الفصل الثالث

بين الماهوية والوجودية

الحرية هي ذلك «اللاوجود» الذي يفصل الإنسان دائمًا عن ماهيته.

سارتر
لا تُفهَم «الوجودية» existentialism إلا بنقيضها: «الماهوية» essentialism؛ فالمقولة الرئيسية التي تُنسَب لسارتر: «الوجود سابق على الماهية» لا تُفهَم حَق الفهم إلا بنقيضها: «الماهية سابقة على الوجود». لقد كانت الفلسفات الكبرى في التاريخ فلسفة ماهيات essences؛١ بمعنى أن للإنسان طبيعة سابقة على وجوده تطبعه بطابعها وتُقَولبه بقالبها، شأنه في ذلك شأن غيره من الكائنات، «الشجرة مثلًا ماهيتها تسبق ظهورها في عالم الوجود. لقد كانت يومًا ما بذرةً صغيرةً تنطوي على كل إمكانات الشجرة الكبيرة، وتوافَرت لها شروطٌ معينة يقتضيها الجو وطبيعة التربة … إلخ. فترعرعت الشجرةُ وحققت كل ما كانت تنطوي عليه تلك البذرةُ الصغيرةُ من قوًى كامنة. وكل ما سوف يحدث لتلك الشجرة من تطورات هو مما يمكن التنبؤ به وتحديده.»٢
إن فكرة التمثال في خيال المثَّال تسبق عملية نحت التمثال وتشكيله، وتصميم المبنى في مخطط المهندس يسبق بناءَه وتنفيذَه. «وإذ يخلق الله الإنسان فإن فكرة الإنسان تكون قابعةً في فكره كما تقبع السكين في عقل الصانع الذي يصنعها، بحيث يأتي خلقُها طبقًا لمواصفاتٍ خاصة وشكل معين …»٣
الإنسان الفرد إذن — وفقًا لهذا الخط من التفكير — ما هو إلا نسخة جزئية لمثالٍ كلي مسبق أو نموذج قبلي عام، هو الطبيعة الإنسانية التي تشمل كل أفراد البشر، هذه هي فكرة الماهية السابقة على الوجود، تلك الفكرة التي ظلت مسيطرة على الفكر الإنساني منذ نشأته اليونانية، وبقيت مسيطرةً على أذهان الكثيرين، «فنجدها» عند «ديدرو» وعند «فولتير» وحتى عند «كانت»؛ فالإنسان له طبيعةٌ بشرية، وهذه الطبيعة البشرية هي ما يُصاغ عليها الإنسان، وهي ما يتسم به كل إنسان، أو يشترك في صفاتها مع غيره من البشر. وبذلك تكون الإنسانية كلها أو أفرادها قد خُلِقوا طبقًا لفكرةٍ عامةٍ أو مفهوم عام أو نموذج عام يجب أن يكون عليه البشر. ويغالي «كانت» في وصف هذه الطبيعة العامة للبشرية، بحيث يساوي بين رجل الغابة والإنسان الطبيعي والبورجوازي، ويجعلهم الثلاثة يشتركون في صفاتٍ عامة. وهكذا نجد فكرة الإنسان في التاريخ أسبق على حقيقته؛ بمعنى أننا نجد أنه لا يوجد بشر معينون وكل منهم يختلف عن الآخر، ولكن توجد فكرة عامة وإطار عام يجمع البشر جميعًا ويساوي بينهم، ثم هناك بعد ذلك الآحاد المتميزة من البشر؛ أي إن الماهية تسبق على الوجود مرةً أخرى.٤
