تمهيد: آداب الفُرس

فنون الأدب في الأمم تتبع في نموِّها وتنوُّعها تاريخهم وأخلاقهم، ومُريد الإلمام بتاريخ آداب الفُرس مضطر لدرس نشأة هذه الأمة العريقة، والوقوف على ما طرأ عليها من الحوادث. ولو أردنا أن نُدوِّن نبذة في هذا البحث زادت صحائفها عن كتاب السعدي مهما حاولنا الإيجاز، على أن الواصفين لآداب الفُرس من أهل الشرق قليلون، وأقل منهم العارفون منها شيئًا، وأقل من الفريقين الذين تفرغوا لدرس مبحث من مباحثها. أمَّا أهل الغرب فإن الذين وقفوا أعمارهم للوقوف على آداب الفُرس فكثيرون جدًّا، وإنني آتٍ على ذِكر بعضهم، وإن في ذِكرهم لعِبرة لنا وموعظة حسنة.

وهاك بيان فئة قليلة من مشهوريهم، ممَّن نرجع — نحن الشرقيين إخوة الفُرس — لنفهم آدابهم إليهم، وهم من حضَرَتنا أسماؤهم لساعتنا، ومن غاب عنَّا ذِكرهم أكثر عددًا:
  • سيلفستر دي ساسي: مذكرات في عاديات الفرس، باريس.

    تاريخ الساسانية «ترجمة ميرخود».

  • إيوجين بورنوف: درس على اللغة وشرح على نص الزند.
  • دي موهل: الشاهنامة باريس – كتاب الملوك للفردوسي.
  • شودزكو: تاريخ فن تأليف الروايات التمثيلية في الفرس.
  • باربييه دي مينار: بستان السعدي.
  • جارسين دي تاسي: الأشعار الدينية والفارسية في آداب الفرس.
  • جوبينو: تاريخ الفرس.
  • جوبينو: الأديان والمبادئ الفلسفية لشعوب — آسيا الوسطى.
  • يواقيم مينان: مخطوطات الفرس – الألسن المنسية في الفرس وبلاد أنتور.
  • جيمس دار مستتر: أصول الشعر الفارسي.
  • ديولافوا: الفنون الجميلة في بلاد الفرس.
  • نييكولا: الآلهة والخمر في دواوين الشعر الفارسية.

وعدا هؤلاء فإن في أوروبا وأمريكا عددًا كبيرًا من أهل الأدب والعلم أخصائيين بمؤلفات بعض فلاسفة الفرس أو شعرائهم، ومن هؤلاء أخصائيو عمر الخيَّام؛ وهم: إدورد ألن، وإدورد برون، وهونيفلد، وجارنر، وميكارثي، ولوران، وأشهرهم بالإجماع هو فتزجرلد الذي نقل رُباعيات الخيَّام إلى اللغة الإنكليزية، وممَّن اشتغلوا بدرس كلمة مُصلح الدِّين سعدي الشيرازي، مؤلِّف حديقة الورد: نيف، الذي وضع كتابًا عنوانه «السعدي الشاعر»، طبع لوفان عام ١٨٨١، وخصَّه بيزي بفصل مهم في تاريخ آداب الفرس.

أخرج الفرس في كل الأزمان أدبًا جمًّا؛ لأنهم أُمَّة ذات حيوية قوية، ورغائب نفسية، وخِلال تدفع إلى التغنِّي والمرح والمُحاربة. والناظر في صحيفة آدابهم يُقسِّم ما أخرجوه للناس إلى ثلاثة أقسام، شغل كل قسم منها بنوع من الشعر والنثر، وكان لكل عهد من تلك الثلاثة فُحول ومجيدون.

كان العهد الأول: عهد الشعر الديني، والثاني: عهد الشعر الأيبيقي «القصصي»، والثالث: الليريقي أو الغنائي.

امتاز العهد الأول الذي يرجع إلى ما قبل المسيح بأربعة قرون بالأفستا، والثاني يمتاز بالشاهنامة التي حاك بردها الفردوسي، أسد الشعراء القصصيين وبطل الأيبوبية، ولكن تاريخ هذا العهد لا يُمكن تعيينه بالدقة.

أما الشعر الغنائي «ليريقي» فقد ظهر فجأة بعد قرنين من تاريخ فتوح العرب، وسبب هذا أن الفرس بعد أن استردُّوا شيئًا من حريتهم ظهرت مواهبهم العُليا، وتجلَّت عبقريتهم، ومن ذاك الحين نما عدد الشعراء بكثرة وافرة حتى أصبح حصرهم مستحيلًا؛ لأن الشعر الغنائي لا يظهر إلَّا إذا أصبح كل مخلوق مُفكِّرًا شاعرًا قادرًا على التغنِّي بعواطفه، وإظهار أحوال نفسه.

أمَّا العهد الثاني الذي كانت العواطف الدينية فيه هي الدافع للشعراء والكُتَّاب، فقد امتاز — كما ذكرنا — بالأفستا، وهي مجموعة كتب أُمَّة البارصية، أو عُبَّاد زوروسترا، وهي مُقسَّمة إلى خمسة أناشيد؛ النشيد الأول: صلاة لأرباب الأرض والسماء والهواء، كان يتغنَّى بها المُتعبِّدون خلال التضحية، واسمه الياسنا.

