الجزء الثاني

هنا دَوْر الحياةِ الثاني، هنا الدَّور الذي تنتهي عنده الطفولة enfance؛ وذلك لأنَّ الكلمتَين infans وpuer ليستا مترادفتَين؛ فالأُولى مُدمَّجةٌ في الثانية، وهي تَعني «الذي لا يستطيع الكلام»، ومِنْ ثَمَّ يأتي وجودُ puerum infantem في فالِير مَكْسِيم، ولكنني أُداومُ على استعمالِ هذه الكلمةِ وَفْقَ اصطلاحِ لغتنا، وذلك حتى العُمُر الذي يوجَد له أسماءٌ أخرى.

ومتى أخذ الأطفالُ يتكلَّمون قلَّ بكاؤهم. وهذا التقدُّمُ طبيعي، وتقوم لغةٌ مقامَ لغة، وإذا ما استطاعوا أن يقولوا بالكلامِ إنهم يألمون فلِمَ يقولون الكلامَ مع صُراخٍ إذا لم يكن الألمُ من الشِّدة ما لا يَقْدِر الكلامُ معه أن يُعبِّر عنه؟ وإذا ما استمروا على البكاءِ هنالك كان هذا ذَنبَ مَن يحيطون بهم، وإذا قال إميلُ مرةً «أتوجَّع»، وجب وجودُ آلامٍ شديدةٍ تَحْمله على البكاء.

وإذا كان الولدُ سريعَ الانفعالِ سريعَ التأثُّر، وإذا ما أخذَ يصرُخ عن طبيعةٍ وبلا سبب، جَعَلتُ هذه الصَّرخاتِ غيرَ مجديةٍ غيرَ ذاتِ فِعْلٍ مُستَنْزِفًا الينبوعَ من فَوْري، ولا أذهبُ إليه ما دام يبكي، وأُهْرَع إليه حالًا عندما يَسْكت. ولا تَلْبثُ طريقةُ دعوته إياي أن تقومَ على الصمتِ أو إلقاءِ صرخةٍ واحدةٍ على الأكثر. ويُدرِك الأولادُ معنى الإشارات بنتائجها الحسية، ولا يوجد لدى الأولاد معنًى آخَر، ومن النادر أن يبكي الولدُ إذا كان وحدَه مهما بلغَ من إيلامِ نفسه، وذلك ما لم يَأمُل سماعَه.

وهو إذا ما سَقط، وهو إذا ما ورَّم رأسَه، وهو إذا ما أدمى أنفَه، وهو إذا ما قَطَّع أصابعَه؛ بقيتُ ساكنًا ولو لدقيقةٍ واحدة على الأقلِّ بدلًا من أن أسرع إليه مذعورًا، فأما وقد وقع الأذى فإن الضرورةَ تقضي بأن يُعانِيه، ولن يَنفع هَرَعي لغيرِ زيادةِ ذُعْره وانفعاله. وفي الأساسِ أن الفَزَع يؤلم أكثرَ من الضربِ عند الجَرْح، وأُوفِّر له هذا العذابَ المُبرِّحَ على الأقل. ومما لا ريبَ فيه أنه يَحْكم في ضرره كما يَرى من حُكمي فيه، وذلك أنه إذا رآني أُهرَعُ إليه جَزُوعًا فأُسْليه وأتَوجَّع له؛ أيقنَ ضياعَ نفسه، وأنه إذا رآني محافظًا على اعتدالِ دمي استردَّ اعتدالَ دمِه من فوره، واعتقد شفاءه من الضَّررِ عندما يُصبح غيرَ شاعرٍ به. وفي هذا الدَّور يتلقَّى دروسَ الشجاعةِ الأُولى؛ فهو إذا ما احتملَ الآلامَ الخفيفةَ بلا وَجَلٍ تعلَّمَ احتمالَ عظيمِها بالتدريج.

ولا أُزْعجُ نفسي بأن أمنعَ إميلَ من إيذاءِ نفْسه، ومما يغيظني كثيرًا ألَّا يؤذيَ نفْسه مطلقًا، وأن يَكبُرَ من غيرِ أن يَعْرِف الألم. والألمُ أوَّلُ شيءٍ يجب أن يتعلَّمه، وهو أعظمُ ما يحتاج إلى معرفته. ويَظْهر أن الأولادَ ليسوا صِغارًا ضِعافًا إلا لتلقيهم هذه الدروسَ المهمَّة بلا خطر. ولا يَكسِرُ الولدُ ساقَه بسقوطه، ولا يَكسِر ذراعَه بأن يَضربَها بالعصا، وإذا ما قَبض الولدُ على سكِّين لم يَكبِس عليها ولم يُمعِن في جَرْح نفسه، ولا أعرِفُ أنه رُئي ولدٌ تُرِك وشأنَه فقتلَ نفْسه أو عطَّلها أو أصابها بأذًى كبير، ما لم يكن قد عُرِّض للخطرِ عن عدمِ فِطنةٍ في أماكنَ مرتفعةٍ أو حوْل النارِ وحدَه، أو جُعِلت أسلحةٌ خطِرةٌ في مُتناوَل يده. وما يُقال عن تلك الأجهزةِ التي تُجْمعُ حوْلَ الولدِ لتسليحه بجميعِ الأدواتِ ضدَّ الألم، حتى إذا ما كَبُرَ ظلَّ تحت رحمتِه بلا شجاعةٍ ولا تجرِبة، وظنَّ أنه هالكٌ عند أوَّلِ وخْزةٍ، وأُغمِيَ عليه عند أوَّلِ قَطْرةٍ يشاهدها من دمه؟

ويؤدي هوسُنا القائمُ على التلقينِ والحذلقةِ إلى تعليمِ الأولادِ دائمًا ما يُمكن أن يتعلَّموه بأنفسهم أحسنَ من ذاك، وإلى إغفالِ ما نستطيع أن نُعلِّمهم إياه وحدَنا. وهل يُوجَد ما هو أسخفُ من جُهدٍ يُبذَل في تعليمهم المشيَ كأنه رُئي ولدٌ لم يَقدِر على المشي عند كِبَرِه عن إهمالِ مُرْضِعه؟ وعلى العكسِ ما أكثرَ الذين رُئي أنهم سَيِّئو المشي مدى حياتهم لسوءِ ما عُلِّموا من مشْيٍ!

ولن يكونَ لإميلَ قُلَنْسِيةٌ واقيةٌ ولا درَّاجةٌ ولا عَربةٌ ولا بَرِيمُ إسناد، أو إنه إذا أَخذ يَعرِف وضْعَ قَدمٍ أمام الأخرى، على الأقل، لم يُمْسَك في غيرِ الأماكنِ المرصوفة، وحُمِلَ على مجاوزتِها بسرعة،١ ولْيُؤتَ به في كلِّ يومٍ إلى مَرْجٍ بدلًا من أن يُحفَظ آسِنًا في غرفةٍ خانقة. والخيرُ في عَدْوه ولَعِبه وسقوطه كلَّ يومٍ مائةَ مرةٍ هنالك؛ فهو لا يلبثُ أن يتعلَّم النهوضَ من ذلك، وتُصْلِح نُعْمَى الحريةِ كثيرًا من القروح. وسيُصاب تلميذي برضوضٍ في الغالب، وسيبقى مسرورًا مقابَلةً، وإذا كان تلاميذُكم أقلَّ رَضًّا بَدَوْا خائبين مقيَّدين حُزَناء دائمًا، وأشُكُّ في كونِ الغُنْم بجانبهم.

وتَقدُّمٌ آخَرُ يجعلُ العويلَ للأولاد أقلَّ ضرورة، وذاك هو تَقدُّمُ قوَّتهم؛ فالأولادُ كلَّما زادُوا قوةً نَقصَ التجاؤهم إلى الآخرين. ومع القوةِ ينمو إدراكُ الولدِ الذي يَضعُهم في حالٍ يوجِّهونها به. وبهذا الدَّورِ الثاني تبدأ حياةُ الفردِ ضَبطًا، وهنالك يَشعُر بنفسه، وتُنَبِّه الذاكرةُ شعورَ الذاتِ في جميعِ أوقاتِ حياته، وهو يصبح واحدًا حقًّا، وهو يصبح عينَه؛ أي أهلًا للسعادةِ أو الشقاءِ نتيجةً؛ ولذا يَحْسُن أن يُبدأَ بِعَدِّه موجودًا أدبيًّا.

ومع أنه يُعيَّن تقريبًا أطولُ حدٍّ للحياةِ البشرية وما يكون من الاحتمالات للدنوِّ من هذا الحد في كلِّ جيل؛ فإنه لا شيءَ يُشكُّ فيه أكثرُ من مدى حياةِ كلِّ إنسانٍ على انفراد، والذين يبلُغون ذلك الحدَّ الأطولَ قليلٌ. وأعظمُ أخطارِ الحياةِ في بدئها، وكلَّما قلَّ ما وقعَ من حياةٍ وجبَ أن يكون الأملُ قليلًا فيما بقيَ منها. ولا يَكاد يصلُ نصفُ الأولادِ الذين يُولدون إلى سنِّ المراهقة، ومن المحتمل ألَّا يبلُغ تلميذُكم سِنَّ الرَّجل.

وما يجبُ أن يُفكَّر فيه إذن حولَ تلك التَّربيةِ القاسية التي تُضحِّي بالحاضرِ في سبيلِ مستقبلٍ غيرِ مُعيَّن، والتي تُثقِلُ الولدَ بقيودٍ من كلِّ نوع، وتبدأ بجعلِه شقيًّا حتى يُعدَّ في المستقبلِ البعيدِ لسعادةٍ مزعومةٍ يُوجَد ما يَحمِل على الاعتقادِ بأنه لن يتمتَّعَ بها أبدًا؟ وإني حتى عند افتراضي كونَ هذه التَّربيةِ صائبة كيف لا أنظرُ بعينِ الغيظ إلى هؤلاء التُّعساءِ المساكين الخاضعين لنِيرٍ لا يُطاق، والمَدِينين بالأشغالِ الدائمة، كالمحكومِ عليهم بالليمان، مع أنه ليس من الثابتِ كونُ هذه العنايةِ الكبيرةِ نافعةً على الإطلاق؟ وتمضي سِنُّ المَسرَّة بين الدموعِ والعقوبات والتهديدات والعبودية، ويُعذَّب التَّعِس نفعًا له، ولا يُبصَرُ الموتُ الذي يُدعى، ومَن ذا الذي يُمسِكه بين هذا الجهازِ الكئيب، ومَن يَعرِف عددَ الأولادِ الذين يَهْلِكون ضحيةً لحكمةِ الأب أو المُعلِّم الطائشة؟ والأولادُ إذ يكونون من السُّعداءِ بإفلاتهم من جَوْرها، يكون نفعُهم الوحيدُ من الشُّرور التي تُصيبهم بها هو أن يموتوا من غيرِ أن يأسَفوا على حياةٍ لم يَعرِفوا منها سوى الآلام.

ويا أيها الرجالُ كونوا إنسانيين، وهذا هو واجبُكم الأوَّل، كونوا إنسانيين في جميعِ الأحوال وفي جميعِ الأعمار وفي كلِّ ما ليس غريبًا عن الإنسان. وأيةُ حكمةٍ تكون لديكم خارجَ الإنسانية؟ أحِبُّوا الطُّفولة، واسْمَحوا بألعابِها، وابتَهِجوا بمَسرَّاتها، وافرَحُوا بغريزتِها المحبوبة. ومَن منكم لم يأسَف أحيانًا على ذلك العُمُر حيث يكون الضَّحكُ على الشِّفاه وتكون النفسُ مطمئنة؟ ولِمَ تريدون أن تَنزِعوا من هؤلاء الأبرياءِ الصِّغارِ بهجةَ زمنٍ بالغِ القِصَر يُفلِتُ منهم، وخيرًا بالغَ القيمةِ لا يمكنهم إساءةُ استعماله؟ ولِمَ تريدون أن تملئوا بالكَرْبِ والآلامِ تلك السِّنين الأُولى البالغةَ السرعةِ والتي لا يُمكِن أن تعودَ إليهم كما أنها لن ترجعَ إليكم؟ أَوَتَعرفون الساعةَ التي يَنتظرُ الموتُ فيها أولادَكم أيُّها الآباء؟ لا تُعِدُّوا لأنفسِكم حسراتٍ بنزْعِكم منهم ما أنعمت الطبيعةُ عليهم به من أُويقات، واصنعوا ما يتمتَّعون معه بلذَّةِ الحياةِ عندما يُمكِنهم أن يَشعُروا بها، وافعلوا ما لا يموتون معه بلا تذوُّقٍ للحياة عندما يدعوهم الربُّ إليه.

وما أكثرَ ما سيرتفع ضِدِّي من أصوات! أسْمعُ من بعيدٍ صيحاتِ تلك الحكمةِ الكاذبةِ التي تُلقينا خارجَ أنفسنا دائمًا، والتي لا تَعُدُّ الحاضرَ شيئًا مذكورًا دائمًا، والتي تَتْبعُ بلا تَوانٍ مستقبلًا كلَّما سِير إلى الأمام، وذلك نقلًا لنا من مكاننا إلى حيث لا نكون أبدًا.

وسيكون جوابُكم أن هذا دَورُ إصلاحِ غرائزِ الإنسانِ السَّيئة، وأن الآلامَ في الطفولة تكون أقلَّ ما يمكن حِسًّا، فيجب أن تُزادَ اقتصادًا بها في سِن الرُّشد. ولكن مَن قال لكم إنَّ جميعَ هذا النظامِ تحت تصرُّفكم، وإنَّ ضَرَّ جميعِ هذه التعليماتِ التي تُثقِلون بها رُوحَ الولدِ الضعيفةَ لا يكون أكثرَ من نفْعها ذاتَ يوم؟ ومَن يُوَكِّدُ لكم أنكم تقتصدون شيئًا بأحزانٍ تغمرونه بها، ولِمَ تمنُّون عليه بشرُورٍ أكثرَ مما تَحتمِل حالُه من غيرِ أن تَعْلَموا أنَّ هذه الشرورَ الحاضرةَ لا تقيه شرورَ المستقبل؟ وكيف تُثْبِتون لي أنَّ هذه الميولَ السيئةَ التي تزعمون شفاءه منها لا تأتيه من عنايتِكم السخيفةِ أكثرَ من صدورِها عن الطبيعة؟ ويا له من احترازٍ مشئومٍ ذلك الذي يَجعل الإنسانَ تَعِسًا في الحاضرِ رجاءَ جَعْلهِ سعيدًا ذاتَ يومٍ، سواءٌ أقامَ هذا الرَّجاءُ على أساسٍ صالحٍ أم على أساسٍ طالح! إذا كان هؤلاء المفكِّرون المخطئون يَخلِطون بين التَّحلُّلِ والحرية، وبين الولدِ الذي يُجعَل سعيدًا والولدِ الذي يُدلَّل؛ فلْنُعلِّمهم أن يُفرِّقوا بين الأمرَين.

ولا نَنسَ ما يلائمُ حالَنا لكيلا نسيرَ وراء الأوهام. وللإنسانية مكانُها في نظامِ الأمور، وللطفولةِ مكانُها في نظامِ الحياة الإنسانية، فيجب أن يُنظَر إلى الإنسانِ في الإنسان، وأن يُنظَر إلى الطفلِ في الطفل؛ فوضعُ كلِّ واحدٍ في محلِّه وتثبيتُه فيه، وتنظيمُ الأهواءِ البشريةِ وَفْقَ كِيانِ الإنسان، هو كلُّ ما نستطيع فِعْلَه لِسعادته، وأمَّا البقيَّةُ فتتوقَّف على أسبابٍ خارجةٍ عن نطاقِ قُدْرتنا.

ولا نَعرِف ما السعادةُ المطلقةُ ولا الشقاءُ المطلق، وكلُّ شيءٍ مختلطٌ في هذه الحياة، ولا يُذاق فيها حِسٌّ خالص، ولا يُبْقى فيها على حالٍ واحدة في وقتَين. وتَرى عواطفَ نفوسِنا وتحولاتِ أبداننا دائمةَ التقلُّب، ويكون الخيرُ والشرُّ مشتركَين بيننا، ولكن على مقاديرَ مختلفة، وأسعدُ النَّاسِ مَن يكون أقلَّ توجُّعًا بالآلام، وأشقى النَّاسِ مَن يكون أقلَّ شعورًا بالملاذِّ. ويقوم النَّصيبُ المشتركُ بين الجميعِ على وجودِ آلامٍ أكثرَ من الملاذِّ دائمًا، ولا تكون سعادةُ الإنسانِ في هذه الدنيا إذن غيرَ حالٍ سلبية، فيجب أن تُقاس بالمقدارِ الأقلِّ للشرورِ التي يقاسيها.

وكلُّ شعورٍ بالألمِ لا يمكن فَصْلُه عن الرغبةِ في الخلاصِ منه. وكلُّ رغبةٍ تفترضُ حرمانًا، وكلُّ حرمانٍ يُشعَر به أليم؛ ولذا يقوم بؤسُنا على تفاوتِ رَغَبَاتِنا وطاقاتِنا. ويُعَدُّ كلُّ ذي إحساسٍ تتساوى رغباتُه وطاقاتُه سعيدًا على الإطلاق.

وعلى أيِّ شيء تقوم إذن حِكمةُ الإنسانِ وسبيلُ السعادةِ الحقيقية؟ لا تقوم على تقليلِ رغباتنا ضبطًا؛ وذلك لأنها إذا كانت دونَ قُدرتِنا ظلَّ قِسمٌ من طاقاتنا مُعطَّلًا ولم نتمتَّع بجميعِ وجودِنا، وكذلك لا تقومُ على توسيعِ مدى طاقاتنا؛ وذلك لأن رغباتنا إذا ما اتَّسع مداها على أعظمِ نسبةٍ أصبحت على أعظمِ بؤس. وإنما تقوم على تقليلِ الفرْقِ بين الرغباتِ والطاقات، وعلى جَعْلِ القوَّةِ والإرادةِ متساويتَين، وهنالك فقط حين تكون جميعُ قُواه عاملةً تبقى النَّفْس مطمئنةً، ويجد الإنسانُ نفْسَه على حالِها الحسن.

وهكذا فإن الطبيعةَ التي جعلت كلَّ شيء على أحسنِ ما يكون قد أنشأته أوَّلًا، وهي لم تُنعِم عليه حالًا بغيرِ الرَّغائبِ الضروريةِ لبقائه، وبغيرِ الطاقاتِ الكافيةِ لقضائها. وأمَّا جميعُ الأخرى فقد وضعتها في أساسِ نفْسه احتياطًا حتى ينموَ بها عند الحاجة، وليس في غيرِ هذه الحالِ الابتدائيةِ ما يلتقي توازنُ القدرةِ والرغبة، وما لا يكون الإنسانُ شقيًّا، وحينما تخرج طاقاتُه من حيِّزِ القدرةِ إلى حيِّزِ الفعلِ فإن الخيالَ الذي هو أكثرُها عملًا ينتبه ويتقدَّمُها، والخيالُ هو الذي يُوسِّع فينا نطاقَ الممكناتِ في الخيرِ أو في الشر، وهو الذي يحرِّك الرَّغائبَ ويغذِّيها من حيث النتيجةُ رجاءَ قضائها. غيرَ أن الغرضَ الذي يلوحُ في البُداءةِ تحت اليدِ يَفِرُّ بأسرعَ مما يُمْكن تعقُّبُه، وهو إذا ما ظُنَّ بلوغُه تَحوَّل وظهرَ بعيدًا أمامنا، ونحن نعود غيرَ مدركين للبلد الذي طُفنا فيه، فلا نعتد به، ويعظم ما يبقى أمامنا لنجوبه ويتَّسِع بلا انقطاع. وهكذا يضنى الإنسانُ من غيرِ أن يصل إلى الحد، وكلَّما دَنونا من اللذَّة ابتعدت السعادةُ عنَّا.

والإنسانُ على العكسِ كلَّما بقيَ قريبًا من حاله الطبيعية كان الفرْقُ بين طاقاته ورغباته قليلًا، وقلَّ ابتعادُه عن السعادةِ نتيجةً، وهو لا يكون أقلَّ شقاءً مطلقًا، إلا إذا ظهرَ خاليًا من كلِّ شيء؛ وذلك لأن الشَّقاءَ لا يقومُ على الحرمانِ من الأشياء، بل في الاحتياجاتِ التي تُشعِرُ بها.

