المقدمة الثالثة

تاريخ الأسرة الخامسة المصرية التي دُوِّنت في عهدها حِكَم فتاحوتب

كانت منفيس وما والاها من المدن مقر ملك الأسرة الخامسة المصرية التي بدأت دولتها في وادي النيل سنة ٢٧٥٠ق.م؛ أي منذ ستة وأربعين قرنًا، وكان ملوك تلك الأسرة إذا ورث أحدهم المُلك وتربَّع في دَسْت سلفه أضاف إلى اسمه لقب «ري». وقد حقق المؤرخون أن الكهنة هم الذين نصحوا لملوك تلك الأسرة بإسناد هذا اللقب إلى أسمائهم؛ لأن فيه رمزًا دينيًّا يجعل دار المُلك مرتبطة أبدًا بالسلالة المقدسة، ومعنى ذلك تسليم الملوك أمورهم جُلَّها أو كلها لرجال الدين، وإشراكهم في النفوذ والسلطان، ودليل المؤرخين على ذلك أن الكهنة حاولوا إقناع أفراد الأسرة الرابعة — وكلهم من الجبابرة العتاة بناة الأهرام الكبرى ومؤسسي الآثار الخالدة — أن يشفعوا هذا اللقب الديني «ري» بأسمائهم، فلم يرضَ ملوك تلك الأسرة، ولم يُفلح الكهنة في سعيهم.

وممَّا يؤكد ويؤيد حُجة المؤرخين في قولهم بخضوع الأسرة الخامسة لرجال الدين واستسلامهم لهم، أن الكهنة فرضوا على كل ملك من ملوكها أن يبني على مقربة من قصره معبدًا فخيمًا يسميه هيكل الشمس المقدس، وكانت هذه الهياكل تمتاز عن غيرها بأنها مربعة الشكل، وفي كل واحد منها غرف رحيبة، وفي مؤخر المعبد مرتفع من البناء عليه مسلة منقوشة باذخة يُرمز بها إلى إله الشمس رافعًا رأسه إلى السماء. وكانت غرف المعبد المذكورة آنفًا مُزدانة بالصور والنقوش التي تمثل منابع النيل وما حولها من البحيرات والجبال، وفي بعضها صور تمثل الصحراء الواسعة الأكناف، والبحر «المحيط» المترامي الأطراف، وبعضها يمثل أهل مصر في مزارعهم ومتاجرهم ومصانعهم.

وكان في كل معبد مكان خاص بالملك يصور فيه حوادث عهده الحربية والسلمية، ويظهر أن الكهنة الذين أشاروا على ملوك الأسرة الخامسة بتشييد تلك المعابد أمروهم بالعناية بها، ووَقْف ريع الضِّياع والحقول عليها، وتعهدها من حين إلى حين بالهدايا والتحف. وكانت تلك الهياكل في الواقع كأديرة النصارى وتكايا المسلمين، يقتسم خيراتها من الكهنة من تقدم في السن، أو لحقته الأدواء والعاهات العائقة عن القيام بشعائر الدين.

وقد انضم بعض شبان الكهنة إلى مشايخهم؛ حيث كانوا يعملون على ترقية الأخلاق بنشر الفضائل، وحث الناس عليها. ويذكر المؤرخون أن ذلك العهد كان بدءَ نهضة علمية أدبية؛ ففي أيام الملك «إيسوسي»، آخر ملوك الأسرة الخامسة، نشأ حكماءُ فضلاء وكُتَّاب مجيدون أشهرهم واضع هذا السفر الجليل الوزير فتاحوتب «الفتاح العليم»، وهو «وزير مصر، ومحافظ المدينة، وقاضي القُضاة، ووارث كهنة فتاح».

وكانت تلك النهضة الأدبية مُعزَّزة بنهضة سياسية أخرى؛ لأن ملوك تلك الأسرة تنازلوا عمَّا كان عليه أسلافهم من البطش والتفرد بالسلطة المطلقة، وأذنوا لأكابر وزرائهم باقتسام نفوذهم، والاشتراك معهم في تدبير شئون المُلك. وقد وصل الأمر بالوزراء إلى أنهم انتحلوا لأنفسهم لقبًا ثابتًا، هو لقب «فتاحوتب»، فكان فرعونَ في الإمارة وفتاحوتب في الوزارة، ثم إن الوزير الأكبر كان يترك منصبه لابنه يرثه بعده، كما كان الملوك يورثون المُلك بعضهم بعضًا؛ فكأن البلاد كانت في الواقع محكومة بأسرتين متضامنتين متكافلتين.

ومنشأ هاتين الأسرتين من الكهنة ورجال الدين الذين تغلبوا على أذناب الأسرة الرابعة، فغلبوهم على أمرهم وانتزعوا المُلك من أيديهم، ثم اقتسموه بينهم، فكان المُلك نصيب كهنة مدينة الشمس «هليوبوليس»، والوزارة نصيب كهنة فتاح، وهم — لا ريب — أضعف من كهنة مدينة الشمس نفوذًا، وأقل شأنًا وشأوًا.

وهذه الحقيقة التاريخية تُعلل تساهل ملوك الأسرة الخامسة مع رجال الدين، واستسلامهم لهم تعليلًا حسنًا؛ لأنه لولا ذلك اللين وتلك المُحاسنة ما استطاع فريق من رجال الدين أن يستقل بالمُلك، ما دام الكل يطمع فيه، والشعب المصري المسكين يمرح في نعيم الجهل، بعد أن حجب هؤلاء الخونة المستبدون من رجال الدين وغيرهم عنه نور العِلم وضياء المعرفة، وخَلُّوه يرسف في قيود الذل، ويعْمَه في ليل من الغفلة، ولولا ذِكر بعض حسنات الكهنة في كتب بعض المؤرخين، وثِقتنا بهم، وسعة اطِّلاعهم، لَارْتَبْنا في وصفهم كهنةَ الأسرة الخامسة بالصلاح، وقولهم عنهم: إنهم كانوا في معابدهم يعملون على ترقية الأخلاق بنشر الفضائل، وحثِّ الناس عليها.

