مقدمة ثانية

إن رأس الآداب النفسية لدى اليابانيين فضيلة الإيثار، وهي أن يقدم الإنسان نفع غيره على نفسه؛ فلا يستطيع أحدهم أن يدَّعي لنفسه الأخلاق الفاضلة والخِلال السامية إلَّا إذا كان مُنكرًا لذاته؛ لأن الأَثَرة مجلبة الرذائل، ومزرعة النقائص، كما أن الإيثار هو تاج الفضائل، ومنبت الكمالات؛ لأنه يستلزم التواضع وبُغْض الشهرة لذاتها، ويستدعي الخضوع للشرائع وللقوانين الوضعية. وهذا لا يكون إلَّا لمَن كانت العفَّة والقناعة من صفاته.

والناظر في أخلاق أهل الشرق بأسرهم يُوشك أن يستقصي تلك الحسنات فيها، إنما طمستها أحوال عرَضَت على الشعوب الشرقية فأصابتها بجمود عرَضِي، لو دام طويلًا ولم يجد من يقتلع جذوره بالحكمة والتعقل يصير جوهريًّا، وحينئذ يصعب تحويل هاتيك الأمم عمَّا يكون قد لصق بها من المعايب المذمومة.

وبين يدي القارئ كتاب نقلناه من اليابانية اسمه بلغته «أونادايجاكو» أو «التعليم الراقي للإناث»، ألَّفه منذ قرنين الأخلاقي الياباني «كايبارايكن»، وقصد به أن يكون ما تضمنَّه من الحِكم والآداب والإرشاد خاصًّا بالنسوة. وقد كان المؤلف أونادايجاكو مُتمكِّنًا من آداب اللغة الصينية تمكُّنَه من لغته الأصلية، وهذا الذي دعاه ودعا غيره إلى النسيج على منوال كُتَّاب الصين، والسير على دربهم. وهذه كانت عادة اليابانيين في عهد أونادايجاكو؛ أي منذ مائتي سنة.

ولكن هذا المؤلف الأديب برز في أقرانه، وتفوَّق عليهم بسهولة أسلوبه ورقَّته، وقد بلغ من امتلاك ناصية الحكمة والأدب بفضل الحكومة الالتزامية التي استتبَّ لها الأمر في اليابان، فنشرت أعلام السلام، وعضدت الفنون والصنائع، وبينها صنعة القلم، فأينعت دولة الأدب وأزهرت وأثمرت، وقد انقطع في عهد تلك الدولة كبار العلماء والأدباء للتبحُّر في العلوم وفنون الأدب والحكمة اليابانية والصينية، وعنوا بوضع مؤلفاتهم باللغة الصينية، أو بأرقى أساليب اللغة اليابانية؛ صونًا لها، واحتفاظًا بها من الضياع على كر الدهور ومر الأعوام إذا هم أودعوها لغتهم المحكية.

أمَّا «كايبارايكن» — واضع هذا الكتاب — فقد انقطع لوضع كتب الحكمة والفلسفة، وإفراغها في قالب سهل ممتنع، يقرب من فهم السوقة، ولا ينكره الخاصة والمتأدبون؛ فلم يذهب عمل كايبارا هباء، إنما أقبل القرَّاء عليه إقبالًا عظيمًا، وتناولوا مؤلفاته بشغف شديد، فكان التاجر يقرؤها في حانوته، والطالب في مكتبه، والفتاة في خدرها. وقد نال كتابه «التعليم الراقي للإناث» أعظم إقبال، وورثه الأبناء عن الآباء، والبنات عن الأمهات، حتى اعتادت الأمَّة عليه، وحتى أصبح من لا يراه في خزانة كتب صديقه يُنكر عليه ذلك، وهو اليوم؛ أي بعد مرور مائتي عام، لا يزال واسطة عِقْد المؤلفات اليابانية ودُرَّة تاجها.

ولا يمتاز كتاب كايبارا بمذهب جديد أو سُنَّة حديثة؛ فقد سبقه إلى بعض ما جاء به فيه غيره من كُتَّاب الرسائل والمصنفين، ولكن الذي فرَّق بين «التعليم الراقي للإناث» وبين غيره كَوْن صاحبه وصفَ فيه ما كان يُطلب من المرأة أن تكون عليه في عهده، وكَوْنه جمع في صفحاته ما قاله الأقدمون، ووفَّق بين التعاليم الدينية والآداب الدنيوية؛ فتمكَّن بذلك من إرشاد العامَّة الذين لا مقدرة لهم على فهم روح الفضيلة إلى طريق قويمة، إذا سار عليها فتياتهم ونساؤهم قَرُبْنَ من الغاية المقصودة.

