صفات الزاهدين

من صفات الزاهدين الصالحين عرفان الجميل، وحمد الله على المحبوب والمكروه، والطاعة في الحسنات، والقناعة بالقليل، والإحسان إلى المعوزين، والأمانة في التقى، والإخلاص في العبادة، والصبر على الشدائد؛ فمن كانت هذه صفاته فهو المقبول، ولو كان ممَّن يلبسون الديباج، ويركبون الهملاج، ويفترشون الحشايا بالعشايا.

أمَّا من كان التراخي في العبادة والحماقة من نقائصه، والشره والغدر من غرائزه، يُحفظه القول الخفيف، ولا تُشبعه كِسرة من رغيف، ولا يُقنعه إلَّا اللحم الغريض والخل الثقيف، ولا يُطفئ ظمأه سِوى الماء المثلج في الإناء الظريف، لا يُصلي إلَّا وهو يروم كيدًا بصلاته، فيخدع الناس بتعبُّده وصومه وزكاته، ويلبس ثياب الزاهدين تغريرًا بالناظرين ممَّن لم يسبروا غوره، ولم يقفوا على كُنه أمره، فتارك الصلاة عمدًا أقرب منه إلى الله، ومُرتكب المُوبقات جهرًا أحسن عاقبة، وأفضل مغبَّة.

الجواب المُسكِت

حُكي أن رجلًا من صغار العقول الأُلَى قضوا أعمارهم في الخمر والزمر، وأفنوا أيامهم في النرد والقمْر، مرَّ بحقل من الحقول، فرأى باقة من الأزهار والورد بينها كالياقوت في النحور، وقد وُضعت الباقة في حشيش أخضر، فقال الرجل: عجبًا لهذا النبت! كيف يدنو من ذلك الورد الأزهر ولا هو في قيمته وقدره، ولا في لونه وطيب عبيره ونشره؟! فانتفض الحشيش وقال بلسان منَّ الله عليه بالفصاحة والبيان: عجبًا لك أيها الإنسان العاجز، كيف جاز لك أن تعترض وتُناجز! ألست تعلم أنني وإن كنت خلوًا من لون الزهر، ورائحة الورد والعطر، فإن هذا لا يُقلل من قيمتي، ولا يستدعي استصغار شأني ومذلَّتي؛ لأنني بأمر الله نَمَوْتُ كما نَمَا الوردُ بإذنه، وهو جلَّ وعَلا الذي أرسل على الأزهار الزاهية قطْره ونداه كما جاد عليَّ بغَيْثه ومُزْنه.

في الزهد والقناعة

الحكمة ومتاع الدنيا

رُوي أن ملكًا من ملوك مصر خلَّف ولدين، فاختار أحدهما العلم حليفًا، والكتاب أليفًا، وانقطع يطلب الحكمة، فكان يلتقط دُررها أنَّى وجدها، ويصل للوصول إليها ليله بنهاره، وأصائله بأسحاره، حتى برز في أقرانه، وفاز على إخوانه، فعقدت له الحكمة لواءها، وقلَّدته تاجها وصولجانها، وفتحت له العلوم كنوز أسرارها، فما زال يسرح في رياضها، ويمرح في غياضها، حتى صار فريد عصره، ووحيد دهره.

أمَّا الثاني فحسنت لديه الدنيا، فانطلق يجمع المال ويُشيِّد القصور، ويُؤسس دعائم العزة والسلطان، ويحشد الجنود والأعوان، حتى تمكَّن من دنياه، ونال منها مُناه، فبنى الحصون والدساكر، وجمع الأعلاق والعساكر، فأذعنت مصر لبأسه وقوَّته، واستسلمت لبطشه وسلطته، فتفرَّد بالمُلك دون غيره، وخلا له الجو فباض وصفر، وطغى على أخيه واستكبر، فقال له يومًا وهو يُحاوره، وحوله وزراؤه وعساكره: لقد بلغت الذُّرى ونلت المُنى، وأصبحت صاحب الحَوْل والطَّوْل، فأعطتني مصر زمامها، وصيَّرتني أميرها وإمامها. أمَّا أنت، فماذا صنعت بحكمتك وعلمك وفطنتك؟ ألا تزال أيها الغر حقيرًا فقيرًا؟ أُعين أمثالك من الفقراء بفاضل ذيلي، وأُعطيهم من نيلي، وهم في حاجتهم يقبلون الذَّرة، ولا يردُّون التمرة.

