِطِيبة، وفتاح بمَنْف، وغيرها من الأرباب، فلو أنه ذكر واحدًا من تلك الآلهة المتعددة لكان نصيب كتابه من التأثير قاصرًا على أهل بلد دون غيره؛ لذا ذكر المؤلِّف لفظ الجلالة مطلقًا غير مقيَّد بزمان أو مكان أو اسم معروف، فكان أبناء كل بلد يقرءون الحِكَم، ويقِفون على ذِكر الله المطلق فيحسَبون أن المقصود هو ربُّهم. وقد انطلت تلك الحيلة الدقيقة على قدماء المصريين؛٤ فكانوا إذا رأوا ذِكر الله الغفور المُحسن المُعطي توجَّه كلٌّ بقلبه ولُبِّه إلى معبوده وربه. وها نحن أولاء نكتفي الأثري المصري الوحيد أحمد كمال بِك، في محاضرة ألقاها بنادي المدارس العُليا في خريف ١٩٠٧، عن التوحيد عند قدماء المصريين، قال:
قال تعالى: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ. هذه هي صيغة التوحيد عند المسلمين، وهي موافِقة تقريبًا للصيغة التي كان يَدين بها المصريون قبل عصر الملوك، ويدلنا على ذلك رسوم هيروغليفية وُجدت في أوراق البردي القديمة. وهنا ترجم الخطيب صورة لهذه الصيغة رسمها على لوحة الطباشير بما يأتي:

الله وحده لا ثانيَ له، يُودِع الأرواح في الأشباح، أنت الخالق، تَخلُق ولا تُخلَق، خالق السماوات والأرض.

وأخذ الخطيب يُبيِّن للحاضرين دلالة الرسوم الهيروغليفية على معانيها، فذكر أن الله كان يُرمز له بصورة رجل مهيب جالس على كرسي، وأن «لا» النافية يُرمز لها بذراعين ممدودين على خط مستقيم، وأن الأرواح يُرمز لها بثلاثة من الطير — وبهذه المناسبة ذكر الحديث المشهور: «أرواح الشهداء في حواصل طيور خُضْر.» وتكلم على ما يعتقده عامة اليوم من «تقمُّص أرواح الموتى للذباب الأخضر» — وأن العابد يُرمز له برجُل رافع يديه تعبُّدًا، والأرض بقوس تحته حصًى، وقال: إن الإفرنج كانوا يعتقدون إلى ما قبل عشر سنين أن قدماء المصريين وثنِيُّون، ولكن زال هذا الاعتقاد باكتشاف هذه الصيغة التي يُعزِّزها عدم وجود أصنام في مقابر ذلك العهد القديم.

مِن أين أتى التوحيد لقدماء المصريين على هذه الصورة؟

أتاهم التوحيد من نوح عليه السلام؛ فقد كان موحِّدًا بدليل قوله تعالى: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا، والخطاب للمسلمين الذين قدمنا عقيدتهم في التوحيد. وهنا يتجه اعتراض مؤدَّاه: أن الشِّرْك كان شائعًا عند قدماء المصريين بدليل قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، ومعلوم أن يوسف كان سجينًا عند فرعون مصر. ونُجيب على هذا بأن عقيدة الشِّرك لم تدخل مصر إلَّا مع العرب الذين دخلوا مصر في العهد القديم؛ أي قبل عصر الأسرات؛ ولذلك كان المصريون يُطلقون على بلاد العرب اسم بلاد الوثنية.

ثم ذكر الخطيب أن الوثنية سليلة بلاد العرب، بدليل أن محمدًا وجد بالكعبة ٣٦٥ صنمًا فهشَّمها، ثم أكد الخطيب أنه جمع أسماءها العربية فوجد أسماء تُشابهها في اللغة الهيروغليفية؛ ممَّا يدل على نقلها من العربية، وضرب مثلًا بصنم اسمه «بوانة» الذي حرَّفه الفرنج فجعلوه «فينكس»؛ لأن الباء تُنطَق في الهيروغليفية كالفاء، وقد ذكر العرب هذا الصنم باسم «فقنس»، وقال أصحاب الأساطير: إنه طائر يأتي من جزيرة العرب ويقف على معبد عين شمس، ثم يُرفرف بجناحيه فيتَّقد نارًا تلتهمه، ثم يُخلَق منها ثانية. وما نقله العرب هذا حديث خُرافة كالخُرافات اليونانية. ومن هذه الأصنام العربية اللَّات والعُزَّى ومناة، وإن لها ذِكرًا في اللغة الهيروغليفية مع بعض التحريف، ثم سُئل الخطيب: كيف تغلَّب الشِّرك على التوحيد؟ فقال: إن ذلك راجع إلى قوة المُتغلِّب.

وسُئل عن صيغة التوحيد التي أوردها آنفًا، فقال: إنها موجودة في أوراق البردي القديمة، ثم استطرد إلى تعريف البردي فقال: إنه نبات يُزرع في الوجه القِبلي، وتخرج منه غلَّة تُشبه القمح كان المصريون يقتاتون منها، وذكر أنهم كانوا يأخذون أوراقه ويلصقونها بعضها ببعض بالصمغ، وقد وجد الخطيب منها قِطعًا يبلغ طول بعضها ثلاثة أمتار. أمَّا اللوتس «البشنين» فإنه يُزرع في الوجه البحري، وهو يُنتج ثمرة مثل الشعير كانوا يقتاتون بها أيضًا، ويختلف عن البردي في أن أوراقه مسنَّنة لا مستديرة، وقد سطر المصريون على هذه الأوراق علومهم من طب وهندسة وحساب ورؤى فيها تمرينات على هذه العلوم ومسائل وأشكال هندسية.

ثم قال حضرة الخطيب: إن هذين النبتين يُرمز بهما لمن حكم الوجهين البحري والقِبلي، فإذا رأينا كرسيًّا مرسومًا عليه صورة البردي واللوتس عرفنا أن الملك الجالس عليه كان يحكم الوجهين البحري والقِبلي؛ لأن من يملك الغذاء يملك الرقاب.

١  شرْح العلَّامة بريس دافن على حِكَم فتاحوتب.
٢  شرْح العلَّامة بريس دافن على حِكَم فتاحوتب.
٣  ذَكر ماسبيرو في «فجر المدنية» أن الكهنة كانوا موَحِّدين إنما كانوا يكتمون عقائدهم عن الشعب، وفتاحوتب من نسْل كهنة فتاح؛ فلا يُستبعَد أنه كان يدين بدين آبائه وأجداده.
٤  الدليل على ذلك انتشار حِكَم فتاحوتب في كل مكان، في حياته وبعد موته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