ويأتي سارتر ليعكس الآيةَ ويقول: بل الوجود هو الأصل وهو السابق؛ فالإنسان يوجد أوَّلًا ثم يتحدد بعد ذلك. وليس ثمة طبيعة إنسانية موجودة سلفًا أو ماهية مسبقة تَفْرِض نفسَها على الإنسان وتَصُبُّه في قالبها ضربةَ لازب، بل الإنسان هو الذي يخلق ماهيتَه؛ فالإنسان في أول وثْبته نحو الوجود ليس شيئًا. لقد قُذِفَ به إلى عالم غير مكترثٍ فهو في وضع مستيئس وعليه أن يختار ويفعل دون أية مرجعية. إنه يوجد أوَّلًا غيرَ محدَّدٍ بصفةٍ، ثم يغمد نفسَه في المستقبل ويبرأ ماهيتَه بنفسه عن طريق اختياراته ومقاصده وأفعاله التي يؤديها عن حريةٍ هي نظيرُ المخاطرة؛ لأنه يؤديها دون أية قاعدة مسبقة ودون أية ضمانات. إنه ينحت هويتَه كل لحظة ويصنع تعريفَهُ ويخترع طريقتَه في الوجود. إنه مشروعٌ دائمٌ يظل يتحقق ولا يكتمل إلا بالموت.٥
في كتابه: «الوجودية مذهب إنساني» يقول سارتر: «… يوجد على الأقل مخلوق واحد قد تواجد قبل أن تتحدد معالمُه وتبِين. وهذا المخلوق هو الإنسان … وحين نقول: إن الوجود سابق على الماهية فإننا نعني أن الإنسان يوجد أوَّلًا، ثم يتعرف إلى نفسه، ويحتك بالعالم الخارجي، فتكون له صفاته، ويختار لنفسه أشياء هي التي تحدده، فإذا لم يكن للإنسان في بداية حياته صفات محددة؛ فذلك لأنه قد بدأ من الصفر، بدأ ولم يكن شيئًا. وهو لن يكون شيئًا إلا بعد ذلك، ولن يكون سوى ما قدَّرَه لنفسه … إن الإنسان يوجد ثم يريد أن يكون، ويكون ما يريد أن يكونه بعد القفزة التي يقفزها إلى الوجود.»٦
«الإنسان ليس سوى ما يصنعه هو بنفسه. هذا هو المبدأ الأوَّل من مبادئ الوجودية، وهذا هو ما يسميه الناس «النزعة الذاتية» للوجودية مستخدمين هذه الكلمة ليوجهوا بها النقد إلينا. لكننا لا نعني بها سوى أن للإنسان كرامة أكبر مما للحجارة أو المنضدة؛ لأننا نعني أن نقول: إن الإنسان يوجد أساسًا ثم يكون، وهو يكون شيئًا يمتد بذاته نحو المستقبل، وهو يعي أنه يمتد بها إلى المستقبل؛ فالإنسان مشروع، مشروع يمتلك حياةً ذاتيةً، بدلًا من أن يكون شيئًا كالطحلب.»٧
الإنسان إذن كائنٌ «محكوم عليه بالحرية»، يمارسها عن طريق اختيارات يقوم بها في كل لحظة؛ فالاختيار حتم، حتى عدم الاختيار هو نوعٌ من الاختيار أو هو اختيارٌ مقَنَّع. وما دام الإنسان حُرًّا مُختارًا فهو مسئول عن وجوده وعما يكون عليه. المسئولية هي توءم الحرية. وهذه المسئولية ليست وَقْفًا عليه بوصفه فردًا بل تمتد لتشمل الناسَ جميعًا؛ فالإنسان يختار للآخرين فيما يختار لنفسه، ويفعل للآخرين فيما يفعل؛ لأنه باختياره وفعله هذين يرسم الإنسانَ كما يرى أن يكون، ويدس «القيم» في قلب العالم، وبتشكيله لصورته يشكل في الوقت نفسه صورةَ الإنسان بعامة. وحين يختار قيمةً أو فعلًا ما فإن ما يأتيه يمس الآخرين بالضرورة وينعكس عليهم، المسئولية إذن