فاستخفَّ الحكيم بقول ذلك الغشوم وقال له: الحمد لله الغفور الكريم؛ فقد قسم لي أن أَرِث الأنبياء المرسلين والحكماء الأخيار، واختار لك أن ترث الفراعنة العتاة الأشرار، واعلم يا أخي، أن مثلنا كمثل الأفعى والنحلة، فقد رُكِّب السم في غريزتك، وأصبح الشر من طبيعتك، فأنت كالحشرة العمياء تلدغ من تشاء ومن لا تشاء، وكفاك شرًّا أنك كالعقرب تمسُّ بأذاها ما تبغض وما تحب. أمَّا أنا فكالنحلة الضعيفة الضئيلة، فليس لي حول ولا حيلة، ولئن قدحك الناس واستغاثوا من أذاك مرة مدحوني وحمدوا الله على خيري ألف مرة:

دع الحرص على الدنيا
وفي العيش فلا تطمع
ولا تجمع لك المال
فما تدري لمن تجمع

حُكي أن وليًّا من أولياء الله لحقته الفاقة والحاجة، فأخلقت ثيابه، وتمزَّقت أهدابه، فجلس إلى جدار يُرقِّع هدومه، ويُرتق فتوقه، ويسدُّ ثلومه، ويقول في نفسه: لئن بلغ مني السغب مبلغه، وعزَّت عليَّ المضغة، وبدَّد الفقر شمل اللباس، فذلك أسهل لديَّ من بسط اليدين، وأخفُّ عليَّ من وطأة الدَّيْن. فمرَّ به أبناء السبيل، ورآه أحدهم يُخفي حاله بالانزواء في أركان الجدران، فقال له: أيها الفقير، كيف تبقى كذلك وفي هذا البلد الطيب مُحسِن كريم الأخلاق، طاهر الأعراق، وله على المعوزين أمثالك يد بيضاء تقودها إلى فعل الخير شِيَم سَمْحاء؟!

فهو يسبغ على أهل الفاقة نعمته، ويُطعمهم من جوع، ويُؤمنهم من خوف، وينقذهم من الهُوَّات، ويشد أزرهم إذا أصابهم الضيم والحيف، وإنه لو عرف حالك قتل فقرك، وفرَّج أزمتك، وستر عورتك، وخفَّف عنك ويْلتك؛ فما عرفنا عنه أنه يخذل فاضلًا قعد به الزمان، أو عالمًا لعبت به طوارئ الحدثان، فقال الزاهد: اعلم يا أخي، أن الزاهد يفضل أن يأوي إلى جُحر اليربوع، وأن يموت من العري والجوع على أن يستجدي. وقد جاء في الحِكَم أن ترقيع الثياب خير من سؤال الأصحاب، وإحراق المرء بنار الوعيد سيِّدًا أوْلى له من أن يدخل الجنة عبدًا.

البرة العاجلة خير من الدرَّة الآجلة

سرت يومًا في سوق بغداد، حيث يجتمع السائحون من رائحٍ وغادٍ، فلقيت طائفة من تجار الجواهر قد التفَّت حول تاجر غريب، وهو يقصُّ عليها من أخبار الأسفار كل مُطرب وعجيب، فسمعته يقول: ضللت يومًا سبيلي في صحراء مُتباعدة الأطراف، مُترامية الأكناف، تضل في مفاوزها العواصف، وتتعثَّر في مهامهها الرياح القواصف، فلمَّا أن استحكمت عليَّ حلقات الضيق بعد أن ضللت الطريق، بقيت أُخبِّط في الصحراء خبط عشواء، وأسير ذات الشمال وذات اليمين؛ علِّي أهتدي بعد حين.

