الفصل الخامس

المصريون و«حياد» مصر

منذ عشرين سنة مضت كان يمكن لبعض الناس أن يتجاهلوا وجود المصريين أو يتناسوهم بدون خوف من هذا التناسي أو ذاك التجاهل، ولكن مصر الفتاة قد تغيرت تغيرًا عجيبًا وتحورت تحويرًا مدهشًا، فإن عشرين سنة قضاها المصريون تحت حكم دولة أجنبية عادلة ساعدتهم على إحياء فكرة الوطنية وإنمائها، والمصريون اليوم يعلمون حق العلم أن لهم وظيفة وطنية تطالبهم بواجبات يؤدونها، وغنيٌّ عن البيان أن الطبقة العالية من المصريين تعلمت تعليمًا متقنًا وتمكنت من التشبع بروح المدنية الغربية، ومن حسن حظهم أنه لم تختلط روح المدنية التي تشربوا بها بماء الذل الذي يقتل النفوس الزكية ويخنق العواطف الشريفة؛ ولذلك تربت فيهم غرائز حب فضائل المدنية الغربية التي احتك بها أغلبهم في حياتهم المدرسية في مرسيليا ونيمز وباريس، فكانت نتيجة ذلك أنهم تحققوا من أن أمتهم مطلوب منها أن تمثل دورها كأمة حية حرة كأي أمة أوروبية، وهم يحسون بأن وقت تعليمهم قد انقضى وأنهم قد استغنوا عمن يتولى شئونهم غير أنفسهم. وقد يصعب على مراقب أحوال الأمة المصرية أن يغض الطرف عن تلك العواطف الشريفة، وقد يدفعنا ذلك إلى القول بأن أمة دبت فيها هذه الروح لا يمكن أنها تقف ساكتة راضخة عندما تحاول بريطانيا أن تمتلك بلادها نهائيًّا.

وقد قلنا عن الأمة المصرية إنها أمة حية ونرجو أن لا يظن القارئ أننا أتينا بهذه الصفة في وسط الكلام لأنها صفة ترن وتطن في الأذن بلا معنى حقيقي، ولا نود أن يظن القارئ بأننا نأتي بهذه الألفاظ لنظهر قدرتنا في الكتابة كما يحاول المبتدئ إظهار بلاغته ليظهر للملإ غروره وإعجابه بنفسه، إنما نحن نعني ما نقول ونقول ما نعني، ونسأل القارئ أن يعيرنا ذهنه لحظة نفسر له فيها معنى كلمة «أمة حية» عندما يطلق ذلك الوصف على أمة أوروبية، لا نرى لنا مثالًا أحسن من أمثلة علم الأعضاء، ولا بد أن يكون القارئ قد سمع بالتجارب العديدة التي عملت على أعصاب السمع والبصر، ولعل القارئ أيضًا يعلم أن أعصاب هذين العضوين لا تختلف شكلًا وتركيبًا، وأنها مصنوعة من نسيج واحد، ومع كل ذلك فإن أعصاب السمع لا تبصر وأعصاب البصر لا تسمع، وكل قائم بوظيفة خاصة به، وعندما نصف هذه الأعصاب بأنها أعصاب حية فنحن نعني بذلك الوصف أن كل عصب قادر على تأدية وظيفته الخاصة به، ولا يتمكن أبرع طبيب من أن ينيب هذا عن ذلك في العمل.

فلنتحول إذن إلى التاريخ الأوروبي فإننا نشاهد أنه مبني من عدة وحدات حية وكل وحدة خلقت لتقوم بعمل خاص ولتؤدي وظيفة معينة، ولا يمكنها أن تقوم بوظيفة غير وظيفتها، أو عمل سوى عملها. هذه هي الحقيقة التي تفسر لنا سبب فشل كل الذين قاموا يرغبون تأسيس إمبراطورية عظيمة في أوروبا تأخذ تحت أجنحتها كل تلك الوحدات المختلفة في المشارب المتباينة في المذاهب، فلما نصف أمة بأنها حية فنحن نعني بهذا الوصف أنها فاتت الدور الذي كانت لا تعد فيه إلا قطعة أرض على الخريطة الجغرافية، إن الأمة الحية هي الأمة التي تقدر أن تسير في طريق خاص بها تصل منه إلى القوة والعظمة، ولا يمكن لأي أمة ثانية أن تجرها خلفها. وفي هذه الدرجة من حياة الأمة تكون قد حصلت على غرائز سياسية وفنية واجتماعية ربما يمكن الضغط عليها بقوة خارجة مؤقتًا، ولكنها لا تموت أبدًا ولا تطفأ شعلتها، وأن القوة التي تحاول أن تعوق أمة عن طريق تقدمها الحيوي أو تسعى في خنقها فإنها بلا شك تخيب في سعيها وتفشل في عملها ولا تنال ما ترغب.

إن تاريخ أوروبا ليس إلا تاريخ ثلاثين وحدة من هذه الوحدات التي لم يمكن تحويلها عن طريق التقدم والارتقاء الطبيعي، ولدينا شواهد لا تعد ولا تحصى عن أمم ضغطت عليها القوى الأجنبية القرون الطويلة وسحقتها تحت نير الظلم والاستبداد لتقتل سجاياها الوطنية ولتمزجها بنفسها وتحرمها نعمة الوجود الحقيقي، ولكننا لم نعثر حتى الآن على ذكر أمة فاتحة نجحت في سحق أمة ثانية وإخفائها من الوجود، فإنه حالما تحس الأمة المضغوط عليها بأن اليد الغريبة قد ضعفت عن القبض عليها، إما لهزيمتها في حرب خارجية أو لضعفها وضجرها من القلاقل الداخلية، فإنها تهب وتعيد إلى نفسها القوة التي فقدت في أسرع فرصة.