بَيْدَ أن القوة المهولة الساهرة على حياة الشعوب التي لا تأخذها سِنة، ولا تغفل عمَّا يفعل الظالمون، انتقمت للضعفاء من الأقوياء، وانتصرت من الباطل للحق؛ فحدث ما كان في الواقع نتيجة منطقية لتلك المقدمات، وهو أن عمال الحكومة كبارهم وصغارهم رأوا كيف انتزع الكهنة المُلك من أيدي أصحابه، وتعلموا على أيديهم طُرق الاغتيال؛ فسنُّوا لأنفسهم سُنَّة جديدة، وهي أن يورثوا أولادهم مناصبهم من بعدهم، فكان كل عامل يخلفه ولده؛ ليكون خير خلف لخير سلف، وبعبارة أخرى كانت الحكومة المصرية في ذلك العهد وراثية «بيروقراطية»، وفي هذا النظام من مُنازعة الحكام والعمال للملوك نفوذَهم ما لا يخفى؛ لأن كل حاكم أو عامل في الحكومة يرى لنفسه حقًّا وراثيًّا فيها؛ فلا يستطيع الملك أن ينال من السلطة ما لا يود عماله.

ولمَّا كان أغلب صغار الحكام من طبقات الأمة المتوسطة، سرت روح الحرية شيئًا فشيئًا حتى بلغت الفئات النازلة، ثم إن الملوك أنفسهم كانوا يقرون بفضل فئة من أشراف المصريين عضدتهم، وشدَّت أزرهم، ورفعتهم إلى عرش المُلك؛ فكانوا يملقون هؤلاء النبلاء، ويسبغون عليهم ذيول العز، ويغمرونهم في كل آن بوافر النعم وجزيل الإحسان، حتى إن أول ملك من ملوك الأسرة الخامسة استعمل على مصر السفلى حاكمًا كان قبلُ نبيلًا، وقد أوشك هذا العامل أن يستقل بولايته لولا ضعف حزبه وأنصاره.

على أن كل الذنوب السياسية تُغتفر في سبيل ما أرغم ملوك الأسرة الخامسة على نشره من العدل في ربوع مصر؛ فشعر الشعب الذليل بنعمة الحرية، بعد أن ذاق صنوف المذلة والهوان على أيدي جبابرة الأسرة الرابعة؛ أمثال: خوفو، وخفرع، ومنقرع، القساة القلوب، الغِلاظ الأكباد، العتاة الظالمين الذين سجَّلوا على نفوسهم ذنوبًا لا يمحوها كر الدهور، ولا ينسخها مرُّ العصور، بل ما دامت الأهرام الكبرى تناطح السماء، وتقاوم طوارئ الحدثان، وتهزأ بتعاقب القرون على القرون والأزمان على الأزمان، وتشهد بأن كل صخر من صخورها هو دمع متحجر من دموع الشعب الذليل المُهان، الذي سِيق رغم إرادته والشمس المحرقة ترشقه بسهامها، والصحراء الحامية تُدمي أديم أقدامه بجمر أديمها، والسوط المثلث مُصوَّب إلى ظهره، والسيف المرهف مكان الغلالة من نحره.

سيق هذا الشعب المظلوم على تلك الصورة المفزعة تنفيذًا لرغائب عُتُلٍّ زنيم ومعتدٍ أثيم، أصابه مسٌّ من الجِن، فظن أن نفسه الخبيثة لا يليق بها إلَّا ذلك الهرم الجسيم، أو أراد أن يُخلَّد ذكره على صحيفة مصر فسفك دماء أبنائها؛ ليكتب بها سطرًا في الصحراء لا بد أن يمحوه الزمان، وما زوال ذِكر الظالمين وآثارهم على الظالمين بعزيز!

لست أدري لماذا ألوم ذلك الظالم الجهول خوفو أو كيوبس، الذي تعددت أسماؤه تعدد أسماء إبليس اللعين، واللوم خليق بالمؤرخين الذين ذكروه وذكروا أمثاله من الظالمين أشباه نابوليون الصغير ونيرون، أكثر ممَّا ذكروا سولون وسقراط وأرسطو وأفلاطون، وكان الجدير بهم أن يمحوا أسماءهم من كتبهم؛ لئلَّا ينالوا بهذا الذكر ما كانوا يرجونه من الصيت العتيد، والشأو البعيد.

نقول: ومدح الأسرة الخامسة في عُرْض الكلام على عتاة الأسرة الرابعة عدل؛ انظر إلى ما حاول ملوك تلك الأسرة تشييده من الأهرام مجاراة للسلف الطالح في الجيزة وأبي صير وصقارة؛ فقد جاءت كلها ككهوف القرون الأولى، فلا جلال لها، ولا سيماء للوقار عليها، وقد تهدم معظمها، وعن قريب لا يبقى منها إلَّا ذكرها في كتب الأخبار.

