مقدمة

الثورة اليابانية

كل مؤرخ يبحث في تايخ اليابان الحديث ويُدوِّن أسباب نهضتها يذكر أن تاريخ تلك النهضة، وحوادث ذلك العصر الذهبي تبتدئ منذ زار القومندور بيري الأمريكي شواطئ اليابان على ظهر مدرعته الحربية، التي كان اليابانيون يُسمُّونها «المركب السوداء»؛ لهول منظرها وعدم اعتيادهم إياه، ويقول اليابانيون أنفسهم: إن طلقة المدفع الأولى التي أطلقتها المدرعة في الفضاء كانت إيذانًا بتغيير حياة اليابان، ونهوضهم من سُباتهم العميق، وتنبُّههم بعد غفلتهم، وصحوهم بعد سكرتهم، بل رفعت تلك الطلقة الأولى غشاوة كانت تحجب نور المدنية الغربية عن اليابان، فسعوا إلى الاختلاط بأصحاب تلك المدنية بعد طول الوحدة، ولحقوا بالأمم الكبرى في سنين معدودة.

وكانت زيارة القومندور بيري التي زار فيها اليابان لتوطيد عُرَى المودة بينها وبين جمهورية الولايات المتحدة في سنة ١٨٥٣، وقد احتفل اليابانيون في طوكيو منذ سنين قلائل بمرور خمسين عامًا على تلك الزيارة احتفالًا شائقًا، اعترفت فيه الأمَّة اليابانية بأسرها بفضل القومندور بيري، وفضل بلاده عليها.

ويحسُن بنا في هذا المقام أن نصف الحال التي كانت عليها اليابان في ذلك العهد؛ فقد كانت الحكومة تسير بمقتضى نظام معروف باسم «توكوجاوا شيجون»، وهو النظام الذي كانت تسير عليه أمم أوروبا في القرون الوسطى، وقد جاهد واضع هذا النظام — وهو مؤسس أسرة توكوجاوا — جهده في إحكامه حتى بقيت أسرته متمتعة بالحكم قرنين ونصف قرن، وهذا أطول أمد دام فيه الحكم لأسرة التزامية. وكان الشيجون في مبدأ الأمر وكيل الإمبراطور — المعروف في أوروبا باسم الميكادو — ولكن العلاقة بين الميكادو ووكيله لم تكن مكتوبة في شرائع البلاد وقوانينها، إنما كانت عُرْفية؛ لأن السلطة التي كان يتمتع بها الوكلاء انتُزِعت من الإمبراطور على ممر الزمان بطُرق سلمية، فأصبحت على كرِّ القرون ومَرِّ السنين كأنها حقوق شرعية ثابتة لا نِزاع فيها.

ولم تكن سلطة الوكيل محدودة؛ فكان يؤذن الناس بأنه المفوَّض الوحيد الذي له حق المراقبة على كل شيء، وأن الإمبراطور يرضى ما يرضاه ويأبى ما يأباه، ولا يعترض على شيء قَبِلَه الوكيل، وبالجملة فقد تخلَّى الميكادو عن كل ما له من النفوذ والسلطة، وتنازل عن سائر حقوق الملك سِوى الجلوس على العرش وهز الصولجان.

وكان من حقوق الوكيل الإمبراطوري أن يُعلن الحرب على أمَّة أجنبية، وأن يُسالمها ويعقد معها اتفاقية الصلح بدون علم الإمبراطور وبدون استشارته، وكان الوكيل يسكن يدو «طوكيو الآن» هو وسائر رجال حكومته، كما أن الإمبراطور كان يقطن كيوتو. وغني عن البيان أن الشأن الأول كان لطوكيو التي أصبحت عاصمة البلاد لثروتها، ووفرة سكانها، واتساع تجارتها، وما فيها من أسباب الرفاهية والترف.

وكان تحت سلطة الشيجون أو الملتزم الأعظم ثلاثمائة ملتزم يُسمَّى الواحد منهم دايمبو، ولكل دايمبو من هؤلاء الثلاثمائة أرض وجند ورعية خاصة به. وقد وضع مؤسس أسرة توكوجاوا قانونًا خاصًّا ببلاد اليابان جعل شعاره عدم اختلاط أمَّته بأية أمة من أمم الأرض قاطبة.