وقد دلنا التاريخ على أن صفات بعض الأمم التي ظن أنها ذهبت وتلاشت تعود ثانية بقوة أعظم من القوة الأصلية، وربما كان تاريخ جزيرة البلقان كافيًا للاستشهاد على ما نقول، فإنه لا يشك أحدٌ في أن الأتراك استعمروا أملاكهم البلقانية ببراعة وحذق ولا يخفى أن الأمة العثمانية أمة حرب وطعن وضرب، فلما جاءت إلى جنوب أوروبا لقيت في جزيرة البلقان أُممًا شتى صغيرة لا تقل عنها شدة وشهامة وعزة نفس وصبرًا على الحرب والضرب، فلم يستعمل الأتراك الشفقة والرحمة الواجبتين في استعمار تلك البلاد، ولولا القوة التركية الحربية العظيمة التي كان أقل ما فيها فرق الانكشارية المنتظمة لما نجح الأتراك في إخضاع ولايات البلقان مؤقتًا، على أن الأتراك لم يدخروا وسعًا قرونًا طويلة في تقوية قبضتهم على تلك الولايات وطمس معالم ما ليس تركيا ومحو آثار الوطنية البلقانية، ولكن من تحت ذلك الخضوع الظاهري الذي أظهرته تلك الأمم الصغيرة خرجت قوة مدهشة عندما بدأ الأتراك يضعفون، وكلنا يعلم أن تلك الولايات قامت الواحدة بعد الأخرى تطالب بحريتها مع كونها لا تزال حافظة لمزاياها الأصلية وسجاياها الوطنية، وربما قد صارت اليوم أشد بها احتفاظًا من الأمس، والذين يتكهنون بانقسام المملكة العثمانية يقولون بأن السبب الوحيد لذلك الانقسام هو كونها قاومت النظام الطبيعي ولم تتبع قواعده، فكلما تنقص الدولة العلية ولاية يكون ذلك النقص دليلًا على أن أمة هبت بعد طول الرقاد، وتحركت فيها صفاتها الوطنية، فنهضت تطالب بحياة حرة مستقلة عندما سنحت لها فرصة الخروج من تحت نير الظلم والاستبداد.

ولا ندهش حينئذ إذا رأينا أن نقص الدولة العلية لا يزيد في أملاك الدول الأوروبية الأخر، إنما يضيف إلى الخريطة الأوروبية أسماء أمم قديمة نسيناها ولم ينسها التاريخ، ولا يعقل أن هذه الأمم بعد خروجها من تحت نير الأتراك تقبل صاغرة أن تدخل تحت نير أي دولة أوروبية أخرى؛ لأنه لا معنى للخروج من مذلة إلى مثلها ومن صغار إلى صغار … على أنه كانت أمام تركيا قبل فتحها تلك الولايات عقبة عظيمة جدًّا غير وطنية هذه الأمم وهي اختلاف الدين، فإن إسلام الأتراك ونصرانية البلقان لا يتفقان، فكان ذلك النفور أيضًا سببًا لتقوية إحساس الوطنية في تلك الأمم المظلومة. فإذا نظرنا إلى تاريخ الأمم من هذه الجهة فإننا لا نجد تاريخًا ألذ وأفيد من تاريخ استقلال رومانيا وبلغاريا والصرب وولايات الرومللي.

وغني عن البيان أنه توجد في أوروبا ممالك أصغر شأنًا وأحقر أمرًا من ولايات البلقان المستقلة، وقد نجحت هذه الممالك الصغيرة الحقيرة في الحصول على حريتها الوطنية، وهنا نذكر القارئ بحكومة سان مارينو التي تفتخر بأنها أقدم مملكة في أوروبا، ثم نذكره بجمهورية أندورا التي لا يزيد سكانها على ٦٠٠٠ نسمة، ثم بأمة الجبل الأسود التي هزأت بكل من حاولوا أن يبتلعوها أو يخنقوها. فإن تأليف هذه الوحدات الحية هو الذي يجعل تاريخ أوروبا مخالفًا لتاريخ أي قارة من قارات العالم. على أن كلمة «حية» هي مفتاح الوادي العظيم الذي يفصل بين وحدة أوروبية صغيرة كصربيا وبين مملكة آسيوية كبيرة كمملكة «تيبت»، فإن قوى تركيا الحربية والسياسية لم تستطع أن تقتل روح الوطنية الصربية ولكن قبضة من الجنود الإنكليزية ومثلها من الجيش الهندي لم تفشل في إخضاع التيبت وخنق روح وطنيتها …

إن أوروبا عامة وإنكلترا خاصة لا تتخيل أن مصر لا تزال في درجة «تيبت»، فإن الأجيال التي مضت على الأمة المصرية وهي تتعلم التعليم الغربي وتفكر بالطريقة الغربية قد أنارت عقلها وجعلتها تحس بوطنيتها كما يحس الأوروبي بوطنيته، ولقد أقنعت الحرب الأخيرة بين إنكلترا والبوير كل إنكليزي بأن كل شعب سائر على النموذج الغربي لا يمكن إطفاء جزء من شعلته إلا بعد إنفاق القناطير المقنطرة من الذهب وإزهاق الآلاف المؤلفة من النفوس الزكية. هذا وإذا بلغت المسألة بين مصر وبريطانيا إلى الحرب فإننا نحقق للقارئ أن إنكلترا تلقى في محاربة مصر صعوبات شتى مخالفة للصعوبات التي لقيتها في محاربة جمهوريات جنوب أفريقيا.

ولنترك الآن البحث في المسائل الحربية جانبًا ولنفرض أننا بلغنا نهاية الحرب وأن النصر عقد لإنكلترا على مصر وأن الوقت جاء لعقد محالفة الصلح فتكون إنكلترا حينئذ قد أحست بوجود وطنية مصرية فلا تحاول أن تنال حق الحكم بالقوة الجبرية لعلمها بأن مثل هذا العمل يخضع الشعب الهائج طرفة عين حتى يستعد لنهضة ثانية، على أن إنكلترا لم تتخذ في حياتها سياسة مثل هذه السياسة الخرقاء، ولم تحاول مرة في العمر واحدة أن تحكم الأمم بالتهديد والشدة، إنما هي تسلك طريقًا واحدة وهي أنها بعد أن تحوز النصر على عدوها تستميله بإكرامه وتقديره حق قدره وهذه هي الطريق التي سارت عليها بعد عقد معاهدة «فيمر ينينج»، فإنها صرحت للبوير بأن نوالهم الحكومة النيابية متوقف على حسن سلوكهم لمدة معينة، فإذا انقضت هذه المدة يصير الشعب البويري أمة محالفة لإنكلترا، فيكون مثلهم كمثل أستراليا وكندا، يدبرون حكومتهم الداخلية بأنفسهم ولكن يضعون سياستهم الخارجية في أيدي بريطانيا العظمى، ولا يسمح لنا المقام بالبحث فيما إذا كان الوصول إلى هذه النتيجة من الممكن بدون ما أنفق من المال ومن قتلوا من الرجال أم لا.