باهظة ثقيلة؛ لأنها تمس الناس جميعًا؛ ومن ثَمَّ ترتبط الحرية والفعل الحر دائمًا بالكرب والقلق. «القلق دُوارُ الحرية»، وهو مما ينزغ للإنسان أن يضع عن كاهله عبء الحرية والمسئولية، وأن يَخفِض نفسَه من مرتبة «الموجود لذاته» le pour soi؛ الوجود الإنساني الحر الواعي بذاته، إلى مرتبة «الموجود في ذاته»  l’en soi وجود العجماوات والجمادات الغارقة في سُبات الضرورة وسكينتها.
هذا النزغ هو الذي يسميه سارتر mauvais-foi، وهو لونٌ من خداع النفس يُزَيِّن للإنسان العبوديةَ والاستسلام باعتباره مُسَيَّرًا غيرَ مُخيَّر، وضحية قوًى بيولوجية وتاريخية واجتماعية حتمية قاهرة ليس له فيها يد، وكأنه مجرد «شيء» من الأشياء أو «موضوع» object من الموضوعات. ويمعن سارتر في توكيد الحرية إلى أقصى مدًى، فيقول: إن الإنسان إذ يتمتع بالوعي الذاتي، فإن بإمكانه أن يَعي حتى أسباب فعله ومُحدِّدات سلوكه، وهو من خلال هذا الوعي الانعكاسي يقف على دوافعه ويراها؛ ومن ثَمَّ يمتلك زمامها ويصبح حُرًّا إزاءها وفي حِلٍّ من اتباعها. إن الكائن الإنساني محكوم عليه أن يوجد خارج ماهيته وخارج دوافعه وأسبابه.٨
قد يعترض البعض على هذا التوجه الوجودي بقوله: إن وجود الإنسان هو أيضًا يتوقَّف على عوامل كثيرة، لعل أهمها وراثته وبيئته والتربية التي تلقاها … إلخ. فليس الوجود الإنساني بخارج على النظام الكوني الشامل، بل نحن خاضعون لتلك الآلية الطبيعية التي تجعل اختيارنا متوقفًا تمامًا على طبيعة الشيء المختار نفسه. وهنا يرد أنصار الوجودية فيقولون: إنهم لا ينكرون بحال توقف الإنسان على العالم، خصوصًا وأنهم يشعرون تمام الشعور (مع فيلسوف مثل هسرل Husserl مثلًا) بأن «الوجود في العالم» حقيقة جوهرية هامة بالنسبة إلى الشعور الإنساني؛ فالوجوديون مُجْمِعون على أن الوجود الإنساني ليس وجودًا عامًّا مُطلَقًا، بل هو وجود زماني تاريخي، وجود له ظروفه ومواقفه، وجود متجه نحو العالم الخارجي، مؤتلف من مجموعة روابط أو علاقات مع هذا العالم بما فيه من ذوات وأشياء. ولكن هذا لا يمنعنا من أن نقرر أن لدى الإنسان من الحرية ما يفصله عن باقي الموجودات؛ لأن كل ما عداه هو بالنسبة إليه مجرد «معطيات محضة» يستطيع أن يخلع عليها بحريته المعنى الذي يختاره.»٩ صحيحٌ أنني لم أستشر في اختيار والديَّ أو مسقط رأسي أو تكويني البيولوجي، فكل هذه أوضاع مفروضة عليَّ ولا سبيل إلى إلغائها؛ غير أن لديَّ مطلق الحرية في اتخاذ الموقف الذي أراه منها، فأكون مثلًا فخورًا بها أو مستخذيًا، متقبِّلًا أو متمرِّدًا. فإذا كنت غير مُخيَّر في هذه الأوضاع، فإنني جد مخير في استجابتي لها وموقفي منها.