والثاني: واسمه الفسبرية، وهو تكملة الياسنا.

والثالث: الفنديداد، وهو قانون ديني للفرس العتيقة، وفيه بيان لأصول عقيدة الماثنية.

الرابع: إلياشتس، وهو دعوات للأرباب المتحكمة في أيام السنة، لكل منها دعوة.

والخامس: الخوردا أفستا، وهو صلوات للشمس والقمر والماء والنار خاصة.

والأدب القصصي بدأ تقريبًا من القرن العاشر للمسيح، وفي عهده ذاع فضل الشعراء وبان فضلهم، وقرَّبهم الملوك. وأشهر شعراء هذا العهد الفردوسي أبو القاسم الجليل مؤلِّف الشاهنامة أو ديوان الملوك، وقد خلَّد فيه صورة الروح الشرقي الذي تتنازعه عواطف الحُب والخيال، وتلا الفردوسي خِسرو، من شعراء القرن الرابع عشر للمسيح، والجامي بعده بجيل ومستوف وعبد الله الحليفي والكمالي وأبو طالب من شعراء السابع عشر، وأشرات في الثامن عشر، وجابة المُتوفَّى عام ١٨٢٢، وهو آخر شعراء هذا العهد الجليل.

والشعراء الغنائيون يبدأ عهدهم في القرن الحادي عشر، وقد عاش معظمهم في بلاط السلطان محمود الذي ورد ذِكره في قصائدهم وتآليفهم، ومن هؤلاء سِوَى الفردوسي: منبو تشهر، والأسدي، والأصوري، وكروماريا، والأنوري، وأفضلهم بعد الفردوسي منبو تشهر الذي تمثلت فيه روح الفرس الشعرية. وقد كان للصوفية نصيب من التأثير في الشعر الفارسي. وهذا رأي الكثيرين من الثقات في الأدب الفارسي، ونحن نخالفهم في هذا الرأي لا سِيَّما فيما يتعلق بالخيَّام وحافظ، وقد يصح عن السعدي. وقد ذكروا بين الشعراء الغنائيين الصوفيين: الخيَّام صاحب الرباعيات، وفريد الدين العطار صاحب منطق الطير، وجلال الدين الرومي صاحب المثنوي، فالسعدي صاحب البستان والجولستان، فحافظ الشيرازي.

هذا قليل من أدب الفرس جئنا به مقدمة لحديقة الورد لسعدي؛ ليعرف القارئ العربي مكان السعدي من فُضلاء وطنه.

سعدي الشيرازي

هو الشيخ مُصلح الدِّين سعدي الشيرازي، شاعر إيراني وُلد في شيراز سنة ١١٧٥ للميلاد، الموافقة سنة ٥٧١ هجرية، وقيل: بل سنة ١١٨٩، قيل: لُقِّب بالسعدي نسبة إلى أتابك سعد بن زنكي، وكان في أيامه.

درس في بغداد، فأخذ العلوم الظاهرة عن الشيخ شهاب الدين، وأخذ العلوم الباطنة عن الشيخ عبد القادر الكيلاني، فامتاز بين أقرانه بالذكاء والاجتهاد، فنبغ في التفسير والحديث وسائر العلوم، وكان ورِعًا تقيًّا، دخل في سلك الدراويش القندريين، وكانوا يُكثرون الحج إلى مكة المكرمة ويسيرون مع القوافل، ويرددون التسابيح أمام رفاقهم ويُحرِّضونهم على الصلاة والتقوى، فحجَّ السعدي على تلك الصفة ١٤ مرة، وكان لم يكتب بعد شيئًا، بل كان مُنعكفًا على الصلاة والتأملات.

ثم تجنَّد في مُحاربة الصليبيين في سوريا، فلم يُصب نجاحًا، بل أُسِر لأول موقعة واقتيد إلى طرابلس الشام، فأدخلوه بين العَمَلَة في بناء الحصون، فدام أسره عدة سنوات إلى أن اتصل به تاجر حلبي فأذهله علمه وورعه في الدين، فافتداه من الأسر بعشرة دنانير ذهبًا، وأعطاه مائة دينار وزوَّجه ابنته، فلم ير حظًّا في زيجته؛ لأن زوجته سبَّبت له من الأكدار أعظمها، حتى إنه طعن فيها فيما بعدُ في أحد مؤلَّفاته، واضطر بشراسة أخلاقها وسوء تصرفاتها أن يُطلِّقها، فاعتزل الأمور الحربية، وانصرف إلى نظم الشعر والقيام بالفروض الدينية، ونظم عدة قصائد وقدود ونشائد وسمَّاها ملمعات، ومنظومة سمَّاها البستان.