واستطاع بحذقه وبراعته أن يُقنع القرَّاء بصحة مبدئه واستقامة رأيه، وقد ساعده على ذلك حاجة عامَّة القرَّاء في عهده — لا سيَّما الإناث منهم — إلى كتب ذات قيمة نافعة، وقد يصعب على الغربيين أن يعرفوا مقدار تأثير هذا الكتاب في الرأي العام الياباني؛ لأنهم لم يعتادوا من أغلب الكتب الأخلاقية نفعًا كبيرًا في بلادهم، أمَّا في بلاد اليابان فقد كان تأثير «التعليم الراقي للإناث» كتأثير الكتب المُنزلة؛ لأنه أحدث ثورة فكرية، وصار بعد قليل من الزمان كعبة آمال المهذبين والمهذبات، ومرجع الآباء والأبناء والأمهات.

إن الناظر في عادات الشعوب الشرقية والغربية يدهش لما بين الشرق والغرب من التباين في معاملة المرأة؛ فللمرأة الغربية قوة مهولة ونفوذ سائد على الرجل الغربي؛ فهي سيدة وهو عبدها، وهي معلمة وهو تلميذها، وهي آمرة وهو مُنفِّذ رغائبها. أمَّا في الشرق، فللرجل على المرأة ما للمرأة على الرجل في الغرب؛ فهو القوي القادر وهي الضعيفة العاجزة، وهو الأستاذ المرشد وهي الطفلة المسترشدة.

ويغلب على الظن أن منشأ ذلك الخلاف في العادات نبَّهَ حكماء الشرق الأقدمين إلى خطورة شأن المرأة وقوَّتها، وخوفهم من عاقبة تحريرها وإعطائها سائر ما تود من الحقوق؛ فأذاعوا ما أذاعوا من التعاليم التي تقضي بخنوع الأنثى للذكر، وخضوعها لأوامره واستسلامها له. ومنشأ هذا الرأي عريق في القدم؛ فقد وضع الحكيم كونفوشيوس قاعدة الحجاب منذ أربعة وعشرين قرنًا؛ إذ قال: «لا ينبغي للمرأة أن تُجالس الرجل بعد دخولهما سِنَّ السابعة.» وكانت هذه السُّنَّة جُرثومة ما نراه الآن في الشرق من ترْك المرأة مُهمَلة بلا تعليم ولا ترقية؛ لأن الشرقيين يعتقدون أنها كلما ارتقت وتقدمت زاد شرُّها، وضعف الرجل حيالها.

وقد جاء في الديانة البوذية أن المرأة تُظهر جمال الملائكة، وتُبطن خبث الشياطين، وأنها مملوءة شرًّا، وليس في المخلوقات ما يُخشى ضرَّه ولا يُرجى خيره مثلها، ولم يكن الشرقيون وحدهم المتشبعين بتلك الآراء، بل كان فلاسفة الغرب أنفسهم لا يَقِلُّون عنهم في سوء الظن ببنات حواء؛ فقد قال سقراط في تعاليمه: إن المرأة منبع الشر، وإن عداوة الرجال وبُغْضهم آمَن عاقبة من صداقتها وحبها، وإن مثل الشاب يطلب زوجة كمثل باحث عن حتْفه بظلفِه، أو كمثل مَن يُلقي بنفسه في حبائل الصياد.

فكأن الشرق والغرب اتَّحدا في زمن واحد ضد المرأة، فرماها الواحد بالخبث والشر، ونفَّر الآخر منها الرجل وأمره بأن لا يُجالسها ولا يُخالطها؛ لِما في ذلك من عقوق الشرائع الدينية، فسرت تلك الأحكام إلى اليابان سريان الكهرباء في الأجسام؛ فأهمل تهذيب المرأة، فضاق نطاق عقلها، وأصبحت محكومة تعيش عيشة الأنعام، وبقيت معارفها مقصورة على ما حولها من لوازم تدبير المنزل، وطهي الطعام، حتى أصبحت صغيرة الشأن، صغيرة القدر في عين الرجل، مع أن هذه كانت جناية عليها في بداية الأمر، وقد جرَّت الإساءة وراءها ألف إساءة.

وقد انحطَّ مركز المرأة في الهيئة الاجتماعية اليابانية انحطاطًا فظيعًا، لا سيَّما في العهد الذي كانت فيه البلاد كلها ميدانًا للحرب التي اشتعلت نيرانها بين أنصار الالتزام وبين أتباع المذهب الجديد، مذهب الحرية الفكرية والسياسية، وكانت نار تلك الحروب تزداد كلما كرَّت السنون ومرَّت الأعوام، وكأن أهل اليابان راق في أعينهم منظر الدماء المسفوكة، والأعراض المهتوكة، فأبوا أن يحقنوا هذه أو يصونوا تلك. واستمرَّت الحال على ذلك المنوال بضع مئات من السنين. هذا ما أصاب اليابان مع أنها تلك الأمة التي كانت منذ سبعة عشر قرنًا تفاخر بكواتبها وشواعرها مفاخرتها بأبطالها وعساكرها.