وللعالَمِ الحقيقيِّ حدود، ولا حدودَ للعالَم الخيالي. وإذ كُنَّا لا نستطيع توسيعَ إحداهما فإن علينا أن نُضيِّق الأخرى؛ وذلك لأنه ينشأ عن الفرْق بينهما وحدَه جميعُ الآلامِ التي تجعلنا تعساءَ حقًّا. وإذا عدوتَ القوَّةَ والصحةَ وحُسنَ الحِسِّ؛ وجدتَ جميعَ محاسنِ الحياةِ مسألةَ رأي. وإذا عدوتَ آلامَ الجسمِ ووخزَ الضميرِ؛ وجدت جميعَ أوجاعنا خيالية. وسيُقال لي إن هذا المبدأَ عامٌّ، وأُوافِق على هذا، غيرَ أن تطبيقَه العمليَّ غيرُ عام، والعمل وحدَه هو ما نبالي به هنا.

وإذا ما قيل إن الإنسانَ ضعيف، فما يُقصَد بهذا؟ تدلُّ كلمةُ الضعيفِ هذه على نسبة، تدلُّ على نسبةِ الموجودِ الذي تُطَبَّق عليه، ويُعَدُّ موجودًا قويًّا مَن تزيدُ قوَّته على احتياجاته، ولو كان حشرةً أو دودة، ويُعَدُّ موجودًا ضعيفًا مَن تزيدُ احتياجاتُه على قُوَّته ولو كان فيلًا أو أسدًا أو فاتحًا أو بطلًا أو إلهًا. وكان المَلَك العاصي الذي أَنكرَ طبيعتَه أضعفَ من الفاني السعيدِ الذي يعيش مطمئنًّا وَفْقَ طبيعته. ويكون الإنسانُ قويًّا جِدًّا إذا ما رضي بما هو عليه، ويكون ضعيفًا جِدًّا إذا ما أراد أن يعلوَ الإنسانية؛ ولذا لا تظنوا أنكم تزيدون قوَّاتكم بزيادةِ طاقاتكم، وعلى العكس تُقلِّلونها إذا ما زاد زهوُكم. ولْنَقِس قُطْرَ دائرتنا، ولْنبقَ في المركزِ كالحشرةِ في وَسَط نسيجِها، وسنكون من الكفايةِ ما نقضي معه حاجاتنا، ولا يكون لدينا من الأسبابِ ما نتوجَّع معه من ضَعْفنا؛ وذلك لأننا لن نَشعرَ به مطلقًا.

ويُوجَد لدى جميعِ الحيوانات من الطاقاتِ ما هو ضروريٌّ لبقائها ضبطًا، والإنسان وحدَه هو الذي لديه زوائدُ منها. أليس من الغريبِ أن يكون هذا الزائدُ سببَ شقائه؟ ذراعُ الإنسانِ في كل بلدٍ أثمنُ من ذاته، ولو كان الإنسانُ من الحكمةِ ما لا يأبه معه لهذا الزائدِ لحازَ الضروريَّ دائمًا لِمَا لا يكون عنده ما هو أكثر. وكان فافُورِنُ يقول إن الاحتياجاتِ العظيمةَ تنشأ عن الأموالِ العظيمة، وإن أقومَ وسيلةٍ لِنيلِ الإنسانِ ما يريدُ في الغالبِ هو أن يتخلَّى عما يكون لديه، ونحوِّل سعادتِنا إلى شقاءٍ بعملِنا في سبيلِ زيادةِ هذه السعادة. وكلُّ إنسانٍ لا يريد غيرَ الحياةِ يحيا سعيدًا، ويكون صالحًا نتيجةً، وذلك: أين يكون نَفْعُه في كونه طالحًا؟

ولو كُنَّا خالدِين لَبدونا بائسين جِدًّا. أجلْ، إن مِن الشاقِّ على الإنسانِ أن يموت لا ريب، ولكن من العَذْب ألَّا يرجوَ الحياةَ دائمًا، وأن تَخْتِمَ حياةٌ أصلحُ من التي عليها آلامَ هذه الحياة، ولو عُرِضَ علينا الخلودُ في هذه الدنيا فمن مِنَّا يَرضى٢ بهذا الحاضرِ الكئيب؟ وأيُّ سبيلٍ وأملٍ وسلوانٍ يبقى لنا ضِدَّ شدائدِ النَّصيبِ ومظالمِ النَّاس؟ إن الجاهلَ الذي لا يُبصرُ شيئًا يشعرُ قليلًا بثَمنِ الحياةِ ولا يخافُ أن يَفْقِدها. وينظرُ المُنوَّرُ إلى الأمورِ بتقديرٍ كبير، مفضِّلًا لها على ذلك. ولا يوجد غيرُ نصفِ المعرفةِ والحكمةِ الزائفةِ ما يورثنا أسوأَ الشرورِ عن مدِّ أبصارنا حتى الموتِ، لا إلى ما وراءه. وليست ضرورةُ الموتِ لدى الحكيمِ غيرَ سببٍ لاحتمالِ آلامِ الحياة، ولو لم يَعْلم أنه سيَفْقِدُها ذاتَ حينٍ لكان حفْظُها ثقيلًا كثيرًا عليه.

وتنشأ أمراضُنا الأدبيةُ عن المُبتَسرات عدا الإجرامِ الذي يتوقَّف علينا. وأمَّا أمراضُنا البدنيةُ فتتهادم أو تقضي علينا. ويُعدُّ الوقتُ أو الموتُ دواءً لنا، ولكنَّ ألَمَنا يَكْثُر بنسبةِ ما نَعرِفُ من قِلَّةِ احتماله. ونحن نكابدُ من العذابِ في سبيلِ الشفاءِ من أمراضنا ما هو أكثرُ من احتمالِنا لها. وعِشْ كما تقتضيه الطبيعة، وكن صابرًا، واطْرُد الأطباء. أجلْ، إنك لا تجتنب الموت، بَيْدَ أنك لن تُحِسَّه غيرَ مرةٍ واحدة، وذلك على حينِ يَحْملونه كلَّ يومٍ إلى خيالِك المرتبك، وذلك على حينِ ترى مِهْنتَهم الكاذبةَ تَنزِعُ منك تَمتُّعك بأيامك بدلًا من إطالتها. وسأسأل دائمًا عن الخبرِ الحقيقي الذي ناله النَّاسُ من هذه الصنعة. أجلْ، إن بعضَ مَن تَشفيهم كانوا يموتون، ولكن الملايين ممن تقتلهم كانوا يبقون أحياء؛ فيا أيُّها الإنسانُ كُن عاقلًا ولا تشترِكْ في هذا الاقتراعِ حيث يوجدُ كثيرٌ من الحظوظِ ضِدك، وَأْلَمْ ميِّتًا أو سليمًا، ولكن عِشْ حتى ساعتِك الأخيرةِ على الخصوص.

وليس كلُّ شيء غيرَ حماقةٍ ومناقَضةٍ في النظم البشرية. ويَكثُر اكتراثُنا للحياةِ كلَّما خَسِرت شيئًا من قيمتها، ويأسَف الشِّيبُ عليها أكثرَ من الشُّبان؛ فهم لا يريدون أن يفقدوا التوابلَ التي أعَدُّوها للتمتُّع بها. ومن القسوةِ بمكانٍ أن يموتَ الإنسانُ في الستين من سِنيه قبلَ أن يبدأ الحياة. ويُعتقَد أن الإنسانَ ولوعٌ ببقائه، وهذا صحيح، ولكنه لا يُرى أن هذا الوَلَعَ، كما نشعر به، جزءٌ عظيمٌ من عَملِ النَّاس. ولا يبالي الإنسانُ ببقائه عن طبيعةٍ إلا إذا كانت وسائله ضِمْن قدرته؛ فمتى أفلتت منه هذه الوسائلُ خلا بالُه ومات من غيرِ أن يضيقَ صدرُه على غيرِ جدْوَى. ومن الطبيعة يأتينا أوَّلُ دستورٍ للتَّسليم. والوحوش، كالبهائم، يكافحون الموتَ قليلًا، وهم يَصبِرون عليه من غيرِ تذمُّرٍ تقريبًا، ويُقضَى على هذا الدستور، وينشأ عن العقلِ دُستورٌ آخَر، وقلَّ مَن يَعْرِفون هذا، وليس هذا التسليمُ المصنوعُ من الكمالِ كالأوَّلِ مطلقًا.

الحَذَرُ! الحَذَرُ الذي يحملنا بلا انقطاعٍ إلى ما وراء أنفسنا، والذي يضعنا في الغالبِ حيث لا نصل مطلقًا، وهذا هو منبعُ جميعِ أبْؤُسنا الحقيقي. يا له من هوسٍ يساورُ موجودًا زائلًا كالإنسانِ ينظرُ دائمًا بعيدًا إلى مستقبلٍ يَندُرُ مجيئُه كثيرًا مُهمِلًا حاضرًا لا يَشُكُّ فيه! يا لَذَاك الهَوَس الذي يَزيدُ شؤمًا مع العُمُر بلا انقطاع، فيفضِّل الشِّيبُ الحاذرون المتبصِّرون البخلاءُ دائمًا أن يُحرَموا الضروريَّ اليومَ على أن يُعْوِزهم الزائدُ في المائة من سِنيهم! وهكذا فإننا نتعلَّق بكلِّ شيء، نَنْشَبُ في كلِّ شيء، فيَشْغل كلُّ واحدٍ مِنَّا بالَه بالأزمنةِ والأمكنةِ وبالنَّاسِ والأشياءِ وبكلِّ ما هو كائنٌ ويكون، ويعود شخصُنا لا يكونُ غيرَ أقلِّ جزءٍ من ذاتنا؛ أي إن كلَّ واحدٍ مِنَّا ينبسِطُ على الأرضِ بأسْرِها، ويُصبح متأثِّرًا بجميعِ ما هو واقعٌ على هذا السطحِ الواسع. وهل من العجيب أن تزيد مصائبُنا في جميعِ النقاط حيث يُمكن جَرْحُنا؟ وما أكثرَ الأمراءَ الذين يَحزنون كثيرًا على ضياعِ بلدٍ لم يروه قَط، وما أكثرَ التُّجارَ الذين يكفي أن يُصابوا في الهند ليُحمَلوا على الصُّراخِ بباريس!

وهل الطبيعةُ هي التي تَحْمل النَّاسَ إلى ما هو أبعدُ من أنفسهم على ذلك الوجه؟ وهل الطبيعةُ هي التي تريد أن يَعْلم كلُّ واحدٍ مصيرَه من الآخرين، وأن يكون آخِرَ مَن يَعْلمه، وأن يموتَ سعيدًا أو شقيًّا من غيرِ أن يَعْلم شيئًا عن ذلك مطلقًا؟ أرى رجلًا ناضرًا مسرورًا قويًّا حسنَ الصحة، ويوحي حضوره بالفرح، وتَدُلُّ عيناه على القناعةِ والهناءة، ويَحمل معه صورةَ السعادة، ويأتيه كتابٌ مع البريد، وينظر الرَّجلُ السعيدُ إليه، ويجده موجَّهًا إليه، ويفتحه ويقرؤه وتتغيَّر ملامحُه حالًا، ويُمْتَقع ويَسقُط خائرًا، ويُفيق، ويبكي، ويَنُوح، ويئن، ويَنْتِف شعره، ويمْلأ الجوَّ صُراخًا، فيَلُوح أنه أُصيبَ بتشنُّجاتٍ هائلة. إذن، ما دهاك بهذه الورقةِ أيُّها الأحمق؟ أي عضوٌ بُتِر منك؟ أيةُ جنايةٍ حُملْتَ عليها؟ ثُمَّ ماذا تغيَّر فيك حتى غدوتَ في الحالِ التي أراك عليها؟

لو ضاع الكتاب، أو ألقته في النارِ يدٌ مُحْسِنة، لكان نصيبُ هذا الفاني، السعيد والشقي معًا، مُعضِلةً عجيبةً كما يلوح لي. ستقولون إن شقاءه حقيقي. حسنًا، ولكنه كان لا يَشعُر به، وأين كان إذن؟ كانت سعادتُه خيالية، وأُسَلِّم بذلك، وعادت صحتُه وبهجتُه وهناءتُه وقناعتُه النفسيةُ لا تكونُ غيرَ أحلام، وعُدْنا لا نكون في مكاننا، وعُدْنا نكون في غيرِ مكاننا، وما فائدةُ الخوفِ من الموتِ ما دام كلُّ شيءٍ يجعل الحياةَ ثمينةً مستقرًّا بنا؟

أيُّها الإنسان، شُدَّ حياتَك في باطنك تَعُدْ غيرَ تَعِس، وابقَ في المكانِ الذي عيَّنَته الطبيعةُ لك في سلسلةِ الموجودات لا يَقدِر شيءٌ على إخراجك منه، ولا تُقاوِم سُنَّة الضرورة، ولا تَستنفِد راغبًا في هذه المقاومةِ من القوى التي لم تُعْطِك الطبيعةُ إياها مطلقًا تمديدًا لحياتك أو إطالةً لها، ولكن في سبيلِ بقائها كما يروقُ الطبيعةَ وبقدْرِ ما يروقها، ولا تَمتدُّ حريَّتُك وقدرتُك إلا ضِمْن طاقاتك الطبيعية لا إلى ما وراء ذلك، وليس جميعُ ما يبقى غيرَ عبوديةٍ ووهمٍ وخِداع، حتى إن السيطرةَ رِقٌّ إذا ما استندتْ إلى الرأي العام، وذلك لتوقفك على مُبتَسراتِ مَن تسيطر عليهم بالمُبتَسرات، ويجب لقيادتهم كما يَرُوقك أن تقودَ نفسك كما يروقهم، وليس عليهم إلا أن يُغيِّروا طرازَ تفكيرهم حتى تُحمَل على تغييرِ طرازِ سَيْرِك قسرًا. وليس على مَن يدنون منك إلا أن يَعْرِفوا السيطرةَ على آراء الشعبِ الذي تعتقد أنك تسيطر عليه، أو آراء ندمائك الذين يسيطرون عليك، أو آراء أسرتِك أو أُسَرِهم، حتى يبلغوا ذلك، ويُسيِّرك هؤلاء الوزراءُ والندماء والكهان والجنود والخدَّام والمُجَّان، حتى الغِلْمان. ولو كان عندك مثْلُ عبقريةِ تِمِسْتُوكل،٣ وذلك كولدٍ بين أجواقك، ومهما تأتِ من عَمَلٍ فإن سلطانك الحقيقي لا يمتد إلى ما هو أبعدُ من طاقاتك الحقيقية، ومتى وجب أن ترى بعيونِ غيرِك وَجَبَ أن تريدَ بعزائمهم، وتقول مباهيًا: إن شعوبي رعاياي، ولْيِكُن ذلك، ولكن مَن أنت؟ إنك تابعٌ لوزرائك، ومَن هم وزراؤك من ناحيتهم؟ إنهم تابعون لِكَتَبَتهم وخليلاتهم، وخَدَمةٌ لخُدَّامهم، وخُذوا كلَّ شيء، واغتصبوا كلَّ شيء، ثُمَّ ابذُلوا المالَ ذات اليمين وذات الشمال، وأقيموا المدفعيات، وانصِبُوا المشانقَ والدواليب، وضَعُوا القوانينَ والمراسيم، وضاعِفوا العيونَ والجنودَ والجلادين والسجون والقيود، فما نَفْعُكم بجميعِ هذا؟ لن تكونوا بهذا أحسنَ خِدْمةً وأقلَّ استراقًا وانخداعًا وأكثرَ استبدادًا، وستقولون دائمًا: سنريد، وستفعلون دائمًا ما يريد الآخرون.

والوحيدُ الذي يُعمِلُ إرادتَه هو الذي لا يحتاجُ لإعمالها إلى وضْعِ ذراعَيْ غيرِه في طَرَفِ ذراعيه؛ ومِنْ ثَمَّ يرى أن الحرية، لا السلطان، هي الخيرُ الأوَّلُ، ولا يريد الرَّجلُ الحرُّ حقًّا غيرَ ما يستطيع، وهو يصنع ما يَرُوقه. وهذا هو مبدئي الأساسي، ولْيُطبَّق على الطفولةِ ليُرى أنَّ جميعَ قواعدِ التَّربيةِ تصدُر عنه.

والمجتمعُ جعلَ الإنسانَ أكثرَ ضَعْفًا، لا لِنَزْعِه منه ما له من حقٍّ على قُواه الخاصة، بل لِجعْلها غيرَ كافية له على الخصوص. وهذا هو السببُ في كونِ رغائبِه تزيد مع ضَعْفه، وهذا هو الذي يوجِد ضَعف الطفولةِ قياسًا بسِنِّ الرجل. وإذا كان الرَّجلُ موجودًا قويًّا، وإذا كان الولدُ موجودًا ضعيفًا، فليس ذلك لأن الأوَّلَ ذو قوَّةٍ أكثرَ إطلاقًا من الثاني، بل لأن الأوَّلَ يستطيع أن يكفي نفسه طبيعةً، ولأن الآخرَ لا يستطيع هذا؛ ولذا وجب أن يكون الرجلُ أكثرَ عزائمَ وأن يكون الولدُ أكثرَ أهواء، وبهذه الكلمة أقصد جميعَ الرغائب التي ليست احتياجاتٍ حقيقية، والتي لا يُمكن قضاؤها إلا بمساعدةِ الآخرين.

وقد ذكرتُ سببَ حالِ الضَّعف هذا، وتتلافاه الطبيعةُ بتعلُّق الآباءِ والأمهات، ولكن قد يكون لهذا التعلُّقِ شططُه وعيبُه ومساوئه. وينقل الآباءُ الذين يعيشون في الحالِ المدنيةِ ولدَهم إليها قبْل الأوان، وهم حين يُنعِمون عليه باحتياجاتٍ أكثرَ مما لديه لا يُخفِّفون ضَعفه، بل يزيدونه، وهم يزيدونه أيضًا بمطالبتِه بما لا تطالبه الطبيعةُ به، وذلك بإخضاعهم لعزائمهم ما عنده من قُوًى قليلةٍ خادمةٍ لعزائمه، وذلك بتحويلهم إلى عبوديةٍ ما بين الطَّرَفَين من تابعيةٍ متقابلة حيث يُمسكه ضَعفُه وحيث يُمسِكهما تعلُّقُهما.

ويَعرِف الرجلُ العاقلُ أن يبقى في مكانه، ولكن الولد الذي لا يَعْرِف مكانَه لا يستطيع أن يحافظَ عليه، ولديه ألفُ منفذٍ للخروج منه، ويجبُ على مَن لهم سيطرةٌ عليه أن يُمسِكوه فيه، وليس هذا عملًا سهلًا. ويجب ألَّا يكون حيوانًا أو إنسانًا، بل ولدًا، ويجب أن يشعُر بضَعفه لا أن يُعانيه، ويجب أن يكون تابعًا لا طائعًا، ويجب أن يطلبَ لا أن يأمر، وهو لا يخضع للآخرين إلا بسببِ احتياجاته، ولأنهم أحسنُ منه اطِّلاعًا على ما هو نافعٌ له وعلى ما يُمكن أن يساعد على بقائه أو يَضُر. ولا يحقُّ لأحد، حتى للأب، أن يأمرَ الولدَ بِصنْع ما لا ينفعه مطلقًا.

وكانت سعادةُ الأولادِ والرجالِ تقومُ على تمتُّعهم بحريَّتهم، وذلك قبْل أن تُفسِدَ مُبْتَسَرَاتُ الإنسانِ ونُظُمُه غرائزَنا الطبيعية، غيرَ أن الحريَّة في الأولادِ حُدِّدَت بضَعْفِهم. ويُعَدُّ سعيدًا كلُّ مَن يصنعُ ما يشاء إذا كفى نفسَه بنفسِه، وهذا هو وضعُ الرجلِ الذي يعيش في الحالِ الطبيعية. ولا يُعَدُّ سعيدًا كلُّ مَن يصنع ما يشاء إذا ما زادت احتياجاتُه على طاقته، وهذا هو وضْعُ الولدِ الذي يعيش في ذات الحال، حتى إن الأولادَ لا يتمتعون في الحال الطبيعية إلا بحريةٍ ناقصةٍ مشابهةٍ للحرية التي يتمتَّع بها الرجالُ في الحال المدنية. وبما أن كلَّ واحدٍ مِنَّا يعود غيرَ قادرٍ على الاستغناء عن الآخرين، فإنه يصبح ضعيفًا بائسًا من هذه الناحية، وقد خُلقنا لنكونَ رجالًا فغمستنا القوانينُ والمجتمعات في الطفولة ثانية. ويُعَدُّ الأغنياءُ والعظماء والملوك كلهم أولادًا أبصروا أننا نبادرُ إلى تخفيف بؤسهم، فاستخرجوا من هذا غرورًا صبيانيًّا، وقد كانوا يَبْدُون فُخْرًا من عنايةٍ لا تُبذَل لهم لو كانوا رجالًا ناضجين.