ولنفرض أن إنكلترا تحققت من الوطنية المصرية وأرادت أن تعامل الشعب المصري كما عاملت غيره من الشعوب التي كانت خاضعة لها — أي معاملة الصديق الأكبر للصديق الأصغر — فما هي المكافأة التي تعطيها إنكلترا لمصر تعويضًا لها عن استقلالها الذي اغتصب منها زمنًا؟ فهل تمنحها استقلالًا إداريًّا؟ وإذا منحتها فما يكون نوع هذا الاستقلال؟ إنا لا نرى لمصر نفعًا في تأسيس حكومة نيابية في بلادها لأنها لا تفهمها ولا نريد أن تفهمها، فإن العقل المصري لا يزال شرقيًّا والعقل الشرقي عاجز بطبيعته في الزمن الحاضر عن فهم الحكومات النيابية … نعم! إننا نعلم أن في مصر مجلسين نيابيين يشبهان مجلس العيان ومجلس العموم، ولكن هذا النظام النيابي في مصر ليس إلا خيالًا للنظام النيابي الحقيقي، على أن الأمم المختلفة توافقها نظامات مختلفة، وقد أنكر الساسة منذ زمن الرأي القائل بأن مثل الأمة ونظام الحكومة كمثل الشخص والكساء يمكنك أن تلبسه إياه كيف شئت، فإن بريطانيا منحت البوير حق الحكومة النيابية لأنها رأت أن هذا الشعب أظهر قدرته على فهم هذا النظام في استقلاله، فمنح إنكلترا لهذا الشعب هذا النظام يعد منها كرامة وفضلًا، ولكن ما معنى مثل هذه المنحة لمصر ومصر لم تظهر ميلها لها ولم تحتج إليها إلى الآن، على أن منح الحكومة النيابية لا يخفف آلام مصر ولا يذهب بالمذلة التي سببها احتلال الأجانب لها، ولا يعوق المصريين عن المطالبة بحقوقهم عندما يرون في نفوسهم الكفاءة لذلك.

نظن أننا قد استطردنا كثيرًا ويجب علينا أن نذكر سنة ١٩١٢ التي ربما تكون من أهم السنين في تاريخ القطر المصري، فإن القارئ يذكر النبذة التي اقتطفناها من كتاب المركيز لانسدون التي يشير بها إلى أن مصر بعد هذه السنة ستكون قادرة على سداد ديونها كلها، وغني عن البيان أن ثروة مصر الآن تمكنها من وفاء ديونها، فإذا فرضنا أنها لم تصنع ذلك فإنها بلا ريب تكون قادرة على تبديل ديونها وتوحيدها لتقلل من ربح تلك الديون، فتضيف بذلك مبالغ طائلة إلى ثروتها، وإذا لم يستطع المصريون أن يسددوا كل ديونهم فإنهم على الأقل يغيرون مركزهم المالي حيال أوروبا تغييرًا كليًّا. ولنفرض إذن أن المصريين سددوا أغلب ديونهم فإذا تم ذلك فنحن لا نرى أن لأحد حقًّا شرعيًّا في منعهم عن تقديم عريضة إلى إنكلترا أو من ينوب عنها في مصر فحواها ما يأتي:

نحن المصريين نعترف من صميم أفئدتنا بكل الأعمال النافعة التي قامت بها الحكومة البريطانية نحونا، ونحن لا نود أن نصغر من شأن الخدم الجليلة التي قامت بها إنكلترا في سبيل إدخال الترتيب والنظام في إدارتنا ومساعدتنا في حماية حدودنا من هجوم الفاتحين. ولا نود أن نخفي اعترافنا بجميلها، وإننا متحققون من أن الحكومة الإنكليزية لم تحاول مرة أن تقتل الوطنية المصرية أو تمسها بسوءٍ، ونحن نحترم عهد الاحتلال الإنكليزي الذي كنا ننظر إليه نظر القاصر إلى ولي الأمر أو نظر المتعلم إلى الأستاذ؛ لأن إنكلترا لم تستفد في الحقيقة مباشرة من مالية مصر أو قوتها، مع أن بلادنا تقدمت تقدمًا باهرًا ولا تزال سائرة في طريق النجاح، وقد يجرؤنا اعتقادنا بأن علاقة إنكلترا بنا لم تكن إلا علاقة ودية على أن نذكر بريطانيا العظمى بأننا في زمن حمايتها قد سلكنا سلوكًا حسنًا وعملنا جهد طاقتنا في الوصول إلى الغاية التي كانت تتمناها لنا إنكلترا، ونرى أننا قد بلغنا رشدنا، وجاء الوقت الذي يمكننا فيه أن نطلب فيه حكم أنفسنا بأنفسنا، وقد حررنا بلادنا من أغلب ديننا، وبذلك رفعنا الحمل الثقيل الذي أنقض ظهرنا، ونعشم أن نجاح بلادنا الماضي ونظام ماليتها يضمنان لنا دفع المتبقي من الدين والفائدة، ونحن نكرر شكرنا وثناءنا على بريطانيا العظمى ونذكر لها أن الساعة قد أتت التي يمكن للإنكليز فيها أن ينسحبوا بسلام، فيستفيدوا ويفيدوا ويتركوا مصر تحكم نفسها بنفسها، ونود أن نحيط الحكومة البريطانية علمًا بأننا لا ننوي أن ننكر على إنكلترا حق ملكيتها للسودان ولا نود أن نمس هذه الملكية بما يضعفها أو يقلل نفوذها.

فلو عرض المصريون عريضة مثل هذه العريضة، وشرحوا فيها حقيقة الحال، وتأدبوا في ألفاظها كل التأدب حتى لا تشتم منها رائحة مس الكرامة، فإننا لا نظن أن الغيظ يلحق بساسة الإنكليز، ولا نظن أنهم يجيبون بغير ما يرضي مصر والمصريين، على أن المسألة قبل اتفاقية ٨ أبريل ١٩٠٢ كانت مختلفة كل الاختلاف، وكان من الممكن أن يرمي الإنكليز فرنسا بتدبير مكيدة هذه العريضة، أما الآن فهذا الظن أبعد من القطبين؛ لأنه لا مكان للشك في إخلاص الفرنسويين وحسن نيتهم بعد تنازلهم عن حقوقهم في مصر، فقد رأينا أن انسحاب فرنسا من مصر؛ ليس فقط لأن هذا الانسحاب يوافق خطة سياستها الخارجية؛ بل لأنها أخذت له ثمنًا عظيمًا جدًّا.

وفي هذه الحال لا يستطيع أي أن يهمز الأسد البريطاني ويوعز إليه بأن هذه العريضة ليست إلا هجومًا أدبيًّا على أملاكه وغنائمه؛ لأن الأسد البريطاني يرى أنه بمنح المصريين ما التمسوه لا يفقد شيئًا بل يستفيد كثيرًا.