وما زلت كذلك حتى نال مني الأين والسغب منالهما، وحتى حلَّ القنوط بالقلب، واستولى اليأس على النفس، فارتميت في مكان لست أدري ماذا ساقني إليه، وتناولت صخرًا أشده إلى بطني؛ لتعتمد الأمعاء عليه، وإني لأشد ذلك الصخر إذ بصرت بين الصخور والرمال بجراب من جلد الغزال، فظننت فيه رُطبًا جنيًّا، وأن ما فيه سوف يُنقذني من العدم، ويُريحني من العناء والألم، وكنت والله من الجوع بحيث لو رأيت صخرة لقضمتها، أو حيَّة تسعى لالتهمتها، فما بالك بالرطب بعد الشقة والتعب؟! فأهويت بيدي إليه أريده، فما قاسيت والله في حياتي ألمًا أشد من ألمي لمَّا فككت عقدته، وفضضت ختامه، ورأيت أن حشوه لآلئ غالية، وجواهر ثمينة، ومنذ ذلك اليوم علمت أن رغيفًا من الخبز في المَهْمَه القفر خير من الجوهر الغالي والدُّرِّ:

لعمرك لا يُنيل المجدَ مال
ولا خيل ولا إبل ترود
ولا ثوب على طرفيه وشي
ولا قصر على تل مشيد
فإن المجد في أدب غزير
وإن المجد في علم يُفيد

خنازير البشر

بصرت بغنيٍّ بادنٍ مكسوٍّ ثيابًا مطروزة، معتم بالدمقس، ومُمْتطٍ مهرة عربية وهو يسير في الطريق مُختالًا، مصعِّرًا خدَّه، مُعجبًا بنفسه، فقال لي رفيق: ماذا ترى في هذا الخنزير يلبس الديباج، ويركب الهملاج؟ فقلت: مثله كمثل فُحْش القول منقوشًا بماء الذهب، ولولا العمامة والقنطار والفرس لكان الإصطبل أجدر بهذا الفحل؛ لأنه لا قيمة له إلَّا بها، ولا قدْر له إلَّا قدْرها، واعلم أن العاقل مهما نالت منه الحاجة فهو غني بنفسه، والجاهل وإن صاغ بابه من ذهب، ورصف بيته بالزبرجد، واكتسى ثوبًا منسوجًا بخيوط العسجد، فلا هذا يُعلي من قدْره، ولا ذاك يرفع من ذكره.

الطبيب والمَلك

كُلْ قليلًا تعِش طويلًا وتسلم
من عوادي الأسقام والأدواء
إنما يغتذي الكريم ليبقى
وبقاء السفيه للاغتذاء

ورد في الآثار عن أزدشير بانجان أنه سأل طبيبًا عربيًّا خبيرًا بالعقاقير وتركيبها، والأمراض وأعراضها، عن قدْر ما يكفيه من الطعام، فقال الطبيب: إن مائة درهم تسد الرمق، وتُجدِّد القُوى، وتُعيد إلى البدن نشاطه، فقال الملك: وأيَّ رمق تسد تلك الدراهم المعدودة وهي لا تُشبع من سغب ولا تُسمن من جوع؟ فقال الطبيب: إن هذا القدْر يكفي القَنوع، ويحفظ كيان الجسد، وأمَّا ما زاد عنه فمجلبة العناء، ومدعاة العلل والأدواء. واعلم أيها الملك، أن المرء إذا وقف عمره على الموائد الممتعة والمآكل السائغة هلك.

حاتم طيء

تكلفني إذلال نفسي لعزها
وهان عليها أن أُهان لتكرما
تقول: سَل المعروف يحيى بن أكثم
فقلت: سَلِيه ربَّ يحيى بن أكثما

سُئل حاتم الطائي عن أيِّ الناس أعظم منه كرمًا، وأفضل نفسًا، وأحسن شِيَمًا، فقال: ذبحت يومًا أربعين حلوبة للأضياف، ثم سرت في البيداء أريد أمرًا، فبلغت أجمة فيها رجل يحتطب، فقلت له: أما سمعت بكرم حاتم طيء وسماحته؟ قال: بلى، قلت: هلَّا استضافك؟ قال: ثكلتني أمي لو أنه استضافني وقبلت ضيافته، ودعاني فأجبت دعوته؛ فإنني ما دمتُ أستطيع الكسب بعرق جبيني، وتعب يميني، فمن العار أن يكون لكريم عليَّ يدٌ أغضي لها حين يغضب:

ولا خير في مال عليه أليَّة
ولا في يمين عُوقدت بالمآثم

فقلت للمحتطب: أنا حاتم طيء، وأنت وربُّ الكعبة أعلى كعبًا منِّي في الكرم، وأقرب إلى المروءة، وأسبق إلى محاسن الشيم.