لا فكاك من الحرية. لقد قُذِفَ بالإنسان في هذا العالم ورُمِيَ بحريته!

قد يتفنن الإنسان للتخلص من هذه الحرية العبء: فيوهم نفسه بأنه أسير الضرورة، ويعمد إلى أن يعيش حياة الأشياء «القابعة في ذاتها»، ويتهيأ للخضوع لكافة ألوان السلطة، ويروغ من مواقف الاختيار أو يَكِل إلى غيره أن يتخذ القرارات نيابةً عنه؛ ذلك بأن الحرية توءمها القلق. القلق يلازم الحرية كظلها؛ فالقلق شعور عام مبعثه ضرورة الاختيار نفسها: «ذلك لأن على الإنسان أن يختار دون أن يكون لديه أي مبدأ للاختيار، بل دون أن يكون لديه أي معيار يستطيع بمقتضاه أن يتحقق مما إذا كان قد أحسن أو أساء الاختيار. فليس القلق هنا عبارة عن خوف من خطر معين، وإنما هو تعبير عن ذلك الشعور الحاد الذي يغمر الإنسان حينما يتحقق من أنه قد قُذِفَ به إلى هذا العالم بدون إرادته، وأنه قد حُكِمَ عليه بأنه يختار دون أن يكون في وسعه أن يتنبأ بنتائج أفعاله، بل دون أن يستطيع تبريرها؛ فالقلق شعورٌ أليم، وإن كان في الوقت نفسه لا يخلو من نُبل، وهو الأصل في شعورنا بما لدينا من حرية شاملة ومسئولية مطلقة أمام ذواتنا وأمام الآخرين؛ فنحن نصنع مثال الإنسان حينما نصنع ذواتنا؛ لأننا بفعلنا نخلق المُثُل ونبدع القيمَ لا لأنفسنا فقط بل للجميع أيضًا … يقول سارتر: إن الإنسانية تحدق بعينيها إلى كل ما يعمله الإنسان لكي تتخذ منه نظامًا تسير بمقتضاه وتعمل على هَدْيِه، فعلى كل إنسان أن يسائل نفسه: هل أنا بحق ذلك الموجود الذي يجدر بالإنسانية أن تعمل على هَدي أفعاله؟»١٠
يُطبِق الشعورُ بالحرية على الإنسان، ويغمره بالقلق ويبهظه بالمسئولية، فيحاول أن يجد منفَذًا من هذا الحَرَج بأن يتصور نفسَه من الخارج وكأنه بإزاء شيء من الأشياء، أو بتعبير آخر: يحاول أن «يموضع» نفسَه. هكذا نحاول أن نتخلص من عبء الحرية فندرس أنفسَنا على أننا رهائن في يد الوراثة أو النشأة أو الماضي الذي فُرِضَ علينا فرضًا. وكأننا نحسد الأشياء الجامدة القارة في ذاتها على سكينتها وطمأنينتها السلبية، فنحاول أن نبرهن على أننا مجبرون مسيَّرون تحت نير ماهيتنا المسبقة المقدَّرة علينا. «وهذا هو الأصل في تلك المذاهب الفلسفية التي تحاول أن تُدرِج الوجود الإنساني في نطاق الوجود العام (وجود الأشياء) كأن الإنسان مجرد موضوع لا يُفهَم وجودُه إلا على ضوء ماهيته. وإذا كان لدى الإنسان حنين مستمر إلى الوجود الموضوعي — وجود الأشياء — فذلك لأنه يرى أن تلك الأشياء كائنةٌ بالفعل، بينما هو لا يملك سوى حياة متقلبة تتأرجح باستمرار بين الوجود والعدم؛ فالأشياء هي ما هي في حين أن الإنسان لا يمكن قَط أن يكون ما هو؛ لأنه لا يكف مطلقًا عن أن يختار لنفسه ما يريد أن يكون.»١١ وهكذا يستحيل على مشروع الإنسان أن يكتمل إلا بموته!

من هنا نفهم قول سارتر بأن الكائن الإنساني ثغرةً في الوجود أو تصدُّع في حائط الوجود العام؛ لأنه هو الذي يسبب انعدام التجانس في نسيج الكون. إنه الدودة في التفاحة! إنه الموجود الذي بفعله ينفذ العدمُ إلى الوجود! إنه المخلوق الذي يُفرز من حوله عدمًا يعزله عن باقي الوجود العام. وهو ليس حرًّا إلا لأن وجوده وجود ناقص يتخلله العدم من كل جانب، فليست الحرية سوى ذلك «العدم» الذي يفصل الإنسان دائمًا عن ماهيته.

