الخاتمة

تحرير مصر ومستقبل أفريقيا

لقد بلغنا غايتنا من هذا الكتاب، وقبل أن نودع القارئ نود أن نُسِرَّ له في أذنه كلمتين، فنقول: لقد تناولنا مسائل هذا الكتاب ناظرين إليها من جهة الحقيقة ضاربين صفحًا عن الخيال، فكنا نقارن المنفعة بالمضرة، والحسنة بالسيئة، وقد حاولنا جهد طاقتنا أن نظهر للقارئ ما تم لمصر من النجاح والتقدم في الماضي، كما أننا أبنَّا له مواقع الشك ومواطن الريب في أن استمرار الحال السياسية الحاضرة واتخاذ الطرق التي اتخذت في الماضي للعمل بها في المستقبل يؤديان إلى نجاح مصر في السنين الآتية كما أديا إلى نجاحها في السنين الغابرة، وكنا نكتب للقراء ونحن نعتبرهم سياسيين محنكين ونسينا أنهم بشر، فكان ذلك الاعتبار وهذا النسيان سببًا في أننا قررنا حقائق ينفر منها «علماء الأخلاق»، وقد استلزم ذلك أن يكون الكتاب جافًا خلوا مما يروح عن القارئ ويروضه، وقلنا إن تلك الحقائق هي أثمن ما لدى السياسيين.

وقبل أن نطرح القلم جانبًا ونترك للقارئ الحق في إصدار حكمه علينا نستأذنه في أن نضرب له على نغمة غير التي ضربنا عليها في صفحات هذا الكتاب الماضية، وهذا يضطرنا إلى الكلام عن الديانات والاعتقادات، فنحن ملزمون بأن نخفف الوطأة لأن أديم الأرض التي سنسير عليها رقيق لا يتحمل الضغط، فنحن نعلم أن الغضب يستفز أي إنسان عندما يسمع ما يسوءه عن دينه ومعتقده، ونحن أبعد الناس عن طرق هذا الباب، ولكننا نعلم أيضًا أن الجراح مهما كان حاذقًا ومهما كان سلاحه دقيقًا فإنه لا محالة يؤلم.

ويلاحظ القارئ علينا أننا كنا نحترس في هذا الكتاب من الوقوع في الخطأ أو الاندفاع في اللوم احتراس الأبي من المذلة؛ لأننا لا نود أن نوصف بأننا مسيئون مذنبون. ولعله يخطر ببال القارئ أننا لا ننظر إلى مستقبل الأمم والدول إلا من الجهة السياسية لأننا لم نتناول إلا المسائل السياسية الجافة الجافية.

على أن السياسيين لا يرون للوصول إلى أغراضهم إلا الطريقة التي سرنا عليها، وليس عليهم إلا أن يقولوا؛ لأن الأمر والنهي في يد الرأي العام، فهو الذي يقبل ما يشاء ويرفض ما يشاء. ومما يجدر بالذكر هنا أن الرأي العام كثيرًا ما ينظر إلى المسائل من غير وجهة الربح والمنفعة. ومَن يود أن يتطالَّ إلى الحكم على مستقبل الأمم والشعوب يحتاج إلى قوة تمكنه من النظر فيما تكنه الأيام، ومن يريد أن ينظر في مستقبل قارة لا يهتم بأمر مملكة، فنحن سنترك الآن الكلام عن مصر وننظر إلى مستقبل قارة أفريقيا بأجمعها وما يئول إليه أمر أهلها الوطنيين، ويليق بنا أن ننظر إلى مصر لا بصفة كونها مملكة قائمة بذاتها، ولا من جهة علاقتها بأوروبا، بل بصفة كونها جزءًا صغيرًا من قارة عظيمة، فقد أصبح الواجب على كل سياسي أن ينظر إلى القارات لا إلى الممالك، فنقول: ألا يحسب من يرى أن كل مسعى سعاه المرسلون في سبيل نشر الديانة المسيحية بين أهل أفريقيا قد خاب وفشل ولم يصادف نجاحًا يذكر. إن محنة هؤلاء الأفريقيين لم تنته بعد، وإن القدرة الإلهية لا تراهم أهلًا لانتحال الدين المسيحي؟ إننا لا نجيب عن هذا السؤال، ونترك الإجابة عليه للقارئ، إنما نقول إنه لا ينكر أحد أن أتعاب المرسلين المسيحيين في أفريقيا قد ذهبت أدراج الرياح، وإن أهل أفريقيا لا يزالون كلهم وثنيين عُبَّاد أصنام، ولا نرى في أواسط أفريقيا وشمالها دينًا مستحكمًا غير الدين المحمدي، فكأن الإسلام فاز حيث خابت النصرانية؛ لأن في الإسلام ما يجذب الأفريقي مما لا يوجد في النصرانية، وهنا نذكر أن أوروبا لم تر نور النصرانية إلا بعد أن اقتبست المدنيتين اليونانية الرومانية. نقول ذلك ولعل الأفريقي لا يزال عاجزًا عن الأخذ بالمسيحية لأنه لم يستعد لها تمام الاستعداد.