قلنا فيما مضى أن حربًا بين إنكلترا ومصر ربما تعود بمصائب لا يهزأ بها ولم تكن للإنكليز في الحسبان. على أنه لو شبت نار تلك الحرب وفاز فيها الإنكليز فإنها لا تفيد إنكلترا ولا تنتج لها نتيجة محمودة؛ لأنها تخرب التجارة المصرية وتدمر المركز المالي الذي شادته إنكلترا في مصر. على أننا رأينا أن إنكلترا لا تمارس صناعة الاستعمار إلا بتساهل وتسامح. فما تكون نتيجة تلك الحرب التي تضعف إنكلترا وتفقر مصر، فهل تعود إنكلترا وتطالب برجوع الحالة السياسية في مصر إلى ما كانت عليه مع علمها بأنها لا تنال حقوقًا تجارية أكثر من الحقوق التي تنالها لو كانت مصر مستقلة ومفتوحة لتجارة الأمم كلها، ونحن لا نرى للحرب معنى إلا إذا كانت إنكلترا سائرة في سياستها الاستعمارية على الدرب الذي تسير عليه فرنسا، أي أنها تضم البلاد التي تفتحها إلى الإمبراطورية فتصير تلك المستعمرات ولايات خاضعة تمام الخضوع، فإن الحرب حينئذ يكون لها سبب معقول، كأن تكون مصر قد شقت عصا الطاعة فجاءت إنكلترا تعيدها إلى حظيرتها. ومع ذلك فإن الحال إذا كانت كما ذكرنا أي أنه لو كانت مصر ولاية خاضعة منضمة إلى الإمبراطورية البريطانية، فإن إنكلترا يجب عليها أن تنظر في نفقات الحرب وتقارنها بالمنافع التي تحصل عليها بعد الفوز الكبير، ولكن حيث إن إنكلترا تمنح رعاياها الحرية والاستقلال الداخلي بعد أن ترى فيهم الكفاءة؛ لذلك فنحن لا نرى الفائدة التي تستفيدها بعد الحرب، وهذا هو ما حدث بعينه في جنوب أفريقيا، ولا نظن أن إنكلترا تعود إلى محاربة البوبر ثانية؛ لأن الشعب الإنكليزي الذي قام في أول الأمر بنفقات الحرب لا يقوم الآن لعلمه بأن العاقبة الثانية تكون كالعاقبة الأولى عقيمة وخيمة.

نقول: ولو أن العريضة التي ذكرناها سابقًا تؤدي إلى قطع العلائق بين إنكلترا ومصر فمن الصعب جدًّا أن نتكهن بنتائج الحرب ونحن لا ندري أي طريق تتبعها مصر، ولا نستطيع أن نتنبأ بالقوة الحربية التي يستطيع المصريون دفعها إلى ميدان الوغى، ولا نغالي في المقال إذا قلنا إن مصر لا تلبث أن تحس بعداء إنكلترا حتى تطلب من الحبشة مساعدتها، ولا نظن أن الحبشة تعيرها أذنًا صماء، فإن الأحباش يعلمون حق العلم أن استيلاء إنكلترا على مصر إن لم يكن الخطوة الأولى في سبيل الاستيلاء على بلادهم، فإنه بدون شك يؤدي إلى سلب حرية الحبشة وإخضاعها؛ لأنهم يكونون حينئذ محاطين بأملاك إنكلترا من كل جانب، دع ما تكنه صدور الأحباش من الكراهية والاحتقار للأوروبيين عامة، سيما بعد يوم «عدوه»، ولا يبعد أن يستنهض المصريون قوة المهدي المنتشرة في أواسط أفريقيا التي لحقها سبات عميق لا بد أن تفيق منه. كل هذه مسائل لا نستطيع الآن البحث فيها، إنما نقول إن حربًا مصرية إنكليزية تؤدي إلى صعوبة جمة، ولو أن إنكلترا تغلبت على تلك الصعوبات فإن ثمرة الحرب أن تعادل ما تقوم به من النفقات.

•••

قد بدأت نهاية العمل الذي انتدبنا أنفسنا للقيام به، وقد نظرنا إلى المسألة المصرية من كل جهاتها واعتبرناها عاملًا مهمًّا من عوامل السياسة الأوروبية، وفحصنا نتائج الأعمال التي قام بها الاحتلال، ومع أننا ذكرنا الفوائد والمنافع التي استفادت وانتفعت بها مصر في عهد حماية بريطانيا، فإننا أشرنا إلى الصعوبات الهائلة التي تعترض من يود بقاء الحال الحاضرة على ما هي عليه زمنًا طويلًا، وقد رأى القارئ أننا حاولنا جهد طاقتنا أن نقف موقف الحكم العادل المحايد الذي لا يميل عن الحق لينصر الباطل أو يمدح فردًا ليذم آخر، ونظرنا إلى المسألة من جهة المنافع والمضار السياسية ضاربين صفحًا عما يلتبس على القارئ من الأبحاث، ومن حسن الحظ أن كل أبحاثنا في أي جهة كانت أدت كلها إلى نتيجة واحدة وهي أن المسألة المصرية لا تقبل إلا حلًّا واحدًا مهما طال الزمن، وهذا الحال زيادة عن أنه يفيد كل الدول التي لها علاقة بالمسألة المصرية، فإنه يكون أبدًا ثابتًا، ولقد رأينا أن ارتباك النظام القضائي من أهم الصعوبات التي تجعل الحال السياسية الحاضرة في مصر لا يحسن السكوت عليها، وقد أظهرنا أنه لا توجد دولة أوروبية قادرة على تحسين حال ذلك النظام لتزيل مكان الشكوى الكبرى من الحكومة المصرية؛ لأن القضاء إذا لم يكن على أحسن ما يرام فإنه بلا شك يقف عقبةً كئودًا في طريق التقدم المالي.

على أن التنافس الدولي يعوق دول أوروبا جمعاء عن أن يتفقن ويتنازلن عن امتيازاتهن وحقوق قنصلياتهن في القضاء لإنكلترا، ويبعد كثيرًا أن إنكلترا تطلب منهن التنازل عن تلك الحقوق؛ لأن مثلها يكون كمثل الملتمس قبسًا في الماء زيادة عما يسببه ذلك الطلب من الكراهية والعداء.

وقد أظهرنا خطأ حرمان مصر من حقوقها التي تمنح للأمم الحية مع أن تلك الحقوق تمنح لأمم غيرها لا تدانيها في المدنية، وكثيرًا ما تكون هذه الأمم مسيحية، ونحن لا نظن بأن الدول المتحدة يرفضن طلب مصر إذا سألتهن أن تنضم إليهن وأن يعاملنها كواحدة منهن، ولكن هذا الطلب لا يكون له وقع حسن إلا إذا كانت مصر مستقلة، ونحن لا نزال مصرين على النتيجة التي استدللنا عليها بالبحث الطويل، وهي أننا لا نستطيع أن نغض الطرف عن الحقيقة الواضحة لكل إنسان وضوح الشمس في رابعة النهار، وهي أن مصر قد بلغت الدور الذي يخول لها حق أن تكون عضوًا حيًّا من ممالك أوروبا، وقد ذكرنا أنها إذا بلغت ذلك الدور من القوة والنمو فلا توجد في العالم كله قوة تقدر على تحويلها عن طريق تقدمها الطبيعي.