وهذا الضعف في البناء لا يُؤخذ دليلًا على تقهقر فن العمارة في مصر في عهد تلك الأسرة، إنما يُؤخذ دليلًا على انتشار روح الحرية الشخصية لحدٍّ محدود، وبرهانًا على ضعف نفوذ الملك؛ بحيث صار عاجزًا عن سَوْق الشعب لتشييد جبال الظلم والاستبداد كما تُساق الأنعام للذبح. وقد ذكر المؤرخ الكبير العلَّامة جمس هنري بريستد، الذي نعتمد على مؤلفاته في معظم ما نكتب، أن مصر «تقدمت في عهد الأسرة الخامسة تقدمًا ماديًّا وأدبيًّا، وأن الصنائع والفنون ارتقت ارتقاءً باهرًا، كما أن الآداب نهضت نهضة شمَّاء، فأُلِّفت الكتب، وصُنِّفت الرسائل، ودُوِّنت المقالات الطويلة والأبحاث العلمية الشائقة.» وذكر هذا المؤلف، في صحيفة ١٠٧ من كتاب تاريخ مصر القديم «طبع نيويورك»، «أن النهضة الأدبية، وإن كانت في عهد الدولة الخامسة في إبَّان نشأتها، فقد أنجبت كتَّابًا وحكماء هيهات أن يسمح الزمان بمثلهم في بدء أية نهضة في أية أمَّة، ومن هؤلاء الحكماء الوزير فتاحوتب، ورفيقه كاجمني وغيرهما.

وقد اشتغل هؤلاء الحكماء بوضع الحكمة في قالب الأمثال والمواعظ، ولم ينقطع أحدهم للتحرير والتحبير إلَّا بعد أن حنَّكته الليالي والأيام، ودربته الحوادث والتجارب، وقد شاعت مؤلفاتهم وتداولتها الناس كافة، وأقبلوا على حِكَم فتاحوتب خاصة، ولا بِدع إذا نالت تلك الحِكَم في الزمن الحاضر ما نالته في الغابر؛ فهي من أقدم ما كتب الكاتبون، وأفضل ما حبره الحكماء الخبيرون.» ا.ﻫ. ما قاله العلَّامة بريستد.

وقد ذكر بعد ذلك أن أسلوب التصنيف كان في ذلك العهد واحدًا، وأن الألفاظ التي استُعملت في الكتب قليلة محصورة، واستدلَّ بذلك على ضعف اللغة الهيروغليفية في عهد الأسرة الخامسة، ولكن غيره يرون غير رأيه، ويقولون: إن حال الشعب من العِلم ومكانته من المعرفة كانتا تستلزمان البساطة في التعبير، والسهولة في الإنشاء، والعناية بانتقاء الألفاظ التي تقرُب من ذهن عامة الناس، وهذا خير من التقعر وذِكر ما لم يصل إليه عِلم المتوسطين.

حِكَم فتاحوتب

هذه حِكَم الوزير فتاحوتب، وزير مصر وحاكم المدينة وقاضي القضاة في عهد الملك إيسوسي، ملك الملوك وأمير الأمراء وصاحب مصر السفلى.

قال الوزير فتاحوتب، وزير مصر وحاكم المدينة، وقاضي القضاة للملك إيسوسي: «اعلم يا مولاي، أن سراج حياتي أوشك أن ينطفئ؛ فأخذ الفَناءُ يدب في جسدي دبيب الشيب في الرأس، وتمكَّن الضعف من بدني تمكُّنَ القنوط من النفس، فعادت نَضرتي ذبولًا، وغضاضتي مُحولًا، وجسامتي نُحولًا، وقلَّ الخير والنفع، وذهب البصر والسمع، وعُقِدَ اللسان بعد أن خُتم على الجَنان؛ فلا قول نافع، ولا برهان قاطع، ولا ذهن يعي، ولا بيان شافع يُعيد ما مضى من عهد الفتى الألمعي.

فاسمح يا مولاي، لخادمك وعبد رحمتك وصنيع نعمتك أن يخلي منصبه لولده من بعده، ومُرْني أن أعلمه ما علمتنيه حِنكة الشيوخ؛ فقد قيل: إنهم مهبط الوحي ومسقط الحكمة. عفا الله عنك، وأرشد بك شعبك، وهَداه بهديك.»

فأجاب الأمير النبيل والملك الجليل إيسوسي، صاحب مصر السفلى: «أذنت لك أن تُعلِّم ابنك الحكمة؛ فلعلَّه يجيء فذًّا بين الأولاد، موفَّقًا إلى سُبُل الرشاد، فيكون قدوة لأمثاله، يسيرون على نهجه، ويختطُّون خطته، ويختارون حكمته، فيهتدون في تقويم اعوجاجهم بهُداه، ويسترشدون في إصلاح ما فسد من شئونهم بصلاحه وتُقاه.»

فكتب فتاحوتب، وزير مصر وحاكم المدينة وقاضي القُضاة، لولده يعلمه الحكمة وأدب النفس:

إذا أُوتيت العِلم فكن متواضعًا، وجادل الجاهل بالتي هي أحسن كما تُجادل قرْنك، واعلم أن الإنسان جاهل مهما اتَّسع نطاق علمه؛ لأنه ليس للذكاء حدٌّ، وليس للفضل والفِطْنة نهاية، وما ملك أحد ناصية الحكمة، واعلم أن كلمة الحق لدى الحُرِّ أثمن من يتيمة الدُّرِّ.

إذا جادلك حكيم عاقل، وكان أرجح منك فضلًا وعلمًا، وأقوى حُجَّة، وأرسخ قدمًا، فاخفِضْ له جَناح الذُّلِّ، ولا تُعْرِضْ عنه إذا خالف رأيه رأيك، واحذر أن تفوه بما يُحفظه، وإيَّاك أن تصدمه في حديثه؛ فإذا استكبر وتواضعتَ رفعت نفسك في نظره، واستللت بلينك من قلبه سخائم الكِبر، وربما سكن إليك وأحاطك بما لم تُحط به خُبْرًا، وإذا تجادل قرينك وألفيته لا يخرج في القول عن حدِّه، ولا يميل عن الحق إلى ضده؛ فلا تُغضِ عنه؛ فإن الإغضاء يورث الأحقاد، ويغرس بذور العداوات.