وكان ذلك في إبَّان حُكم الملوك الأول، فلمَّا تحولت السلطة من أيدي الملوك وظفر بها الشيجون — وهم جماعة الوزراء والوكلاء الذين استولوا على النفوذ الفعلي في بلاد اليابان منذ قرون طويلة، وما زالوا كذلك حتى عزلتهم الأمَّة وردَّت المُلك لصاحبه — انحطَّت المرأة؛ لأنها لم تلقَ مَن يُناصرها، ولم تجد مجالًا لإظهار قواها الأدبية وفضائلها النفسية في العهد الذي ساد فيه الظلم والفساد.

وقد أهمل اليابان في ذلك العهد كل شيء، واكتفوا بإعداد آلات الحرب، فاقتنوا الدروع والزرد والسيوف والأقواس والسهام، وأعرضوا عن الكتب والأوراق والمحابر والأقلام، وكان الياباني إذا ولدت له زوجته بنتًا ضيَّق عليها، وعاد باللَّائمة على سواد حظها؛ لأنه كان يرجو في الآلهة أن ترزقه غلامًا زكيًّا يكون في مستقبل الأيام بطلًا مُنازلًا، وشهْمًا مُناجزًا.

وما زالت هذه الأفكار تُنشر حتى أُهمِلت المرأة تمام الإهمال، وأمست مخلوقًا لا قيمة له ولا قدْر، يعيش كسائر الحيوانات بلا عقل ولا إرادة ولا فكر، ولم تكن للمرأة في ذلك الحين وظيفة سِوى تدبير المنزل وحمل الجنين، وكان من نكد الدنيا على الياباني أن يُعلَم عنه أنه استشار زوجته، أو سألها رأيها في أمر من الأمور، وكان من يعشق زوجته أو يحب ابنته يُرمَى بالجبن والضعف. وحجة اللَّائمين في ذلك أن من كان يخدم الإمبراطور فلا حاجة له بحب النساء، أو الاهتمام لشأن أسرته، فكان حب النساء في ذلك العهد رأس كل خطيئة، ومصدر كل سيئة.

وكان أحدهم إذا رأى امرأة ضعيفة وأوعزت له نفسه أن يعضدها أو يُفرِّج كَرْبها راعى في ذلك الشدة والقسوة؛ لئلَّا يُرمَى بلين العريكة وسهولة القياد. ولا ريب في أن حب المرأة إذا ذهب من قلب الرجل أصبحت تلك المخلوقة ضعيفة الحَوْل والطَّوْل لا تملك لنفسها خيرًا ولا شرًّا.

قال الكاتب: فلمَّا أشرق علينا نور العلم والمدنية، وعادت المياه إلى مجاريها، وأصلحنا ما فسد من شئوننا، وسرنا في طريق التقدم؛ لَحَظْنا أننا نسير سيرًا حثيثًا؛ فبحثنا عن سبب ذلك فلم نجده؛ لأننا كنا حاصلين على سائر الصفات الطيبة التي امتازت بها أوروبا عن غيرها، وقد أوشك أن يتسرَّب الشك إلى قلوبنا، فرمينا أمَّتنا كلها بالخمول والقصور عن الوصول إلى ما وصلت إليه أوروبا في عدة قرون، وقام بيننا من كانوا يريدون تثبيط هِمَمنا، وادَّعوا أننا أمَّة شرقية، وهيهات أن يصل الشرق إلى ما وصل إليه الغرب.

وكدنا نُصدَّق هذه الادِّعاءات الباطلة، ونؤمن بتلك الأقاويل الضئيلة، وإذا بالأستاذ شمبرلين نبَّهنا إلى عِلَّة العلل، ومسألة المسائل؛ قام الأستاذ شمبرلين وبيَّن لنا بكل جلاء ووضوح أن سبب سيرنا الهوينى ليس راجعًا إلى ضعف في أخلاقنا، أو تقصير في عملنا، أو نقص في شمائلنا، إنما هذا التأخر راجع في الحقيقة إلى جهل المرأة اليابانية؛ فأدهشنا ذلك الرأي، ونهضنا في الحال للعمل بما أشار به علينا ذلك الحكيم العظيم. إن تاريخ نهضتنا لتعليم نشأتنا يحتاج إلى مجلد ضخم، ولكن عليَّ أن أوجز في القول على قدر الاستطاعة.