وكانت هذه الوسيلة أفضل الوسائل لحفظ الأمن والنظام في البلاد، وإذعان الشعب الياباني للشيجون وطاعته طاعة عمياء في كل ما يأمر به وينهى عنه، وقد بلغ جهل الأمة بما وراء بلادها أنها لم تكن تعرف غير بلاد الشمس المشرقة وبلاد الصين، ولم يكن يعلم بوجود أمريكا وإنكلترا سِوى نفر قليل؛ فلا تستغرب — والأمر كما ذكرنا — دهشة اليابانيين لمَّا علموا بوجود أسطول أمريكي على مقربة من خليج يدو.

وقد جزعوا وهلعت قلوبهم وتولَّاهم الوجل والفرق لمَّا علموا بوجود مركب أجنبية؛ لأنهم حسبوا أنهم سيذهبون هباءً إذا دخلوا مع الأجانب في حرب؛ لأنهم لم يعرفوا معنى العلاقات الودية بين الأمم والشعوب، إنما كانوا يعرفون من سياسة الأمم أمرًا واحدًا، هو أنه لا بد من هلاك الأمَّة الضعيفة إذا احتكَّت بأمَّة قوية، وأن توثيق عُرَى الصداقة بين شعبين مختلفين يُعَدُّ من المستحيل؛ لأن الضعيف مهما أخلص للقوي لا بد من أن تدور عليه الدائرة.

ولنَعُد الآن إلى حديث المركب السوداء التي أثار مجيئها كامن الداء؛ فتنبهت اليابان إلى أمرها من فرط دهشها، وعلمت أن وراء بلادها أممًا كبرى، ومتاجر واسعة، ومصانع عظيمة، ومن عجائب تلك الأمم هذه السفائن المهولة المخيفة، وكذلك كان بلوغ مدرعة القومندور بيري نذيرًا مُبينًا بسقوط دولة توكوجاوا. وتفصيل الخبر أن حكومة يدو التي يرأسها وكيل الإمبراطور استعظمت الخطْب، ورأت أن الفصل فيه أصعب من أن تستطيعه؛ فاستدعت سائر الملتزمين.

وعقدت مؤتمرًا للبحث فيما يجب القيام به نحو الأعداء المُهاجمين، ثم رفعت إلى الحكومة الإمبراطورية التي كان مقرها كيوتو — على ما ذكرنا — تقريرًا فيه تفصيل خبر بلوغ الأسطول الأمريكي شواطئ اليابان، وكانت هذه أول مرة استشارت فيها حكومة الوكيل سائر الملتزمين، ورفعت تقريرًا رسميًّا إلى الميكادو، فكأنها في الواقع أقرَّت بعجزها، واعترفت بضعفها، وتنازلت تنازلًا حقيقيًّا عن سائر حقوقها الاستبدادية التي تفرَّدت بها في الحكم. هذا ما كان من أمر الحكومة.

أمَّا ما كان من أمر الشعب، فقد أبى أغلب أهل البلاد أن يفتحوا بلادهم للأجانب؛ مُحتجِّين بأن الوحدة أمر يقضي به الدين عليهم، وأنهم إذا كفروا نعمة العُزْلة التي نشئوا هم وآباؤهم عليها كان ذلك مجلبة الدمار على الديار، ولكن البلاد كانت في الواقع منقسمة إلى ثلاثة أحزاب: الحزب الأول حزب الأحرار، وهو الذي أشار بفتح أبواب اليابان في وجه الأجانب ومعاملتهم، والاختلاط بهم، وكان أنصار هذا الحزب يرون ما يراه أنصار حزب التجارة الحرة في البلاد المُتمدِّنة الآن، ولكن قلة عدد هذا الحزب كانت سببًا في عدم العناية بآرائه.