ولا نظن أن من له اختلاط بالدوائر الوطنية في مصر ينكر في قلبه أن الأمة قد تنبهت إلى وظيفتها الوطنية، ولا ينكر السرعة الشديدة التي ترسخ بها أقدام ذلك التنبه في قلوب الشبيبة المصرية، رب قائل يقول إنه من الممكن أن تكون فكرة «حق البقاء كأمة مستقلة» لم تتمكن من عقول المصريين ولم ترسخ في أفئدتهم بدرجة تضطرهم إلى المطالبة بحقوقهم حالًا مهما كلفتهم تلك المطالبة، نقول: نحن لا نشك في أن كر الأيام ومر الأعوام يؤديان إلى إنماء تلك الفكرة في عقولهم، وذلك يصل بهم إلى النتيجة المقصودة على أن السياسي البارع هو ينتهز الفرصة ويقبض عليها من ناصيتها فلا يفوتها ولا يدعها تفر منه؛ لأنه لو تأنى لرأى ما لا يسره مع طول الزمن فيلتمس من ورطته مخرجًا فلا يجد، فخير له أن ينظر بمنظار الحكمة إلى المستقبل فيرسم خطته وفقًا لما يراه آتيًا … ولقد أظهرنا بكل ما في وسعنا بواسطة البحث المنطقي والأدلة القاطعة والبراهين الحاسمة أن الاحتلال البريطاني يضر بمصر في المستقبل كما نفعها في الماضي، وأن بريطانيا بعد تنازل فرنسا عن حقوقها فقدت كل حق في وادي النيل، وقد أظهرنا أن إبدال هذا الاحتلال بامتلاك دائم يضر بمصلحة إنكلترا لو أنها نجحت في ذلك. وعددنا الفوائد الجمة التي تستفيدها إنكلترا من انسحابها من ذلك المركز الكاذب الذي يستفحل خطبه يومًا فيومًا، ويلوح لنا أن الساعة التي تستطيع إنكلترا أن تنسحب فيها قد حانت، فإذا انسحبت بريطانيا العظمى بدون ضغط فيكون ذلك الانسحاب أكبر دليل على حسن نيتها نحو مصر قبل الاحتلال وبعده.

وسنبحث فيما بقي من هذا الفصل في الخطة التي تسير عليها مصر في المستقبل وسنستشهد بحوادث الأمم والممالك التي حدث لها ما حدث لمصر تمامًا، ونشرح الطرق التي حلت بها مسائل تلك الأمم، وبعد ذلك نكون قد حصلنا على قانون عام نستطيع أن نستخرج منه قاعدة خاصة نطبقها على الحال الحاضرة في مصر، وغني عن البيان أن بحثنا في هذا الموضوع سيكون بحثًا تاريخيًّا، فنستميح القارئ عذرًا إذا أتعبناه بذكر بعض المقدمات التاريخية؛ لأنها هي الأساس الوحيد الذي يمكننا أن نبني عليه بناءً متينًا، وقد ابتعدنا عن تقرير الحقائق العقلية لأنها كثيرًا ما لا تقنع القارئ ولا تترك في نفسه أثرًا. ونحن نشاء أن نظهر بوضوح تام أنه لم يوجد للمسائل الأوروبية التي تشبه المسألة المصرية إلا حل واحد يمكن الاعتماد عليه. على أن هذا الحل الذي حلت به تلك المسائل لم يكن نتيجة بحث علمي؛ بل كان نتيجة الضرورة السياسية؛ ولذلك كان معقولًا مقبولًا أضف إلى ذلك أنه أدى إلى الغاية المطلوبة.

إن أول نظرة في ميدان تاريخ أوروبا تقنع الناظر بأنه ينظر إلى وادي التيه؛ لأنه يرى كل شيء مرتبكًا مضطربًا متناقضًا متباينًا ييأس من الخروج من هذا الوادي بفائدة تذكر لأنه لا يجد قاعدة يستطيع بها أن يحكم على الحوادث والحقائق، ولكن بعد زمن قليل تزول تلك الغشاوة عن ذلك المنظر التاريخي وتبتدئ عين الناظر ترى صورة واضحة فتختفي من أمامه المسائل الصغرى وتتوارى في أخريات الصورة، وتقف أمامه المسائل الأولية الكبرى بوضوح وجلاءٍ يرى الناظر أن الجدير بالإمعان هو دولتان أو ثلاث، ليس إلا، وأن ما يطرأ على تلك الدول الثلاث من الجذب والدفع ليس إلا نتيجة التغير الذي يلم بها، فمنذ أوائل القرن السادس عشر كانت تلك الدول الثلاث؛ هي: فرنسا، وإمبراطورية ألمانيا، وإسبانيا وبعد ذلك بقليل بدأت روسيا بالظهور، ومن الغريب أنه مهما طرأ على تلك الدول من التغيير فإن عددها لا يقل، على أن تلك الدول دائمًا في حرب عوان لتزاحم منافعها واشتباك مطامعها، فترى مرة فرنسا تتحد مع إسبانيا على ألمانيا ثم ترى مرة أخرى إسبانيا وألمانيا متحدتين على فرنسا، وقد يظن غالبًا أن الدولة الثالثة المهجورة التي تتحد عليها الدولتان الأخريان تئول إلى الفناء، ولكن هذا الظن لا يصدق أبدًا، فإننا لم نر دولة أوروبية كبرى أثمر سعيها وتحققت أمانيها بسحق عدوتها.

فكانت النتيجة أن احتياج تلك الدول المتحاربة إلى السلام يشتد كثيرًا لما يلحقها من الضعف، وإن لم يكن السلام سلامًا نهائيًّا فإنه يكون على الأقل هدنة، ولم يكن يعقل حينئذ أن أحد المتحاربين يسلم لعدوه فيما كانا يتحاربان من أجله، وكان البعض يحسب أن هذه الحروب الأوروبية تدوم إلى الأبد حتى تفني الأمم بعضها بعضًا، ولكن الزمان لم يحقق هذا الحسبان ولم تنجح أمة أوروبية في سحق أمة أخرى، ولم تجد أوروبا حينئذ لمسألة الحروب إلا حلًّا واحدًا، وهو أن يتنازل المتحاربان عما سبب النزاع بينهما وتترك كل دولة حقها فيه لتضمن سلامة ذاتها وسلامة جارتها، وهذا هو تفسير ما نراه على الخريطة الأوروبية من الأسماء الصغيرة التي لا تعد شيئًا، هذه الممالك الصغرى هي هياكل السلام والسكون التي كانت تحوم حولها عفاريت الشر وشياطين الحرب والنزاع، وكل ناظر إلى خريطة أوروبا يرى أنه بين كل دولتين أو ثلاث من الدول الكبرى «منطقة على الحياد» مثل سويسرا وبلجيكا وغيرها، وتستفيد الدول من تلك المناطق فائدتين: الأولى أنها تحتمي بها من الاحتكاك ببعضها، والثانية أن في تلك المناطق المحايدة من المواقع الحربية ما لو كان في يد دولة لجعل جاراتها في هلع وفزع، ويعجز القلم عن عدد الحروب التي قامت للحصول على هذه المناطق، ولكن بعد أن أنفقت كل دولة مالها وقدمت رجالها للموت في ميدان الوغى واقتنعت باستحالة الحصول على الأرض المتنازع عليها رأت أن تغمد الحسام ليسود السلام.