وهذه اعتباراتٌ مهمة، وهي تَصْلح لحلِّ جميعِ المتناقضات في النظام الاجتماعي. ويوجد للعلاقات نوعان: علاقة الأشياء التي هي من الطبيعة، وعلاقة النَّاس التي هي من المجتمع. وبما أنه لا يوجد لعلاقة الأشياء أيةُ خُلُقية فإنها لا تَضُرُّ الحريةَ مطلقًا، وهي لا تُوجِد عيوبًا مطلقًا، وبما أن علاقة النَّاس مختلطة٤ فإنها تُوجِدها جميعًا، وهي تُفسد السيدَ والعبدَ مقابلةً، وإذا كان يوجَد من الوسائل ما يُدَاوى به هذا الشرُّ في المجتمع قام ذلك على استبدالِ القانونِ بالإنسانِ، وعلى تجهيز العزائم العامة بقوة حقيقية تعلو عملَ كلِّ إرادة خاصة، ولو أمْكن قوانينَ الأممِ أن يكون لها ما لقوانين الطبيعة من صلابة لا تستطيع أيةُ قوة بشرية أن تَقْهرها لصارت علاقةُ النَّاسِ علاقةَ الأشياء، وجُمِع في الجمهورية جميعُ منافع الحال الطبيعية والحال المدنية، وأُضِيفَت إلى الحريةِ التي تَحفظ الإنسانَ خاليًا من العيوب خُلقيةٌ تَرْفعه إلى الفضيلة.

واحتفِظوا بالولدِ تابعًا للأشياء تَكونوا قد اتَّبعتم نظامَ الطبيعةِ في تَقدُّم تربيته، ولا تَعترِضوا عزائمَه غيرَ الصائبة بغيرِ الموانعِ المادية أو العقوبات الناشئة عن الأعمال نفسِها، والتي يَذْكُرها في الوقت المناسب، وذلك مع الاكتفاء بمنعه من صُنْع الخطأ، ومع عدم تحريم الخطأ عليه، والتجرِبة أو عدم القدرة، وحدَها هي ما يجب أن يقوم مقامَ القانونِ عنده. ولا تُعْطُوه ما يَرْغب فيه لأنه طلبه، بل لاحتياجه إليه. ولا ينبغي أن يَعْرِف ما الطاعةُ عندما يسير، ولا الاستبدادُ عندما يُعْمَل من أجْلِه. ولْيشعرْ بحرِّيته في أفعاله وفي أفعالكم على السواء، وعوِّضوه من القوة التي تُعْوِزه، وذلك بالمقدار الذي يحتاج إليه ليكون حُرًّا، لا ليكون جبَّارًا، حتى إذا تناول خِدَمكم على استحياءٍ تاقَ إلى الزَّمن الذي يستغني فيه عنها، ويكون له شرفُ خدمةِ نفسِه بنفسه.

وللطبيعة في تقويةِ البدنِ وإنمائهِ من الوسائلِ ما لا تجوزُ مقاومتُه. ولا يجوز أن يُكرَه الولد على البقاءِ إذا ما أراد الذهاب، ولا على الذهابِ إذا ما أراد البقاء. وإذا كانت إرادةُ الأولادِ لم تَفسُد بخطأٍ مِنَّا لم يريدوا شيئًا بلا طائل. ويجب أن يَقفِزوا وأن يركضوا وأن يصرخوا متى شاءوا، وجميع حركاتهم من احتياجاتِ بُنيتِهم التي تحاول أن تشتدَّ، ولكن يجب أن يُحذَر مما يرغبون فيه من غيرِ أن يَقدِروا على صُنْعه بأنفسهم، ومما يُلزَم الآخرون بصُنعه لهم، وهنالك يجبُ أن يُفرَّق بعنايةٍ بين الاحتياجِ الحقيقي الذي هو احتياج طبيعي، واحتياجِ الهوى الذي يأخذ في الظهور، أو الاحتياجِ الذي لا ينشأ إلا عن فَيضِ العيش، وهو ما تكلمتُ عنه.

وكنتُ قد قلتُ ما يجب أن يُصنَع عندما يبكي الولدُ لينالَ هذا أو ذاك، وإنما أُضيف إلى ذلك أنه إذا ما استطاع أن يَطلُب بالقول ما يَرغبُ فيه، فدَعَمَ طلبَه بالبكاءِ نيلًا له بسرعةٍ أو تغلُّبًا على رفضٍ؛ وَجَبَ أن يُضنَّ عليه به حتمًا. وإذا كان الاحتياجُ هو الذي حَمَله على الكلامِ وجبَ أن تَعرِفوا ذلك وأن تُلَبُّوا طلبه حالًا، ولكن الإذعان لدموعه في أمرٍ ما يتضمن تحريضًا له على سَكْبها، ينطوي على تعليمه أن يَشُكَّ في حُسْنِ مَقْصدِكم، ويَحْمله على الاعتقاد بأن للإزعاجِ من التأثيرِ فيكم ما ليس للاستعطاف، وهو لا يَلبث أن يكون خبيثًا إذا لم يعتقد صلاحَكم، وهو لا يَلبث أن يكون عنيدًا إذا اعتقدَ ضَعفَكم؛ فالرأي أن يُمنَح عندَ أوَّلِ إشارةٍ ما لا يُراد رفضه. ولا تُسرفوا في الرفضِ مطلقًا، ولكن لا تَنقُضوا رفضَكم عند وقوعه.

واحترِزوا، على الخصوص، من مَنْحِ الولدِ صِيَغًا فارغةً في الكِياسة، يتخذها عند الحاجةِ ككلامٍ سحريٍّ لإخضاعِ مَن يحيطون به لإرادته، فينال ما يَرُوقه من فَوْره. ولا يُقصَّر في تربيةِ الأغنياءِ القائمةِ على التصنُّع أن يُجعَلوا متعاظمين مع تأدُّب، وذلك بفرضِ تعبيراتٍ يستعملونها، فلا يجرؤ أحدٌ على مقاومتِهم معها، وليس لأولادهم لهجةُ الضارعين ولا أوضاعهم، وهم متعاظمون عندما يرجون كما يكونون عندما يأمرون، بل يكونون أكثرَ تعاظمًا عند الرجاء مما عند الأمر، كما لو كانوا أكثرَ يقينًا بأن يُطاعوا. وأوَّل ما يُرى أن كلمة «إذا ما طاب لك» تَعني «يَطِيب لي»، وأن كلمة «أرجوك» تَعني «آمرك». ويا لها من كِياسةٍ لا تؤدي عندهم إلى غيرِ تغييرِ معنى الكلمات وإلى عدم القولِ بغير هيمنة! وأمَّا أنا الذي يخشى أن يكون إميلُ متكبِّرًا أكثرَ من أن يكون غليظًا، فأُفضِّلُ أن يقولَ عند الرَّجاء: «اصنعْ هذا» على الأمر بقوله: «أرجوك»؛ فلستُ أبالي بالتعبيرِ الذي يستعمله، بل بالمعنى الذي ينطوي عليه.

ويوجد إفراطٌ في الشِّدةِ وإفراطٌ في التساهل، فيجب اجتنابُ الأمرَين على السواء، فإذا ما تركتم الأولادَ يتألمون عرَّضْتم صحَّتَهم وحياتَهم للخطر، وجعلتموهم تعساء، وإذا ما بذلتم جُهدًا كبيرًا في وقايتهم من كلِّ سوء أعددتموهم لأعظمِ المصائب، وجعلتموهم قُصُفًا دقيقِي الإحساس، وأخرجتموهم من حالِ الرجل التي سيكونون عليها ذات يومٍ على الرغم منكم. وأنتم إذ لم تُعرِّضوهم لبعضِ مضارِّ الطبيعةِ تكونون سببَ المضارِّ التي لم تُصبهم بها، وستقولون لي إنني أقع في مثلِ حالِ الآباءِ الأرْدياءِ الذين لُمتُهم على تضحيتهم بسعادةِ الأولاد، ناظرين إلى زمنٍ بعيدٍ يُمكن ألَّا يكون.

كلَّا؛ وذلك أن الحرية التي أحْبُو بها تلميذي تُعوِّضه من المشاقِّ الخفيفة التي أَدَعُه مُعرَّضًا لها، وأرى أولادًا صغارًا يَلعبون على الثلجِ مُزرقِّي الوجه مُقرَّسِين، ولا يكادون يُحرِّكون أصابعَهم بَرْدًا، وليس عليهم إلا أن يذهبوا ليُدفِّئوا أنفسهم، فلا يفعلون هذا مطلقًا، وإذا ما أُكرِهوا على هذا شَعروا بأن ضغطَهم أشدُّ وطْئًا مائةَ مرةٍ من شدةِ البَرْدِ الذي يُحِسُّون، ومن أيِّ شيءٍ تتوجَّعون إذن؟ أَوَأَجْعل ولدَكم تَعِسًا بعدمِ تعريضي إياه للمضارِّ التي يريدُ معاناتها؟ أصنعُ الخيرَ له في الوقتِ الحاضرِ بترْكِه حُرًّا، وأصْنعُ الخيرَ له في المستقبل بتسليحه ضدَّ الشرورِ التي يجب أن يقاسيها، وهل يتردَّد ثانيةً في الاختيارِ لو خُيِّرَ بين أن يكون تلميذي وتلميذَكم؟

أَوَتظنون وجودَ إنسانٍ يَجِدُ سعادةً حقيقيَّةً خارجَ جِبِلَّته؟ أَوَلَا ينطوي كلُّ سعيٍ في وقايةِ الإنسانِ من جميعِ شرورِ نوعه على إخراجٍ له من جِبلَّته أيضًا؟ أجلْ، إن طبيعته تقوم على مكابدته الشرورَ الصغيرةَ ليشعرَ بالخيورِ الكبيرة، ولو صحَّ الجسمُ كثيرًا لَفَسدت الأخلاق، ومَن لم يَعْرِف الألمَ لم يَعْرِف حنانَ الإنسانِ ولا حلاوةَ الرحمة؛ فلا يُحرِّك فؤادَه شيء، ولا يكون أنيسًا، وإنما يكون بين أمثالِه غُولًا.

أَوَتعرِفون أضْمنَ وسيلةٍ لجعلِ ولدِكم تَعِسًا؟ أن تُعَوِّدوه نيلَ كلِّ شيء، وذلك أن رغباته تزيدُ بلا انقطاعٍ مع سهولةِ قضائها، ويُلْزِمكم عدمُ القدرةِ بأن تَرفِضوا على الرغم منكم عاجلًا كان هذا أو آجلًا، ويُورِثه هذا الرفضُ غيرُ المعتاد ألمًا أشدَّ من حرمانِه ما يريد، والعصا التي تُمسِكون هي أوَّلُ ما يريد، ولا يَلبث أن يريد ساعتَكم، ثُمَّ يريد الطَّير الذي يطير، ثُمَّ يريد النجمَ الساطع، ثُمَّ يريد كلَّ ما يرى، وكيف تُرضُونه إذا لم تكونوا إلهًا؟

ومن خصائصِ الإنسانِ الطبيعية أن يَعُدَّ مالًا له كلَّ ما هو داخلٌ ضِمْن قُدْرته، ومن هذه الناحية يكون مبدأُ هوبز صحيحًا إلى حدٍّ ما، وذلك أن تُكثِروا مع الرغائبِ وسائلَ قضائِها حتى يصبح كلُّ واحدٍ سيدَ الجميع؛ ولذلك يَظنُّ الولدُ أنه مالكُ الدنيا لِمَا ليس عليه غيرُ الإرادة. وهو يَنْظرُ إلى جميعِ النَّاسِ كعبيدٍ له، وهو عندما يُضَنُّ عليه بشيءٍ عن اضطرارٍ يَعُدُّ هذا الرفضَ ضربًا من التَّمرُّدِ لِمَا يَعتَقِد إمكانَ كلِّ شيءٍ إذا أمر. وهو إذا ما أُدْلِيَ له بأسبابٍ عن ذلك في دَوْرٍ من العُمُر يَعجِز فيه عن التمييز، لم تكن هذه الأسبابُ عنده غيرَ ذرائع؛ فيَرى سوءَ القصدِ في كل مكان. وهو إذ كان من طبيعته أن تتأثرَ بحسٍّ من الجَوْر المزعوم؛ فإنه يَحقِد على جميعِ العالَم، ويشتاط غيظًا من كلِّ مُعارضةٍ عن عدمِ شعورٍ بالجميل.

وكيف أتصوَّر ولدًا يكون سعيدًا بعد أن يكون موئلًا للغيظِ وفريسةً لأشدِّ الأهواءِ فعلًا؟ هو سعيدٌ! هو مستبِد، هو أشدُّ العبيدِ نذالةً وأكثرُ المخلوقات شقاء. ولقد شاهدتُ أولادًا يُربَّوْن على هذا الوجه، ويريدون تدميرَ المنزلِ بصدمةِ كَتِف، وأن يُعطَوا الدِّيك الذي يَرَوْن على بُرج الأجراس، وأن تُوقَفَ كتيبةٌ وهي تسيرُ لِيَسْمعوا الطُّبولَ أطولَ وقتٍ ممكن، وأنهم يَشُقُّون الهواءَ بصُراخِهم غيرَ مُنصتِين لأحدٍ إذا ما أُبطِئَ في الإذعانِ لهم. وكلٌّ يسعى لاسترضائهم، ولكن على غير جدوَى؛ فرغائبُهم تشتدُّ بسهولةِ نَيْلِ الشيء. وهم يُصِرُّون على المستحيلات، ولا يَجدون غيرَ المعارَضات والموانع والهموم والآلام في كل مكان. وهم يَقْضُون الأيامَ في الصُّراخِ والتوجُّعِ مزمجرين دائمًا، عُنَدَاءَ دائمًا، غِضابًا دائمًا، وهل هم سعداءُ هنالك؟ لا ينشأ عن الضَّعْفِ والهيمنةِ غيرُ الحماقةِ والبؤسِ إذا ما اجتمعا، وأحدُ الوَلَدَين المُدلَّلَين يَضْرِب المائدةَ بالسوط، ويَضْرِبُ الآخَرُ البحرَ به، ولا بُدَّ لهما من الضربِ بالسوطِ والعصا قبْل أن يعيشا راضيَين.

وإذا كانت مبادئُ السيطرةِ والطغيانِ هذه تجعلهم تُعساءَ منذ طفولتهم؛ فما يكون الحالُ إذا ما كَبِرُوا وأخذتْ صلاتُهم بالآخرين تَطُول وتَكثُر؟ وهم إذ تَعوَّدوا رؤيةَ كلِّ شيء يَنْثَني أمامهم، فما أشدَّ ما يُدهَشون عند دخولِهم العالَم، من مقاومةِ كلِّ شيءٍ لهم، ومن حِسِّهم أنهم مسحوقون بأثقالِ هذا العالَم الذي كانوا يظنون أنهم يُحرِّكونه كما يشاءون!

ولا تأتيهم أوضاعُهم العاتيةُ وعُجْبُهم الصبيانيُّ بغيرِ الخزي والازدراء والتهكُّم، وهم يشربون الإهاناتِ كالماء، ولا تَلبَث التجارِبُ القاسيةُ أن تُعلِّمهم أنهم لا يَعْرِفون حالَهم ولا قُواهم. وهم إذ لا يَقدِرون على كلِّ شيء يظنون أنهم لا يَقدِرون على شيء، وتَصدُّهم عوائقُ كثيرةٌ غيرُ معتادة، ويُذِلُّهم احتقارٌ كثير، ويُصبِحون أخِسَّاءَ جبناءَ صاغرين، ويسقطون إلى ما هو أقلُّ من مستواهم بنسبةِ ما كانوا قد عَلَوْه.

ولْنَعُدْ إلى القاعدةِ الابتدائية؛ فالطبيعةُ قد خلقتِ الأولادَ لِيُحَبُّوا، ويُساعَدوا، ولكن هل صنَعَتْهم ليُطاعُوا ويُخَافوا؟ وهل منحتهم وقارًا وجفاءً وصوتًا شديدًا متوعِّدًا حتى يكونوا مرهوبين؟ أَعْرِف أن زئيرَ الأسدِ يُرعب الحيوانات، وأنها تَرتعد عندما تُبصر لُبْدَته، ولكن هل شُوهِد منظرٌ شائنٌ كريهٌ مثيرٌ للسُّخرية كمنظرِ جَمْعٍ من الحكَّام، وعلى رأسهم قاضي القضاة، لابسين حُلَلهم الرسمية، راكعين أمام ولدٍ في القِماط، خاطبين فيه بفَخْمِ الكلام، فلا يُجيبهم بغيرِ العويلِ واللعاب؟

وإذا نُظِر إلى الطفولةِ نفْسِها، فهل يوجد في العالَم مَن هو أضعفُ من الولدِ وأكثرُ منه بؤسًا وأدعَى منه إلى رحمةِ مَن يحيطون به، وأحوجُ منه إلى الشَّفَقةِ والعنايةِ والحماية؟ ألَا يلوح أنه لا يُبدي وجهًا بالغَ الوَدَاعة، ومظهرًا بالغَ التأثير، إلَّا لِيُبالي بضَعفه جميعُ مَن يدنون منه ويبادِروا إلى مساعدته؟ وأيُّ شيء إذن أكثرُ إيلامًا وأعظمُ مخالفةً لنظامِ الأمورِ من أن يُرى ولدٌ متجبِّرٌ عنيدٌ يأمر جميعَ مَن هم حوله منتحِلًا بوقاحةٍ لهجةَ السيدِ نحو الذين ليس عليهم غيرُ تَرْكه لِيَهلِك؟

ومَن ذا الذي لا يَرى من ناحيةٍ أخرى أن ضَعفَ الدَّوْرِ الأوَّلِ يُقيِّدُ الأولادَ على وجوهٍ كثيرة، وأن من القسوةِ البالغةِ أن يُضاف إلى هذا القهرِ قسرُ أهوائنا، وذلك بأن تُنْزعَ منهم حريةٌ محدودةٌ جِدًّا، فلا يستطيعون أن يُسيئوا استعمالَها إلا قليلًا جِدًّا، حريةٌ ضيقةٌ لا يفيدهم ولا يفيدنا، نَزْعُها منهم إلا قليلًا جِدًّا؟ وإذا كان لا يوجد شيءٌ يستحِقُّ الهزوءَ أكثرَ من ولدٍ متكبِّرٍ فإنه لا يوجد شيءٌ يستحِقُّ الرحمةَ أكثرَ من ولدٍ جَزُوع. وتبدأ العبوديةُ المدنيةُ بسِن الرُّشد، فلِمَ تُسْبَق بالعبوديةِ الخاصة؟ ولْنَدَعْ حينًا من الحياةِ خاليًا من هذا النِّير الذي لم تَفْرضه الطبيعةُ علينا، ولْنتركْ للطفولة ممارسةَ الحريةِ الطبيعية التي تُبعدها بعضَ الزَّمن من العيوبِ الملازمة للعبودية، ولْيأتِ إذن هؤلاء المُعلِّمون الأشداءُ وهؤلاء الآباءُ المُعبَّدون لأولادهم مع اعتراضاتهم الطائشة وليتعلَّموا مِنهاجَ الطبيعةِ مرةً قبْل أن يُفاخِروا بمناهجهم.

وأعود إلى العمل، وكنتُ قد قُلْتُ إنه لا ينبغي لولدِكم أن يَنال شيئًا لأنه يطلبه، بل لاحتياجه إليه،٥ ولا ينبغي له أن يفعل شيئًا عن طاعة، بل عن ضرورةٍ فقط، وهكذا فإن كلمتَي الطاعة والأمر يجب أن تزولا من مُعجمه، وأكثرُ من ذلك محو كلمتَي الواجب والالتزام منه، ولكن يجب أن يكون فيه مكانٌ واسعٌ لكلمات القوة والضرورة والعجز والقَسْر، ولا يمكن أن تكون قبْل سِن الرُّشد فكرةٌ عن الموجودات المعنوية والصِّلات الاجتماعية. ويجب إذن أن يُجتنَب ما أمكن استعمالُ الكلمات التي تُعبِّر عنها، وذلك خشيةَ أن يُعلِّق الولدُ على هذه الكلمات، في بدءِ الأمر، أفكارًا فاسدةً لا يُعرَف أو يُستطاع القضاءُ عليها مطلقًا. وأوَّلُ فكرٍ فاسدٍ يَدخل رأسه هو بذرةُ الخطأ والعيب، وهذه هي أوَّلُ خطوةٍ يجب أن يُنتَبه إليها على الخصوص، واصنعوا ما تقف معه جميعُ أفكاره عند حدِّ الإحساسات ما دام غيرَ متأثرٍ بسوى الأفكارِ الحسية، واصنعوا ما لا يَشْعُر معه بغيرِ العالَم الحسي فيما حوْله، وإن لم تفعلوا ذلك فاعلموا أنه لن يستمع إليكم مطلقًا، أو أنه سيجعل من العالَم الأدبي الذي تكلِّمونه عنه، مبادئَ وهميةً لن تمحُوها من حياته.