ولا يخفى أنه لم تسكن أفريقيا أمة أوروبية سوى أمة البوير، وهي الأمة الوحيدة التي تمكنت من العيش في جو أفريقيا واستنشاق هوائها، ولكنها على قدرتها وذكائها لم تفلح في مصادقة الوطنيين ولم تخضع منهم أحدًا لدينها ومدنيتها؛ ذلك لأن المدنية الغربية لا تدخل إلا في مكان دخلته المسيحية، ولا حاجة لأن نقول إن شعوب أفريقيا بأسرها لم تتعلم من أوروبا شيئًا استفادت به أو ساعدها على التقدم في طريق المدنية؛ لأن المستعمرين لم يشدوا رحلتهم إلى أفريقيا إلا ليغنموا ويربحوا، فهم إذا نزحوا عن مستعمراتهم تركوها خالية خاوية، وغادروا الدار تنعى من بناها، وما ذلك إلا لأن بين الوطني والأجنبي حاجزًا منيعًا لا يمكن جوازه، ولا شك في أن النفور والبغض السائدين بين الوطنيين والأجانب يؤديان أخيرًا إلى انقراض سكان أفريقيا الأصليين واستئصال شأفتهم لا محالة، وأن الإنسانية لترجو في أوروبا أن لا تعيد في أفريقيا تمثيل الرواية المحزنة التي مثلتها منذ قرون في أمريكا …

إن تاريخ استعمار العالم الجديد يحرج صدر الحليم ويسيل مدامع أجمد الناس عينًا ويلين فؤاد أقسى الناس قلبًا، وما سبب فشل أوروبا في أمريكا إلا لأنها لم تستطع الوقوف على أخلاق شعب الهنود الحمر وعاداته وديانته وصفاته وسجاياه. أضف إلى ذلك أن الأوروبيين لم يحاولوا تغيير دين أهل أمريكا الأصليين أو يصلحوا حالهم، ولا ندري إذا كانوا ينجحون لو حاولوا إدخال النصرانية أم لا، ولكن ما نعلمه هو أنهم لم يحاولوا ذلك، بل جاء الرجل الأبيض وأزاح بيده القوية كل ما تمثل أمامه من آثار مدنية أمريكا الأصلية، وتناول سيفه وذبح هنود الشمال والجنوب والشرق والغرب، حتى أصبحت قارة الدنيا الجديدة بحرًا من الدماء الطاهرة، فكأن الرجل الأبيض كان يفرح لرؤية الدم ويطرب لإزهاق النفوس. وعندما كان هؤلاء الوطنيون المساكين يخضعون للذل ويسلمون للأوروبيين كانت تصيبهم أمراض أوروبا فيموتون بها، فكان مثلهم كمثل من فر من الموت إلى الردى، وكأن المستعمرين الأوروبيين رفعوا علمًا كتبوا عليه «لا رحمة عندنا، ومن يقف في طريقنا فليس له إلا الموت الأحمر»، وا أسفي فقد نجحت أوروبا في إبادة ذلك الشعب الهندي الكريم ولا يوجد منه الآن إلا أفراد قلائل يراهم الناس كما يرون الغرائب والنوادر. وقد تمكن الجبن واحتوى الخوف بعض القبائل المنحطة ففرت إلى جنوب أمريكا لاجئة إلى حراجها وأحراشها كما يلجأ إليها الوحش الطريد.