وإذا جادلت من هو أقل منك قدرًا فلا تسخرْ منه ولا تحتقر شأنه؛ لفقر فيه أو لضعف طرأ عليه، ولا تلحف عليه بالسؤال فيما لا يعنيك حبًّا في استطلاع أمره، وإذا أغضبك فلا تصبَّ على رأسه جامَّ سخطك؛ فما ظلم الناس شرٌّ ممَّن هزأ بهم، وما آلمهم شرٌّ ممَّن استكبر نفسه واستصغر نفوسهم، وإن خدعتك نفسك وأغرتك بالشر فاعصِها واغلبها على أمرها؛ فإن هذه صفات الأبرار الصالحين.

وإن كنت، يا أيها الولد، زعيمًا تُرشد قومًا، أو قائدًا تقود شعبًا؛ فكن كريم الأخلاق، حسن الشيم لا تشوب أدبك شائبة، واعلم أن الصدق أعظم النعم، وله حول وطول، ولن يخذل صاحبه، وما كان الباطل ليغلبه؛ إن للباطل جولة لا تبقى أكثر من ساعة، وإن للحق دولة تدوم إلى يوم الساعة، واعلم أن الإذعان للحق فضيلة لا تُنكَر، وأن الاعتداء عليه ذنب لا يُغفَر، ولا يعتدي على الحق إلَّا ذو مطمع دنيء، والطمع في الدنايا مُضِرٌّ بصاحبه في شرفه وماله؛ فهو يقوده إلى الشر، والشر مَطيَّة الدمار.

أمَّا من يذعن للحق، ولا يتطلَّع إلَّا إلى ما يستطيع نيله بالحق؛ فثوابه عند الله عظيم، واغتباطه بنفسه أعظم؛ لأن الحق ميزان الحياة وأساس العدل، والعدل فضيلة كبرى كامنة في النفوس الخَيِّرة يحثُّ عليها الآباء الصالحون، ويوصي بها الحكماء والنبيُّون.

لا تكن يا ولدي سببًا في إرهاب النفوس بغير حق، وحَذارِ أن تكون نذير السوء؛ فما تحكَّمت نفس في أخرى بغير حق إلَّا ولقيتْ من الله شديد العقاب، واعلم أن الرجال ثلاثة: رجل يدفع بنفسه في تيار الآمال ويترك الحقيقة طوعًا، ويتعلَّق بأهداب الخيال؛ فيكون نصيبُه الخِزْي وعقابُه الحرمان، ورجل يدَّعي لنفسه البطش والقوة، ويحاول أن ينال بهما ما يريد؛ فيسحقه الله بيد من حديد، ورجل يُعطي السائل، ويُغيث الملهوف، ويُولي المعروف، ويُواسي الحزين والضعيف؛ فيمدُّه الله بروح من عنده. فكن يا ولدي كذلك الأخير، رقيق القلب رحيمًا بالمعوزين؛ تكن محبوبًا لدى الناس، وعند الله من المُقرَّبين.

إذا دعاك عظيم فأجب دعوته، وإذا أكرمك كريم فتقبَّل كرامته، وإذا جلست إلى مُضيفك فلا تُطِل النظر إلى وجهه، ولا تبدأ بحديث قبل أن يُفاتحك؛ لأنك لا تدري أيَّ الأشياء لديه أحب، وأيَّها يستدعي لديه الغيظ والغضب، وإذا دارت رحى الحديث بينكما فلا يكن كلامك إلَّا جوابًا عن سؤال؛ فإن في ذلك حفظًا لكرامتك، وإرضاءً لمُحدِّثك.

إذا كنت ضيفًا في دار فلا تحزن إذا كان نصيبك من خيرها قليلًا؛ لأن ربَّ الدار يُكرم أضيافه حسبما تُوحي إليه نفسه، وكل امرئ في بيته سيد مالك؛ فليس لك أن تجبهه أو تعترض عليه، واعلم أن رزقك في يد الله، ولن يُهملك الذي خلقك.

إذا أوفدك عظيم إلى عظيم مثله فاقتدِ بمُرسِلك في خُلُقه، فإيَّاك أن تُعكِّر الصفاء بينهما بالخطأ في تبليغ الرسالة؛ فقد يؤدي تحريف الكلِم إلى العداء، وكم من كلمة بُدِّلت فدمرت بلدًا، ولفْظ غُيِّر فكان مجلبة الشقاء! وإذا فتح لك أمير أو حقير خزائن قلبه، وباح لك بما يصونه عن غيرك؛ فلا تُفشِ حرفًا ممَّا اؤتُمِنت عليه؛ لأن إفشاء الأسرار منقصة تُلحق بصاحبها المذلَّة.

إذا زرعت زرعًا فقُمْ عليه، وكن حريصًا حتى ينبت وينمو ويُثمر فيُبارك الله لك فيه، وإذا حُرِمت النسل فلا تحسد من رُزِقه، بل اغتبط به إذا رأيت مسرته، وإذا لم تلد لك زوجك فلا تُشاكسها؛ فإنك لا تعلم هموم الآباء إذا لم تكن والدًا؛ فقد يكون أحدهم سعيدًا بماله شقيًّا بنسله، وليس نصيب المرأة من النسل بأقل شقوة من أنصبة الآباء؛ فإن الأمهات أكثر النساء همًّا وغمًّا، وأدناهن من القبور؛ لشدة ما ينال إحداهن من الحزن وما تلقاه من الآلام في العناية بولدها في نومه ويقظته، في مرضه وصحته، في حزنه ومسرته.

إذا كنت صغير القَدْر غير ذي شأن؛ فالجأ إلى حكيم حازم والتصق به، واجعل نفسك وقفًا عليه؛ فيرفعك بحكمته من حضيضك إلى أوجِه، ويُقوِّم من عِوَجك بمثل ما قوَّم من عِوَج ذاته.