وكانت البرهنةُ مع الأولادِ أعظمَ مبدأ ﻟ «لُوك»، وهذا المبدأُ أكثرُ المبادئ حُظوةً في الزَّمن الحاضر، ومع ذلك فإن نجاحَه لا يصلح سببًا لِجعْلِه موضعَ اعتبارٍ كما يلوح لي؛ وذلك لأنني أرى أنه لا يوجد مَن هو أحمقُ من أولئك الأولادِ الذين يُبرْهَن معهم كثيرًا. والعقلُ الذي ليس غيرَ مُركَّبٍ من بقيةِ خصائصِ الإنسانِ هو أصعبُ ما ينمو من الخصائصِ وأكثرُها بطُؤًا في النشوء، ثُمَّ يُراد الانتفاعُ به في إنمائها! وأروعُ أعمالِ التَّربيةِ الصالحةِ هو تنشئةُ إنسانٍ عاقل، ثُمَّ يُزعَم تنشئةُ الولدِ بالعقل! هذا بدءٌ من الآخِر، هذا عملٌ لآلةِ العمل، ولو كان الأولادُ يُدركون ما العقلُ ما احتاجوا لتربية، ولكنهم إذا ما خُوطبوا منذ طفولتِهم بلغةٍ لا يفهمونها على الإطلاقِ عُوِّدوا الاكتفاءَ بكلمات، وتحقيقَ كلِّ ما يُقال لهم، وظنَّهم أنهم حكماءُ كمُعلِّميهم وأن يكونوا عُنَداء مجادلين؛ فلا يُنال بغيرِ عواملِ الطمعِ ما يُظنُّ أنه يُنال منهم بعواملَ عقلية، بغيرِ عواملِ الطمعِ أو الخوفِ أو الزهوِ التي يُضطَرُّ إلى إضافتها إلى تلك العوامل.

وإليك الصيغةَ التي يُمكن أن تُرَدَّ إليها تقريبًا جميعُ دروس الأخلاقِ التي تُلقى على الأولادِ والتي يمكن أن تُلقى عليهم:

المُعلِّم : لا يجوزُ فعلُ هذا.
الولد : ولِمَ لا يجوزُ فعلُ هذا؟
المُعلِّم : لأنه خطأ.
الولد : خطأ! ما الخطأ؟
المُعلِّم : ما تُمنع منه.
الولد : ما الخطأ فيما أصنعُ فأُمْنَعَ منه؟
المُعلِّم : ستُعاقَب على عصيانك.
الولد : سأفعله بما لا يُعرَف عنه شيء.
المُعلِّم : سأرْقُبُك.
الولد : سأتوارى.
المُعلِّم : سنسألك عمَّا كنت تفعل.
الولد : سأَكْذِب.
المُعلِّم : لا ينبغي أن تَكْذِب.
الولد : لِمَ لا ينبغي أن أَكْذِب؟
المُعلِّم : لأن هذا خطأٌ … إلخ.

تلك هي الدائرةُ التي لا مفرَّ منها، فإذا ما خرجتم منها عاد الولدُ لا يعي ما تقولون، أَوَليست هذه دروسًا مفيدةً جِدًّا؟ إن من فضولي الكبيرِ أن أعْرِفَ ما يُمكن أن يُوضَع في مكانِ هذه المحاورة، حتى إن لُوكَ نفسَه كان يرتبك في هذا لا رَيب. وليس من عملِ الولدِ أن يَعْرِف الخطأَ والصواب، وأن يُدرِكَ سببَ واجباتِ الإنسان.

وتريد الطبيعةُ أن يكون الأولادُ أولادًا قبْل أن يكونوا رجالًا، وإذا أردنا أن نُخِلَّ بهذا النظامِ اقتطفنا ثمراتٍ بَدْريةً خاليةً من النُّضج والطَّعم فلا تُعَتِّم أن تَفسُد، وبذلك يكون لدينا أساتذةٌ أحداثٌ وأولادٌ شيوخ. وللطفولة وجوهُ بصرٍ وتفكيرٍ وشعورٍ خاصةٌ بها، ولا شيءَ أقلُّ صوابًا من أن نريد أن نستبدل بها ما عندنا، وأُفضِّل المطالبةَ بأن يبلغ الولدُ من الطولِ خمسَ أقدام، على أن يكون حصيفًا في العاشرةِ من سِنِيه، وما نفعُ العقلِ له في هذه السِّن حقًّا؟ إن العقلَ رادعُ القوة، ولا يحتاج الولدُ إلى هذا الرادع.

وأنتم حين تحاولون إقناعَ تلاميذكم بواجبِ الطاعة، تضيفون القوَّةَ والتهديد إلى هذا الإقناعِ المزعوم، أو تأتون بما هو شرٌّ من هذا؛ أي بالمداراة والوعود. وهكذا يُجذَب الأولادُ بالمصلحة أو يُجبَرون بالقوَّة فيتظاهرون بالقناعةِ بفعلِ العقل، وهم يَرون جيِّدًا أن الطاعةَ نافعةٌ وأن العصيانَ ضارٌّ بهم فَوْر ما تَشْعرون بهذا أو ذاك. ولكنْ بما أنكم لا تطلبون منهم شيئًا غيرَ مستكْرَهٍ لديهم، وبما أن الأمورَ الشاقة دائمًا أن تُنفَّذَ إرادةُ الآخرين؛ فإنهم يتستَّرون تنفيذًا لإرادتهم الخاصة، قانعين بأنهم يَصنعون خيرًا إذا ما جُهِلَ عدمُ إطاعتهم، ولكن مع اعترافهم بأنهم يصنعون سوءًا إذا ما كُشف أمرُهم، وهذا خوفًا من أعظمِ شرٍّ. وبما أن عاملَ الواجب فوق عُمُرهم، فإنه لا يوجد في العالَم رجلٌ قادرٌ على جعْلهم يشعرون به حقًّا، غير أن خوفَ العقابِ وأملَ العفوِ واللجاجَ وصعوبةَ الجوابِ أمورٌ تؤدي إلى انتزاعِ جميعِ الاعترافات التي تُطلَب منهم، ويُعتَقد أنهم يُقْنَعون عندما يُسْأمون أو يُرْهبون.

وما ينشأ عن ذلك؟ أوَّلًا: إنكم بفرضِكم عليهم واجبًا لا يُدركونه تنفِّرونهم من سيطرتكم، وتَصُدُّونهم عن محبَّتِكم، وتُعلِّمونهم أن يكونوا مُداجين مُخادعين كاذبين نيلًا للجوائز أو اجتنابًا للعقوبات. وأخيرًا بتعويدكم إياهم أن يَستُروا دائمًا عاملًا خفيًّا تحت عاملٍ ظاهر، تمنحونهم بأنفسكم وسيلةَ مخاتلتِكم بلا انقطاع، وحرمانِكم معرفةَ أخلاقِهم الحقيقية، ودفعِ كلامٍ فارغٍ إليكم وإلى غيركم في الوقت المناسب، وتقولون إن القوانين وإن كانت تُقيِّد الشعورَ تقوم بعينِ القَسْر نحو مَن بلغوا أشُدَّهم. وأوافق على هذا، ولكن مَن هم هؤلاء الرجالُ إن لم يكونوا أولادًا أفسدتْهم التَّربية؟ هذا ما يجب اجتنابُه ضبطًا، فاستعمِلوا القوَّةَ مع الأولادِ، والعقلَ مع الرجال، هذا هو النظام الطبيعي، ولا يحتاج الحكيمُ إلى قوانين.

وعامِلوا تلميذَكم على حَسَبِ سِنِّه، وضَعُوه في مكانِه منذ البُداءة، وأمسِكوا فيه جيِّدًا، فلا يحاول الخروجَ منه، وهنالك يمارس أهمَّ الدروسِ قبْل أن يَعْرِف ما الحكمة، ولا تُلقُوا إليه أيَّ أمرٍ في أي شيءٍ على الإطلاق، حتى إنه لا ينبغي أن تدَعُوه يتمثَّل وجودَ زعْمٍ لكم بأيِّ سلطانٍ عليه، ولْيعلَم فقط أنه ضعيفٌ وأنكم أقوياء، وأن وضعَه ووضعَكم يوجبان وجودَه تحت رحمتِكم بحكم الضرورة، ولْيُدرِكْ هذا ولْيَعْرِفه ولْيشعر به، ولْيشعر باكرًا بأن النِّيرَ الشديدَ الذي فرضتْه الطبيعةُ على الإنسانِ قائمٌ على رأسه المتكبِّر، لِيَشعرْ بنِير الضرورةِ الثقيل الذي يجب على كلِّ موجودٍ متناهٍ أن ينحنيَ تحته، ولْيُبصِرْ هذه الضرورةَ في الأشياء، لا في هوى النَّاس،٦ ولْتكن القوةُ لا السلطةُ هي الزاجرَ الذي يُمسِكه، ولا تَحظُروا عليه ما يجبُ أن يمتنعَ عنه، بل امنعوه من فِعْله بلا إيضاحٍ ولا برهان، وما تمنحونه إياه امنَحُوه عند أوَّلِ كلمةٍ منه، امنَحُوه بلا توسُّلٍ منه ولا رجاءٍ وبلا شروط، امنَحُوه إياه طيِّبي الخاطر، ولا تَرفِضوا بلا امتعاض، ولكن لِيكنْ كلُّ رفضٍ منكم لا يُنقَض، وألَّا يَهُزُّكم أيُّ إزعاجٍ كان، ولْيكُن قولُ «لا» منكم جدارًا من قُلُزٍّ،٧ حتى إذا ما حاول الولدُ أن يقوِّضه خمسَ مرات أو ستَّ مرات ارتدَّ ولم يَعُدْ إلى مثلِ هذا قَط.

وهكذا تجعلونه صبورًا معتدلًا مُسلِّمًا هادئًا، حتى عند عدمِ نيْله ما أراد؛ وذلك لأن من طبيعةِ الإنسانِ أن يحتملَ صابرًا ضرورةَ الأمور، لا سوءَ قصْدِ الآخرين. وتُعَدُّ الكلمة «عاد لا يُوجَدُ منه» جوابًا لم يعانده ولدٌ قَطُّ ما لم يعتقد أنه ينطوي على كَذِب، ولا وَسَطَ هنا مطلقًا؛ فإما ألَّا تطلبوا منه شيئًا، وإمَّا أن تَحْمِلوه على أتمِّ طاعةٍ في أوَّلِ الأمر. وتقوم أسوأُ تربيةٍ على ترْكِه مترجِّحًا بين عزائمكم وعزائمه، وعلى جدالٍ دائمٍ يقع بينكم وبينه حولَ مَن يكون منكما سيِّدًا، وأفضلُ مائةَ مرة أن يَخرج من هذا سيِّدًا دائمًا.

ومن الغرابةِ بمكانٍ أنه لم يُتمَثَّلْ، منذ أخذَ النَّاسُ يُفكِّرون في تربيةِ الأولاد، طريقٌ لقيادتهم غيرُ المنافسة والغَيرة والحسد والزهو والطمع والجُبن الدَّنيِّ وأخطرِ الأهواء وأسرعها اختمارًا وأصلحها لإفساد النفس حتى قبل أن يتمَّ نشوءُ البدن. وتُغرَس نقيصةٌ في صميمِ فؤادهم عند كل درسٍ باكرٍ يُراد إدخالُها إلى رءوسهم. وقد بلغ بعضُ المُعلِّمين من السخافة ما يرَوْن معه أنهم يأتون بالعجائبِ بجعلهم الأولادَ أشرارًا لِيعلِّموهم ما الصلاح، ثُمَّ يقولون لنا برَصانة: «هو ذا الرجل.» أجلْ، هو ذا الرجلُ الذي صنعتموه.

وقد اختُبِرَتْ جميعُ الوسائل عدا واحدة، عدا الوسيلة التي يُمكن أن يُكتَب لها النجاح، وهي الحريةُ الحسنةُ التنظيم، ولا يجوز أن تقوموا بتربيةِ ولدٍ إذا لم تَعرِفوا أن تسوقوه إلى حيث تريدون بدساتيرِ الممكنِ والمُحال وحدَها؛ فبما أن دائرةَ الممكن والمُحال مجهولةٌ لديه على السواء، فإنها تُوسَّع حولَه وتُضيَّق كما يُراد، ويُقيَّدُ ويُساقُ ويُمسَك بقيدِ الضرورة وحدَها من غيرِ أن يتذمَّر، ويُجعَل مَرِنًا سَلِسَ القِياد بقوَّة الأشياءِ من غيرِ أن يُتاح لأي عيبٍ من الفُرَص ما ينْبُت معه فيه؛ وذلك لأن الشهوات لا تنتعش ما دامت غيرَ ذاتِ فعل.

ولا تُلْقُوا أيَّ درسٍ شفويٍّ على تلميذكم، ولا يجوزُ أن يتلقَّى من الدروسِ غيرَ التجرِبة، ولا تَفْرِضوا عليه أيَّ نوعٍ من العقوبات؛ وذلك لأنه لا يَعْرِف ما فِعْلُ الخطأ، ولا تَحْمِلُوه على طلبِ العفوِ مطلقًا؛ وذلك لأنه لا يَعْرِف أن يسيء إليكم، وبما أنه خالٍ من كلٍّ خُلُقيةٍ في أفعاله فإنه لا يستطيع أن يصنع ما هو سيءٌ خُلُقيًّا، فيستحقَّ عقابًا أو عتابًا.

وأرى القارئَ المذعورَ يَحكم في هذا الولدِ بأولادِ زماننا، وهو مخطئٌ في هذا، وذلك أن ما تُمسِكون به تلاميذَكم من مضايقةٍ دائمةٍ يُحرِّك فعاليتهم، وأنه كلَّما ضُيِّق عليهم تحت أعينكم بَدَوْا أكثرَ طيشًا حينما يُفلِتون، فيجب أن يُعوَّضوا من الضغطِ الشديدِ الذي تجعلونهم فيه. ويأتي اثنان من طلابِ المدينةِ من التَّلَفِ في بلدٍ أكثرَ مما يأتيه شبابُ قريةٍ بأسْرها، واحبِسوا حضريًّا صغيرًا وقرويًّا صغيرًا في غرفةٍ تَجِدوا الأوَّلَ منكَّسًا منهوكًا قبل أن يتحرك الثاني من مكانه، ولِمَ هذا إذا لم يكن أحدُ الاثنين يُسرع إلى العبثِ بوقتٍ من التحلل، على حين لا يُهرَع الآخَر، المطمئن إلى حريته دائمًا، إلى ابتذالها مطلقًا؟ ومع ذلك فإن أولادَ القَرويين يُدارَوْن ويُناوَءون غالبًا، فلا يزالون بعيدين من الحالِ التي أريدُ أن يُمْسَكوا فيها.

ولْنضعْ قاعدةً ثابتةً قائلةً إن حركات الطبيعة الأُولى مستقيمةٌ دائمًا، فلا يوجد في القلبِ البشريِّ فسادٌ أصلي، ولا يوجد فيه عيبٌ لا يمكن أن يُقال كيف دخله ومن أين أتاه. ويقوم الهوى الطبيعيُّ الوحيدُ في الإنسان على حبِّ الذات، أو الأثَرَة بأوسعِ معنًى. وحبُّ الذاتِ هذا صالحٌ نافعٌ بنفسه وبالنسبة إلينا، وبما أنه ليس للولدِ علاقةٌ ضروريةٌ بالآخرين مُطلَقًا، فإنه يُعَدُّ خَليًّا طبيعةً من هذه الناحية، وهو لا يُصْبح صالحًا أو طالحًا إلا بتطبيق حبِّ الذات وما يُعطاه من صِلات. ومن المهم إذن ألَّا يَصْنع الولدُ شيئًا لأنه سمع ورأى، ألَّا يصنع شيئًا بالنسبةِ إلى الآخرين، ولكنْ أن يصنعَ ما تَطلُب منه الطبيعة، وهنالك لا يصنع غيرَ الخير، وذلك إلى أن يُولَد العقلُ الذي هو دليلُ حبِّ الذات.

ولا أقْصِد بذلك أنه لا يصنع سوءًا، وأنه لا يجْرح نفسه أبدًا، وأنه لا يَكسِر أثاثًا واقعًا تحت يده، ويمكنه أن يصنعَ كثيرًا من السوءِ من غيرِ أن يأتي سوءًا؛ وذلك لأن فعْلَ الضررِ يتوقَّف على نية الأذى، وليس لديه مثلُ هذه النيةِ مطلقًا، وهو إذا ما بدا سيئ النيةِ ضاع وغَدَا شَرِيرًا بلا وسيلةٍ تقريبًا.

ومن الأمورِ ما يَعُدُّه الطمعُ سيِّئًا، ولا يَعُدُّه العقلُ هكذا، ومن المناسِبِ أن يُقصى عن الأولاد، إذا ما تُرِكوا أحرارًا تمامًا في ممارسةِ طَيْشهم، كلُّ ما يَجعل حريتَهم تُكلِّف غاليًا، فلا يُجعَل تحت أيديهم شيءٌ ثمينٌ سريعُ العَطَب، ولْيَكُن مسكنُهم مُجهَّزًا بأثاثٍ غليظٍ متين، فلا يكون فيه مَرايا ولا أوانٍ صينيةٌ ولا أدواتٌ من النفائس. وأمَّا إميلُ الذي أُرَبِّيه في الأرياف فلن تشتمل غرفتُه على شيءٍ يَمِيزها من غرفةِ قَرَوي، وما فائدةُ تزيينها بعنايةٍ ما دام لا ينبغي أن يَبقى فيها إلا قليلًا؟ ولكنني مخطئ، فسيُزيِّنها بنفسه، وسنرى كيف يكون هذا عمَّا قليل.

ومع ما تَبْذُلون من حَذَر، إذا حَدَث أن أحْدَث الولدُ بعضَ الخلل، كأن يَكسِر وعاءً نافعًا، فلا تُعاقِبوه عن إهمالٍ منكم ولا تَنْهروه مطلقًا، ولا تُسمِعوه كلمةَ تأنيب، ولا تَدَعوه يُبصِر أنه أورثَكم غمًّا، واتَّخِذوا من الوضعِ ما يُشعِر بأن الوعاءَ قد كُسِر من تلقاءِ نفسه، ثُمَّ اعتقِدوا أنكم تصنعون كثيرًا إذا ما استطعتم ألَّا تقولوا شيئًا.

أَوَأَجْسُر هنا أن أَعرِضَ أعظمَ قواعدِ التَّربية وأهمَّها وأكثرَها نفعًا؟ ليس هذا كسبًا لوقت، بل ضياعٌ له. ويا أيها القارئون من النَّاس، اغفِروا لي بِدَعي، لا بُدَّ من البِدَع عند إنعامِ النَّظر، ومهما تَقُولوا فإنني أُفَضِّل أن أكونَ رَجُلَ بِدَعٍ على أن أكونَ رَجُل مُبْتَسَرات. وأَشدُّ أدوارِ الحياةِ خطرًا هو ما يقعُ بين الوِلادةِ والثانيةَ عشرةَ من السِّن؛ ففي هذا الدَّوْر تنبُت الأضاليلُ والعيوبُ من غيرِ أن يكونَ من الأدواتِ في اليدِ ما يُقضى معه عليها، ومتى أتتِ الأداةُ كانت الجذورُ من التأصُّلِ ما لا يُمكن معه استئصالُها. أجلْ، لو قفزَ الأولادُ من الثدي إلى سن الرُّشد بَغتةً لأمكنَ أن تكون التَّربيةُ التي يُعطَوْنها ملائمةً لها، غيرَ أن النشوءَ الطبيعي يقضي بمنحهم تربيةً تختلف عن هذه تمامًا، ومن الواجب ألَّا يُزعَجَ الذِّهنُ قبل نُموِّ قابلياته، وذلك أنه إذا ما كان أعمَى لم يستطِع أن يرى الشعلةَ التي تقدمونها إليه، ولا أن يتَّبعَ في حقلِ الأفكارِ الواسعِ طريقًا بلغ العقلُ من ضَعْفِ رَسْمِها ما لا تكاد أحسنُ العيون معه أن تُبصِرها.