هذا ما يدفعنا إلى محاولة الهروب من حريتنا، والعمل وفقًا لماهيتنا، وكأن لدينا — كبقية الأشياء — ماهية سابقة على وجودنا. «وهكذا نحسد تلك اللامسئولية التي تتمتع بها الأشياء، فننزع إلى ذلك الوجود الثابت الأزلي، وجود الأشياء الغارقة في سكون الطمأنينة واليقين، ونعمل على توكيد دعائم تلك الحالة السلبية بإطاعة قوانين صارمة (محددة تحديدًا سابقًا) أو بالاستناد إلى أحكام أناس آخرين نتخذ منهم قادةً ومعلمين، أو بابتداع التزامات موهومة نحو الطبيعة أو الله (كذا) نحاول أن نعمل بمقتضاها … إلخ. وهذه كلها في نظر سارتر ليست سوى أساليب متنوعة لخداع النفس؛ فهي في صميمها مجرد محاولة يُقصَد بها القضاء على الحرية.»١٢
انتهج مارتن هيدجر المنهج الفينومينولوجي فأسس فلسفةً في الوجود الكلي أو الأنطولوجيا تقوم على تحليل الوجود المتعين المفرد (الدازاين) Dasein بوصفه مدخلًا لمبحث الكينونة ذاتها مختلطًا بها ومشتركًا معها في الحدود. وأول ما يتصف به هذا الوجود المتعين المفرد هو «الوجود في العالم». هذا هو القِوام الوجودي الأساسي للكائن البشري. يجب أن نفهم «الوجود في العالم» كظاهرةٍ واحدةٍ غير مجزأة؛ فالوجود الإنساني ليس راقدًا في العالم رقودَ حصاةٍ على الشاطئ، ولا هو سابحٌ فيها سبحَ سمكةٍ في البحر. بل هو مُعطًى في سياق العالم … مخلوط بالعالم، بحيث يجد في متناوله الأشياء التي يستطيع أن يتناولها ويتخذها أدواتٍ، ويجد نفسه في ذات الوقت محدَّدًا بالأشياء التي يجب أن يعاني منها. يترتب على هذا القوام الأساسي للكائن الإنساني نتائج بعيدة الأثر، أهمها انتفاء الثنائية التقليدية بين الذات والموضوع، تلك الثنائية التي استهلَّها أفلاطون وعمَّقها ديكارت وكرَّسها تكريسًا نهائيًّا فبقيت صدعًا في الفكر الغربي وعائقًا عطَّل علم النفس قرونًا عدة. الوجود الإنساني إذن ممزوج بعالمٍ «مضروب» به، بحيث إن هناك عنصرًا من العالم داخلًا في صميم وجودنا.
ويتصف الوجود الإنساني أيضًا بأنه انبثاقٌ وصيرورةٌ؛ فالإمكان هو جوهر الوجود الإنساني. فما الإنسانُ على الحقيقة إلا ممكناتُه. الإنسان مشروع نفسه على الدوام؛ ومن ثَمَّ فالمستقبل هو اللحظة الجوهرية في وجوده. أن يعيش المرءُ تعني أن يتولى امتلاك مشروع وجوده الخاص، أن يكون مشدودًا بهدفٍ مستقبلي هو الذي يُملي عليه ما يفعله هنا والآن، أن يعي ذاته لا بما كانه أو بما هو عليه، بل بما يمكن أن يكونه … أن ينطلق في اتجاه نفسه الحقيقية … أن يعلو على ذاته … أن يتخطاها إلى أقصى ما تسمح له ممكناتُ وجوده. هذا البعد الوجودي هو ما يسميه هيدجر «العلو» أو «التجاوز» transcendence.
يقول سارتر: «إن الإنسان خارج نفسه دائمًا، وهو بامتداده خارج ذاته وإضاعة نفسه خارج ذاته يوجد! بوسع الإنسان أن يوجد بأن يسعى وراء أهدافٍ متعاليةٍ؛ فالإنسان كائن متعالٍ بطبعه، يتجاوز ذاته ويعامل الأشياء معاملةً مرجعها هذا العلو (التجاوز). إنه إذن في صميم العلو … وهو كإنسانٍ لن يحقق وجوده الإنساني باتجاهه نحو ذاته، بل بتجاوزه لذاته وسعيه نحو غايات خارج ذاته. بهذه الطريقة وحدها يحرر ذاته ويحقق وجوده كإنسان.»١٣