إذا رأيت رجلًا أصابه حظ حسن، فنال منصبًا ساميًا لا يستحقه، وكنت واقفًا على سِرِّه، خبيرًا بحقيقة حاله، فلا تهزأ به لما تعلم من أمره، بل كن كغيرك في إكرامه والحفاوة به، وكفاه ما حاز من الفخر مبرِّرًا لعيوبه؛ فقد تحسُن حاله بعُلُوِّ مكانته. واعلم أن الشرف والثراء لا يكونان لك عفوًا صفوًا، وإنما للمرء من الخير قدْر ما سعى، واعلم أن الله لم يُشرِّع طُرقًا أكثر من طُرق الحلال لكسب المال.

لا تُطع في الحياة إلّا قلبك، واعصِ نفْسك في هواها، ولا تُجبْها إلى سؤالها فيما لا يُعْلي قدْرك، ولا تقضِ عمرك كله في تحصيل المال وكَنزه؛ فإن كَنز المال وصَرِّه مَتعبة، ولا خير فيما يتعب المرء في تحصيله ليزداد بوفرته نصبًا.

إذا رزقك الله ولدًا فلا تُهمل تهذيبه، بل اسهر على تربيته وإرشاده إلى سواء السبيل؛ فإن أثمر عملك فقد نلت ثوابين؛ الأول: ثواب مَن عمَّر في الأرض وعمَّمَ الخير، والثاني: ثواب مَن زرع زرعًا وبارك الله له فيه، وإن كان لك بنت فلا تُفرِط في شأنها، وارعَها بقلبك كما ترعاها بعينك، وإلَّا كان عقابك كمن وُلِّيَ مُلكًا ولم يُحسن سياسته، وإن عصاك ولدك وأطاع هواه، وكان فظًّا غليظًا متشددًا في الشر غير حسن الأخلاق، فاضربه حتى تُهذبه؛ فإن العصا تُقوِّم باعتدالها ما اعوجَّ من أمره، وحذِّره من عِشرة قُرناء السوء ممَّن لا يعنون بالفضائل؛ فإنهم يقودونه إلى حيث لا تريد، واعلم أن من يلقى مُرشدًا لن يضل.

إذا جلست في مجلس الدولة فاسترشد بمن كان أقدم منك عهدًا؛ فهو أعرف منك بقواعد الحُكم، ولا تستهن بالمواظبة؛ فإن الانقطاع عن مقر منصبك والتراخي في عملك يُضعفان ثقة الرئيس بك، وربما أدَّى ذلك إلى ضياع نصيبك من السلطة، كن على الدوام مستعدًّا للقول إذا كان المجال ذا سعة، ولا تُهمل الجواب عن سؤال يُوجَّه إليك، وإذا شئت أن تبقى في المجلس ذا سلطة عالية وقول نافذ فاجعل لنفسك فيه شأنًا؛ بحيث لا يُستغنى عنك، واعرف مكانتك من أهله يعرفها غيرك، واجلس حيث يؤخذ بيدك وتُبَر، واعلم أن مجلس الدولة يسير على نظام معروف، وكل ما يحدث به يدور على محور الدقة، وأن عُلو الكعب فيه نعمة يحرص عليها العاقل، ويسعى إليها الطامع في العُلا.

إذا كنت في عِشرة قوم فحبِّب نفسك ما استطعت إليهم، وليكن قلبك وقفًا على مودتهم ما دمت ترى إخلاصهم لك وعطفهم عليك؛ فيرتفع ذِكرك بين الملأ وتتدفق عليك نِعم الله، وتلقى في كل مكان صديقًا، وتنال ما تتمنى من دُنياك. واعلم أن أسمى الفضائل أن تقدِر على كبح جماح شهواتك في السر والجهر، وأن أدنى الرذائل أن يُطيع الرجل بطنه وفرْجه، وقد رأيت قومًا أطاعوا بطونهم وفروجهم؛ فكبرت أجسامهم وصغرت أحلامهم، وأصابتهم في ألسنتهم بذاءة يُؤذون بها الأخيار؛ فكان لهم من بطونهم وفروجهم أعداء لا يستطيعون مناهضتها، ولا يقدِرون على دفع شرها.

كن يا ولدي صادقًا في قولك، أمينًا في عملك، وإذا جلست بين يدي المَلك في مجلس الدولة فلا تُخفِ عليه شيئًا من أمرك، واعلم أنه لا حرج عليك إذا أنبأته بأمر كان يعلمه؛ لأن في ذلك أداء للواجب، وهو من أسمى الخِلال وأكرمها، ولا يُضعفنَّ عزمك أن يُخطِّئَك المَلك مرة؛ فإنه لا يُخطِّئك أخرى، وربما رجع إلى قولك إن كان حقًّا.

إذا كنت زعيمًا فاختطَّ لنفسك خطة مُثلى، واسْعَ جهدك في إنجازها، وكن ممَّن ينظرون في العواقب، ويتخذون من الحاضر عدة للمستقبل؛ حتى إذا جاء اليوم العصيب الذي لا يستطيع المرء فيه حلًّا ولا عقدًا رأيت مَحَجَّتَك واضحة، وسبيلك جليًّا ظاهرًا؛ فلا تُدركك أزمة الضيق، ولا يُصيبك من حرج الموقف ما يصيب البُلْه والبُسطاء؛ وبذا تستطيع أن تربأ بنفسك عن مواطن الفشل، ولا تكن محسوبًا على أحد؛ فإن ذلك يُورث المذلة، ويدعو إلى التراخي، ولا تَكِل أمرك إلى غيرك فتُصاب بداء الكسل.