ويجب أن تكون التَّربيةُ الأُولى سلبيةً فقط، فلا تقوم على تعليمِ الفضيلة والحقيقة مطلقًا، بل على وقايةِ القلب من العيب وروح الخطأ، وإذا كنتم قادرين على عدمِ صنْع شيء وعدم ترْكِه يصنع شيئًا، وإذا كنتم قادرين على قيادةِ تلميذكم إلى سِن الثانية عشرة سليمًا عُصْلُبيًّا من غيرِ أن يستطيع التفريقَ بين يده اليمنى ويده اليسرى؛ فإن قوَّة الإدراكِ فيه تنفتح للعقل، وهو إذ يكون خاليًا من المُبْتَسرات والعادات، فإنه لا يكون فيه ما يقاوِم أثرَ رعايتكم، وهو لا يَلبث أن يصير بين أيديكم أحكمَ النَّاس. وأنتم إذ تبدءون بعدم صنْع شيء تكونون قد أتيتم بتربيةٍ ذات إعجاز.

وقاوِموا العادةَ تُحسِنوا صُنعًا دائمًا تقريبًا. وبما أنه لا يُراد أن يُجعَل من الولد ولدٌ، بل أستاذٌ، فإن الآباء والمُعلِّمين لم يَرَوا من العجلةِ قَطُّ أن يُعَزَّر ويُصلَح ويُعنَّف ويُدارَى ويُهدَّد ويُوعَد ويُعلَّم ويُناظَر. وافعلوا خيرًا مما يفعلون، وكونوا على صواب، ولا تُبرهِنوا مع تلميذكم على الإطلاقِ حمْلًا له على استحسانِ ما لا يروقه على الخصوص؛ وذلك لأن سَوْق العقلِ في كلِّ وقتٍ هكذا إلى الأمورِ المستكرهةِ لا يؤدي إلى غيرِ عدِّ العقلِ مُمِلًّا وسقوط حُظوته باكرًا في نفسٍ لم تَبلُغ من الحالِ ما تُدرِك معه أمره. ودرِّبوا بدنَه وأعضاءه وحواسَّه وقُواه، ولكن دَعُوا ذهنَه خليًّا لأطولِ مدة ممكنة. واخشَوا جميعَ المشاعر السابقة للحُكم في تقديرها، واحجُزوا الانطباعاتِ الغريبةَ وقِفوها، وحُولُوا دون وقوع الضرر. ولا تستعجلوا الخيرَ مطلقًا؛ وذلك لأنه ليس هكذا إلا عند إلقاء العقل نورًا عليه. وعُدُّوا كلَّ تأجيلٍ فائدة؛ فمن الغُنْمِ الكبيرِ أن يُتقدَّم إلى الحدِّ من غيرِ أن يُخسَر شيء. ودَعُوا الوَلُودِيةَ تَنْضَج في الأولاد، وأخيرًا هل يكون بعض الدروس نافعًا لهم؟ احترِزُوا من إعطائه اليومَ إذا كان تأخيرُه إلى الغدِ لا يُسْفِر عن خطر.

ويوجد اعتبارٌ آخَرُ يؤيِّد فائدةَ هذا المنهاج، وهو ميلُ الولدِ الخاصُّ الذي يجب أن يُعرَف جيِّدًا ليُعلَم أيُّ نظامٍ خُلُقيٍّ يلائمه؛ فلكل نفْس جِبِلَّتُها الخاصة التي يجب أن يُحكَم في أمر النفس وَفْقَها. والمهمُّ في نجاح كلِّ عنايةٍ أن تقوم على هذه الجِبِلة دون غيرها. ويا أيها الرجال من ذوي البصائر، ارقُبوا الطبيعةَ طويلًا وأنْعِموا النظرَ في تلميذكم قبْل أن تقولوا كلمةً له، ودَعوا بذرةَ سجيته تبدو طليقة، ولا تُلجِئوه إلى أيِّ أمرٍ حتى تَرَوه على حقيقته، أَوَتظنون أنه يُضيِّع دورَ الحرية هذا؟ كلَّا سينتفع به على أحسنِ حال؛ وذلك لأنكم ستتعلمون عدم إنفاق ثانية إذا كان الوقت ثمينًا، وذلك بدلًا من كونكم إذا ما بدأتم بالعمل قبْل أن تعرفوا ما يجب أن يُفعَل قام عملُكم على المصادفة، وأمكن أن تُخدَعوا، ووجب أن تُعيدوا رسمَ الخُطا، وستكونون أكثرَ ابتعادًا عن الهدف كلَّما زادت سرعتُكم في الوصول إليه. ولا تفعلوا إذن كالبخيلِ الذي يخسَرُ كثيرًا لكيلا يخسرَ شيئًا، وضَحُّوا في الدَّوْر الأوَّلِ بزمنٍ ستستردونه مع الرِّبا في دَورٍ آتٍ من العُمُر، وذلك كالطبيب الحكيم الذي لا يُعطي الوَصَفات بطيشٍ عند أوَّل نظرة، والذي يَدرُس مِزاجَ المريض قبل أن يفرض علاجًا؛ أجلْ إنه يبدأ بمداواته متأخرًا، ولكنه يشفيه، على حين يقتله الطبيبُ المستعجل كثيرًا.

ولكن أين نضع هذا الولدَ لتنشئته مثلَ موجودٍ فاقدِ الحسِّ كتمثال آلي؟ أنُمسِكه في كُرة القمر أم في جزيرةٍ قَفْر؟ أَوَنُقصيه عن جميع البشر؟ أفلا يكون له في العالَم باستمرارٍ مظهرُ أهواء الآخرين ومثالِهم؟ أفلا يَرى أولادًا من لِدَاته مطلقًا؟ أفلا يرى أبويه وجيرانه ومُرضِعه ومُرَبِّيته وخادمته، حتى مؤدِّبه الذي لن يكون مَلَكًا مع ذلك كله؟

هذا الاعتراض قويٌّ متين، ولكن هل قُلْت لكم إن التَّربيةَ الطبيعية عملٌ سهل؟ ويا أيها النَّاس! هل أُعَدُّ مذنبًا إذا كنتم قد جعلتم صعبًا كلَّ ما هو صالح؟ أشعُرُ بهذه المصاعب، وأعترف بها، وهي مما لا يُذلَّلُ على ما يحتمل، ولكن مما لا مِراءَ فيه دائمًا أننا بسعْينا في اجتنابها نتجنَّبُها إلى حدٍّ ما، وأُبدي ما يجب أن يُحاوَل للوصول إلى الهدف، ولا أقول إن من الممكن بلوغَه، وإنما أقول إن الذي يدنو منه أكثرَ من سواه يكون أحسنَ توفيقًا.

واذكُروا أنه يجب على مَن يحاوِل تكوينَ رجلٍ أن يكون قبْل ذلك رجلًا، فَيَظهرَ مثالًا يُحتذى. وبينا يكون الولدُ خاليًا من المعرفةِ بعدُ يُوجدُ من الوقتِ ما يُعَدُّ فيه كلُّ ما يُدْنيه من حالٍ لا تقع عيناه فيها على غيرِ الأشياء التي يلائمه أن ينظر إليها. وكونوا محترَمين لدى جميعِ النَّاس، وابدءوا بأن تكونوا مُحبَّبين إليهم حتى يحاول كلُّ واحدٍ أن يُرضيَكم، ولن تكونوا سادةَ الولدِ إذا لم تكونوا رقباءَ على جميعِ مَن يحيطون به، ولن يكفي هذا السلطانُ إذا لم يَقُم على تقديرِ الفضيلة. ولا يقوم الأمرُ على إنفاقِ ما في الكيس وتوزيعِ المال ذات اليمين وذات الشمال؛ فلم أرَ قَطُّ أن المالَ حَبَّب إنسانًا. ولا ينبغي الظهورُ بمظهر البخيل الجافي، ولا التوجُّع من بؤسٍ يُمكِن تخفيفُه. ومن العبثِ أن تفتحوا خزائنكم إذا لم تفتحوا قلوبَكم؛ فستظلُّ قلوبُ غيرِكم مقفلة. ويجب أن تُعطُوا وقتكم وعنايتكم ومودتكم وأنفسكم؛ وذلك لأنه مهما يكن ما تستطيعون فعْلَه لا يُشْعَر بأن مالَكم هو شخصكم مطلقًا، ويوجد من دلائل النفعِ وحُسن الالتفات ما يكون له أثرٌ أعظمُ من ذاك، وما يكون أفيدُ من جميع العطايا في الحقيقة، وما أكثرَ التُّعساء والمَرضى الذين يحتاجون إلى الترويح أكثرَ مما إلى الصدقات! وما أكثرَ المضطهَدين الذين تنفعهم الحمايةُ أكثرَ من المال! وأصلِحوا بين المختصِمين، وحُولُوا دون رفعِ القضايا، واحمِلوا الأولادَ على الواجب والآباءَ على الإغضاء، ويَسِّروا أمرَ الأنكحة السعيدة، وامنعوا المظالم، واستغِلوا وابذُلوا ثقةَ أبوَيْ تلميذكم نفْعًا للضعيف الذي تُمسَكُ عنه العدالةُ والذي يُرهقه القوي، وصَرِّحوا عاليًا بأنكم حُماة البائسين. وكُونوا منصفين راحمين محسنين، ولا تقتصروا على الصدقة، بل اصنعوا المعروف؛ فأعمالُ الرأفة تُفرِّج من الهموم أكثرَ مما يُفرِّج المال. وأحِبُّوا الآخرين يُحِبُّوكم، واخدِمُوهم يَخدِمُوكم، وكونوا إخوةً لهم يكونوا أولادًا لكم.

وهذا أيضًا من الأسباب التي تجعلني أريدُ تربيةَ إميلَ في الأريافِ بعيدًا من سِفْلة الخَدَم الذين هم أحطُّ النَّاس بعد مُعلِّميهم، بعيدًا من عادات المُدُن السُّود التي يجعلها ما تُسْتَرُ بها من طِلاءٍ فاتنةً مُعْديةً للأولاد، وذلك بدلًا من نقائصِ القرويين الخالية من المُغريات، والموصوفة بالغِلظة، فيَسهُل رفضُها أكثرَ من أن يُغوَى بها إذا لم تقضِ المصلحةُ بتقليدها.

وفي القرية يكون المُربِّي كثيرَ السيطرة على الأشياء التي يريد عَرْضها على الولد، وفي القرية يكون لسُمْعته وأقواله ومثاله من السلطان ما لا يُمكن أن يكون في المُدُن. وبما أن المُرَبِّي في القرية يكون نافعًا لجميع النَّاس، فإن كل واحدٍ يبادر إلى إرضائه ونيْلِ تقديره، وإلى الظهور للتلميذ كما يَوَدُّ المُعلِّم أن يكون عليه في الحقيقة. وإذا لم يُصلَحُ العيبُ في القرية اجتُنِبَ العارُ على الأقل، وهذا هو كل ما نحتاج إليه في موضوعنا.

وانتَهُوا عن لَوْمِ الآخرين على ذنوبٍ اقترفتموها؛ فالأولاد يَفْسُدون بسوءٍ يَرَون أكثرَ من سوءٍ تُعلِّمون. وأنتم إذ تكونون معنِّفين دائمًا، خُلُقيين دائمًا، متحذلقين دائمًا، من أجل فكرةٍ تُعطونهم إياها معتقدين صلاحها، تعطونهم عشرين فكرة أخرى لا قيمة لها. وأنتم إذ تكونون مفْعَمين بما يدور في رءوسكم، لا تُبْصِرون ما تؤدون إليه من نتيجةٍ في رءوسهم. أَوَتَظنون أنه لا يوجد بين سيل الكلام الذي تغمرونهم به بلا انقطاعٍ كلامٌ يسيئون فَهْمه؟ أَفَتَرون أنهم لا يُفسِّرون إيضاحاتكم المطوَّلةَ على شاكلتهم فلا يَجِدون فيها من الموادِّ ما يجعلون منه جهازًا يدركونه ثُمَّ يعارضونكم به في الوقت المناسب؟

وأنْصِتوا لصبيٍّ صغيرٍ فُرِغَ من درسهِ منذ قليل، ودَعُوه يَهْذِر ويسأل ويَهْذي على هِينَتِه، تُدهَشوا من الشكل الغريب الذي اتخذتُه براهينُكم في ذهنه؛ فهو يَخلِط بين كل شيء، وهو يَقْلِب كلَّ شيء، وهو يُجزِعكم، وهو يُحزنكم أحيانًا باعتراضاتٍ غيرِ منتَظرة. وهو يَحمِلكم على السكوت أو على إسكاته، وما يمكن أن يكون تفكيرُه في أمرِ هذا السكوتِ من قِبَل رجلٍ يحبُّ الكلام كثيرًا؟ قُل السلامَ على التَّربية إذا ما نال هذه الفائدةَ وسَعَرَ بها؛ فكل شيء يضيع منذ تلك الدقيقة؛ فهو يعود غيرَ طالبٍ أن يتعلَّم، وإنما يحاول أن يصُدَّكم.

ويا أيها المُعلِّمون الغُيُر، كونوا بسطاءَ رُصناءَ فُطُنًا؛ فلا تُغِذُّوا في السَّيْر ما لم يكن هذا لمنعِ سَير الآخرين. وسأقول مكررًا دائمًا: أقْصُوا درسًا صالحًا إذا أمكن خشيةَ إلقاءِ درسٍ سيئ، واحْذروا في هذه الدنيا، التي جَعلت الطبيعةُ منها أوَّلَ فِردوسٍ للإنسان، أن تمارِسوا وظيفةَ الغاوي، قاصدين منْح الولدِ البريءِ معرفةَ الخير والشر. وبما أنكم لا تستطيعون أن تَحُولُوا دون تلقي الولدِ أمثلةً من الخارج فاقْصِروا جميعَ حَذَرِكم على طبْع هذه الأمثلة في ذهنه على الصورة التي تلائمه.

وتؤدي الأهواءُ الصائلةُ إلى أثرٍ كبيرٍ في الولد الذي يشاهدها؛ وذلك لأنها دلائلُ محسوسةٌ تَقِف نظرَه وتَحْملُه على الانتباه إليها. ويبلغ الغضبُ في حُمَيَّاه من الضجيج ما يتعذَّر معه ألَّا يُدرَك إذا كان تحت البصر، ولا محلَّ للسؤال عن كون هذه فرصةً لدى المُعلِّم يُلقي بها درسًا جميلًا. وَيْ! لا درسَ جميل، لا شيء، لا كلمة واحدة، دَعُوا الولدَ يأتي، ولا يُعوِزُ الولدَ أن يسألكم عن دَهَشٍ من المنظر، والجواب بسيط، وهو يُستخْرَج من ذاتِ الأمورِ التي تَقِفُ حواسَّه، هو يَرى وجْهًا ملتهبًا، وهو يُستخرَج من ذاتِ الأمور التي تَقِفُ حواسَّه. هو يرى وجهًا ملتهِبًا وعينين مشتعلتَين وحركةً متوعِّدة، ويسمع صُراخًا، وكلُّ شيء يدلُّ على اضطراب البدن. وقولوا له بوقارٍ ومن غيرِ غموض: «إن هذا الرجلَ المسكين مريضٌ، إنه يعاني نوبةَ حمَّى.» ويمكنكم أن تغتنموا هذه الفرصة، فتعطوه بكلماتٍ قليلةٍ فكرةً عن الأمراض ونتائجها؛ وذلك لأن هذا من الطبيعة أيضًا؛ وذلك لأن هذا من قيودِ الضرورة التي يجب أن يشعرَ بخضوعه لها.

وهل من الممكنِ عند هذه الفكرةِ التي ليست خاطئةً ألَّا يساوره باكرًا نفورٌ من الاستسلام للأهواء الشديدة التي سيعُدُّها أمراضًا؟ ألَا تَرون أنه يكون لفكرٍ كهذا يُعطَى في الوقتِ المناسبِ من الأثرِ البالغِ ما يكون لأدعى مواعظِ الأخلاقِ إلى السَّأم؟ ولكن أبْصِروا في المستقبلِ نتائجَ الفكرةِ الآتية، وهي: ها أنتم أولاء مأذونون، وذلك عندما تُلزَمون، في معالجةِ ولدٍ عاصٍ كولدٍ مريض، وفي حصْره ضِمْن غرفته، وعلى سريره عند الاقتضاء، وفي إلزامه بِحِمْية، وفي تخويفه من نقائصه الناشئة، وفي جعْلها كريهةً مُرعبة، وذلك من غيرِ أن يَعُدَّ عقوبةً ما قد تضطرون إلى اتخاذه من شِدةٍ لشفائه من ذلك. وإذا حَدَث لكم أن خرجتم في ساعةِ حِدَّةٍ من برودةِ دمِكم واعتدالِكم الذي يجب عليكم أن تقيموا عليه دراستكم، فلا تحاولوا أن تُخْفُوا عنه خطأَكم، ولكن قولوا له بصراحةٍ ولومٍ مع خفضِ جَناح: «لقد آذيتني يا صديقي.»

ثُمَّ إن من المهم ألَّا تُثارَ أمام الولدِ جميعُ السذاجات التي قد تنشأ فيه عن بساطةِ الأفكار التي غُذِّي بها، ولا أن تُذكَر على وجهٍ يمكن معه أن يُدركها، ومن الممكن أن تُفسِد قهقهةٌ واحدةٌ عملَ ستةَ أشهر، وأن تُحدِث من الضررِ ما لا يمكن تلافيه مدى الحياة. ولا أستطيع أن أقول مكرِّرًا إن مَن يودَّ أن يسودَ الولد أن يكون سيَّدَ نفسِه. وأتمثَّل إميلَ الصغيرَ عند اشتداد شجارٍ بين جارَين متقدِّمًا نحو أكثرِهما هياجًا قائلًا له بتَحنُّن: «أنت مريضٌ يا جار، وأنا حزينٌ من أجْلك كثيرًا.» ولا ريبَ في أن هذا الاحتدادَ لا يبقى بلا أثرٍ في الحضور، وفي المتنازعين. وإني من غيرِ ضَحِكٍ ولا تعزيزٍ ولا مدحٍ آتي به طوعًا أو كَرهًا قبل أن يستطيع إدراكَ ذاك الأثر، أو قبْل أن يُفكِّر فيه على الأقل، وأبادر إلى إلهائه بأمورٍ أخرى تُنسيه ذلك سريعًا.

وليس من مقاصدي أن أَدخُل باب التفصيل مطلقًا، وإنما أرى أن أَعْرِض المبادئَ العامة، وأن أُورِد أمثلةً في الأحوال الصعبة. وأجد أن من المتعذرَ في سواء المجتمع أن يُؤتى بولدٍ في الثانية عشرة من سِنيه من غيرِ أن يُعطى فكرةً عن صلاتِ الإنسانِ بالإنسان، وعن خُلُقية الأعمال البشرية. ويكفي أن يُسعَى في تلقينه هذه المعارفَ في آخِرِ وقتٍ ما أمكن؛ فمتى أصبحت لا مفرَّ منها قُصِرت على النفعِ الحاضر لكيلا يَعتقد أنه سيدُ الجميع أو لئلا يؤذي الآخرين بلا تردُّدٍ وعن غيرِ معرفة. أجلْ، توجد طبائعُ لينةٌ هادئةٌ يمكن أن يُؤتى بها إلى بعيد، وبلا خطر، في براءتها الأُولى، ولكنه يوجد أيضًا من السجايا الصائلة ما ينمو جفاؤها باكرًا، فيجب أن يُجعل منها رجالٌ على عَجَل، حتى لا تقضي الضرورةُ بتقييدها.

وتكون واجباتنا الأُولى نحو أنفسنا، وتتجمَّع مشاعرُنا الابتدائية في أنفسنا، وتهدف جميعُ حركاتنا إلى بقائنا ورفاهيتنا في البُداءة. وهكذا فإن شعورنا الأوَّلَ بالعدل لا يأتينا مما يجب علينا نحو الآخرين، بل من الواجب نحو أنفسنا، وهذا يناقض أنواعَ التَّربية الشائعة التي تُحدِّث الأولادَ عن واجباتهم في بدء الأمر، لا عن حقوقهم مطلقًا، فتكلِّمهم بعكسِ ما يجب؛ أي بما لا يُدركون، وبما لا يُمكن أن يلتفِتوا إليه.