فضيلة الصمت

سألني صديق عن طول صمتي ومُلازمتي للسكوت، فقلت له: إنني اخترتهما لأن الحديث يستلزم امتزاج طيب الكلام بخبيثه، وأُذُن العدو لا تسمع إلَّا المساوئ، فقال لي صاحبي: إن في ترقُّب العدو لما تقول وتفعل نعمة كبرى؛ فهو يغضُّ الطرف عن الحسنات ويأخذنا بالسيئات، فيدعونا هذا إلى التنصُّل عنها والخلاص منها، قلتُ: لئن اتَّقَى أحدُنا الغرق كان اغتباطه به أعظم من اغتباطه بالنجاة منه.

كان سحبان وائل أخطب العرب، وأقواهم جَنانًا، وأفصحهم لسانًا، وأبلغهم بيانًا، يخطب في قومه عامًا فلا يُعيد لفظًا مرتين، وإذا عرض له معنًى كان ذكره احتال على البلاغة حتى تدلَّه على قالب جديد يُفرغ فيه المعنى القديم، وهذه صفة لازمة لمن يُعاشرون الأمراء، ويخطبون في الناس، ويبتغون الكمال في فن الكلام.

سمعت كليمًا يقول: ما رأيت رجلًا يعرض على الناس جهله، ويُعرِّفهم بمقدار نقصه كمَن يقطع الحديث على رجل، أو يُسرع في القول ولمَّا يفرغ مخاطبه، وقد قالت الحكماء: إن الأريب مَن كانت ألفاظه منظمة متناسقة متناسبة كالوشي في الثوب المطروز، والبليد مَن خلط الإصابة بالغلط، فإذا قال قولًا عجز عن تبيين قصده، فلا يُصيب ذهن محدِّثه سِوى الاضطراب والتشويش؛ فهو كمَن يملأ حفرة لا يدري أيَّ الحجارة يقذف أوَّلًا.

الخطيب المُزعج

كان لخطيب من الخطباء صوت يُزعج النفوس، ويُؤلم الأسماع إذا استأذن عليها، وكان إذا خطب أنَّ الناس ألمًا، وتميزوا غيظًا، فكان يظن أنينهم إعجابًا بصوته، وأنهم يطربون لوقعه، فكأنه لم يتلُ قوله تعالى: إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ، ولمَّا كان هذا الخطيب ذا مكانة في نفوس قومه، كانوا يحتملون الضيم في سماعه، ويُفضلون أن يُؤلموا أنفسهم على أن يُؤلموه في نفسه.

فحدث أن خطيبًا نزل بالبقعة التي كان فيها صاحب الصوت الفظيع، وكان بينهما حقد، فقال له يومًا: رأيتك فيما يرى النائم تخطب في الناس بصوت لطيف يُبهج السامعين، فكانوا مُقبلين على صوتك إقبالهم على قولك، فدعوت الله أن يُحقق ذلك الحلم، ويا حبَّذا لو صحَّت الأحلام، فقال الخطيب ذو الصوت المُزعج: لعلَّ الله يُجيب دعاءك، ويُحقق رُؤياك؛ فقد نبَّهتني إلى عيب في نفسي كنت عنه غافلًا، فجعلتني أفطن منذ اليوم إلى قُبح صوتي، وسوف أبدأ بتخفيف وطأته على الأسماع، فيكون في ذلك تحقيق لحلمك وراحة للناس.

