أخلاق الملوك

غرور الحياة الدنيا

عجبًا لي ومن رضاي بدنيا
أنا فيها على شفا تغرير
إذا أدبرت كانت على المرء حسرة
وإن أقبلت كانت كثيرًا همومها

هذا ما أمر الملك فيردون بنقشه في إيوان قصره: حذار أيها الإنسان من خداع الدنيا وغرورها، فما دامت لحبيب، ولا أبقت على صاحب؛ فهي اليوم تخدعك وتُقبل عليك، وغدًا تخلعك وتذهب عنك، فإن كنت غنيًّا فسوف تُبدِّد شمل مالك، وإن كنت ذا مُنًى فهي القاضية على مناك وآمالك. يا أيها المفتتن بغرورها، متى غرَّتك؟ أبمصارع آبائك من البلى، أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟! واعلم يا صاحبي، أنك لا محالة ذاهب عنها؛ فأجدر بك أن لا تأبه لها إذا رفعتك إلى عرش المُلك والسلطان، أو وضعتك إلى أسفل دركات الذل والهوان؛ فإن الموت داعيك، والفناء مُناديك في أية حال كنت، فلا ينفعك بكاؤك، ولا يُغني عنك أحبَّاؤك، ولا عرشك بمُطيل عمرك، ولا فقرك بمُدنيك من أجلك.

السلطان محمود

لعمرك لا يردُّ الموتَ حصنٌ
ولا هذي العساكرُ والجنودُ

زعموا أن سلطانًا من سلاطين خراسان رأى فيما يرى النائم السلطان محمودًا بعد موته بمائة عام، فإذا الجسم قد اعتدى عليه التلف فصار ترابًا، سِوى أنه رأى عيني السلطان تُحملق به وتجولان في محاجرهما؛ فهبَّ من نومه فزِعًا، واستدعى الحكماء والعلماء، وطلب منهم أن يُفتوه في رؤياه، فعجز المفسرون عن التفسير، وقصر مدى الحكماء عن البيان والتعبير، سِوى درويش من الصالحين، وكان الملك خاشعًا خاضعًا، فقال له: إنني يا مولاي أوتيت علم الرؤى، فقال الملك: فسِّر ما ذكرت إن كنت من الصادقين، قال المفسر: إن السلطان محمودًا لا يزال ينظر إلى هذه الدنيا بعين الحنق والغيظ، وهو مُحملق بك في المنام كأنه يسألك: كيف استبحت لنفسك مُلكًا كان يدَّعيه لنفسه؟! ويُسائل العرش كيف يرضى بغيره بعد أن طواه الردى في رمسه؟!

عِظة الأحياء بالأموات

هي القناعة فالزمها تعش مَلكًا
لو لم يكن فيها إلَّا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها
هل راح منها بغير القطن والكفن؟!

كم من مَلك تحت التراب! وكم عاهل طواه الثرى طيَّ السجل للكتاب! وكلهم ذهب ولم يترك وراءه أثرًا، ولم يخلف بعده ذِكرًا ولا خبرًا، إلَّا جسدًا باليًا، وعظامًا نخرة، أين كِسرى وأين مُلكه وسُلطانه؟ أين قصره وإيوانه؟ أين حشمه وحُوره وغِلمانه؟ أين مجده وثراؤه؟ أين عماله ووزراؤه؟ ألم يلحقهم الموت والخراب؟ ألم يُصبهم ما أصاب أهل القرون الأولى من الدمار والتباب؟! فيا أصحاب الجدود المفروزة، والأردية المطروزة، والدور المُنجدة، والقصور المُشيَّدة، إنكم لن تأمنوا حادثًا، ولن تعدموا وارثُا، فبادروا بالخير ما أمكن، وأحسنوا الدهر ما أحسن.

نفوس الرجال

رأيت صاحبًا لي طويل الصمت، كثير الأناة، لا ينبس ببنت شفة، فقلت: لئن لم تكن نفس هذا الرجل من فُضليات النفوس المُتشبِّعة بالخير؛ فهي بلا ريب روح خبيث تمكَّن من الفساد واحتواه الشر، ومثل تلك النفس كمثل الأحراج المجهولة، يراها الناظر فتلحقه من رؤيتها رهبة وجزع، وقد تكون خالية من كل ما هبَّ ودبَّ، وقد تكون مأوى النمر والدب.