إذن، لو قُدِّر لي أن أُسَيِّرَ ولدًا كما أفترضُ لقلت في نفسي: «إن الولدَ لا يَهْجُم على أحد،٨ بل يَهجُم على الأشياء. ولا يلبث الولدُ أن يتعلَّم بالتجرِبة احترامَ مَن هو أكبرُ منه سِنًّا وأشدُّ قوة. بَيْدَ أن الأشياء لا تُدافِع عن نفْسها بنفْسها؛ ولذا يجب أن تقوم الفكرة الأُولى التي يُعطاها على المَلَكية أكثرَ مما على الحرية. وهو لا بُدَّ من أن يكون مالكًا لشيءٍ حتى تكون عنده هذه الفكرة.» ولا فائدةَ من ذكْر ثيابه وأمتعته ولعبه؛ فهو وإن كان يتصرَّف في هذه الأشياء لا يَعْرِف سببَ تَملُّكِه لها ولا كيف تملَّكَها، ولا طائلَ في أن يُقال له إنه مَلَكَها لأنه أُعْطِيها؛ وذلك لأنه لا بدَّ من العطاء لوقوع التملُّك. وهذا إذنْ تملُّكٌ سابقٌ لتملُّكه، وهذا هو مبدأ التملُّك الذي يُراد إيضاحه له، وهذا من غيرِ حسابٍ لكون العطاء عَقْدًا، ولكون الولدِ لا يستطيع أن يَعْرِف ما العقدُ أيضًا.٩ فيا أيها القراء، أرجو منكم أن تلاحِظوا في هذا المثال، وفي مائةِ مثال آخَر، كيف أنه يُعتقَد مع ذلك حُسنُ تعليمِ الأولاد بشحْن رءوسهم بكلماتٍ لا معنَى لها عندما تكون في متناوَلهم.

ولذلك يجب الرجوعُ إلى أصلِ التملُّك، وذلك لوجوبِ صدورِ الفكرة الأُولى عنه. وإذا ما عاش الولدُ في الأرياف فازَ ببعض المعارفِ عن الأعمال الحقلية، ولا يستلزم هذا غيرَ عيونٍ وفراغ، وهما يتفقان للولد. ونحن في كلِّ دَور، ولا سيَّما دورُ الطفولة، نُريد الإبداعَ والتقليد والإنتاج وإبداء علامات القوة والنشاط، وهو لا يكاد يرى حرْثَ الحديقةِ وبَذْرَ الخُضَر ونَبْتَها ونُموَّها مرتَين حتى يريدَ العملَ في الحدائقِ من ناحيته.

ولا أُعارضُ رغبةَ الولد مطلقًا بالمبادئ المقرَّرة آنفًا، وإنما أؤيدها وأقاسمُه مَيْله، وأعمل معه، لا من أجْل بهجته، بل من أجل بهجتي، وهو يظنُّ هذا على الأقل، وأُصبحُ عاملَه البستاني، وأحْرُث الأرضَ له ريثما يصير ذا ذراعين. وهو يحوز الأرضَ بزَرْعه فولًا، ولا ريبَ في أن هذه الحيازةَ أقدَسُ وأدعى إلى الاحترام من حيازةِ نُونِس بَلْبُوَا لأمريكة باسم ملك إسبانية، وذلك حين نَصَبَ عَلَمه على سواحلِ بحر الجنوب.

ويُؤتى لِسَقْي الفولِ كلَّ يوم، ويُرى نَبْتُه بفرحٍ كثير، وأَزيد هذا الفرحَ بقولي له: «هذا مالُك.» وهنالك أشرح له معنى «مالُك»، فأُشْعِره بأنه وضَع هنالك وقتَه وعملَه وتَعبَه ثُمَّ شخصَه، وبأنه يوجد في هذه الأرضِ شيءٌ من نفسه يمكنه أن يَدَّعِي به تجاه جميع العالَم، وذلك كاستطاعته أن يَسحب ذراعَه من يدٍ رجل آخَر يريد إمساكَها على الرغم منه.

ويَصل ذاتَ يومٍ مُسرِعًا حامِلًا مِرَشَّتَه، فيا له من منظر! ويا له من ألم! فقد قُلع جميعُ الفول، وقد قُلِبت جميعُ الأرض، ولا يَكاد الموضِعُ يُعرَف. ويْ! ما دَهى عملي وأثري وثمرةَ عنايتي وعَرَقي؟ مَن ذا الذي سَلبني مالي؟ مَن ذا الذي أَخذ فولي؟ ويَثور هذا الفؤادُ الفتيُّ، ويأتي أوَّلُ شعورٍ بالظلم لِسَكْب مرارتِه الشجية، وتسيل الدموعُ كالجدول، ويملأ الولدُ الحزينُ بعويله وصُراخه الهواء، ويُشاطَرُ الولدُ أَلَمَه وغيظَه، ويُتلَمَّس، ويُسْتعلَم، ويُدَقَّق في الأمر، وأخيرًا يُعْلَم أن البستانيَّ هو الذي أنزل هذه الضربة، فيُحْضَر.

ولكن، ها نحن أولاء بعيدون من الصواب؛ فقد عَلِمَ البستانيُّ بما يُشْتَكى منه وأخذَ يتوجَّع بأشدَّ مما نتوجَّع.

ماذا! أنتم الذين أفسدوا عملي يا سادتي! فقد زرعتُ شمَّامًا مالطيًّا كنتُ قد أُعطِيتُ حَبَّه مثلَ كَنْز، فرجوتُ أن أُطعمَكم منه عندما يَنْضَج، ولكنكم أهلكتم شمَّامي النابتَ الذي لا أُعوَّض منه زارعين فولَكم الهزيل، وقد اقترفتم خطأً لا يُتلافى نحوي، وقد حَرَمتم أنفسَكم لذَّة الأكل من الشمَّام الفاخر.

جان جاك : عفوًا، يا رُوبِرْت البائس، لقد وضعتَ هنالك عملك وتعبَك، وأرى جيِّدًا أننا أخطأنا إذ أفسدنا صُنعَك، ولكننا سنأتي ببَذْرٍ من مالطة، ولن نَحرث أرضًا قبل أن نعرف هل وضَع أحدٌ يدَه عليها قبلنا.
رُوبِرْت : ويْ! حسنًا يا سادتي، يمكنكم أن تستريحوا إذن؛ وذلك لأنه عاد لا يوجد من الأرَضين ما هو بُور، وأمَّا أنا فإنني أَحرُث الأرضَ التي أَصلحها أبي، وكلٌّ يعمل عينَ الشيء من ناحيته، وجميعُ الأرَضين التي ترون مملوكةٌ منذ زمن طويل.
إميل : إذن، يوجد في الغالب يا مسيو رُوبِرْت، بَذْرُ شمَّامٍ مفقود؟
رُوبِرْت : عفوًا يا أخي، وذلك أنه لا يأتينا من صغار السادة مَن بلغوا مثلَ طيشِك في الغالب، فلا أحدَ يَمَسُّ حديقةَ جاره، وكلٌّ يحترم عملَ الآخرين حتى يطمئن إلى عمله.
إميل : ولكنْ لا حديقةَ لي مطلقًا.
رُوبِرْت : وما أهميةُ ذلك؟ إذا ما أفسدتَ حديقتي لم أَدَعْكَ تتنزَّه فيها مطلقًا؛ وذلك لأني لا أريد أن أخْسر تعبي كما ترى.
جان جاك : ألَا يُمكن عرضُ تسويةٍ على رُوبِرْت الصالح؟ فليُعطني أنا وصديقي الصغير قطعةً من حديقته لِزَرْعها على أن يكون له نصفُ الغلَّة.
رُوبِرْت : أُعطيكما إياها بلا شرط، ولكن اذكُروا أنني أذهب لقلبِ فُولِكما إذا ما لمستُما شمَّامي.

ويُرى، من هذه المحاولةِ في إدخالِ المعارفِ الابتدائيةِ إلى ذهنِ الأولاد، كيف أن مبدأ التملُّك يَرْجع بحكم الطبيعة إلى حقِّ المالك الأوَّل بالعمل، وهذا واضحٌ صريحٌ بسيط، وهو في متناوَل الولدِ دائمًا، ولا يُوجد مِن هناك حتى حقِّ التملُّك والمعاوضات غيرُ خُطْوةٍ واحدة، فإذا تَمَّت وجب الوقوفُ بلا زيادة.

ومما يُرى أيضًا أن إيضاحًا أُدْرجه في صفحتَين من الكتابة هنا سيكون عملَ عامٍ في التطبيق؛ وذلك لأنه لا يمكن أن يُتقدَّم في ميدان الأفكار الخُلُقية على مَهْلٍ بالغٍ، ولا أن يُسار بخُطًا راسِخةٍ كثيرًا. ويا شبابَ المُعلِّمين فكِّروا في هذا المثالِ كما أرجوكم، واذكروا أن دروسَكم في كلِّ أمرٍ يجب أن تكون أعمالًا أكثرَ منها أقوالًا؛ وذلك لأن الأولادَ ينسَون بسهولةٍ ما يقولون وما يُقال لهم، لا الذي يَصنعون ولا ما يُصْنَعُ لهم.

ودروسٌ كهذه مما يجب إعطاؤه عاجلًا أو آجلًا كما قلت، وذلك وَفْقَ ما تقتضيه طبيعةُ التلميذِ الهادئةُ أن المُعَرْبِدَة من تعجيلٍ أو تأجيلٍ للحاجةِ إليها، وطريقُ استعمالها هو من الوضوحِ ما هو بادٍ لكلِّ ذي عينَين، ولكن لنَأتِ بمَثَلٍ آخَرَ لكيلا نُهمِلَ شيئًا مهمًّا في الأمورِ الصعبة.

ويُتلِفُ ولدُكم الشَّكِسُ كلَّ شيءٍ يَمَسُّه، فلا تَغضبوا من هذا مطلقًا، وإنما اجعلوا كلَّ ما يستطيع إتلافَه في مكانٍ لا تصل يدُه إليه، وهو يَكسِر الأمتعةَ التي يستعملها، فلا تُسرِعوا في إعطائه بدلًا منها مطلقًا، ودَعُوه يَشعر بأذى الحرمان، وهو يَكسِر زجاجَ نوافذِ غرفته، فدَعُوا الريحَ تَلطِمُه ليلَ نهارٍ غيرَ مبالين بزُكامه؛ فلأن يُصاب بالزُّكام خيرٌ من أن يكون مجنونًا. ولا تَشْكوا من إزعاجه لكم، ولكن دَعُوه يكون أوَّلَ مَن يَشعر به، وأخيرًا تَحْمِلون على إصلاحِ زجاج النوافذ من غير أن تقولوا شيئًا، وإذا ما عاد إلى الكسرِ فغيِّروا الأسلوب، وقولوا له بجفاءٍ ولكن من غير غضبٍ: «إن النوافذ لي، وهي قد وُضِعَت هنالك بجُهدٍ منِّي، فأُريد أن أصونها.» ثُمَّ احبسوه في مكانٍ مظلمٍ خالٍ من النوافذ، ويَبدأ بالصُّراخ والهياج عند هذه الطريقة الجديدة، ولا يُصغي إليه أحد، ولا يلبث أن يَتعب ويُغيِّر لهجتَه، ويتوجَّع ويئن، ويحضُر خادم، ويرجو العاصي منه أن ينقذه، ويقول الخادمُ له من غيرِ اعتذارٍ عن عدم تلبية طلبه: «لنوافذي زجاجٌ يجب أن أحافظَ عليه»، وينصرف. وأخيرًا بعد أن يَمكُث الولدُ عدة ساعات هنالك؛ أي زمنًا يكفي لِسَأَمه وانطباع ذلك في ذهنه، يقترح عليه أحدُ النَّاس بأن يَعرِض عليكم عهدًا تُعِيدون به حريَّته ولا يعود إلى كسرِ زجاج النوافذ، ولا يطلب ما هو أحسنُ من هذا، ويُرسِل مَن يرجو منكم أن تأتوا لرؤيته، وتجيئون، ويُقدِّم إليكم عهدَه، وتوافقون عليه من فوْركم قائلين له: «هذه فكرةٌ حسنةٌ جِدًّا، ولكلانا كَسْبٌ فيها، ولِمَ لَمْ تُبدِها باكرًا؟» وتُقَبِّلونه فَرِحين غيرَ مطالبين إياه بتأييدٍ لوعده أو توكيد، وتأتون به إلى غرفته حالًا عادِّين هذا العهدَ مقدَّسًا مصونًا كما لو وُكِّد بيمين، وتَرَوْن أيَّ فكرٍ يُنال بهذه الطريقةِ عن الوفاء بالعهود وفائدتها؟ أكون مخطئًا إذا وُجِدَ في العالَم ولدٌ واحد، غيرُ فاسدٍ سابقًا، يستطيع المقاومةَ فيُقدِم على كسرِ زجاجِ نافذةٍ قصدًا، وتتبَّعوا سلسلةَ جميع هذا، ولم يُبصِر الخبيثُ الصغيرُ أنه بإحداثه حُفرَةً لِزَرْعِ فُولِه كان يَحفِر حُجيرَةً مظلمةً لا يُعتِّم عِلْمه أن يَحْبسه فيها.١٠

ونحن الآن في العالَم الخُلُقي، وها هو ذا البابُ مفتوحٌ للعيب، ويُولَد الخِداعُ والكَذِبُ مع العهودِ والواجبات، ويُراد كتمانُ ما وجبَ ألَّا يُصْنَع منذ إمكانِ صُنْعِ ما يجبُ ألَّا يُصنَع، ومتى قضت المصلحة بالوعد أمكنَ مصلحةً أعظمَ منها أن تَحْمِل على نقض الوعد. ولا تَكاد المسألة تقوم على نقضه بلا عقاب؛ فالوسيلة طبيعية، وذلك أنه يُكتتم أو يُلْجأ إلى الكَذِب، ونحن إذ لم نستطِع منعَ العيب فإننا نكون في وَضْعِ مَن يُعاقِب العيبَ كما ترى، وهذه هي أَبْؤسُ الحياةِ البشرية التي تبدأ مع زلَّاتها.

وقد قلتُ ما فيه الكفايةُ لإثباتي عدمَ وجوبِ فرْضِ العِقابِ على الأولاد للعِقاب، وإنما لينالوه كنتيجةٍ طبيعيةٍ لسوءِ ما يَفعلون. وهكذا فإنكم لا ترفعون عقيرتَكم في وجهِ الكَذِب مطلقًا، ولا تُجازونهم على كَذِبهم ضبطًا، ولكنكم تَصُبُّون على رءوسهم جميعَ نتائج الكَذِب عندما يَكْذِبون، كما لو كُنَّا لا نُصدَّق عند قولنا الحقَّ، وكُنَّا نُتَّهم بشرٍّ لم نفعله قَطُّ على الرغم من دفاعنا، ولكن لِنُوضِّح معنى الكَذِب عند الأولاد.

ويوجد للكَذِب نوعان: فالنوعُ الأوَّلُ يقوم على الوقائع في الماضي، ويقوم النوع الثاني على الحقِّ في المستقبل. ويَحدُث النوعُ الأوَّلُ عند إنكارِ فِعْلِ ما فُعِل أو توكيد فِعلٍ لم يُفعَل؛ أي أن يُحدَّث على العموم وعن علمٍ خلافَ حقيقةِ الأمور، ويَحدُث النوعُ الثاني عندما يُوعَدُ بما يُقصَد عدَمُ القيام به؛ أي أن تُبدَى على العموم نيَّةٌ مخالفةٌ لما في النفس، ويُمكِن نوعَي الكَذِب هذين أن يجتمعا في واحدٍ١١ أحيانًا، ولكني أنظر إليهما هنا بما ينطويان عليه من اختلاف.

ومَن يشعُر باحتياجٍ إلى مساعدة الآخرين، ولم ينفكَّ يشعُر بعطفهم، لا تكون لديه مصلحةٌ في مخادعتِهم، وهو على العكس ذو مصلحةٍ ملموسةٍ في رؤيتهم الأمورَ كما هي، وذلك خشيةَ أن يُخدَعوا فيصيبه ضرر؛ ولذا فإن من الواضحِ أن الكَذِبَ في الوقائعِ غيرُ طبيعيٍّ في الأولاد، وإنما دستورُ الطاعةِ هو الذي يؤدي إلى ضرورةِ الكَذِب؛ وذلك لأن الطاعة، إذ كانت شاقَّةً يُتخلَّصُ منها خِفيةً ما أمكن، ولأن المصلحةَ الحاضرةَ في اجتنابِ العِقاب والعتابِ تفوقُ المصلحةَ البعيدةَ في قولِ الحق. ولِمَ يكذِبُكُم ولدُكم في التَّربيةِ الطبيعيةِ الحرةِ إذن؟ وما لديه ما يكتم عنكم؟ أنتم لا تلومونه مطلقًا، أنتم لا تعاقبونه على شيء، ولا تطالبونه بشيء، فلِمَ لا يقول لكم جميعَ ما صَنَع بسذاجةٍ كما يقول لرفيقه الصغير؟ لا يمكن أن يَرَى في هذا الاعترافِ خطرًا أكبرَ مما في عدمه.

والكَذِبُ عن حقٍّ أقلُّ قُرْبًا إلى الطبيعة ما دام الوعدُ بالعملِ أو الامتناعُ عن العمل من الأفعالِ العهدية الخارجة عن حالِ الطبيعة والمخالفة للحرية، وذلك فضلًا عن كون عهود الأولاد باطلةً بنفسها نظرًا إلى أن بصرهم المحدود لا يُمكِن أن يمتدَّ إلى ما وراء الحاضر، فلا يَعرِفون ما يفعلون إذا ما أَلزموا أنفسَهم بأمر، ولا يَكاد يكذِبُ إذا ما ألزمَ نفْسه، وذلك أنه لا يُفكِّر في غيرِ التخلُّص من ورطةٍ في الساعةِ الحاضرةِ فتتساوى عنده جميعُ الوسائلِ التي لا يكون لها أثرٌ حاضر. وهو إذا ما وَعَد لزمنٍ قادمٍ لم يَعِد شيئًا، وما كان خيالُه الذي لا يزال راقدًا لِيَعرِفَ أن يَمُدَّ وجودَه إلى زمنَين مختلفَين مطلقًا. فإذا ما استطاع اجتنابَ السوطِ أو نَيْلَ قُرصٍ من السُّكَّر بأن يَعِدَ بإلقاءِ نفْسه من النافذةِ غدًا وَعَدَ بذلك من فوْره، وهذا هو السببُ في كون القوانينِ لم تلتفت إلى عهودِ الأولاد، وإذا حَدَثَ أن طالبهم الآباءُ والمُعلِّمون بأن يَفُوا بعهودهم وشَدَّدوا كان هذا مقصورًا على ما يجب أن يفعله الولدُ ولو لم يَعِد به.

وبما أن الولدَ لا يَعْرِف ما يَفعَلُ حينما يُلزِم نفسه، فإنه لا يستطيع أن يَكْذِب حينما يُلزِم نفْسه إذن. وليس الأمرُ هكذا عند عدمِ وفائه بعهده، وهذا ضَرْبٌ من الكذِب سارٍ على ما قَبْله، وذلك أنه يَذكر جيِّدًا أنه قام بهذا العهد، ولكن الذي لا يُبْصِر هو أهميةُ الوفاءِ به، وهو إذ كان لا يستطيع أن يُبصِر المستقبلَ فإنه لا يستطيع أن يُبصِرَ نتائجَ الأمور، وهو إذا ما أخلَّ بالتزاماته لم يصنعْ شيئًا مخالفًا لداعي سِنِّه.

ومِنْ ثَمَّ يُرى أن كذِبَ الأولادِ من عملِ المُعلِّمين، وأن الرغبةَ في تعليمهم قولَ الصدقِ ليست شيئًا آخَر غيرَ تعليمهم الكذِب. ولا تَجِدون في غَيْرتكم أن تُنظِّموا أمورَهم وتَرْقُبوهم وتعلِّموهم من الوسائل ما يكفي للنجاح، وتريدون أن تكونوا ذوي نفوذٍ طريفٍ في نفوسهم بمبادئَ لا أساسَ لها، وبقواعدَ خاليةٍ من الصواب، وتُفضِّلون أن يَعْرِفوا دروسَهم وأن يَكْذِبوا على أن يبقَوا جاهلين وصادقين.