إذا كنت رئيسًا فعامل من هم أقل منك مرتبة برفق، واعلم أن مرءوسك هو عضدك وساعِدك، وأن التشدد في معاملته يعقل لسانه، ويختم على قلبه، فيُخفي عنك ما قد يُفيدك العلم به. أما إذا استعبدته بالحسنى؛ فلعله يبوح لك بما يُضمر، ويفتح لك خزائن قلبه. وعوِّده الحرية في القول يَصدقْك فيما ينفعك، ولا يخدعك فيما يضرك، وإذا أتاك في أمر له فلا تجبهه، بل كن شفيقًا صبورًا، وإذا استطعت إجابة سؤاله فلا تُبطئ؛ فخير البر عاجله، وإياك والشدة في معاملة من يُطيعون أمرك؛ فقد تكون داعية إلى سوء الظن بك، واعلم أن الإصغاء للضعيف والمكروب فضيلة يمتاز بها الأخيار على الأشرار.

إذا شئتَ أن تستبقي حب أخيك وإخلاص صديقك فاحذر مشورة النساء؛ لأنها مجلبة الشر في كل زمان ومكان، واعلم أن حب المرأة مجلبة الهلاك، وما طاب عيش امرئ يقضي على سعادته ويستهين بحياته في سبيل لذة لا تدوم أكثر من طرفة عين، وتُورث آلامًا تبقى مدى الحياة.

اجتنب جُلساء السوء؛ فإن في بُعدهم غنْمًا، وفي قُربهم غُرْمًا. إذا شئت أن تكون صادقًا في قولك أمينًا في عملك؛ فطهِّر نفسك من أدران العناد والطمع، واحذر الشراهة والجشع، وإن كنت خلْوًا من تلك النقائص فحذار أن تقع في هوتها؛ فإنها أدواء لا تستقيم حال المرء ما دامت جراثيمها عالقة به، واعلم أن تلك المعائب تُفرق بين الوالد والولد، وتُشتت شمل الجماعات، وتُبدد أوصال الصداقات، وتقطع ما بين الرجل والمرأة من صلات الود والمحبة، وتغرس بذور النفور والبُغْض.

كن عادلًا؛ فإن العدل يضمن لك الفوز في مضمار الحياة؛ لأن له صَوْلَة تدوم وتبقى في الأرض. لا تحاول أن تنال بالبطش والظلم ما ليس لك، ولا تحسد جارك على نعمة أصابها؛ إنما الحسد سم لا ترياق له، وقد رأيت الحسود والشرِه يقضيان عمرهما في فاقة ولو كانا غنيين. أما القَنوع الذي يرضى بالقليل إذا لم يستطع الكثير، ويغبط غيره إذا ناله الخير؛ فإنه لا محالة غني ولو بات على الطَّوَى وتقلَّب في الثرى.

إذا كنت ذا أهل فأعدد لهم عُدتهم، وأوْفِهم حاجتهم، ولا تحرمهم خيرك وبرَّك، وأخلص لزوجتك التي تفرش لك وتنيمك، وأطعمها إذا جاعت، واكسُها إذا عريت، وداوِها إذا مرضت، وأسعدها إذا شقيت؛ فهي أغلى ما تملك، وأعز نِعم الله عليك، وحذار أن تقسوَ في عشرتها، وكن بها رحيمًا؛ فإن الرحمة تُحببك إليها، وتُقربك من قلبها، والقسوة تُنفرها منك، وتُقصي ودها عنك، والمرأة أسيرة من يُكرمها، وهي كثيرة الولع بزهو الدنيا وزخرفها؛ فإن لم تُنلها ما تحب من المتاع هجرتك.

أحسِنْ إلى خدمك وحشمك، وأعطهم ممَّا أعطاك الله؛ فما منحك المال الكثير والخير الوفير إلَّا لتمنح ذوي القليل. علمت أن إرضاء الأجير مُحال؛ فهو كثير الطمع قليل الإخلاص، ولكنك إذا غمرته بإحسانك وأسرته بكرمك أنطقت لسانه بشكرك. واعلم أن الله ينقِم على بلد أُجراؤه أرِقَّاء، وعُمَّاله أذلَّاء؛ فارعَهم بعين الإحسان يرعَك الله بعين الرحمة.

إياك أن تفوه بفحش القول، وإن سمعت القول فمُرَّ كريمًا وصُنْ أذنيك عنه، وأعرض عن قائله، وإياك أن تعتب على قائله أو تُؤنبه؛ فإن في سكوتك وعفوك عنه درسًا نافعًا وعظة بالغة؛ فإن الخيِّر يُصلح الشرير بخيره، ويرده عن غَيِّه وشره.

إذا أمرك من هو أقدر منك بمعصية فاعصِه؛ لأن العصيان في النقيصة طاعة للفضيلة. لا تستعن على قضاء حاجتك بالكتمان؛ فلعل فيه أذًى ومضرة، وربما منع الكتمان عن الانتفاع بعملك.

إذا تطلبت الحكمة وشئت أن ترتفع إلى مجالس الكُبراء، وأن تُعاشر الحُكَّام والعُظماء؛ فهذِّب نفسك، واقضِ زمنك في تكوين عقلك بالعلم، وتكميل قلبك بالفضائل؛ لأن العلم والفضيلة يُوليانك البطش والقوة. واعلم أن الاقتصاد في القول خير من الإسراف فيه؛ فلا تنبس بكلمة حتى تزنها، وإذا كنت في مجلس الدولة تُجادل وتُناضل فلا تنطق إلَّا بمقدار؛ فلست تدري مكان من يُناضلك من البيان وقوة الحجة. إياك والادِّعاء فإنه فتنة، وإن حذقت في فن فلا تزْهُ بحذقك على أقرانك؛ فقد يكبو اللبيب ويخبو الأريب، ويُصيب الغبي، ويُخطئ الذكي.