اختيار الأصدقاء

إذا شئت أن تتخذ صديقًا، فلا يكن ذلك الذي يُقبل عليك والدنيا في إقبال، ويدنو منك ما حامت حولك الآمال، إنما الصديق هو الذي يذكرك في الضيق، أو يُنقذك من عدو.

اعلم أن المصائب محك الأصدقاء المخلصين، وبها يُعرف الصاحب الصادق من العدو المنافق:

جزى الله الشدائد كل خير
عرفت بها عدوِّي من صديقي

العُزلة والوحدة

حُكي أن وزيرًا عُزل فانخرط في سلك الدراويش، فلمَّا عاش فيهم وامتزجت نفسه بنفوسهم استلَّ خيرُهم ما كمن في نفسه من الشرور التي تلصق برجال الدولة، فعادت إليه القناعة بعد أن هجرته، ووصلته الفضيلة بعد أن عقَّها فعقَّته، وحدث أن السلطان عاد فرضي عنه واستدعاه إلى منصبه، فأبى الوزير القنوع أن يعود إلى متاعب الوزارة، وفضَّل الاعتزال على السفر والمال، واختار الوحدة في التقشُّف على الاجتماع بالناس وما يقتضيه ذلك من التزيُّن والتصرُّف، وحسُنت لديه حياة الزاهدين المتصوفين بقدر ما قبُحت في عينه عيشة الوزراء والسلاطين، فلمَّا ألحَّ السلطان في طلبه أجابه الوزير:

اعلم يا مولاي، أنني تركت وراء ظهري حدائق أعنابًا، وكواعب أترابًا، وخيلًا مُسوَّمة، وقناطير مُقنطرة، وعدة وعديدًا، ومراكب وعبيدًا، وخرجت خروج الحية من جحره، وبرزت بروز الطائر من وكره، مؤثِرًا ديني على دنياي، جامعًا يمناي إلى يسراي؛ لأنني آثرت الفقر مع الحرية على الغِنى في المذلَّة، ومن كان مثلي فقد عتق رقبته، واستلَّ من قلبه سخائم الضغن والحقد، وأخرج منها سموم الغيظ والحسد، ودان بدين التساهل والتسامح، وبذا نجوت من لوم اللَّائمين، وقطعت ألسنة القادحين.

فأجابه المَلك: لا ريب في أن الدولة مُحتاجة إلى حكيم مثلك، طاهر النفس، قويم الخُلُق، حسن السلوك؛ ليُدبِّر شئونها ويُصلح ما فسد من أمورها، فقال الوزير: إنه من الحكمة التي تصفني بها أن أبتعد بطُهري وعِفَّتي عن شئون المُلك؛ لئلَّا يعتريها الرجس، ويُشوِّهها الكدر.

خدمة السلطان

لا تخضعَنَّ لمخلوق على طمع
فإن ذلك وهَن منك في الدين
واسترزق الله ممَّا في خزائنه
فإن ذلك بين الكاف والنون

كان في مصر شقيقان، أحدهما يخدم السلطان، والآخر يعيش بجده وكده، وكان الأول غنيًّا لقربه من صاحب المُلك، والآخر فقيرًا لاكتفائه بالقليل، وجدَّ في الابتعاد عن القال والقيل، فأشفق الغني على أخيه، وأراد أن يُقربه منه ويُواسيه، فقال له: لماذا يا أخي لا تخدم السلطان، وتُريح نفسك من عناء العمل فيما لا يعود عليك بالمال الكثير، والشرف الخطير؟! فقال له أخوه وهو يُحاوره: ولماذا أنت يا أخي لا تعمل كما أعمل لتُنقذ نفسك من ربق الخدمة وذلِّها؟! ألا تذكر قول مَن قال: العيش في ظلال الفقر خير ممَّن عاش ذلًّا في ظلال الغِنى؟ ألا تعلم يا أخي أن حمل الأثقال ورقع النِّعال خير لدى الحر من احتمال كبرياء الأنذال؛ طمعًا فيما ينال المرء من نوال؟

وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد
ذخرًا يكون كصالح الأعمال

اعلم يا أخي، أن الغِرَّ يقضي أيام عمره في اللهو والطرب، ولا يهتم إلَّا بالمأكل والمشرب، والعاقل يقنع بكسرة من الخبز اليابس إذا عاش حرًّا؛ فهي لديه أفضل من موائد الأغنياء، وحبَّذا كسرة مقرونة براحة الضمير وحرية النفس، ولا حبَّذا طعام الملوك مقرونًا بالمذلَّة:

وأفنية الملوك محجبات
وباب الله مبذول الفناء
فما أرجو سِواه لكشف ضُرِّي
ولا أفزع إلى غير الدعاء

كِسرى أنوشروان

سبيل الموت غاية كل حي
فداعيه لأهل الأرض داعي

أراد منافق أن يملق أنوشروان، فدخل عليه يومًا وهو فرح باشٌّ وقال له: بُشراك يا مَلك الملوك، فقد مات عدوُّك، فتقطَّب جبين كِسرى ونظر إلى مُبشِّره شزرًا وقال له: ومن ذا الذي أنبأك بأنني لست أتبعه إلى الرمس قبل أن تغيب الشمس؟! اعلم أيها الغِرُّ الأحمق، أن لا شماتة في الموت، وأنه كارثة لا يُسرُّ لها العدو العاقل، إنما هي آجال بعضها قبل بعض، ولكنها آتية.

محاسن الكلام

احتفل مجلس كِسرى بوزرائه يومًا، وكان بزرجمهر بينهم جالسًا لا يُحرك لسانه، فلمَّا سُئل في ذلك قال: اعلموا أيها الوزراء، أن حكماء النفوس كأطباء الأبدان لا يصفون الدواء إلَّا لمن به داء، وحيث إنني أراكم تُصيبون الغرض، فلست أرى في نفوسكم من مرض؛ لذا ترونني ساكتًا صامتًا، وهذه خَلَّة أهل العلم والفضل؛ فإذا رأى أحدهم أن حال الناس مستقيمة بدونه تركها وشأنها، ولا حرج عليه إذا صان نفسه عن الكلام، أمَّا إذا رأى أعمى يريد أن يقع في بئر وسكت؛ فقد عرَّض نفسه للتأنيب والملام.

الدنيا متاع الجهلاء

الذنب للأيام لا لي
فاعتب على صرف الليالي
بالحمق أدركت المنى
ورفلت في حلل الجمال

حُكي أن هارون الرشيد لمَّا بلغه خبر فتح مصر على يديه، وإذعان جبَّارها الذي تألَّه فيها قال: لأُكلِّمَنَّ في تلك البلاد أحقر خدمي؛ نكاية في ذلك الطاغية — وكان للخليفة خصي اسمه خصيب، نذل من الأنذال، حقير لدى أحقر الرجال — فسلَّمه زمام مصر، فلمَّا تولَّى أمرها كان مقدمه على البلاد شؤمًا ونحسًا؛ فشكا أهل مصر إليه أمرهم وقالوا: لقد زرعنا قطنًا فأصابه وابل من السماء أتلف الزرع وأهلك الحرث؛ فأصبحنا في حال يُرثى لها، وليس أمامنا سِواك نقصده لتُدبرنا في أمرنا، وتُنقذنا ممَّا حلَّ بها.

فصعَّر العبد خدَّه وقال: لقد أخطأتم فيما صنعتم، وحقَّ عقاب السماء عليكم، وكان الأجدر بكم أن تزرعوا صوفًا بدلًا من القطن؛ فلا يُؤذيه المطر، ولا يُتلفه المُزْن.