وأمَّا نحن، الذين لا يُلقُون على تلاميذهم غيرَ دروسٍ عملية، والذين يُفضِّلون كونهم صالحين على أن يكونوا عالِمين، فإننا لا نطالبهم بالصدق مطلقًا خشيةَ أن يكتموه، ولا نَحمِلهم على الوعدِ بشيءٍ يحاولون عدمَ الإيفاء به. وإذا وقعَ ضررٌ في غيابي لا أَعرِفُ فاعله احترزتُ من اتِّهامِ إميل أو مِن قولي له: «أأنت فعلت هذا؟»١٢ وذلك لأنني ما أصنعُ بهذا غيرَ تعليمه إنكارَ ذلك؟ وإذا كان طبْعُه الصعبُ يَحْمِلني على وضْعِ عهدٍ معه فإنني أتخذُ من التدابيرِ ما يؤدي إلى صدورِ اقتراحِ ذلك عنه، لا عنِّي مطلقًا. وهو إذا ما ألزمَ نفْسه كانت لديه مصلحةٌ حاضرةٌ ملموسةٌ في القيام بعهده، وهو إذا ما أخلَّ به جلبَ هذا الكَذِبُ له من الأضرارِ ما يُبصِرُ ظهورَه من نظامِ الأمور نفسِه، لا من انتقامِ مربِّيه. ولكنني إذ أبتعدُ عن ضرورةِ الالتجاءِ إلى مثلِ هذه الوسائل الجافية، أكاد أطمئن إلى أن إميلَ سيعلم مؤخرًا ما الكَذِب، وهو إذ يَعْلمه يعتريه دَهَشٌ من عدمِ استطاعته أن يتصوَّر وجودَ فائدةٍ في الكَذِب. ومن الواضحِ جِدًّا أنني كلَّما جعلتُ هناءته مستقلةً عن إرادة الآخرين وأحكامهم قطعتُ عنه كلَّ منفعةٍ في الكَذِب.

وإذا لم نتعجَّل التعليمَ لم نتعجَّل في السؤالِ مطلقًا، ولم نطالبْ بشيءٍ في غيرِ الوقت المناسب، وهنالك يتكوَّن الولدُ بما لا يَفْسُد معه أبدًا. ولكن المُعلِّم إذا كان من الطيش ما لا يَعْرِف معه كيف يقوم بعمله فيَحْمِل تلميذَه على الوعد بهذا أو ذاك بلا تمييز ولا خيارٍ ولا قياس، فإن الولدَ الذي يكون قد أملَّتْه هذه الوعودُ وأثقلته يُهملها وينساها ويزدريها في آخِرِ الأمر، وهو إذ يَعُدُّها صِيَغًا فارغةً فإنه يتلهَّى بصُنعها ونقضها، فإذا أردتم أن يكون مخلصًا في الإيفاءِ بوعدِه فكونوا فُطُنًا في مطالبته بها.

وما أتيتُ من تفصيلٍ حوْل الكَذِب يُمكن أن يُطبَّق من نواحٍ كثيرةٍ على جميعِ الواجبات الأخرى التي لا تُفرَض على الأولادِ إلا لتكون بغيضةً غيرَ عمليةٍ لديهم، وهم يُحمَلون على حبِّ جميعِ العيوب ليُظهَرَ بمظهرِ الواعظِ لهم بالفضيلة، وهم يُعطَوْنها بمنْعهم من حيازتها. وإذا أُريد جعلُهم أتقياءَ أُتي بهم إلى الكنيسة ليُحْمَلوا على الدندنةِ بالصلوات، فيُلجَئوا إلى ابتغاءِ السعادة في عدم دعوة الرب. وهم لكي يُوحَى إليهم بحبِّ الخير يُلزَمون بإعطاء الصدقة كما لو كنتم تزدرون إعطاءهم بأنفسكم. حسنًا! فالمُعلِّم لا الولد، هو الذي يجب أن يُعطى، ومهما بلغ المُعلِّم من حُبِّه لتلميذه وَجَبَ أن ينازعه هذا الشرف؛ أي يجب أن يَحْمِله على الحُكم بأن مَن هو في سِنِّه ليس أهلًا لذلك؛ وذلك لأن الصدقةَ عملُ رجلٍ يَعرِف قيمةَ ما يُعطي وحاجةَ النَّاس إليها. ولا يُمكن الولدَ الذي لا يَعْرِف شيئًا عن هذا أن يكون ذا مَزِيَّةٍ في العطاء، وذلك أنه يُعْطي عن غيرِ خيرٍ ولا حسنة، وهو يكون على استحياءٍ في العطاءِ تقريبًا عندما يعتقد، مستندًا إلى مثالِه ومثالِكم، أنه لا يوجد غيرُ الأولادِ مَن يُعْطي، وأنه لا صدقةَ بعد أن يَكْبُرُوا.

واعْلموا أن الولدَ لا يُحمَلُ على إعطاءِ شيءٍ غيرِ ما يَجهَل قيمته؛ أي غيرِ قِطَعٍ معدنية يَحمِلُها في جيبه، فلا تنفَعُه في غير هذا، ويُفضِّل الولدُ إعطاءَ مائة دينارٍ على قطعةٍ من الحلوى، ولكن حرِّضوا هذا الموزِّعَ المبذِّرَ على إعطاء الأشياء العزيزة عليه كلُعَبه ومُلَبَّسه وغدائه لِنعلمَ من فوْرنا هل جعلتموه كريمًا.

وتوجَدُ تجرِبةٌ أخرى لذلك أيضًا، وهي أن يُبادَرَ إلى إعادةِ ما أَعطى الولد، وذلك أن يُعوَّدَ إعطاءَ كلِّ ما يَعلم جيِّدًا أنه يعود إليه، ولم أرَ في الأولادِ قَطُّ غيرَ هذين النوعَين من الكرَم، وهما: أن يُعطُوا ما هو غيرُ صالحٍ لشيءٍ عندهم أو أن يُعطُوا ما يعتقدون أنه يُعاد إليهم. ويقول لوك: «اصنعوا ما يقنعون معه عن تجرِبةٍ بأن الأكثرَ سخاءً هو الأكبرُ حِصَّةً دائمًا.» وهذا ينطوي على جعْل الولدِ سخيًّا ظاهرًا وبخيلًا حقيقةً. وإلى ذلك يُضيفُ لُوكُ قوله: «وهكذا يَألَف الأولادُ عادةَ الكرم.» أجلْ، كَرَمٌ مُرْبٍ يقوم على إعطاءِ بيضةٍ نَيْلًا لبقرة، ولكن قُل السلامَ على العادةِ إذا ما قام الأمرُ على عطاءٍ حقيقي، وإذا ما كُفَّ عن الإعادةِ كُفَّ عن العطاء حالًا. ويجب أن يُنتَبه إلى عادةِ الرُّوح أكثرَ مما إلى عادةِ الأيدي، وتُشَابِه هذه جميعَ الفضائل الأخرى التي يتعوَّدها الأولاد، وفي سبيل وَعْظِهم بهذه الفضائلِ المتينة يُفنَى شبابهم في الغمِّ! فيا لها من تربيةٍ حكيمة.

ويا أيها الأساتذة، دَعُوا الرِّئاء، وكُونوا فُضَلاء صالحين، فَتُنقَشَ أَمثلتُكم في ذاكرة تلاميذكم ريثما يُمكنها أن تَدخل في قلوبهم. وأُفضِّلُ أن أقوم بأعمالِ البرِّ أمام تلميذي على المبادرة بمطالبته بها، وأن أَنزِعَ منه حتى وسيلةَ اقتدائه بي فيها كشرفٍ خاصٍّ بسنِّه، وذلك أن من المهم ألَّا يتعوَّد عَدَّ واجبات الرجال كواجبات الأولاد فقط. وإذا ما رآني أساعد الفقراءَ وسألني عن ذلك أَجبْتُه بعدَ حينٍ بما يأتي:١٣ «عندما أراد الفقراء، يا صديقي، وجودَ أغنياءَ وَعَدَ الأغنياءُ بإطعامِ جميعِ مَن ليس لديهم ما يعيشون به سواءٌ بمالهم أو بعملهم.» ويَرُدُّ التلميذُ بقوله: «إذن، أنت وعدت بهذا.» ويقول المُعلِّم: «أجلْ، لستُ صاحبَ المالِ الذي يمرُّ من يدي إلا بشرطٍ متعلقٍ بتملُّكه.»

وبعد أن يَعِي ولدٌ غيرُ إميل هذا الكلام، وقد رأينا كيف يمكن جَعْلُ الولدِ في حالٍ يَعِيه فيه، سيحاوِل الاقتداءَ بي، وسيسير مثلَ رجلٍ غني، وفي هذه الحال سأمنع وقوعَ هذا مع تَبَاهٍ، فأُفضِّل أن يختلس منِّي امتيازي وأن يَستتر في العطاء، وهذا خِتالٌ من قِبَله، وأُغضي عن هذا وحدَه.

وأَعرِف أن جميعَ هذه الفضائل عن اقتداءٍ هي فضائلُ قرد، وأن العمل الصالح لا يكون صالحًا خُلُقيًّا إلا إذا صُنِع هكذا، لا لأن الآخرين يصنعونه. وأمَّا في السِّن التي لا يشعُر القلبُ فيها بشيءٍ بعدُ؛ فيجب حَمْلُ الأولادِ على تقليدِ الأعمالِ التي يُراد تعويدُهم إياها ريثما يستطيعون صُنْعَها عن تمييز الخير وحُبِّه. والإنسان مقلِّد، والحيوان مقلِّد أيضًا، وحُب التقليد من عمل الطبيعة الحسنة التنظيم، ولكن ينحطُّ في المجتمع إلى عيب. ويُقلِّد القردُ الرجلَ الذي يَخشى، ولا يُقلِّد الحيوانات التي يَزْدري، وهو يرى حسنًا ما يَصنعه موجودٌ خيرٌ منه. وعلى العكس يُقلِّد مهرِّجونا على أنواعهم كلَّ ما هو جميلٌ حطًّا له، تحويلًا له إلى مهزأة. وهم يحاولون بشعورهم السافل مساواةَ مَن هم أفضلُ منهم، أو يسعون أن يُقلِّدوا مَن يُعجَبون بهم، ويتجلَّى ذوقُهم الفاسدُ في اختيار النماذج، وهم يُفضِّلون أن يُموِّهوا على الآخرين، أو أن يَحمِلوا على الهُتاف لنبوغهم، على أن يكونوا أحسنَ حالًا أو أكثرَ حكمة. وتجِدُ أساسَ التقليد بيننا في رغبتنا أن ننتقل إلى خارج أنفسنا، وإذا ما كُتِبَ لي التوفيقُ لم تساور إميلَ هذه الرغبةُ لا ريب، ويجب إذن أن نمتنع عن الخيرِ الظاهر الذي يُمكِن أن تؤدي إليه.

وتَقصَّوْا قواعدَ تربيتكم تجدوها كلَّها مخالفةً للصواب، ولا سيَّما ما هو خاصٌّ منها بالفضائل والأخلاق. ويقوم درسُ الأخلاقِ الوحيدُ الذي يلائم الولد، والذي هو أهمُّ ما في أدوار الحياة، على عدم إساءة أحد، حتى إن مبدأَ صُنْعِ المعروفِ خَطِرٌ فاسدٌ متناقِضٌ إذا لم يكن تابعًا لذاك. ومَن ذا الذي لا يَصنع المعروف؟ جميعُ النَّاس يصنعونه، يَصنعُه الشَّرِيرُ كغيره، وإنما يَجعل إنسانًا سعيدًا على حسابِ مائة بائس، ومن هنا تأتي مصائبنا كلُّها، وجميعُ أرفعِ الفضائل سلبية، وهي أصعبُها أيضًا، وذلك لِخُلُوِّها من كل افتخار، ولأنها فوق تلك الرغبةِ الكثيرةِ الحلاوةِ على قلبِ الإنسان، في جعل إنسانٍ آخَر راضيًا عنَّا. وَيْ! يا لَلْمعروف الذي يَصنعه الواحدُ نحو أمثاله، عند وجود هذا الواحد، بعدم إيذائهم! وأيُّ رباطةِ جأشٍ وأيُّ متانةِ خُلُقٍ يحتاج إليهما في هذا السبيل! وليس في الحديثِ حول هذا المبدأ، بل في محاولة تطبيقه، ما يُشعَرُ بمقدار ما يقتضيه النجاحُ به من همَّةٍ ومشقة.١٤

وتلك بعضُ آراءٍ طفيفةٍ عن الاحتياطات التي أردتُ أن يُمنَح الأولادُ بها من المعارف ما لا يُمكن أن يُحبَس عنهم أحيانًا من غيرِ أن يُعرَّضوا هم أو غيرهم للضرر، وأن يألَفوا من العادات، على الخصوص، ما يَصعُب إصلاحُه فيما بعد. ولكنْ لِنَثقْ بأن من النادرِ أن تبدو هذه الضرورةُ للأولاد التي نُشِّئوا كما يجب؛ وذلك لأن من المتعذرِ أن يصبحوا أعِقَّةً أشرارًا كاذبين جَشِعين إذا لم يُبذَر في قلوبهم من النقائص ما يَجعَلُهم هكذا. وهكذا فإن ما قُلْتُه حَوْلَ هذه النقطةِ يَصْلُح للشواذِّ أكثرَ مما للقواعد، غير أن هذه الشواذَّ تكون كثيرةَ الوقوع بنسبة ما تَكثُر الفُرَص لدى الأولادِ للخروج من حالهم وتعوُّدهم نقائصَ الرجال. وتقضي الضرورةُ بأن يكون عند مَن يُنشَّئون بين النَّاسِ من المعارفِ المعجَّلةِ أكثر ممن يُنشَّئون في العزلة؛ ولذا تُفضَّل هذه التَّربيةُ الاعتزالية ولو لم تؤدِّ إلى غيرِ مَنْحِ الأولادِ وقتًا يَنضَجون فيه.

وللشواذِّ نوعٌ آخَرُ تُخالِف به ذلك النوعَ، خاصٌّ بمَن هم مِن يُمْنِ الطبيعةِ مَن يَعْلُون مستوى عُمُرهم؛ فكما أنه يوجدُ رجالٌ لا يَخرجون من الوَلُودِيةِ يُوجَدُ من الرجال مَن لا يمُرُّون منهم مطلقًا؛ لأنهم يُولدون رجالًا تقريبًا. والحرَجُ في كونِ هذا الشاذِّ الأخيرِ نادرًا جِدًّا، وفي صعوبة معرفته، وذلك أن كلَّ أمٍّ تتصوَّر إمكانَ كونِ الولدِ نادرةَ الزمان فلا يُخامِرها شكٌّ في كون ولدِها هكذا، وذلك أن الأمهات يفعلن أكثرَ من ذاك؛ فهن يَحسُبن من العلائمِ الخارقةِ للعادةِ ما يدلُّ على النظامِ المعتاد، كالنشاط والحِدَّة والطيش والسذاجة المُلهية؛ أي ما يُعَدُّ أحسنَ دليلٍ على أن الولدَ ليس سوى ولد. وهل من العجيبِ أن ينشأ لقاءٌ مُوفَّق، مصادفةً عمن يُحمَل على الكلامِ كثيرًا ويُسمَح له بقول كلِّ شيء من غيرِ أن يُضايق باعتبارٍ ولا لِياقة؟ هو يكون في عدمِ إصابته الهدفَ كالمُنجِّم الذي يأتي ألفَ أكذوبة من غيرِ أن يُخْبر بأمرٍ حقيقيٍّ مرةً واحدة. وكان هنري الرابع يقول إنهم يأتون من الأكاذيبِ الكثيرةِ ما يقولون الصدقَ معه في نهاية الأمر. وليس على مَن يريد أن يَجِد بعضَ الكلمات الصالحة إلا أن يقول كثيرًا من التُّرَّهات. والله يحفَظُ من السوء جميعَ مَن يكونون على المُوضَة،١٥ فلا يكون لديهم من المؤهلات ما يُعيِّدون به غيرُ هذا.

ويُمكِن أسطعَ الأفكارِ أن تهبِط في دماغِ الأولاد، وإن شئت فقُل إن أروعَ الكلمات يُمكِن أن تَخرُج من أفواههم، وذلك كوجود أثمنِ الألماسِ في أيديهم، وذلك من غيرِ أن يدلَّ هذا على كونِ الأفكارِ والألماسِ مُلْكًا لهم؛ فلا مُلك حقيقي لمن هم في هذه السِّن أيًّا كانوا. وليست الأمورُ التي يُحدِّثنا عنها الولدُ في نظرِ هذا الولدِ مثلَ ما عندنا، ولا يَقرِن الولدُ بها من الأفكارِ ما نَقرِن، ولا يكون لهذه الأفكارِ في رأسه، إذا ما وُجِدَ منها، أيُّ ترتيبٍ ولا ارتباطٍ ولا ثباتٍ ولا رسوخٍ في جميع ما يُفكِّر. وإذا ما أنعمتم النظرَ في نادرتِكم المزعومِ وجدتم له في بعضِ الأحيانِ نابضًا بالغَ النشاط ورُوحًا لمَّاعًا يخرُق السَّحاب، ويبدو هذا الرُّوح لكم في الغالب متوانيًا ناديًا كأنه محاطٌ بضبابٍ كثيف؛ فتارةً يَسْبقكم، وتارةً يبقى ساكنًا، وتقولون ثانيةً إنه عبقريٌّ، وتقولون بعد ثانيةٍ إنه غبي، وتُخطِئون دائمًا، وذلك أنه ولد، وذلك أنه فَرْخُ نَسرٍ يَشُقُّ الهواءَ لِيسقط في وَكْرِه بعد ثانية.

إذن، عامِلوه وَفْقَ سِنِّه على الرغم من الظواهر، واخشَوْا أن تستنفدوا قُواه قاصدين تمرينَها كثيرًا. وإذا ما حَمِيَ هذا الدماغُ الفتي، وإذا ما أبصرتم أنه أخذَ يفور، فدَعُوه يثور طليقًا، ولكن لا تهيِّجوه مطلقًا خشيةَ أن يتصاعدَ كلُّه. ومتى أخذت الغازات الأُولى تتبخَّر فأمسكوا الأخرى واضغطوها، وذلك حتى يتحوَّل الجميعُ مع السِّنين إلى حرارةٍ مُنعِشةٍ وقوةٍ حقيقية، وإلا أضعتم وقتَكم وقضيتم على عملِكم الخاص. وإنكم بعد أن تَسْكَروا بجميعِ هذه الغازاتِ الملتهبةِ بلا فِطنة لم يَبْقَ لكم غيرُ ثُفْلٍ بلا حَوْل.

ويَنشأ ذوو الطَّيش من الأولادِ رجالًا عاديين، ولا أَعرِف ملاحظةً أعمَّ من هذا ولا أعظمَ ثبوتًا، ولا شيءَ أصعبُ في الوَلُودِية من أن يُفرَّق بين الغباوة الحقيقية والغباوة الظاهرة الخادعة التي هي إعلانُ النفوس القوية. ومما يبدو غريبًا أوَّلَ وهلةٍ أن يكون للحدَّين المتناهيَين علائمُ بالغةُ المشابهة، وهذا ما يجب أن يكون مع ذلك؛ وذلك أن كلَّ فرْقٍ بين من يكون ذا نبوغٍ وبين مَن لا يكون يقوم في دَور العُمُر الذي لا يكون للإنسان فيه أيُّ فكرٍ حقيقي، على كونِ الأخير لا يتقبَّل غيرَ أفكارٍ فاسدة، وعلى كونِ الأوَّلِ لا يتقبَّل أيَّ واحدٍ من هذه الأفكارِ لِمَا لم يَجِد سواها؛ ولذا فهو يشابه الغبيَّ من حيث كونُ الغبيِّ غيرَ قادرٍ على شيء، وكونُه — أي الأوَّل — لا يلائمه أيُّ شيء، ويتوقف الفارقُ الوحيد الذي يُمكِن أن يَمِيز أحدَهما من الآخر، على المصادفة التي تستطيع أن تَعرِض على الأخيرِ أفكارًا تكون في متناوله على حين يكون الأوَّلُ هو إياه في كلِّ مكان. وكان الفتى كاتون يشابه، وهو ولدٌ، بليدًا في المنزل، وقد كان صموتًا عنيدًا، وهذا هو كلُّ الرأي الذي كان يُحمَلُ عنه، وليس في غيرِ غرفةِ استقبالِ سيلَّا ما استطاع عمُّه أن يَعْرِف حقيقةَ أمرِه، ولو لم يدخل هذه الغرفةَ قَطُّ لعُدَّ شرِسًا حتى سِن الرشد، ولو لم يظهر قيصرُ قَطُّ لعُدَّ صاحبَ أوهامٍ دائمًا كاتونُ هذا. كاتونُ نفسُه، الذي نَفَذَ إلى عبقريته المشؤمة وأبصر جميعَ خِططه من بعيد، ويا لَكثرة ما يُعرَّض له من خطأ أولئك الذين يَحْكُمون في أمرِ الأولادِ على عَجَل! فهم أولادٌ أكثرُ منهم غالبًا. وممن أبصرت في سِنٍّ متقدِّمة بعضَ التقدُّمِ رجلٌ شرَّفني بصداقته، عُدَّ في أُسرتِه وبين أصدقائه محدودَ الذكاء؛ فهذا الرأسُ الممتازُ كان يَنْضَج نَضْجًا صامتًا، ويبدو فيلسوفًا بغتة، ولا ريبَ عندي في أن الأعقاب ستعطيه مكانًا كريمًا ممتازًا بين أحسنِ مفكِّري عصره وأعمقهم في ما بعد الطبيعة.