أول ما هممنا به أننا اكتتبنا بمالغ طائلة، ولا أُبالغ إذا قلت إنها زادت في ظرف سنتين عن ثلاثة ملايين من الجنيهات، وبهذه المبالغ الطائلة أنشأنا في وقت واحد في سائر جهات اليابان مدارس الإناث، واستجلبنا لها معلمات أخصائيات لتهذيب الإناث من أوروبا وأمريكا.

وكان التعليم في تلك المدارس في أول الأمر مجَّانيًّا، ثم جعلنا أجوره بالتدريج ملائمة لحال الأهالي، ولم يكن اهتمامنا مقصورًا على إنشاء المدارس في المدن الكبرى، بل أنشأناها في أصغر القرى؛ فكنا نؤسس المدرسة بجانب المعبد؛ ليُدرَّب العقل في المكان الذي تُهذَّب فيه النفس. وقد اضطررنا في العهد الأخير إلى جعل تعليم الإناث كتعليم الذكور إجباريًّا، فلا تبلغ الطفلة السادسة من عمرها حتى يُرغم أهلها على إرسالها إلى المدرسة؛ حيث تبقى أربع سنين في أثنائها تتعلم القراءة والكتابة والحساب، وآداب النفس والشعر، وبعض الأعمال اليدوية. وكان عدد البنات بباريس اللواتي تعلَّمْنَ في المدارس في سنة ١٨٩٨ نحو ٢٠٨١٢٠٩، مع أن عدد أطفال اليابان كلهم في تلك السنة كان ٧١٢٥٩٦٦؛ أي بمعدل ٣٤٫٩ في المائة، وقد ازدادت الرغبة في التعليم منذ ١٨٩٨ إلى الآن؛ أي منذ تسع سنين، فأصبح معدل الذكور الملتحقين بالمدارس ٨٢٫٤٢، ومعدل البنات الملتحقات بها ٥٣٫٧٣.

قال الكاتب: وليس هذا كل ما قمنا به نحو نسائنا؛ فإننا فوق ذلك جعلنا للفائزات منهن في كل عام جوائز سنيَّة، وتحفًا ثمينة، فلا يأتي آخر السنة الدراسية حتى تكتتب جلالة الإمبراطورة وصواحبها وسائر الأسر الشريفة بالمال والهدايا؛ لتُقدَّم للفتيات المُجِدَّات المُجتهدات، وقد أرسلن كثيرًا من نسائنا منذ عشر سنين لتلَقي فنون التعليم والتهذيب في مدارس إنكلترا وأمريكا وألمانيا، حضرن إلينا وقُمْنَ بتهذيب بناتنا خير قيام.

ثم إن الأمَّة نفسها تُناصر الحكومة على هذا العمل؛ فإن الياباني المتعلِّم — وعدد المتعلمين عندنا كما رأيت لا يقل عن ٨٤ في المائة — يأنف أن يتزوج فتاة غير متعلمة، وانتشار هذا الرأي وحده جعل البنات تُقبلن على التعليم أكثر من إقبال الصبيان؛ لرغبة كل منهن في الزواج. ا.ﻫ. كلام العلامة شنجورو تاكايشي الياباني.

أقول: ولا ريب في أن المنازل اليابانية أصبحت تفوق في تربيتها ونظافتها أغلب المنازل الأوروبية، بعد أن عُرف قدرة المرأة وعُني بتربيتها.

وهي ولا شك تُقدِّر هذا العمل النافع قَدْره، وتهتم بشأن أولادها، فتُنبتهم نباتًا حسنًا، وتمنح وطنها رجالًا أشداء أقوياء يُفاخرون بأمهاتهم كما يُفاخرون بآبائهم.

وكم من حادثة في الحرب الأخيرة دلَّت على سموِّ آداب المرأة اليابانية، وعلوِّ نفسها، وتفانيها في خدمة وطنها، وقد نقلت لنا صحف الأخبار في أثناء تلك الحرب عن المرأة اليابانية قصصًا وحوادث لا تقل عمَّا يتناقله مؤرِّخو العرب عن نسائهم في أيام المواقع الشهيرة، أو نساء إسبرطة لدى هجوم الفُرس على مضائقهم.

فقد خرج العذارى والمخدرات إلى ميدان الوغى لتطبيب المرضى، وتضميد جراح الجرحى، وتعزية القتلى قبل موتهم بابتسامة تشبه ابتسامات الملائكة، أو كلمة حلوة تُخفف آلام الموت، وقد حقَّ للغادة اليابانية أن توصف بقول حافظ، الشاعر المصري:

أنا يابانية لا أنثني
عن مرادي أو أذوق العطبا
أنا إن لم أُحسِن الرمي ولم
تستطع كفَّاي تقليب الظبا
أخدم الجرحى وأقضي حقهم
وأُواسي في الوغى مَن نُكِبا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