وكان في حضرة الخصي عالم زاهد، فلمَّا سمع الجواب نهض يقصد الباب وهو يُنشد:

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه!
وجاهل جاهل تلقاه مرزوقًا!
هذا الذي ترك الأوهام حائرة
وصيَّر العالم النِّحرير زنديقًا

فسمع الزاهد هاتفًا يقول: أقصر؛ فهذه سُنة الحياة الدنيا تؤتي الجاهل رزقه بسهولة، وأولو الفضيلة رزقهم محبوس:

يسعى الذكي فلا ينال بسعيه
حظًّا ويحظى عاجز ومهين

آداب الزاهدين

الغيبة وغرور المرء بنفسه

كنت فيما مضى من أيام الشباب ورِعًا تقيًّا، طاهر النفس نقيًّا، أصوم النهار وأقوم الليل، وأقضي زمني في التسبيح بحمد الواحد القهار، وإني لأجلس ليلة إلى والدي والكتاب الكريم بين يدي، وقد أخذ النوم بمعاقد أجفان مَن كانوا بقربنا، وإذا بي أشعر بالعُجب قد داخلني لقيامي ونوم مَن حولي، فقلت لأبي: أليس في هؤلاء رجل رشيد يُحيي الليل بالركوع والسجود؟! هل أصابتهم غِشاوة، أم خدعتهم تلك الحياة حتى فضَّلوا النوم والهجوع على القيام والصلاة؟!

فنظر إليَّ والدي نظرة الحكيم، وأجابني إجابة الخبير العليم: يا حبَّذا لو كنت مثلهم ونمت نومهم؛ فإن الله يحب منك القعود عن عبادته، ويبغض فيك القيام لتأكل لحم عبيده. واعلم يا ولدي أن الصلف والإعجاب والغرور أدوات الدمار، وأن عجبك بنفسك يؤدي بك إلى استصغار شأن غيرك، ولو أنك ترى شخصك كما يراك الواحد القدير لرأيته أقل من ذرَّة، وأدنأ من تمرة.

نحن أقرب إليه من حبل الوريد

قمت يومًا في المسجد الأقصى بدمشق أعِظ الناس في حلقة رجال مزدحمين ملتحمين، وإذا هم حاضرو الأجسام، مُنصرفو الأذهان والأحلام؛ فعلمتُ أنهم لم يتركوا بعد سُبُل الظلمة والضلالة، ولم يسلكوا طرق النور والهداية، ورأيت أن وعظي لو لقِيَ الشَّعْر لحلَقه، أو الصخر لفلَقه، وأن قلبًا لم يُنضجه ما قلت لنيِّئ، ولكن كيف تُشعل النار العود الأخضر؟! وكيف يُطهِّر الوعظ نفسًا لا تطهر؟! وإني لكذلك ألوم نفسي على تعليم تلك الأنعام، وأُؤنِّب ضميري على صرف زمني وعلمي في تفهيم صغار الأحلام إذ خطر ببالي أن أُفسِّر قوله تعالى: نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ.

فهاج نفس ما تضمنته تلك الآية الكريمة من المعنى الجميل، والرمز الجليل، فاندفعت كالسيل الجارف أشرح للقوم قُرْبَ الله وبُعْدَه، وعطْفَ الحبيب وصدَّه، حتى ثملت من الطرب، وأوشك السرور أن ينال منِّي أكثر ممَّا أوَدُّ؛ وإذا برَجُلٍ من أهل الرشاد قد فَقِه المبنى، ووقف على المعنى، وهو في آخر صف من صفوف الملأ؛ فقام يصيح سرورًا، ويرقص فرحًا وحبورًا، فقلت للقوم: الحمد لله الذي جعل فيكم واحدًا يعقل، وسبحانه فتح قلب البعيد، وأضاء بصيرته، وجعل على فؤاد القريب غِشاوة؛ فهو لا يرى الحق مهما ظهر.

مخافة الله

رأيت وليًّا من أولياء الله راقدًا على شاطئ البحر وهو يتضوَّر ألمًا، ويشكو جراحًا أصابته منذ أنشب وحش ضارٍ فيه أظفاره فمزَّق أطماره، ونهش لحمه، ودقَّ عظمه، فقلت: كيف أنت؟ فقال: أحمد الله الذي لا يُحمد على مكروه سواه؛ لأنه أصابني في جسدي ولم يُصبني في نفسي؛ فلست أخشى غير وقوعي في حبائل الشيطان، واندفاعي في طريق البغي والعِصيان.