قُرناء السوء

سئل حكيم عن قُرناء السوء، فقال: هم الذين إذا جالسوك ذبحوك بمدحهم، وأغمضوا عيونهم لعيوبك، وغضُّوا أبصارهم عن ذنوبك، وبدَّلوا سيئاتك حسنات، ورذائلك خِلالًا فاضلات، وقالوا عن باطلك إنه حق، وعن سُمِّك إنه ترياق، ولا خير في هؤلاء وإن كانوا من الأصدقاء، وإن عدوًّا جسورًا لا يملقك ولا يُداجيك أفضل من صديق يخدعك ويغشَّك، فلا يكون الرجل كاملًا إلَّا إذا عرف عيوب نفسه، فأخذ في إصلاحها. أمَّا من لا يودُّ أن يسمع عن نفسه إلَّا الثناء فهو فريسة الغرور، وهيهات أن ينتبه من غفلته، أو يصحو من نشوته قبل أن يفوت الأوان، وتصير الأغصان أخشابًا؛ فيعجز عن تقويم اعوجاجها.

خطيب المسجد

يُحكى أنه كان في مسجد من مساجد سنجار مؤذِّن تجزع النفوس من قُبح صوته إذا دعا الناس إلى الصلاة، وكان صاحب المسجد أميرًا فاضلًا؛ فلم يشأ أن يُسيء الرجل في نفسه فقال له: إن في هذا المسجد غيرك من المؤذِّنين ثلاثة شُهِد لهم بالحذق والبراعة وحُسن الصوت، ولا يزالون في عنفوان الشباب. أمَّا أنت فقد بلغت سنًّا ينبغي أن تلزم فيه دارك، فإذا أردت ذلك أعطيتك ضعف ما تناله الآن، فقبل المؤذِّن الثقيل تلك العطية، وأراح المُصلِّين من أذى صوته.

وقد لقيه صاحب المسجد بعد حين فسأله عن حاله، فقال: قصدت مسجدًا غير مسجدك وشرعت أؤذِّن، فلمَّا أن قضيت يومي قال لي صاحب المسجد: إنه في غِنًى عنَّي، ففطنت إلى أنك لم تجعل لي جعلًا إلَّا لقُبح صوتي، وذكرت ذلك لصاحب المسجد فمنحني عشرين دينارًا، على أن أولِّي عنه، فقال صاحب المسجد الأول: تشدَّد يا بُني في الطلب؛ فإن مولاك الجديد لا يألو جهدًا في صرفك عن مسجده، ولا يدَّخر وسعًا في الخلاص منك ولو كلَّفه ذلك خمسين دينارًا مشاهرة.

الشيخوخة

يا عجبًا للناس لو فكروا
وحاسبوا أنفسهم أبصروا
وعبروا الدنيا إلى غيرها
فإنما الدنيا لهم معبر

كنت أجادل بعض أهل العلم في المسجد الأقصى بدمشق، وإنَّا لكذلك نقرع الحجة بالحجة، ونصدم البرهان بالبرهان، وإذا بصبي يشق صفوفنا حتى وقف بين أيدينا، وسألنا عن رجل يعرف الفارسية، فحوَّل الجمع أبصارهم إليَّ، ودلُّوا الفتى عليَّ، فاستدعيته وقرَّبته وسألته عن حاله، فقال: إن شيخًا يعالج سكرات الموت، وهو يتكلم الفارسية وليس بين أهله من يفْقَهُ قوله، ولعلَّ الشيخ يُوصي فتذهب وصاياه هباءً جزاءَ جهل أهله بلسانه. فوقع كلام الفتى من قلبي، وصحَّ عزمي على اصطحابه إلى حيث يكون ذلك الشيخ.