وليس تاريخ أوروبا إلا صحيفتين: صحيفة كتبت بدماء الأبطال، وصحيفة كتبت بحكمة الحكماء الذين نصحوا إلى دولهم فكفت عن حروب لم يكن وراءها إلا الخراب. ولنتقدم الآن إلى الاستشهاد بالحوادث التاريخية، فنقول: لو نظر القارئ معنا لحظة في سياسة فرنسا من أوائل القرن السادس عشر إلى يوم عقد معاهدة فينا سنة ١٨١٥، يرى أن السياسة الفرنسوية لم تكن تسعى إلا إلى غرض واحد، وهذا الغرض هو الذي وضعه لويس الرابع عشر، وهو أنه يجب على الفرنسويين أن يبسطوا فرنسا إلى حدودها الطبيعية، وهي الحدود التي وضعها لها يوليوس قيصر. ولا ينقص فرنسا من تلك الحدود إلا أنها تمتد إلى نهر الرين شرقًا ومن ينظر في الخريطة لا يرى أن هذا العمل شاق أو صعب التنفيذ؛ لأن المساحة المطلوبة ليست عظيمة جدًّا، ولكن فاتت ثلاثمائة سنة طويلة لم يقف فيها العمل نحو هذا الغرض يومًا واحدًا ولا تزال الأمنية بلا تحقيق، ولم يكن هذا الفشل لاحتياج فرنسا لكبار العقول؛ لأن ساستها في ذلك العهد كانوا من أكبر وأبرع ساسة العالم، ومن منا لا يحفظ اسم «ريشيلو» و«مازاران» ومن جاء بعدهم من الذين رفعوا شأن فرنسا وجعلوا سياستها نموذجًا لسياسة العالم، حتى إننا لا نزال حتى الساعة نرى في السياسة الأوروبية آثار عقول جيانين وديافوكس وليون.

ولسنا في مقام يسمح لنا بذكر النظام العجيب الذي سارت عليه جندية فرنسا وجيوشها، وهل على ذلك دليل أكبر من أن الاصطلاحات الحربية الفرنسوية لا تزال مستعملة في الجيوش الأوروبية إلى يومنا هذا؟ ولسنا في حاجة إلى ذكر أسماء أبطال فرنسا وقادة جيوشها العظام؛ أمثال كونديه، ولوكسمبرج، وفيلارس، وكايتنان، وفندوم وغيرهم ممن يعطر ذكرهم صحف التاريخ، وبهذه العقول وهذا الترتيب وهؤلاء القواد مع ما يتبع ذلك من النفقات لم تستطع فرنسا أن تصل إلى حدها الطبيعي، فكانت إذا دنت من الرين من جهة أقصاها أعداؤها عنه من جهة أخرى ولم يظهر للعدوين المتحاربين أن مسألة الرين تحل حلًّا يرضيهما كليهما، ولم يهدأ روع فرنسا ساعة لأنها لم تكن لتقنع بحد غير نهر الرين؛ لأن ذلك كان يجعلها دائمًا في خوف وقلق من عدو مهاجم يلحق بها ضررًا قبل أن تتنبه لأمرها. وهكذا استمرت الحرب وكانت إذا انقطعت يومًا دامت عامًا، ولم يكن هذا الانقطاع إلا ليتنفس المتحاربان الصعداء، ويأخذان أهبتهما لما تأتي به الأيام، وبعد أن كانت الأرض المتنازع عليها طيبة خصبة أصبحت قاحلة جدبة بعد أن أنهكها مرور الجنود وحرق الشجر واستقت أرضها دماء البشر.

ولم تأت أمة قوية تستطيع أن تسحق فرنسا فتتخلى عن أغراضها، ولم تكن فرنسا بما لديها من الحول والطول قادرة على أن تسحق عدوها فلا يبقى على إضراره في مقاومتها وعنادها. واستمرت الحال على ذلك حتى جاء نابوليون بونابرت. ومن الغريب أن نابوليون بقوته وقدرته وعزمه وحزمه لم يستطع أن يستولي على البلاد المتنازع عليها إلا أمدًا قصيرًا، ففي عام ١٨١٠ كانت هولاندا وبلجيكا كلتاهما تابعتين لفرنسا، ولكن معاهدات ١٨١٤ و١٨١٥ حلت ما ربطه نابوليون وقلعت ما زرعه ولم تحل هذه المشكلة المعضلة إلا في سنة ١٨٣١؛ لأنه في هذه السنة انتهى الزمن الذي كانت فيه تخوم فرنسا ملاصقة لحدود ألمانيا تمام الملاصقة، وما كان أحوج هاتين الدولتين العظيمين إلى مملكة صغيرة بينهما تمنعهما من الالتصاق والاحتكاك؟ ففي عام ١٨٣١ باتفاق الخمس دول العظام (النمسا، وبريطانيا، وفرنسا، وروسيا، وبروسيا) منحت بلجيكا حريتها وصارت مملكة محايدة. وبهذه الوسيلة سد باب كبير في وجه من يود مهاجمة فرنسا. وفي عام ١٨٣٩ قبلت هولاندا بحياد بلجيكا وصادقت عليه بعد أن اعترفت به.

وفي سنة ١٨٦٧ اتفقت الدول العظام السابق ذكرها ومعها إيطاليا ومنحت الحرية والحياد لدوقية لوكسمبرج. فسد باب ثان في وجه أعداء فرنسا، وغني عن البيان أن هولاندا ممنوحة حق الحرية والحياد إن لم يكن رسميًّا فعرفيًّا. على أن إنكلترا على أهبة الاستعداد لمحاربة من يحاول سلب حرية هذه المملكة أو يمس حيادها، وما حدث في حدود فرنسا الشمالية حدث في أمكنة أخرى، ولا يخفى أن حول هولاندا وبلجيكا ولوكسمبرج توجد إنكلترا وفرنسا وألمانيا، وبحيادها سلمت تلك الدول الصغرى وسلم ما حولها من الدول الكبرى. وكأن هذه القاعدة قد صارت من قواعد السياسة الطبيعية، فإنك حيث ترى ثلاث دول كبرى ترى أنه من الضروري وجود مملكة حرة محايدة بينهن لولاها لاستمر النزاع والعراك بين دول أوروبا وبقي سلامها مهددًا. وسنشرح فيما يأتي معنى حياد هذه الممالك. ومن أهم تلك الممالك المحايدة في أواسط أوروبا جمهورية سويسرا، وقد منحت هذه الجمهورية حريتها وحيادها في أواسط القرن السابع عشر تقريبًا، وصودق على معاهدة حيادها أخيرًا في معاهدة فينا سنة ١٨١٥، وقد جاءت سويسرا فاصلًا بين فرنسا وألمانيا وإيطاليا، ومما يدل على احترام هذه الدول الكبرى لحياد تلك الجمهورية الصغيرة أن القائد بورباكي لما عاد ببقية الجيش الفرنسوي في عام ١٨٧١ لم يمر بسويسرا وفي جيشه سيف مجرد أو رمح مشروع.