•••

صفوة القول: إن الماهوية تذهب إلى أن الكائنات تولد على خواص ثابتة محددة دائمة هي التي تشكل ماهيتَها أو تعريفها، بينما تزعم الوجودية أن الناس تولد بغير تعريف محدد، وأن على الفرد أن يُضفي المعنى على حياةٍ خِلوٍ في صميمها من المعنى، وأن يُبدِع ماهيتَه من خلال الفعل الحر والالتزام المسئول.

تذهب الماهوية إلى أن الحياة لها معنًى صميم وغاية مسبقة وعلى الفرد أن «يعثر» على هذا المعنى وتلك الغاية، بينما تنكر الوجودية ذلك وتضع على عاتق الفرد أن «يبتكر» معنى حياته وغايتها، ويخلق ماهيتَه بنفسه، تهيب الماهوية بالتفكر والاستبطان لاكتشاف الماهية القائمة من الأصل، بينما تهيب الوجودية بالفعل الذي يُسبغ الغايةَ على حياة لا معنى لها بحد ذاتها ولا غاية.

وبتعبير آخر: تذهب الماهوية إلى أن الماهية قائمةٌ وتُكتشَف، بينما تؤكد الوجودية أن الماهية غائبةٌ وتُبتكَر.

١  الماهية هي ما يُقال في جواب «ما هو؟» وتُطلَق على الأمر المتعقَّل من الكائن أو الشيء مع قطع النظر عن وجوده الخارجي أو ثبوته في الخارج؛ فالأمر المتعقَّل الذي به يكون الإنسانُ إنسانًا وبدونه يكون شيئًا آخر هو أنه «حيوانٌ ناطقٌ» (عن تعريفات الجرجاني). وقد نقل سارتر لفظ الماهية من معناه المتعارف إلى معنى الشخصية أو الهوية؛ فكل فرد من الأفراد يكوِّن شخصيته التي هي ماهيته، وبهذا المعنى يكون الوجود سابقًا على الماهية. أمَّا المتعارف عليه فهو أن «الوجود لا يدخل قط في ماهية الأشياء، بل هو مضاف إلى الماهية» (الغزالي، التهافت).
٢  د. زكريا إبراهيم: مشكلة الحرية، مكتبة مصر بالفجالة، القاهرة، ط٢، ١٩٦٣م، ص٢٠٠.
٣  جان بول سارتر: الوجودية مذهب إنساني، ترجمة عبد المنعم الحفني، مطبعة الدار المصرية للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، ١٩٦٤م، ص١٢.
٤  الوجودية مذهب إنساني، ص١٣.
٥  رولوماي وإرفين يالون: مدخل إلى العلاج النفسي الوجودي، ترجمة د. عادل مصطفى، مراجعة د. غسان يعقوب، دار النهضة العربية، بيروت، ١٩٩٩م، ص٢١.
٦  الوجودية مذهب إنساني، ص١٤.
٧  المصدر نفسه، ص١٤-١٥.
٨  مدخل إلى العلاج النفسي الوجودي، ص٢٢.
٩  مشكلة الحرية، ص٢٠١.
١٠  مشكلة الحرية، ص٢٠٩-٢١٠.
١١  المصدر نفسه، ص٢١٢.
١٢  المصدر نفسه، ص٢١٣-٢١٤.
١٣  الوجودية مذهب إنساني، ص٦٥-٦٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