أمَّا الحزب الثاني فكان من المُحافظين الذين يرون ضرورة العُزلة في كل وقت، ما عدا الوقت الحاضر، وهؤلاء كانوا يُلِحُّون على الحكومة في التصريح للأجانب بالدخول ريثما تتخذ اليابان أهبتها، وتعد عدتها لمكافحة الأعداء المهاجمين في مستقبل الأيام. وكان هذا الرأي منتشرًا بين فئة كبيرة جدًّا من المنورين والمهذبين، وقد انتحلته حكومة يدو — حكومة وكيل الميكادو — نفسها. وقد استغرقت هذه المسألة السياسية عامًا بالبحث فيها، وكان القومندور بيري لمَّا طلب الدخول في ١٨٥٣ وعاقته الحكومة أمْهلَها، بعد أن وعدته بالفصل في المسألة، عامًا آخر، ثم عاد إليها في ١٨٥٤، وطلب منها الوفاء بوعدها؛ بأن تجيبه جوابًا صريحًا، وبعد التي واللتيا قرَّ قرار حكومة يدو «طوكيو» على افتتاح أبعد المواني الصغيرة التي لا شأن لها منذ عام ١٨٥٨ للتجارة الأجنبية.

فأَحْفَظَ١ هذا القرار سائر الطبقات العالية اليابانية، وظنوا تصريح الوكيل للأجانب بدخول بلادهم انتهاكًا لحرمتها، واحتقارًا لشأنها، ومعولًا لهدم عُزلتها. وفي أثناء تلك الثورة الفكرية قام بعض العلماء والمفكرين ونشروا بين الشبيبة اليابانية مذهبًا سياسيًّا جديدًا، وهو الالتفاف حول عرش الميكادو وتعزيز شأنه، وكانت هذه الفكرة قد أُذيعت منذ نصف قرن وكمنت، ولم تظهر وتُزهر وتُثمر إلَّا في تلك الظروف.

فنهضت الأمَّة اليابانية عن بَكْرة أبيها، وألَّفت حزبًا واحدًا لا غرض له إلَّا مقاومة حكومة الملتزمين، واتِّقاء ما يُصيب الوطن والأمَّة على أيدي تلك الحكومة التي صرَّحت للأجانب بأن يطَئُوا أرض الشمس المشرقة، واتخذت الأمَّة بأسرها شعارًا تُنادي به على رءوس الأشهاد، وهو «سو-نو-جوي»، ومعناه «أكرِموا الإمبراطور واطردوا الأجانب»، وكان هذا النداء مبدأ الثورة اليابانية.

والمُشاهد في مثل هذه الأحوال أن المسائل الصغيرة تكون منشأً للمسائل الكبيرة؛ فقد حدث أن اليابانيين حوَّلوا أنظارهم عن مسألة إدخال الأجانب، وانتبَهوا إلى مسألة عُظمى، وهي انتخاب حكومة قوية الجانب تتناول أعمال الأمَّة بحزْم وهِمَّة، وتحفظ كرامة البلاد كما كان يحفظها الآباء والأجداد. ولا ريب في أن منشأ هذه الفكرة كان ضعف حكومة «التوكوجاوا شيجون» الذي أظهرته بإذعانها لوعيد قائد الأسطول الأمريكي القومندور بيري.

وقد أُسِّست في ذلك الحين جمعية سياسية سرية كانت غايتها إنقاذ البلاد من أنصار الاستبداد، واسمها «ليتوكلان ساموراي»، وبدأت برئيس الوزارة في حكومة الوكيل الإمبراطوري، وهو تايرو لي، فقتلته أبشع قتلة؛ لأنه كان ينتقم من أعدائه في السياسة بالقتل والذبح والسجن الأليم.

وقد خسرت حكومة الشيجون بموت هذا الوزير خسارة كبرى؛ لأن الوكيل أصبح عاجزًا عن تدبير شئون الشعب الياباني، فسارت الفوضى في البلاد، وضاعت حقوق العباد، وانتُهِكَت الحُرُمات وساد الفساد. وبعد قليل من الزمن اقترح بعض عقلاء الأمَّة نظامًا يُوحِّد الحكومتين، ويُوفِّق بين الطرفين، فيشترك الوكيل مع الإمبراطور في المُلك، ويشترك الإمبراطور مع الوكيل في الحُكم. وهذا ما يُسمَّى الآن بالسلطتين الاسمية والفعلية.