فلمَّا بلغناه وجلستُ إليه سمعتُه يقول بالفارسية: «ما أوشكت أن أطمئن وأشعر بلذة الحياة حتى سئمت نفسي البقاء، فكنت كالضيف الجائع إذا جلس إلى المائدة لا يكاد يستقر به المكان حتى يصرفه ربُّ الدار.» فلمَّا فسَّرت هذا القول لأصحابي من العلماء عجبوا لتعلُّق الرجل بأهداب الحياة، وهالهم أن يخشى الموت من كان شيخًا مثله بعد أن نال من العيش مُناه. ولمَّا فرغ الشيخ من قوله سألته عن حاله، أنشد:

ما راح يوم على حي ولا ابتكرا
إلَّا رأى عِبرة فيه إن اعتبرا
ولا أتت ساعة في الدهر فانصرفت
حتى تؤثر في قوم لها أثرا

ثم قال: «كيف تسألني؟ ألست تعلم لشدة ما تُعانيه إذا انتزع الطبيب من فيك ضرسًا؟» قلت: نعم، قال: «إني أُقاسي أضعاف هذا الألم لدى نزع النفس من البدن، والله إنني أريد سفرًا بعيدًا بغير زاد، وقادم على مَلك عادل بغير حجة، وسأسكن قبرًا موحِشًا بغير أنيس، مثل الجواد والإبل.»

سرت يومًا وأنا بعذرة الشباب في وادٍ حتى بلغ منِّي الأين، ونال التعب منِّي منالًا، وفرى المسير جلد قدميَّ، وكنت بلغت سفح الجبل فاستلقيت مُنتهكًا لا أقدر أن أُحرِّك ساكنًا، وإني لكذلك وإذا بشيخ كان مُسافرًا قد بلغ مكاني، فلمَّا رآني قال: كيف تلقي رحلك بسفح الجبل؟

فقلت: عجزت يا عمَّاه عن السير، ولست أستطيعه؛ لذا تراني رقدت حيث أمكنني الرقود، فقال: ألا تعلم أنه خير لك أن تسير الهُوَيْنَى وأن تستريح قليلًا من أن تُسرع في المشي فيُنهكك التعب، ويلجئك الكلل إلى ما لا تُحمَد عاقبته؟ واعلم يا ولدي، أن الجواد الكريم الذي إذا سابقته الريح ولَّت عليلة، وألقى في يد الريح التراب، لا يسير أكثر من ميل، أمَّا البعير المتثاقل، فيستطيع أن يصل في سيره الليل بالنهار، والأصائل بالأسحار؛ لأن الأول يُنهك نفسه، والثانية تسير بالأناة والتؤدة.

الشيب

ما تنقضي حسرة منِّي ولا جزع
إذا ذكرت شبابًا ليس يُرتجَع
ما كنت أُوفِّي كُنه عزَّته
متى انقضى فإذا الدنيا له تبع

رأيت في مجمع حافل بالفُضلاء والعلماء فتى غضَّ الشباب، لدن الإهاب، حسن الهيئة والثياب، حلو الفكاهة والحديث، وما رأيته مرة عابسًا، إنما كان دائمًا باشًّا هاشًّا؛ لأن الحزن لم يطرق باب قلبه، ولم تخترق سهام أسًى صميم فؤاده، وضرب الدهر بيننا فافترقنا، ولقيته بعد ذلك فإذا هو ذو زوجة وأطفال، فلمَّا جلست إليه لمحت أن ورد خدوده قد اعتراه الذبول، وأن فراغ البال وسعادة القلب وصفاء النفس قد تبدَّلت، فصارت أحزانًا مقيمة وهمومًا مستديمة، فسألته عن حاله، وكيف غيَّر الزمان ما به؟

فقال: كنت قبل العيلة خليَّ البال فتيًّا، حتى رُزقت أولادًا فبلغت من الكِبَر عِتيًّا، وقبيح بالشيخ أن يعود صبيًّا، وقد دلَّتني الخبرة على أن الشباب جنون لا يزول إلَّا بالشيخوخة، وأن فراغ البال داء يُعالَج بالمحنة؛ لذا تراني اليوم أعقل منِّي بالأمس وأشغل خاطرًا:

تولَّى الجهل وانقطع العتاب
ولاح الشيب وافتضح الخضاب
لقد أبغضت نفسي في مشيبي
فكيف تحبني الخود الكعاب؟!