وإن قلبنا ليخفق عندما يخطر ببالنا أن ما تم في أمريكا سوف يتم في أفريقيا، سيما ونحن نرى ما بين البيض والسود في تلك القارة من البغض والنفور، ولا داعي لهما، إلا أن المستعمر الأبيض عاجز عن فهم طبيعة الوطني الأسود فيعوقه جهله بطبيعته عن منحه نعمة المسيحية والمدنية، وأي دليل أصدق على قولنا من أن نصف سكان جنوب أفريقيا فنوا أو نزحوا عن أرضهم؟ ويليق بأوروبا المتمدنة أن يصبغ الخجل وجهها ألف مرة كلما تسمع الأخبار المعيبة والقصص الشائنة التي ينقلها البريد في كل يوم من أواسط أفريقيا إلى عواصم المدنية، فقد عرف العالم أنه عندما يصل الأوروبي إلى تلك البلاد ينسى نفسه ويسقط سقوطًا معيبًا، فيحيا الحيوان القذر الساكن في جسمه، وتموت عواطف العفة والشرف فيه، فلا ينظر إلى الوطنيين إلا نظرًا شهوانيًّا محضًا، ولا يعتبرهم إلا وسائل لتنفيذ أغراضه السافلة وإطفاء نار شهوته الحيوانية. وأمثال تلك الأخبار لا تنقطع عن أوروبا أسبوعًا واحدًا، وكثيرًا ما تزيد ذنوب أحد هؤلاء المتمدنين المتوحشين فيسأل عن أمره ويحاكم، ولا تحمل الصحف وصف الجرائم التي ارتكبها والذنوب التي اقترفها في البلد التي ذهب لتهذيبها وتمدينها إلا وترتجف أوروبا كلها من ذلك!

على أن لدينا في شمال أفريقيا مثالًا واضحًا كل الوضوح يدل على عجز الأوروبي عن ابتلاع الوطني أو جلبه إلى حظيرة المدنية الأوروبية، فإن الفرنسويين على ما هم عليه من الصفات التي تميزهم عن سواهم خابوا في الجزائر كما خاب غيرهم في غيرها. فقد قضى الفرنسويون ثماني عشرة سنة يجردون الحملات ويعبئون الجنود ويحشدون الجيوش، حتى انتصروا على عرب الجزائر، ومضى عليهم سبعون سنة في تلك البلاد، ولا يزال العرب يكرهونهم وينتظرون فرصة تمكنهم من خلع نير فرنسا وطرد أهلها من بلادهم. وطالما حاولت فرنسا أن تبث فيهم النصرانية ففشلت فشلًا قبيحًا، فإذا أصر العرب على البقاء على دينهم ورفضوا المدنية المسيحية فإنهم لا محالة يبيدون.

وإن نظرنا في أفريقيا فإنا نرى مستقبل أهليها أسود قاتمًا؛ إذ لا نرى في أوروبا لأفريقيا أملًا، وليس أمامنا إلا وسيلة واحدة وهي أن قوة إسلامية تنهض وتختلط بتلك الشعوب فتستطيع أن تصل إلى أعماق قلوبهم، وبذلك تتمكن من أن تمنحهم مدنية إن لم تكن أحسن مدنية فإنها بلا ريب تجهزهم إلى ما هو أرقى منها من المدنيات. ولا نرى قوة إسلامية قادرة على القيام بذلك العمل الجليل إلا مصر، فإنها تعلمت في ذلها من أوروبا ما تستطيع به في عزها أن تصلح من شأنها وشأن غيرها، ولكن مصر لا تنهض هذه النهضة إلا إذا كانت أمة حرة؛ لأن الحرية تجعلها تقدر ذلك العمل العظيم حق قدره.

لماذا لا نعترف بأن مصر قد بلغت سن الرشد وأنها تعلمت ما يكفيها، وأن الساعة قد أتت لتقوم الأمة المصرية بشأن نفسها وتدبر أمرها بعقلها؛ لأن بها وحدها معقودة آمال قارة أفريقيا بأسرها؟

هنا نترك القارئ ليخلو بنفسه ويسأل قلبه قائلًا: هلا يوحي صوت الإنسانية إلى قلبي ما أشارت به السياسة على عقلي؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