ويظهر لنا أن أغلب الملتزمين عضدوا ذلك الاقتراح المعقول ووافقوا عليه؛ لأن حُبَّهم للإمبراطور كان يُعادل طاعتهم لوكيله، وهو رئيسهم الأكبر، ومُقسِّم أرزاقهم، وواهبهم أملاكهم، ولكن أنصار هذا الاقتراح لم يخطر ببالهم أنه سيُؤدِّي إلى زوال دولة الوكيل وسقوطها سقوطًا لا نهوض لها بعده.

وكان في اليابان في ذلك العهد فئة من الأشراف تُسمَّى فئة الكوج، وهم أشراف البلاط الإمبراطوري، وكانت هذه الفئة بالطبع مُتفانية في حب الميكادو؛ لأنه لم يكن يحجب نفسه عن فرد من أفرادها، كما أنها لم تكن متعصبة للشيجون لاستغنائها عنه وعدم ارتباطها به. وكان هؤلاء الأشراف من سلالة النبلاء الذين كانوا يلتفُّون حول العرش الإمبراطوري قبل أن يتغلَّب الوكيل على الميكادو، ويسلبه سائر حقوقه الشرعية، ويحرمه من التمتع بالعرش الذي ورثه عن آبائه وأجداده.

فلمَّا دالت دولة الميكادو، وأصبح الحل والعقد بيد الوكيل، قلَّ نفوذ هؤلاء النبلاء، وأصبحوا كواو عمرو لا نفع لهم ولا نفوذ، واقتصروا على حضور بعض الاحتفالات الرسمية في البلاط الإمبراطوري، بعد أن كان لهم في عهد السلطة الإمبراطورية من القوة والشأن ما لم يكن لغيرهم، فكأنَّ العداوة بين الوكيل والأشراف كانت طبيعية؛ لأن في قوته ضعفهم، وفي فوزه فشلهم، وفي غِناه فقرهم، وفي مجده خِزْيهم وعارهم.

فلمَّا سنحت لهم تلك الفرصة نهضوا نهضة كبرى، وعَضَدوا الحزب الإمبراطوري بكل ما في وسعهم، وكان بينهم جماعة من كبار السياسيين، فدبَّروا من المكائد ما دبَّروا، ولم يألوا جهدًا في خذل حكومة طوكيو، ولم يدَّخروا وسعًا في نُصْرة الميكادو، وقام بعضهم يقول بأن الحكومة المزدوجة لا تنفع ولا تفيد، ولا يمكن للأمَّة اليابانية أن ترضى إلَّا برَدِّ حقوق الإمبراطور إليه، والاعتماد في سائر شئون الدولة عليه، وكان حزب من الشبان المنورين الفقراء يسعون في التقرُّب من بلاط الإمبراطور؛ فلم تفرَّ تلك الفرصة من أيدي الأشراف، بل انتهزوها وانتفعوا بها؛ بأن عَضَدوا هؤلاء الشبان، فأشار الشبان على رؤسائهم وأولياء نعمتهم من الملتزمين بتعضيد الإمبراطور.

ثم طلبوا ذلك التعضيد منهم مُلحِّين مُلحِفين، وبعد قليل انضمَّت عشيرة جديدة اسمها عشيرة شيوسكي إلى العشيرة الأولى، فقَوِيَ حزب الإمبراطور في زمن قصير. فلمَّا اشتدَّ ساعد الأشراف اشتغلوا بالدسائس السياسية، ودبَّروا دسيسة لخلع وكيل الإمبراطور، ونزع السلطة من حكومته مرة واحدة، ولكن الوكيل اكتشف الدسيسة وسعى في الانتقام من المُدبِّرين، ولمَّا علم الإمبراطور كومي، سلف الإمبراطور الحالي متسوهينو، بافتضاح أمر الأشراف غضب عليهم، وأبعد مَن اشتغلوا بالدسائس، وقال: إنه يقنع بالسلطة المزدوجة؛ أي باشتراكه مع الوكيل في حكومة البلاد. وكان هذا الرأي هو الغالب لدى فئة من الأشراف المعتدلين، ولكن القدر لا يعوقه شيء، والدول إذا دالت لا ينفعها الحذر، والحَين إذا حان لا يؤجِّله إنسان، وكذلك كانت الحال في بلاد اليابان؛ فقد آن لها أن تخلص من ربق الشيجون مهما قنع الإمبراطور بالقليل، ومهما افتضح سرُّ المتآمرين.