الشَّعْر والظهر

رأيت امراة لحقتها الشيخوخة، فذهبت نضرتها، وتجعَّدت أسرتها، وابيضَّ شعرها، وانثنى ظهرها، فصبغت شعرها خلاصًا من عارها، فقلت لها: لئن استعدت بالصبغ سواد الشعر، فكيف تستعيدين اعتدال الظهر؟! ورأيت رجلًا أدبر صباه وتولَّى عنه الشباب، وأقبل عليه الشيب، فحاول إخفاءه بالخضاب، فقلت له:

يا خاضب الشيب بالحنَّاء تستره
سَل الإله له سترًا من النار
من يرحل الشيب عن دار يُلمُّ بها
حتى يرحل عنها صاحب الدار

ولا تنهرهما

كنت في جنون شبابي أنهَرُ أمي، فجلست أمامي يومًا وأسندت رأسها بيدها وبكت حتى أبكتني، وقالت لي: هل نسيت أيام طفولتك حتى تُسيء إليَّ، وأنا التي أحسنت إليك، وسهرت عليك، أم زيَّنت لك نفسك أن تُقابل الكرامة بالإهانة، وأن تُكافئني على الخير بالشر — وكلا الأمرين مُرٌّ؟! وما زلنا نبكي وأستعطفها وتلومني حتى ثُبت إلى الله، وثُبت إلى الحق، فعفت عنِّي، وما زلت أُكرمها وتحبني حتى فرَّق الموت بينها وبيني، فخرق الحزن قلبي، وقرح البكاء عيني.

التهذيب

كان حكيم يُهذِّب أحداثًا فقال لهم: يا أكباد آبائكم، تعلموا حِرفة ولا تعتمدوا على ما لديكم من ثروة أو متاع؛ لأن من اعتمد عليهما وقصَّر في تعليم نفسه هلك، واعلموا أن الذهب واللُّجيْن منبع المتاعب ومصدر المصائب، فإن لم يسلبها سالب أسرف فيها صاحبها وبذرها، أمَّا الحِرفة فكالبئر البكر لا ينضب معينها، أو الأرض الخصبة لا يهلك زرعها، ولو أن صاحب فن فقد مالًا فلا يُحزنه ذلك؛ لأن في فنه ماله وغِناه، ولا يعزب عن أذهانكم أن الإكرام والتبجيل لا يكونان إلَّا لذي صنعة، أمَّا من لا صنعة له فنصيبه المذلة والهوان والفقر.

•••

حدثت في دمشق الفيحاء ثورة، فهاج البلد وماج، فلمَّا أصاب المدينة من الاضطراب ما أصابها اختلط الحابل بالنابل، وضربت الفوضى أطنابها، فتخلَّى الوزراء عن مناصبهم، وترك الكبراء مراتبهم؛ ففاز المهذبون من أبناء الفقراء بتلك المناصب، وكان نصيب الأغنياءِ الجُهَّالِ الفقرَ وذل السؤال:

العلم يرفع بيتًا لا عماد له
والجهل يخفض بيت المجد والشرف

مرض تاجر غني وشعر من نفسه بدنوِّ أجله، وانقضاء عمره؛ فاستدعى ولدًا له وأوصاه فقال: يا ولدي، إن ورثتني وفزت بثروتي فلا تُهمل تهذيب نفسك وتدريبها على عمل من الأعمال؛ فقد يذهب الذهب، وتدول دولة الغِنى، ولا ترى لك نصيرًا تلجأ إليه في الفاقة، وتستغيث به لدى الحاجة، فلا يبقى لك سِوى ما اكتسبت من المعرفة، وما علمته بالممارسة.

سمعت أستاذًا يقول لتلميذه: لقد شغلت الدنيا قلوب الناس، ولو أنهم شغلوا أنفسهم بخالقهم عُشر شغلهم بها لكان مكانهم في الجنة أعلى من أماكن الملائكة، ولو فطن الإنسان إلى أن الله لم يتركه سُدًى وهو نُطفة مذرة، بل وهبه نفسًا زكية، وفؤادًا عاقلًا، وحلاه بحلية النطق، وجعله في أحسن تقويم لم يخشَ قط أن يُهمله أو يُعوِّق عنه رزقه.