لا يخفى على القارئ أنه بموت تشارل الثاني ملك إسبانيا وارتقاء أسرة بوربون إلى العرش انحلت عروة الاتحاد التي كانت تربط إسبانيا بالإمبراطورية الرومانية المقدسة ضد أسرة الهابسبرج وحل البغض محل العداء بينهما. وكان شمال إيطاليا بين الدولتين فكانت أملاك إسبانيا الإيطالية عرضة لضربات الإمبراطورية الرومانية كما كانت أملاك الإمبراطورية الرومانية تحت رحمة إسبانيا، وكما أن فرنسا والإمبراطورية عجزتا كلتاهما عن الحصول على هولاندا وبلجيكا، كذلك عجزت إسبانيا والإمبراطورية الرومانية المقدسة كل عن وضع يدها على الأرض المتنازع بشأنها في شمال إيطاليا. فكانت النتيجة من هذا النزاع تشبه كل الشبه النتيجة التي حدثت عن النزاع الذي قام بين فرنسا والإمبراطورية فساد، الصلح بعد أن تنازلت الدولتان عن حقوقهما وتركتا مكان النزاع حرًّا محايدًا.

وهنا لا نغفل ذكر جمهورية البندقية، فإن هذه كانت أيضًا سببًا للنزاع بين إسبانيا والإمبراطورية؛ لأن مركزها الحربي كان لا يترك إسبانيا في مأمن من الأذى إذا كانت فينيسيا في أيدي الإمبراطورية والعكس بالعكس. ويجدر بنا في هذا المقام أن نذكر الدنمرك وما أشيع بشأن منحها الحرية والحياد قريبًا. فإن هذه المملكة الصغيرة هي في الحقيقة مفتاح بحر البلطيق فهي تصلح قاعدة حربية للدخول إلى هذا البحر من بابه الخلفي المسمى «قنال كيال»، ولا يخفى أنه ما دامت الدنمرك قادرة على العمل بمفردها فإنها تكون أبدًا من أسباب قلق ألمانيا وفزعها، فإن أي دولة تفوز بالاتفاق مع الدنمرك تستطيع في الحال أن تضع يدها على مدخل «بوغاز الكاتيجات» فتصير على قيد ذراع من مدخل قنال كيال وحينئذ تستطيع أن تقطع المراسلات الألمانية البحرية بين بحر الشمال وبحر البلطيق.

ولو فرضنا أن ألمانيا اتحدت مع الدنمرك وكانت قوتها البحرية تكفي لتنفيذ أغراضها فإنها تغلق باب البلطيق في وجه من لا تحب، فيرى القارئ أن حياد الدنمرك من أنفع الأمور لكل الدول الواقعة حول هذه المملكة الصغيرة، وأقل منافع هذا الحياد أنه يهدئ بال الدنمرك ويجعلها في مأمن من الأخطار التي تتهددها في كل حين، وتتمتع ألمانيا بحرية العبور في البلطيق والخروج منه والدخول إليه، وهذه النعمة لا تنال إلا بحياد الدنمرك، فإنها إن لم تكن حرة محايدة يتيسر لها في أسرع وقت أن تحبس أساطيل ألمانيا في البلطيق أو تحرمها من الدخول إليه. وإذا منحت الدنمرك حيادها وحريتها فإنها تكون حلقة من سلسلة الحياد الأوروبي المركب من لوكسمبرج وهولاندا وبلجيكا وسويسرا. دع ما تستفيده الروسيا وألمانيا وإنكلترا من هذا الحياد لأنه يفصلهن ويعوقهن عن الاحتكاك والالتصاق. وقد اقترح في تلك الأثناء أيضًا حياد السويد والنرويج، وقوبل هذا الاقتراح في مجالس هاتين الدولتين بالرضاء والسرور، ولكن الأمر يحتاج إلى رضاء دول أوروبا جمعاء.

وسنظهر للقراء أنه حيث توجد ترعة كقنال السويس ممنوحة حق الحرية والحياد يجب أن تكون المملكة المجاورة لهذا الترعة أيضًا حرة محايدة، ويلوح لنا أن المسألة المصرية ابتدأت تعيد نفسها بشكل جديد في أمريكا الوسطى. وذلك بفتح ترعة بناما التي تصل المحيط الأطلنطي بالمحيط الهادي وتريح السفن من السفر حول قارة أمريكا كما أراح قنال السويس السفن من السفر حول أفريقيا. ولا يخفى أن إنفاذ هذا المشروع قد تأجل مرارًا كثيرة لحاجة القائمين به إلى المال، ولكن كل هذه الصعوبات المادية قد زالت وسيخرج المشروع من حيز الخيال إلى حيز الحقيقة بعد زمن قصير، ولا نظن أن الاهتمام بفتح هذا القنال من كولون إلى باناما باتخاذ نيكاراجيوا قاعدة للقنال أنفع للعالم من الاهتمام بنتيجة هذا العمل السياسة، فإن أمريكا الوسطى ستصير بعد فتح القنال مركز مسألة سياسية كبرى، وسيكون هذا القنال شرعة الوارد ونجعة الرائد ممن يأتون من الشرق إلى الغرب أو من الغرب إلى الشرق، والمستقبل كفيل بتحقيق ظننا بأنه إن لم يكن هذا القنال أهم نقطة في العالم فإنه لا محالة سيكون من أهم المراكز السياسية. ولا نحتاج إلى القول بأن الدول ستطلب منح هذا القنال حرية الملاحة والمحايدة على أن أوروبا لا ترضى بأن تسلم للولايات المتحدة مفتاح التجارة الأوروبية، وأوروبا لا تصل إلى النتيجة التي ترضاها إلا إذا أبعدت الولايات المتحدة بقدر ما تستطيع عن الأراضي الواقعة حول القنال المشار إليه، وليس لذلك إلا وسيلة واحدة وهي منح الحرية والحياد للممالك التي يمر بها هذا القنال، فليس من المهم حينئذ إذا كانت هذه الممالك هي نيكاراجيوا وكوستاريكا أو كولومبيا. ومن المستحيل أن تمنح تلك الدول استقلالًا غير مقيد لأنهن بذلك يستطعن أن يعبثن ما شئن وما شاءت الأهواء، أضف إلى ذلك أن تلك الدول تصير مقرًّا للمكائد السياسية وملعبًا للدسائس الدولية. هذا ولا تستطيع دولة أوروبية حينئذ أن تنال من إحدى هذه الممالك ما تريد؛ لأنها بذلك تعرض نفسها إلى غضب الدول الأخرى وسخطهن، ولا يئول ذلك أخيرًا إلا إلى حرب دولية.