ملك في النعيم وتقيٌّ في الجحيم

ويلي لمَن لم يرحم الله
ومن تكون النار مثواه

رأى أحد الصالحين فيما يرى النائم مَلِكًا من الملوك ينعم في الجنة، وورِعًا يُعذَّب في نار الجحيم، فقال: عجِبت لهذا الورِع التقيُّ يُعذَّب بالنار وهو من الأخيار الأبرار، ويمرح أحد السلاطين في النعيم وهو من المترفين الذين أرادهم سبحانه وتعالى بقوله: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا، فسمع الزاهد هاتِفًا يقول: لقد متَّع الله السلطان بنعيم الجِنان، وأصاب الورِع بالحرمان لأن الأول كان يحبُّ الحق، ويشدُّ أزره، ويناصر أهله، أمَّا الثاني — وإن كان بالزهد مُجاهرًا — فليس ورعه إلَّا ادِّعاء وتظاهرًا، واعلم أن الله لا تنطلي عليه حيلة، وهو القائل في كتابه الكريم: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ ۖ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ.

فيا أيها الزهَّاد، لا خير في المِسبحة والثوب المُرقَّع إذا لم تصونوا نفوسكم عن الذنوب، وتحتفظوا بقلوبكم من الرجس، واعلموا علم اليقين أن الظهور بمظهر الزاهدين وأنتم أخبث من الأبالسة والشياطين سوف يسوقكم إلى العذاب قهرًا؛ فتُجزون بما جزيتم شقاء وشرًّا، واعلموا أن الواحد منكم لو كان له من المال ما لا يسعه الخزن، ومن الصامت ما لا يحصره العد والوزن، وهو حسن النية طيب الطوية، كان نصيبه لدى الله أوفر ممَّن يرتضع من الدهر ثدي عقيم، ويركب من الفقر ظهر بهيم، مع خبث في سريرته، وخِسَّة في غريزته:

بالصبر تبلغ ما ترجوه من أمل
فاصبر فلا ضيق إلَّا بعده فرج

صبر الصالحين

لقيت طغمة من الأراذل عبدًا من عباد الله الصالحين، فأحرجت صدره سبًّا وشتمًا، وأوسعته لطمًا ولكمًا، فذهب بفارغ الصبر وشكا أمره إلى وليِّ الأمر، فلمَّا سمع شكايته هدَّأ روعه وطيَّب خاطره، وقال له: اعلم يا ولدي، أن ثوب الزاهد هو ثوب الاستسلام، ومن يتَّشح به ولا يقوى على احتمال الكوارث والنوازل، أو لا يحلم لدى حماقة الثقلاء والأراذل فهو طالح في ثوب صالح، ودعيٌّ في زِيِّ تقيٍّ، وقد حُرِّمت الجنة على الأدعياء كما حُرِّمت على الأشرار والجهلاء؛ فأية الحالتين تختار: العفو والجنة أم الانتقام والنار؟

إني رأيت وفي الأيام تجربة
للصبر عاقبة محمودة الأثر

فقال الزاهد: لقد علَّمتني يا أستاذي ما لم أكن أعلم، فأنا أختار الصبر والحِلم؛ لأن عاقبتهما أفضل وأسلم، فقال له: الحمد لله، يا ولدي، على أنك اهتديت وما غويت. واعلم أن الحكيم الصابر كالبحر الزاخر لا يُسبر غوره، ولا يُبلغ قعره، أمَّا من كان الغضب أقرب إليه من حبل الوريد، فكالغدير الصغير يُبلغ قراره في طرْفة عين، ويُنزح ماؤه باليدين. واعلم يا ولدي، أن العفو شيمة الكِرام، وهو حلية القلوب الطاهرة، وجلاء يجلي النفوس، وخير للمرء أن يعتاد الذلَّ قبل أن يُرغم عليه؛ فهو من التراب، وهو لا ريب عائد إليه:

عجبت للإنسان في فخره
وهو غدًا في قبره يُقبر
ما بالُ مَن أوَّله نُطفة
وجيفة آخره يفخر

من تواضع لله رفعه

تواضع إذا ما نلت في الناس رِفعة
فإن رفيع القوم من يتواضع

زعموا أن علَمًا من أعلام جيش الرشيد تنافس مع ستار من ستور القصر، فقال العَلم: كيف تنكر أنك أقل مني قدرًا، وأنني أعظم جاهًا وأرفع ذكرًا؟ ألست العَلم المحمول فوق الرءوس إذا التحمت الجيوش، وحصر الموت النفوس؟ ألم أقضِ عمري في خدمة السلطان، فلا الليل يُخيفني بوعيده، ولا البُعد يلويني ببيده؟

أخو سفر جواب أرض تقاذفت
به فلوات فهو أشعث أغبر

أخبط ورق النهار بعصا التسيار، وأخوض بطن الليل بحوافر الخيل:

وقد كشَّرت عن سنا نابها
عروس المنية بين الشعل
وجاءت تهادى وأبناؤها
كأن عليهم شروق الطفل

فكم شاهدت حربًا، ورأيت طعنًا وضربًا! وكم حصارًا فككت! وخميسًا كالجبل دككت! وكم جبت الفيافي والشمس لها في الجو تدويم! وقطعت القفار والشهب تحسد همتي وتُضيء محجتي! وكم هبَّت رياح الموت نكباء فلم ينسخ لهيبها آياتي، ولم يُطفئ هبوبها سراج حياتي! هذا وأنت، أيها الستار، باقٍ في الدار، تطويك أيدي الحور الحسان، من كل قينة كغصن البان، ما يزهد حسنها الحكيم في حكمته، وتفتن سقراط ولقمان، وينشرك ظبي رومي الأصل عراقي النشء: إذا حسر عن رأسه، وشمَّر عن ساقه، وافتَرَّ عن ثغره رأيت العسجد والبلور واللؤلؤ في المرجان.

أمَّا أنا فيحملني جندي شديد، ويحتفظ بي بطل صنديد، لا تُرهبه الحروب، ولا تحرجه الكروب، فإذا مسَّني لا يُشفق على بدني الضئيل، ولا يرفق بعودي النحيل، فأيَّ ذنب جنيت حتى كُتب عليَّ أن أذوق من العذاب الألوان والصنوف، وأقضي أيامي بين أنياب المنايا والحتوف؟ وأنت بماذا امتزت حتى نلت الحظوة الكبرى، وتفردت بالإكرام؟

فقال الستار، بعد أن علا وجهه اصفرار: على رسْلك يا فتى، ولا تضنَّ عليَّ ببعض حلمك، ولك فيما أقول حُكمك: اعلم أنني أفضلك بالتواضع، ومن تواضع لله رفعه؛ فكان نصيبي من العز ما ذكرت، أمَّا أنت فشمخت بأنفك وعلوت الصفوف، وغرَّك السير في طليعة الألوف، على أنك إذا نشرت اليوم على الرءوس وخفقت فوق الهام، فستُداس غدًا بالأقدام إذا حمي وطيس الحرب واشتد الصدام:

ورافع نفسه بالكبر يخفضها
تدنو ويحسبها تعلو به درجًا

أمَّا أنا فرضيت منذ نعومة أظفاري بالقيام على باب السلطان، وسوف أبقى مُعزَّزًا ما دام النيِّرانِ، فلا تغترَّ بلمسك السحاب؛ فإنك لا تأمن أن يمسَّك التراب:

ومن جهلت نفسه قدره
رأى غيره منه ما لا يرى
يا من ترفَّع بالدنيا وزينتها
ليس الترفُّع رفع الطين بالطين
إذا أردت شريف القوم كلهم
فانظر إلى ملك في زِيِّ مسكين
ذاك الذي عظمت في الناس همته
وذاك يصلح للدنيا وللدين

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