صبر الحُكماء

احتسب عالم في ولد له، فلمَّا وُوري التراب سألوه عن أيِّ آي القرآن الكريم يكتبون على قبر ولده، فقال: إن آيات الكتاب الكريم أرفع من أن تُكتب على القبور؛ فقد يعدو الزمان عليها فيَطَؤُها الناس بأقدامهم إذا طال العهد على الجَدَث وتهدَّم، وإذا كان لا بد من النقش على اللحد فانقشوا: «كان ولدي كزهرة الربيع، فتعهَّدتها حتى نمتْ وأزهرت، ولمَّا أن جاء الخريف ذوت وذبلت، فمصابي بها مصاب الزارع حرث وغرس، فلمَّا أن نضج الزرع أرسل الله عليه وابلًا من السماء؛ فهو جلَّ وعلا منع ما أعطى، واستردَّ ما منح، فله الحمد من قبل ومن بعد.»

حِكم ومواعظ شتَّى

المال متاع الحياة الدنيا، وما كانت أعمار الرجال لتُقضى في حشد أموال.

سئل حكيم عن أسعد الناس وأشقاهم، فقال: «أسعدهم من زرع وحصد، وأشقاهم من خلف التراث للوارث، وترك المال للولد.»

•••

مَثل العالم الذي لا يعمل كمثل حامل الشعلة يضيء لغيره ولا ينتفع بالنور.

إن مثل من لا يسعى إلى غرض في حياته كمثل من ينثر ذهبًا في الطريق وهو إليه في حاجة شديدة. لا بد لثلاث من ثلاث: الثروة تحتاج إلى حِرفة، والعلم يحتاج إلى الجدل، والشعب إلى حكومة.

•••

لا تكشف لكلٍّ سرَّك؛ فإنك لا تدري ماذا تكتمه لك الأيام؛ فقد يُصبح الصديق عدوًّا؛ فيكون أعلم بمضرَّتك. إذا سهل لديك الانتقام من عدوٍّ لك فلا تفرغ جهدك في أذاه؛ فلربَّما احتجت إليه في المستقبل. إذا تمكَّنت من عدوٍّ لك فلا تُشفق عليه في ضعفه؛ فلربَّما لا يرحمك في قوَّته.

لا تكن رسول سوء؛ فإذا علمت خبرًا يُسيء فلا تكن بإفشائه بادئًا، واترك ذلك لغيرك، واعلم أن بلابل السحر تنقل كل خبر سارٍّ، والغربان والبوم تُنبئ بأخبار الهلاك والدمار.

رِضى الجسم مع سخط القلب كجمال القشور وقُبح اللُّبِّ.

لا يخدعَنَّك جمال الوجه؛ فقد يكون الجسم مليحًا والروح قبيحًا، واعلم أن الفضيلة كامنة في نفوس الرجال لا في أبدانهم. لا يُستهان بالدُّرَّة أينما كانت، ولا يؤبه للغبار ولو حمله الهواء إلى عنان السماء. المِسْك يُعرف بعبيره.

الحكيم كوعاء الدواء؛ فهو صامت ولكنه مملوء بالفوائد، أمَّا الجاهل فكالطبل كثير الجعجعة قليل المنفعة.

أمران مُخالفان للحكمة: أن يتمتع المرء بأكثر ممَّا في وسعه، وأن يعمل على قتل نفسه قبل انقضاء أجله.

اعلم أن آهة المحزون لا تُبدِّل حرفًا ممَّا كُتب على الجبين، ومثل القضاء كمثل مُصرِّف الرياح يُطلقها في الوديان والبطاح، فتُصلح زرعًا وتُهلك نبتًا، وتُميت فردًا لتحيي جمعًا.

الساعي يطلب رزقُا ليس له كالفارس في قفر أو كالزارع في صخر.

يقول مؤلف هذا الكتاب:

انتهى كتاب روضة الورد بعون الله وفضله، وقد اعتاد المؤلفون أن يُزيِّنوا كتبهم بما يقتبسونه من شعر القدماء وحِكَمهم، أمَّا أنا فقد استعنت بالله واكتفيت ببضاعتي المُزجاة، وصدفة لك خير من دُرَّة تستفيدها ممَّن كان مثلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