وكتب مؤلَّفًا سماه الجولستان؛ أي روضة الورد، وهو مشهور في الشرق والغرب، بعضه منثور، وبعضه منظوم، ويحتوي على حكايات حربية، وقصص ملوك، وغزل ديني، وأمثال أدبية وسياسية. وهو في ثمانية فصول، في أولها كلام عن الملوك، والثاني في الدراويش، والثالث عن الزهد والقناعة، والرابع عن فوائد الصمت، والخامس عن الشبوبية، والسادس عن الشيخوخة، والسابع عن التعليم والتهذيب، وفي الثامن جُمل متفرقة حاوية ملخص التأليف كله، ومع أن الكتاب المذكور أقل تآليف السعدي أهمية، فقد انتشر أكثر منها؛ فترجمه إدلياريوس إلى الألمانية، وطُبع في شلسويك سنة ١٦٥٤، وترجمه غراف إليها أيضًا، وطُبع في ليبسيك سنة ١٨٤٦، وترجمه غودن إلى الفرنسية وطُبع في باريس سنة ١٧٩١، وترجمه سميلي وطُبع سنة ١٨٢٨، وشارل دي فريميري وطُبع سنة ١٨٥٨، وترجمه جنتيوس إلى اللاتينية وطُبع مع ترجمته إلى الإنكليزية بقلم جمس دومولين في كلكتا سنة ١٨٠٧، وطبعه السيتول في هرتفرد سنة ١٨٥٠ مع معجم لكلماته، وترجمه إلى الإنكليزية نظمًا ونثرًا سنة ١٨٥٢، وقد تُرجم إلى التركية وطُبع في الأستانة مع الأصل الفارسي، وتُرجم إلى العربية١ وطُبع في مصر، وله ترجمة أخرى غير مطبوعة.

وأغرب ما في هذا الكتاب بلاغة إنشائه، وقد ذهب أكثرها في الترجمات المذكورة، وطالعه فلوريان وسان لمبر في الترجمة اللاتينية، ونقلوا عنه عدة استعارات أدخلوها في بعض القصص التي كتبوها.

وله أيضًا مؤلَّف اسمه بندنامة؛ أي كتاب الأمثال، وكل كتاباته كانت بالفارسية والعربية، وطبعها هرنغتون في كلكتا سنة ١٧٩١ في مجلدين، والأسقف غودن في أواخر القرن الثامن عشر نشر تقليدًا للجولستان، إلَّا أنه لم يُشابهه في شيء من الطلاوة، وتُرجم البستان إلى الألمانية، وطُبع في همبرغ سنة ١٦٩٦، وإلى الفرنسية ولم يُطبع بعدُ، وتُرجمت البندنامة إلى الإنكليزية وطُبعت سنة ١٧٨٨، وتُرجمت إلى الفرنسية سنة ١٨٢٢.

واختُلِف في تاريخ وفاته؛ فقال بعضهم: إنه بعد ظهور آخر مؤلفاته سنة ٦٥٦ هجرية عاش ٣٠ سنة في الزهد والتنسُّك، فيكون قد توقف عن التأليف لمَّا بلغ سن ٨٥ سنة، وتُوفي عن ١١٥ سنة، وقال اللَّامعي — أحد المؤلفين الإيرانيين: إن السعدي كتب آخر مؤلفاته وله من العمر ٧٠ سنة، وتُوفي سنة٦٦٠ هجرية عن ٨٩ سنة، وذهب بعض المؤرخين إلى أنه تُوفي عن مائة وسنتين سنة ١٢٩١ للميلاد.

وقد شهد له علماء الشرق والغرب بطلاوة كتاباته ومنظوماته، وبداعة معانيها ورقتها، وقد جمع في كتاباته بين التصوف والتورُّع ففاق فيه لوكان الفيلسوف القديم الزينوي المذهب، وبين الطلاقة ورقة المعاني ففاق فيها هوراس الفيلسوف اليوناني القديم. وكانت معارفه متسعة، وله إلمام بأهم اللغات الشرقية واللَّاتينية، وقد نال شهرة كلية في كل أقطار العالم، وله مقام سامٍ بين أصحاب الذوق والتآليف الشعرية والنثرية، وكتبه كثيرة الانتشار والتداول في بلاد العجم والعراق حتى لا يكاد يخلو منها أحد.

وقد كان على غزارة معارفه وسِعة اطِّلاعه وانعكافه على الصلاة لطيف المعشر، رقيق الجانب، سريع الجواب؛ حُكي أنه دخل الحمام يومًا، وكان فيه الخوجة همام التبريزي، فسأله: من أين الرجل؟ فقال: شيرازي، فقال: كل العجب من ذلك؛ فإن الشيرازيين عندنا أكثر من الكلاب، فأجابه على الفور: والأمر عندنا بالخلاف؛ فالتبريزيون أقل من الكلاب. ا.ﻫ.٢
١  ترجمه إنسان يُسمَّى جبرائيل بن يوسف الشهير بالمخلع، كما هو مكتوب على النسخة المطبوعة في مطبعة بولاق الأميرية، وقد نظرنا في الكتاب فوجدنا أن العربية لم تزل بعد بحاجة إلى نقله إليها بلسان عربي مبين، كما فعل الفاضل محمد لطفي جمعة. عبد الرحمن البرقوقي.
٢  أي كلام دائرة المعارف للبستاني؛ فإن هذه الترجمة منقولة عنها. البرقوقي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