فقد شعر الوكيل أن مركزه أصبح حرجًا للغاية، وأن القوة التي كان آباؤه وأجداده متمتعين بها من قبله قد أصبحت قوة وهمية، وقد استبان أن أسلافه هم الذين أخطئوا وأوقعوا نسلهم في تلك البَلِيَّة؛ لأنهم لم يحتفظوا بالشرائع الوطنية، ولم يُراعوا مصلحة الأمَّة اليابانية، بل عاثوا في الأرض فسادًا، وحصروا في أنفسهم السلطة الاستبدادية، وتفرَّدوا بالحُكم؛ فجنوا عليه تلك الجناية.

ومنذ ذلك اليوم بقيت حكومة طوكيو على ما هي عليه، ولكنها صارت جسمًا بلا روح، وأصبحت هدفًا لسخط العشائر والقبائل؛ فقامت عشيرة نوسا، وهي لا تقل في الأهمية والنفوذ عن العشائر التي عضدت الإمبراطور، وعرضت على حكومة الوكيل التسليم للقضاء والقدر، والتنازل عن الحُكم، ورد حقوق الإمبراطور الشرعية إليه.

ولو لم يكن نفوذ الوكيل قد ولَّى وأدبر لما أصغى لذلك الطلب، ولكنه انتهز تلك الفرصة وأظهر حبه وطاعته للإمبراطور، ورأى أن الحكمة تقضي عليه بالتنازل عن سلطته بمحض إرادته؛ لئلَّا يُرغم على ذلك قسرًا وجبرًا، فيكون سببًا في محو اسم أسرته من تاريخ اليابان بعناده، وفي هذا من العار ما لا يمحوه كرُّ الأيام ومرُّ الأعوام، وفي سنة ١٨٦٧؛ أي بعد زيارة الأسطول الأمريكي لمياه اليابان بأربع عشرة سنة، تقدَّم الشيجون توكوجاوا، واسمه كيكي، إلى الإمبراطور الحالي تستوهيتو، والتمس من جلالته أن يقبل منه تنازله عن سلطته الإدارية ليتفرد بها الإمبراطور.

وقد استدعى عمل الوكيل إعجاب أهل وطنه بشممه وشجاعته وصبره وقناعته، كما امتدحوه لبُعد نظره وحكمته؛ فقد استغنى مع تنازله عن السلطة الفعلية عن بلاطه في طوكيو، وكان شاملًا لسائر الملاذ التي يتمتع بها الملوك والسلاطين، وعاش عِيشة المُلَّاك والملتزمين، ولكن الأشراف وحزب الأحرار المتطرفين أبوا عليه أن يبقى له شيء من هذا، وطلبوا أن يتنازل عمَّا يملك من الأراضي، ويتخلَّى عن أتباعه وعشيرته.

ويظهر أن التوفيق بين حزب الأشراف وبين حزب الوكيل كان أصعب من التوفيق بين النار والماء؛ لأن جماعة النبلاء كانوا يريدون تأسيس حكومة قوية تكون سلطتها محصورة في يد الإمبراطور مباشرة، وأن لا يكون للوكيل أدنى علاقة بها؛ فهاج هذا التطرف والتشدد غضب أنصار الوكيل، فأشاروا عليه بإعلان الحرب الوطنية على الحزب الإمبراطوري، ولكن جيشه لم يوشك أن يحشد حتى هزمته إحدى القبائل المحازبة للإمبراطور على مقربة من بيرو «طوكيو»، فلجأ إليها، فقرَّ قرار الحزب الإمبراطوري على تجريد جيش عرمرم لأخذ طوكيو، ولمَّا علم الوكيل كيكي بذلك تنازل مرة ثانية عن سلطته بمحض إرادته.