إذا كنت في مجلس فلا تلزم الصمت البتَّةَ، وحذار أن تقطع حديث مُحدِّثك أو تُجيب على ما لم يسألك عنه، إياك والحِدَّة في القول فقد يعقبها الندم، اعتد كبح جماح نفسك، والزم صون لسانك عمَّا يجول في صدرك. لا تجعل كَنز المال معقد آمالك، ولا غاية أعمالك، ولا تكن كالذين يقضون أعمارهم ويبذلون نفوسهم ويُريقون أمواه وجوههم في جمع الثروة؛ فإن هؤلاء كالخنازير لا يرفعون خياشيمهم من الوحل.

إذا لهوت فلا تتمادَ في لهوك؛ فإن التمادي في اللهو والإفراط في السرور يُذهبان بالخير من الحياة.

إذا أردت أن تُصيب غرضًا؛ فكن كأحذق الرماة تصويبًا، أنعِم النظر في هدفك قبل توتير قوسك، فإذا وطَّدت نفسك ووترت قوسك أطلق سهمك، واعلم أن ربَّان السفينة لا يبلغ المرفأ الأمين إلَّا إذا ساير الريح.

إذا اصطفاك المَلك واصطحبك واستعان بك؛ فلا تغْتَرَّ بما لك عليه من الدالة؛ فتُلهيه عمَّا يهمُّه بأن تُسمعه ما لا يُحب، أو تُنبئه بما يكره؛ فإنه إن وسِعك حِلمه مرة لا يسَعَك أخرى، وهيهات أن يؤمَن شرُّ مَن إذا قال فعل. اعلم أن رِفعتك لا تكون بعُلوِّ نفسك، ولا تعلو إلَّا النفس التي اختارها الله، والله لا يختار إلَّا نفسًا تُحب أعداءها كما تُحب أصدقاءها، وتبغض الشر لذاته، وتعمل الخير حُبًّا فيه لا جلبًا لنفع تريده.

إذا وُكِّل إليك تهذيب صبي من أبناء الأشراف والأُمراء؛ فلا تخشَ بأس أهله في تقويم خُلُقه وإصلاح حاله؛ فإنك إن قمت بعملك كما توحي إليك نفسك وذمُّوك في الحال أثنَوْا عليك في المآل، وكان نُصحك كالدواء يسوء استعماله ويُحسن مآله. أوصيك بتهذيب الصغير بحيث يستطيع مُجالسة الكُبراء؛ فإن في هذا من الفضائل ما لا يُحصى، وإذا وُفِّقت إلى القيام بعملك، وقدَّر أهل الصبي حُسن فِعلك؛ أغدقوا عليك نِعمهم، ورفعوك إلى مراتبهم، وقد تعلوهم وتفوقهم بعد أن تصير مُربيهم وأستاذهم.

إذا كنت من رجال الدين ووُكِّل إليك أمر الفصل في مشكلة عويصة بين المَلك والرَّعيَّة؛ فاحكم بالقِسْطاس وكن عدلًا، ولا تظلم الشعب لتُصانع المَلك؛ لئلَّا تُوصم بوصمة الأشراف، وهي أنهم ينصرون القريب والصديق ولو كان على ضلال مبين، ويخذلون العدو الغريب ولو كان على حق وهدى، بل كن يا ولدي مع الحق والعدل أينما كانا؛ يكن الله والخير معك. إن أساءك من أحسنت إليه؛ فاعفُ عنه، واجتنب عِشرته؛ فإن كان حُرًّا فالعفو قتْلٌ له، وإن كان وغدًا ففي هجرك إياه منجاة لك من شره.

إذا عظُم قدرك بعد حقارة شأنك، واستغنيت بعد فقرك؛ فلا تقصر خيرك على نفسك؛ إنما أنت خليفة الله في أرضه، وحارس نعمته، وولي خلقه، رزقك لتُعطيهم، وهداك لتهديهم، وأحسن إليك لتُحسن إليهم؛ فلا تخُن الله في أمانته، ولا تكفر بنعمته، فما كفر بها إلَّا كل معتدٍ أثيم. أطِع ولي أمرك واخضع له بالحق؛ فإن عيشك رهن الطاعة، وإن عصيته ولم يكن قد اعتدى عليك فقد أسأت إلى نفسك.

إذا وُلِّيت أمر قوم فلا تتحكَّم في أعناقهم بظلم، ولا تسعَ في سلب نعمتهم؛ فإن الخير يذهب عنك بقدر ما تُذهبه عنهم، ولا تغدر أخاك فيما له من مال؛ لأن الغدر منبت الأحقاد.

إذا شئت أن تسبر غور رجُل تريده صاحبًا؛ فإياك وسؤال الناس عنه؛ فما ذكروا لواحد حسنة إلَّا وأردفوها بمساوئ لا تُعد، بل اكتفِ بعِشرته أمدًا مُحسنًا إليه ما استطعت؛ فينبسط الرجُل ويُفضي لك بما في نفسه، فإن راقك بعد التجارب فأقبِل عليه وفاتِحه فيما تود، وإلَّا فاتركه بالمعروف والحُسنى، وإن صحبته فلا تحتجر عليه في الحديث، وإن استصغرت شأنه فلا تُشعره بما تراه فيه فينفر عنك وده، ولا تحرم أخًا لك نفعًا تملكه.

اعلم أن كل سعادة يتبعها شقاء، وكل غِنًى يتلوه فقر، وكل صفاء له كَدَر، وأن للأيام دورات؛ فكم من رفيع خفضت ووضيع رفعت! وكم من صعلوك أسكنت قصرًا! وكم كريم إذاقت بؤسًا وفقرًا.

إذا اتَّجرت فأوصيك باكتساب ثقة الناس؛ فإنهم خير نصير إذا كبا بك الزمان، وعاكستك صروف الحدثان. اعلم أن الذِّكر الرفيع أعظم قدرًا في نظر العاقل من المال الكثير؛ لأن المال يجيء ليذهب، ولكن الشرف إذا حلَّ ألقى رحله ولم يتحول.