وغني عن البيان أن الثورات والحروب التي تشب نارها الآن في ممالك أمريكا الوسطى ليست في الحقيقة إلا شعلة من النار الحقيقية التي ستلتهم كل شيء بعد فتح ترعة بناما، وبعد أن تصير أمريكا الوسطى مجمع الأمم ومحط رحال الشعوب، ونحن لا نشك في أن تلك القلاقل الدولية التي تحدث في الممالك التي أشرنا إليها ليست إلا من أثر مكائد دول أوروبا ودسائسها التي تمهد لنفسها السبيل بما تدبره من الثورات وتشعل نيرانه من الحروب الداخلية، فمثل هذه الجمهوريات الصغرى الواقعة حول قنال بناما كمثل الوارث الجاهل الذي لم يبلغ سن الرشد، ومثل أوروبا كمثل من يلتف حول الوارث من أهل الختل والغش والخداع يملقونه تارة ويدللونه أخرى ويفتأون يداهنونه ويخدعونه حتى يقع في أيديهم فيسلبونه ويتركونه.

على أن هذه الثورات والقلاقل التي تديرها أوروبا في هذه الجمهوريات الصغيرة لن تدوم طويلًا؛ لأنها تعود على البلاد وأهلها بالخراب والدمار وتعطيل التجارة، وهذا ما لا يرضي الولايات المتحدة أو غيرها من دول أوروبا الكبرى فتتداخل، وعند ذلك تصير حرية القنال وحياده في خطر شديد، فلا يكون حينئذ لهذه المسألة إلا حل واحد وهو منح الحياد لتلك الجمهوريات وإخراجها عن دائرة السياسة الدولية؛ فتقل المكائد وتتلاشى الدسائس وتتمكن تلك الجمهوريات من التمتع بالنعمة العظيمة التي خول لها مركزها الجغرافي التمتع بها، وبذلك يسود السلام والنجاح ويعم الخير البلاد المجاورة لترعة بناما.

تكلمنا فيما مضى عن طرق الحياد في أوروبا وأمريكا، وسنبحث الآن عن طريقة تحل بها المسألة الأفريقية التي تركت أوهام الساسة حائرة. عندما قام بسمارك في سنة ١٨٨٨ ونادي بتقسيم أفريقيا، فإن دول أوروبا رأت أنها ستقع في أفريقيا في مثل ما وقعت فيه في آسيا وأمريكا بشأن الاستعمار، واعتبرت بالخسائر التي تحملتها في القرن الثامن عشر، وخشيت أن يجرها تقسيم أفريقيا إلى حروب شعواء تفني مالها ورجالها، فقررت أن تمنح الحرية والحياد جزءًا كبيرًا من القارة الأفريقية لأجل أن لا تختلف الدول في أمره ويقع النزاع بينها بشأنه، بعد أن ألفت أوروبا أن هذه هي أحسن طريقة لضمان السلام بين ممالكها وأسهل وسيلة للاحتفاظ بمنافع الجميع.

وكانت نتيجة هذا الرأي أن جزءًا عظيمًا من أواسط أفريقيا منح الحرية والحياد وصار في مأمن من مطامع المستعمرين، وهذا الجزء العظيم الذي نشير إليه هو ولاية الكونجو الحرة التي تزيد في المساحة عن أملاك بريطانيا في جنوب أفريقيا، ومن الغريب أن الكونجو لم تمنح الحياد فقط بل سلمت لإحدى ممالك أوروبا الصغرى وهي بلجيكا، ولا يخفى على القارئ أن بلجيكا نفسها ممنوحة الحرية والحياد. ونحن نرى أن حياد الكونجو هو أكبر دليل على ميل أوروبا لتطبيق تلك القاعدة بعد أن رأت أوروبا منافعها، ونحن واثقون من أنه إذا حدث في جنوب أوروبا الشرقي (البلقان) ما يفزع أوروبا ويقلقها فلن يبهت الوزراء ويقف الساسة حائرين كما كانت حالهم في الماضي؛ لأنهم يستطيعون الآن أن يخرجوا ولايات البلقان كلها من دائرة النزاع والخصام الدولي إلى دائرة الحرية والحياد، وبذلك تحل المسألة الشرقية العويصة، بيد أن روسيا قد فازت بجزءٍ عظيم من بلاد فارس، وهي كغيرها عاقدة آمالها بوادي الدجلة والفرات. أما آسيا الصغرى فستكون سبب التخاصم والتنازع بين ألمانيا وإيطاليا وغيرهما من ممالك البلقان. ولكنا نرى أنه لا بد من حدوث أمر قبل أن تحل المسألة الشرقية وهو أن أوروبا سترى ضرورة منح بعض ممالك الشرق الأدنى الحرية والحياد. وأي مملكة أجدر بهذا الحق من مصر؟ أي مملكة أكثر استحقاقًا للتمتع بحق الحرية والحياد من وادي النيل؟ وغني عن البيان أن إنكلترا ستكون أول الدول المهتمة بمشروع منح الحرية والحياد، ولو لن يعميها خداع المستعمرين المتطرفين عن حوادث تاريخ أوروبا في الثلاثة قرون الماضية، فإنها تستفيد من حياد مصر فائدة كبرى. وجدير ببريطانيا أن تعلم أن أهم شيءٍ لأية إمبراطورية كبرى هو أن تتنازل عن المستعمرات السريعة الانثلام عن رضى وطيب خاطر قبل أن تجبر وتضطر.

إن مصر لو كانت حرة فإنها بلا ريب تقوم لبريطانيا بأعمال لا تقوم بها في أسرها؛ لأنها تخشى إن سعت في خير إنكلترا وهي في قبضة يدها أن تتهم بالمداهنة وترمي بالتمليق فتمتنع عن صنع الخير وربما يعوقها البغض الذي يحس به العبد نحو سيده، فلا يسعى في خير له أبدًا، ويكفينا أن نقول إن كل الساسة علموا منافع الحرية والحياد اللذين تمنحهما الممالك الكبرى للأمم الصغرى عن جود لا عن اضطرار. وهنا نشير إلى مسألة من الأهمية بمكان، وهي أن إنكلترا إذا منحت مصر الحرية والحياد وصادقتها وحالفتها فإنها تستطيع أن تنال أغراضها في الشرق الأدنى بأسهل مما تنال أغراضها فيه ألمانيا والنمسا وإيطاليا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