هذا مع العلم بأن أغلب الملتزمين برجالهم كانوا طوع أمره؛ لو أنه أراد الحرب لجرَّد جيشًا أعظم وأقوى عَددًا وعُددًا من جيش الإمبراطور. وقد حدث أن العشائر المحازبة للوكيل حشدت جيشًا لمحاربة الإمبراطور دفاعًا عن حقوقها ومنافعها، التي أصبحت مهددة بعد تنازل الشيجون كيكي، وقد أظهروا في الحرب من الشجاعة والشهامة والإخلاص ما يُمدحون عليه، ولمَّا أن هُزموا في جنوب اليابان ساروا إلى شمالها، وأسَّسوا في هوكايدو جمهورية يابانية، ولكنهم هُزموا مرة ثانية ورُدُّوا إلى حظيرة الطاعة بعد العصيان.

ومن بين الذين قادوا جيوش ذلك الحزب الجمهوري الفيكونت هباشي، سفير اليابان في بلاط سان جيمس بإنكلترا، وكان من زعماء حزب الشيجون، وقد حارب إلى أن لم يبق في القوس منزع، فسلَّم بعد حصار طويل إلى جنود الإمبراطور، وبعد ذلك سادت السكينة على البلاد، وحقن البعض دماء البعض بعد طول عهد العداوة والشحناء.

هذا هو ملخص الثورة اليابانية، ولا بدَّ من ختام ذلك الملخص بوصف تأثير تلك الثورة على سياسة البلاد؛ فالقارئ يذكر أن منشأ تلك الحركة الفكرية كان بعض الأجانب والسعي في وقاية البلاد من شرهم، فكانت الحكومة اليابانية الجديدة قائمة على كراهية الأجنبي، والتفاني في حماية البلاد ممَّا يصيبها منه، ومع ذلك فإن الأحوال تغيرت في الحال، وانقلب بغض الأجانب حيال عداوتهم صداقة، وأسرعت الحكومة الجديدة في إدخال المدنية الغربية إلى بلاد الشمس المشرقة بأسرع ما يمكنها؛ فاطمأنَّ الشعب الياباني كله إلى تلك السياسة، وعضدوا الحكومة في سائر أعمالها، واستبدلوا حب الجديد بحب القديم، وأقبلوا اليوم على ما كانوا منه بالأمس نافرين.

ولذلك التغيُّر سببان؛ الأول: أن الأمة لم تثُر ضد الأجانب، إنما ثارت ضد حكومة الشيجون التي اتخذت التعصب ضد الغرباء آلة لمحاربة الوكلاء؛ ليكون ذلك لأعمالها مبرِّرًا، ولسياستها مُزكيًا، والثاني: أن اليابانيين استبانوا عظمة المدنية الغربية، ووقفوا على أخلاق أهل أوروبا وأمريكا، وفطنوا إلى أن الوكلاء لم يمنعوهم عن الاختلاط إلَّا رغبة في تأييد سلطتهم، والاستبداد بالأمر في بلاد اليابان. وما زال التقدم سائرًا على قدم وساق حتى كانت سنة ٢٣ بالتاريخ الميجي الياباني، فتنازل الإمبراطور منسوهيتو عن السلطة المطلقة، ومنح أمَّته دستورًا يشبه الدستور الإنكليزي، ووضع في رأس الوزارة المركيز إيتو الذي كان من عشيرة شيوسكي، وهي من أنصار أبيه.

وقد شهد العالم منذ سنتين ما أظهرته اليابان من الشجاعة والثبات في ميادين الحرب والطعان، فهزمت دولة ضخمة لم يُسمع بمثل ضخامتها في تاريخ بني الإنسان، وبعد أن عُقد الصلح بين الدولتين، واستتبَّ الأمر في الشرق الأقصى لأمَّة الشمس المشرقة، خطبت إنكلترا سلطانة البحار ودَّها، وعقدت معها معاهدتها المشهورة، ثم تنازل الإمبراطور منسوهيتو في هذا العام لنجله الأكبر؛ فقد قام هذا الميكادو الجليل بعملين عظيمين؛ الأول: أنه تنازل عن سلطته الاستبدادية، وهذا عمل كان يجدر بقيصر الإمبراطورية الروسية، والثاني: أنه تنازل عن المُلك لابنه مع أنه لا يزال قادرًا على التمتع به.

١  أَحْفَظَ: أَغْضَبَ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