إذا سألت فاسأل بالحُسنى، وإذا سُئلت فتلطَّف في الجواب.

إذا أسأت إلى امرأة في عِرضها، ودعوتها إلى بذل ماء حيائها، وجلبت عليها عارًا يخلق أديم وجهها؛ فكن بها رحيمًا، وأفِضْ من نعمائك عليها بقدر ما أسأتَ إليها؛ فإن في ذلك إحسانًا وعدلًا وتكفيرًا عن الذنوب.

اعلم يا ولدي أنك إذا أطعتني وعملت بما نصحتُ إليك فقد نهجتَ سُبل الخير، ومن ينهجها لا يُضَم.

إذا أردت أن تُقوِّم من اعوجاج أهلك ومَن حولك؛ فلا تَضِنَّ على الأحداث والجُهلاء منهما بعلم، واضرب لهم الأمثال، وعلِّمهم الحكمة ليرجعوا في أمور معاشهم إليها، ولعلَّك مؤدٍّ تلك الأمانة إلى أهلها، وتارك وراءك أثرًا يبقى في بلاد النيل إلى ما شاء الله؛ فيكون نبراسًا يستنير به الشعب والمَلك؛ لأن في كَلِمي ما يستفيد به المسترشد فينال من الخير ما ينفعه، وقد نصحت بالرفق والكرم والقناعة؛ لعلمي بأن الحكمة أُفرغت في هذه الفضائل الثلاث.

إن من يقرأ قولي سيرضى به وتروقه حكمتي؛ فتستنير بصيرته، وتُحل عقدة لسانه، ويصفو ذهنه، ويقوى جَنانه، فيُهذب أولاده، ويُورثهم الحكمة من بعده، وهم يُورثونها أبناءهم.

اعلم أن لا شيء أحسن لدى الوالد من طاعة الولد البار الذي يعنى بقوله ونُصحه، وإذا تكلم أحسن الكلام، وإن أُلقي إليه القول أحسن الإصغاء؛ فإن الصغير إذا شبَّ على الطاعة استطاع أن يأمر وينهى في شيبه كما كان يؤتمر وينتهي. إن الطاعة زارع يغرس المودة، وإكسير يجلي صدأ القلوب، ودواء ناجع يشفي داء البغض، وآلة تُنال بها حكمة الشيوخ وحِنكتهم، وهيهات أن يُخلص لك النُّصح حكيم لا تُطيعه.

إن الله يُحب الطاعة ويأمر بها في الخير، ويبغضها وينهى عنها في الشر، ولا ريب في أن القلب هو الذي يأمر صاحبه بالطاعة أو ينهاه عنها؛ لأن حياة الرجُل بحياة قلبه، فإذا كان طاهرًا تقيًّا كانت حياته طيبة شريفة، وإذا كان القلب خبيثًا دنيئًا كانت حياة صاحبه كذلك.

إذا كنت في فتوتك مُطيعًا ووُلِّيت الرئاسة في رجولتك كنت رئيسًا عادلًا، وإن للعدل قوة تؤثر في النفوس الجامحة، وتستلُّ منها سخائم العناد.

رأيت الأمراء يُحبون المُطيع؛ لأنهم يعلمون أن الطاعة فضيلة مُكمِّلة للأخلاق، فعليك بتعليم الطاعة ولدك ليكون مُقرَّبًا من الأمراء والكُبراء.

رأيت الجُهَّال يعصون فيهلكون؛ لأنهم لا يُفرقون بين الخير والشر، ولا بين الربح والخسران، فيقترفون الذنوب فيذوقون أنواع الهوان. إن الجاهل قد يغلب العاقل بالثرثرة والهذر، ولكنه يقصر عن مدى الأطفال في مجال العلم والحكمة فيجتنبه الناس، ويبقى طول حياته مهجورًا محسورًا.

إذا رُزقت ولدًا فلا تضن عليه بالحكمة التي جُدتُ بها عليك؛ فيناله من الخير بنُصحك ما نالك بنُصحي، وأوصِه أن يُبلِّغ رسالتك إلى ابنه من بعده؛ فتبقى الحكمة في بيتنا. وهذه نعمة كبرى.

توخَّ الصدق فيما تقول للأطفال؛ لأن نفس الحَدَث كالعجينة اللينة يسهل تشكيلها على أية صورة تُريد، واعلم أن الصدق إذا كان أول ما يُقابل النفس اعتادته، وبذا يُمكن استئصال الرذائل منها، وغرس الفضائل مكانها.

اعلم أنك إذا فعلت ما أوصيتك به كنت قدوة عشيرتك وأهلك؛ فتتولَّى أنت وأولادك قيادة الشعب وزعامته، وتلك الدرجة أسمى ما تتطلع إليه النفوس الكريمة. عليك بالعدل في قولك وفعلك، واحرص على ما تفوه به حِرص البخيل على درهمه، والجبان على دمه. كن خاضعًا في حضرة المَلك، وعَيُوفًا في نظر أقرانك، وإذا نطقت فليكن حديثك مُدعاة للإعجاب بك، والتحدث بفضلك. اقْدُرْ قولي قدرَه، واعلم أن نصيحة الوالد أثمن ما يقتنيه الولد.

إذا بلغت منصبي فاجتهد يا ولدي في إرضاء المَلك بإتقان ما تُمارس من الأعمال. احفظ شبابك تحفظ مشيبك. إذا مرضت فبادر إلى علاج جسمك فيطول بذلك عمرك، وتنتفع بحياتك أنت وغيرك، وتعيش كما عشت مائة وعشر سنين، خدمت أثناءها بلادي بالحق والعدل؛ فغمرني الملوك بالإحسان، وأغدقوا عليَّ النِّعم، فكنت أسعد حالًا من آبائي وأجدادي.

انتهت حِكَم فتاحوتب الحكيم المصري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