واحترموا الوَلُودِية، ولا تستعجلوا الحكمَ فيها مطلقًا، خيرًا كان هذا الحكم أو شرًّا، ودَعُوا الشواذَّ تدلُّ على نفسِها وتُثبت نفسَها وتوَكِّد نفسَها زمنًا طويلًا قبْل أن تتخذ لها مناهجَ خاصَّة، ودَعُوا الطبيعة تعمل طويلًا قبْل أن تُعنَوْا بالعملِ بدلًا منها، وذلك لكيلا تُعاكسوا أعمالَها. وأنتم تقولون إنكم تعرفون ثَمنَ الوقتِ ولا تريدون ضياعَ شيءٍ منه مطلقًا، وأنتم لا تَرون أن ضياعَه مع سوءِ استعمالٍ أكثرُ من ضياعِه مع عدمِ صُنْع شيء، وأن الولدَ السيئ التعليمِ أقلُّ حكمةً من الولدِ الذي لا يُعلَّمُ شيئًا، ومما يُذعِركم أن تَرَوه يَستنفِد سِنيه الأُولى في عدم عمل شيء. ماذا! أليس من السعادةِ أن يثِبَ ويلعبَ ويعدوَ اليومَ كلَّه؟ لن يكون في حياته كثيرَ الأشغالِ بمثل هذا المقدار، وأفلاطون في جمهوريته التي يُعتَقَدُ أنها بالغةُ الصرامة لا يُربي الأولادَ إلا في الأعياد والألعاب والأغاني والملاهي، ويظهر أنه صَنع كلَّ شيء حينما أجاد في تعليمهم البهجة. وقد قال سِنيكا عندما تكلَّم عن الشبيبة الرومانية: «إنها قائمةٌ دائمًا، ولم تُعلَّم من الأمورِ ما تتلقاه وهي قاعدة.» وهل أصبحت أقلَّ قيمةً عندما بلغتْ سِنَّ الرجولة؟ أَوَتَخشون إذن هذه البِطالة المزعومة؟ وما تقولون عن رجلٍ لا يريد أن ينام ليتمتَّعَ بجميعِ الحياة؟ تقولون: «إن هذا الرجلَ أحمق؛ فهو لا يستفيد من الوقت، وهو يَحرِم نفسَه قِسْمًا منه، وهو يركُض نحو الموتِ بفراره من النوم.» واعْلَموا إذن أن الأمرَ هنا هو هو؛ فالوَلُودِية هي نوم العقل.

وسهولة التعلُّمِ الظاهرةُ سببُ خسران الأولاد، ولا تُرَى هذه السهولةُ نفسُها دليلًا على أنهم لا يتعلَّمون شيئًا، ويشابه دماغُهم الأملسُ الصقيلُ المرآةَ في انعكاسِ ما يُعرَض عليه من الأشياء، ولكن لا شيءَ يبقى، ولا شيءَ يَنفُذ، والولد يَحفظ الألفاظ، والألفاظُ تنعكس ويُدركها سامعوه، وهو وحدَه لا يدركها.

ومع أن العقلَ والذاكرة خاصِّيَّتان مختلفتان جوهرًا، فإن إحدى هاتَين الخاصيتَين لا تنمو إلا مع الأخرى في الحقيقة. ولا يتلقَّى الولدُ أفكارًا قبْل سِن الرشد، وإنما يتلقَّى صُورًا، ويتجلَّى الفرْق بين الأمرَين في كونِ الصورِ ليست غيرَ ألواحٍ مطلقةٍ للأشياء الحسيَّة، وفي كونِ الأفكارِ مفاهيمَ للأشياء تُعيَّنُ بما بينها من علاقات. وقد تكون الصورةُ وحدَها في الذهن الذي يتمثَّلها، وأمَّا كلُّ فكرٍ فيفترض أفكارًا أخرى، ومتى تصوَّرنا أبصرنا فقط، ومتى فكَّرنا قابلْنا. وإحساساتنا منفعلةٌ مَحْضًا، على حينِ تَصدُر جميعُ إدراكاتنا أو أفكارِنا عن مبدأ فاعل يَمِيز، وسنُثبِت هذا فيما بعد.

وأقول إذن: بما أن الأولادَ غيرُ قادرين على التمييز، فإنهم لا يتصفون بذاكرةٍ حقيقيةٍ على الإطلاق، وهم يحفظون أصواتًا وصُوَرًا وإحساسات، ومن النادر أن يَحفظوا أفكارًا، وأندرُ من هذا حِفظُهم ما بين الأفكارِ من ارتباط. وإذا ما اعتُرض عليَّ بأنهم يتعلَّمون بعضَ مبادئ الهندسة ظُنَّ إقامةُ الدليلِ ضدي، مع أن الدليلَ يُقام تأييدًا لي، وذلك أنه يَظهر من البعيدِ جِدًّا معرفةُ الأولادِ أن يستدلوا بأنفسهم، حتى إنهم لا يَعْرِفون استدلالات الآخرين، وذلك أنكم إذا ما تتبَّعتم هؤلاء المهندسين الصِّغارَ في منهاجهم أبصرتم من فَوْركم أنهم لم يحفظوا غيرَ الانطباعِ التام للشكل ولحدود الدليل، ولا يستطيعون الوقوفَ أمامَ أقلِّ اعتراض جديد، وإذا ما قلبتم الشكلَ لم يستطيعوا فِعلَ شيء. وليست ذاكرتُهم نفسُها أكملَ من خصائصهم الأخرى، وذلك لِما يجب دائمًا من تعلُّمِهم في كِبَرهم ما تعلَّموا كلماتِه من الأشياء في صِغَرِهم.

ومع ذلك تَجِدُني بعيدًا من التفكير في كوْن الأولادِ خالين من أي نوعٍ من الاستدلال،١٦ وعلى العكس أراهم يجيدون الاستدلالَ في كلِّ ما يَعْرِفون وفي كلِّ ما يطابق مصلحتَهم الحاضرة والمحسوسة. ولكن الوهم يدور حولَ معارفهم بأن يُعْزى إليهم ما لا يمكنهم إدراكُه، وكذلك يُوهَم عندما يُراد جعْلُهم منتبهين إلى اعتباراتٍ لا يدركونها بأي وجهٍ كان، كمصلحةٍ آتيةٍ لهم، وكسعادتهم حينما يَغدون رجالًا، وكاحترامٍ ينالونه عندما يصيرون كِبارًا؛ أيْ أمورٍ لا معنَى لها على الإطلاق لدى هؤلاء الخالِين من كلِّ بصيرة. والواقع أن جميعَ دراسات هؤلاء المخلوقاتِ التعساء البائسين القسرية تَهدِف إلى أغراضٍ غريبةٍ عن نفوسهم تمامًا، ويُمكنُكم أن تَحْكُموا فيما يستطيعون أن يُعِيروها من انتباه.

ويَميل المُعلِّمون الذي يَعْرِضُون علينا في جهازٍ كبيرٍ ما يُلقُون على تلاميذهم من معارفَ إلى استعمالِ لغةٍ أخرى، ومع ذلك فإنه يُرى من سلوكهم الخاص أنهم يفكرون مثلما أفكِّر، وذلك: ما يُعلِّمونهم في نهايةِ الأمر؟ يعلمونهم كلماتٍ، وكلماتٍ أيضًا، وكلماتٍ دائمًا، وتَراهم يحترزون بين مختلفِ العلوم التي يُباهون بتعليمهم إياها، من اختيارِ ما يكون نافعًا لهم حقًّا؛ وذلك لأنه يكون علومَ الأشياء، وهذا ما لا يُوَفَّقون فيه، وإنما يُكتَب لهم التوفيقُ في العلوم التي يَلوحُ أنها تُعرَف إذا ما عُرِفت ألفاظُها كالأشْعِرةِ والجِغرافيةِ والتقويمِ واللغاتِ … إلخ، أيْ الدراساتِ الكثيرةِ البُعدِ من الإنسان، ولا سيَّما الولد، فيكون من العجيبِ أن يوجد شيءٌ منها يُمكن أن يكون نافعًا له في حياته ولو مرةً واحدة.

وستُدهشون من عَدِّي درسَ اللغاتِ بين أباطيلِ التَّربية، ولكن ليُذكَر أنني لا أتكلم هنا عن غيرِ دروس الدَّور الأوَّل من العُمُر، ومهما يُمكن أن يُقال فإنني لا أعتقد وجودَ ولدٍ استطاع أن يتعلَّم لغتَين حقًّا قبْل بلوغهِ الثانيةَ عشرةَ أو الخامسةَ عشرةَ من سِنيه، ما لم يكن من النوابغ.

وأوافق على أن درسَ اللغات إذا لم يكن غيرَ درسِ الكلمات؛ أي درسِ الرموزِ والأصواتِ التي تُعبِّر عنها، فإن هذا الدرسَ يمكن أن يلائم الأولاد، غيرَ أن اللغات إذا ما غَيَّرت الرموزَ عَدَّلت الأفكارَ التي تُعبِّر عنها أيضًا، وتتألَّف الأذهانُ من اللغات، وتتخذ الأفكارُ صِبغةَ اللهجات، والعقل وحدَه مشتركٌ بين الجميع. وللرُّوح في كل لغة شكلُه الخاص، ويمكِن هذا الفرْق أن يكون علَّةَ الأخلاقِ القوميةِ أو معلولَها من بعض الوجوه، والذي يلوح مؤيِّدًا لهذا الظَّن هو أن اللغة لدى جميعِ أمم العالَم تتَّبع تقلُّبات الطبائع وأنها تبقى أو تتغيَّرُ مثلَها.

والاستعمالُ يمنح الولدَ أحدَ هذه الأشكالِ المختلفة، وهذا الشكلُ وحدَه هو الذي يحافِظ عليه حتى سِن الرشد، ويجب لكي يكون لديه شكلان أن يَعْرِف مقابلةَ ما بين الأفكار، وكيف يُقابِل بينها وهو لا يكاد يكون في حالٍ يُدرِكها فيه؟ ويُمكن أن يكون لكل شيء ألفُ إشارةٍ مختلفةٍ عنده، غيرَ أنه لا يكون لكل فكرٍ سوى شكل واحد. وهو لا يستطيع أن يتعلَّم إذن غيرَ لغة واحدة، وهو مع ذلك يتعلَّم عدة لغات كما يُقال لي، فأُنكر ذلك. وقد رأيت من هؤلاء الصِّغار النادرين مَن يعتقدون أنهم يتكلَّمون خمس لغات أو ست لغات، وقد سَمِعتُهم يتكلَّمون الألمانية متعاقبًا بألفاظٍ لاتينيةٍ وألفاظٍ فرنسيةٍ وألفاظٍ إيطالية، وكانوا يستعملون من المعاجم في الحقيقةِ ما يترجَّح بين خمسةٍ وستة، ولكنهم كانوا لا يتكلمون بغيرِ الألمانية دائمًا. والخلاصةُ أنكم إذا ما أعطيتم الأولادَ مترادفاتٍ كثيرةً كما تودُّون غيَّرتم الألفاظَ لا اللغة، وهم لن يَعْرِفوا غيرَ واحدة.

ويُفضَّل تمرينُهم على اللغات الميتة التي لا يوجد فيها من الحَكَم ما لا يُمكن ردُّه، وبما أن استعمالَ هذه اللغاتِ المعتادَ قد زال منذ زمن طويل، فإنه يُكتفى باتباع ما هو مسطورٌ في الكتب، فيُسمَّى الكلام. وإذا كانت هذه يونانية المُعلِّمين ولاتينيتهم فما يُقال عن يونانية الأولاد ولاتينيتهم؟ لم يَكادوا يحفظون على ظهر القلب مبادئهما التي لا يفقهون منها شيئًا على الإطلاق حتى يُؤخذ في تعليمهم ترجمةَ مقالةٍ فرنسية بكلماتٍ لاتينية، ثُمَّ إنهم إذا ما تقدَّموا أكثرَ من قبْل حُمِلوا على وصْلِ ما بين جُمَلٍ مِن شيشرونَ نثرًا وأبياتٍ من فِرجيلَ نظْمًا، وهنالك يظنون أنهم يتكلمون اللاتينية، ومَن يأتي لمناقضتهم؟

ولا تُعدُّ الرموزُ الممثِّلة شيئًا بغيرِ فكرةِ الأشياءِ الممثَّلة، مهما كانت دراسة ذلك. ومع ذلك فإن الولد يُقصَر على هذه الرموزِ دائمًا، وذلك من غيرِ أن يُستطاع حَمْله على إدراك أيٍّ من الأشياء التي تُمثِّلُها، وإذا ما رُئي تعليمُه وصْفَ الأرضِ لم يُعلَّم غيرَ معرفة الخرائط، فيُعلَّم أسماءَ المدن والبلاد والأنهار التي لا يَتصور وجودَها على غيرِ الورق حيث يُدَلُّ عليها. وأذكرُ أنني رأيت في مكانٍ ما جِغرافيَّةً تبدأ هكذا: «ما العالَم؟ العالَم كُرَةٌ من المُقوَّى.» فهذه هي جِغرافيةُ الأولادِ تمامًا. وأفرضُ عدمَ وجودِ ولدٍ واحدٍ في العاشرة من سِنيه قادرٍ بعد دراسةِ سنتَين للكرة والفَلَك، على السيرِ من باريسَ إلى سان دِني مستندًا إلى القواعدِ التي أُعطيَها، وأفرضُ عدمَ وجودِ ولدٍ يستندٍ إلى خريطةِ حديقةِ أبيه فيستطيع أن يتتبع العطفات فيها من غيرِ أن يَضِلَّ؛ فهؤلاء هم الأساتذةُ الذين يَعرِفون أن يُسمُّوا مواضعَ بكين وأصبهان والمكسيك وجميعَ بلاد الأرض.

وقد يُقال لي إن من المناسبِ شغلَ الأولادِ بدروسٍ لا تحتاج إلى غيرِ عيون، وهذا يُمكن أن يكون لو وُجِدَ من الدروس ما لا يحتاج إلى غيرِ عيون، ولكنني لا أَعْرِف مثلَ هذه الدروسِ مُطلَقًا.

ويُحمَلون على درْسِ التَّارِيخ عن خطأٍ أدعى إلى السخرية أيضًا، ويُظَنُّ أن التَّارِيخ يقعُ ضِمنَ متناوَلهم لأنه ليس سوى مجموعةٍ من الوقائع، ولكن ما يُقصَدُ بكلمة الوقائع؟ وهل يُعتقدُ أن الصلات التي تُعيِّن الوقائعَ التَّارِيخية سهلةُ الإدراكِ كثيرًا، وأن الأفكارَ عنها تتكوَّن في رُوحِ الأولادِ بلا عناء؟ وهل يُعتقَدُ أن معرفةَ الحوادثِ الحقيقية منفصلةٌ عن عللها ومعلولاتها، وأن التَّارِيخيَّ يبلُغ من قلَّة تعلُّقه بالخلقيِّ ما يُمكن أن يُعرَف أحدُهما معه بغيرِ الآخر؟ وإذا كنتم لا تَرَون في أعمالِ النَّاس غيرَ الحركات الخارجية والمادية الصِّرفة فما تتعلَّمون في التَّارِيخ؟ لا شيءَ مطلقًا، ولا تنالون من هذا الدرسِ العاطلِ من كلِّ إمتاع لذةً أو معرفة، وإذا أردتم تقديرَ هذه الأفعالِ بصِلاتِها الأدبيةِ فحاولوا جعْلَ هذه الصِّلات مفهومةً لدى تلاميذكم، وهنالك تَرون هل التَّارِيخُ ملائمٌ لِسنِّهم.

ويا أيها القراء، اذكروا دائمًا أن الذي يخاطبكم ليس عالِمًا ولا فيلسوفًا، بل رجلٌ بسيطٌ صديقٌ للحقيقة، غيرُ منتسِبٍ إلى فريقٍ أو إلى مذهب، معتزِلٌ يعاشرُ النَّاسَ قليلًا، نادرُ الفُرَصِ في ابتلالِه بمُبْتَسَرَاتهم، كبيرُ التأمُّلِ فيما يَقفُ نظرَه عند مصاحبتهم. وتقوم براهيني على المبادئ أقلَّ مما على الوقائع، وأعتقدُ أنني لا أجدُ طريقًا في تقديمِ الوقائعِ إليكم أفضلَ من أن أورِدَ بعضَ الأمثلةِ غالبًا عن الملاحظاتِ التي توحي إليَّ ببراهيني.

كنت قد ذهبتُ إلى الأريافِ لأقضي فيها بضعةَ أيامٍ عند ربَّةِ أُسْرةٍ صالحةٍ كثيرةِ العنايةِ بأولادها وتربيتهم. وبَينا كنتُ ذاتَ صباحٍ حاضرًا دروسَ أكبرِهم سِنًّا تناولَ مُعلِّمه، الذي جَدَّ في تعليمه التَّارِيخَ القديم، سيرةَ الإسكندر، ووقع على حكاية الطبيب فِليب المعروفةِ التي رُسِمَت في صورةٍ والتي تستحقُّ العَناء لا ريب. ويأتي المُعلِّمُ الذي هو رجلٌ فاضلٌ بعِدَّة تأمُّلاتٍ عن شجاعةِ الإسكندرِ لم تَرُقْني قَط، فاجتنبتُ مناهضتَها لكيلا أسيء إلى اعتباره في نفْسِ تلميذه. فلما كُنَّا حول المائدةِ لم يُقصَّر في جعلِ الصبي الصغيرِ يثرثر كثيرًا على الطريقة الفرنسية، وما كان من حُميَّا سِنه الطبيعية ومن انتظارِ هُتافٍ مُقرَّرٍ كان يحْفِزه إلى إبداء ألفِ سخافة مع صدورِ بعض كلماتٍ موفَّقة من خلالِ ذلك في الحين بعد الحين يُنسي ما سواه. وأخيرًا تأتي قصةُ الطبيب فليب فيذكرها بوضوحٍ بالغٍ وطلاوةٍ كثيرة، ويتحدَّث فيما قال الولدُ بعد دفعُ ضريبةِ الثناء المعتادة التي كانت تُطالِب بها الأمُّ وينتظرها الابن، وقد صبَّت الأكثريةُ لومَها على تهوُّر الإسكندر، وقد جارى بعضُهم المُعلِّمَ في الإعجاب بحَزْمه وبسالته، فحملني هذا على إدراكي عدمَ رؤيةِ أحدٍ من الحضورِ موضعَ الجمالِ الحقيقيِّ في هذه القصة. وأمَّا أنا فقد قلتُ لهم إنني أرى أنه إذا وُجِدَ في عملِ الإسكندرِ أقلُّ شجاعةٍ وأقلُّ حزمٍ لم يكن هذا غيرَ هَوَس. وهنالك وافق الجميعُ على أن هذا كان هوسًا. وقد هممت بالجواب وحَميتُ، وكان يوجد بجانبي امرأةٌ لم تَنبِس بكلمة، فمالت إلى أذني وقالت لي همسًا: «اسكت يا جان جاك، فهم لن يفهموا أمرك.» وقد نظرتُ إليها وعَمِلتُ بنصيحتها وأمسكتُ عن الكلام.

وساورني شكٌّ حولَ كثيرٍ من الدلائل التي لم يُدرِكها الأستاذُ الغلامُ من تاريخٍ أجادَ سرْدَه، فأمسكته بعد الغَداء من يده وطُفتُ معه في الحديقة، فوجدتُ بعد السؤالِ من غيرِ إزعاجٍ أنه كان يُعجَبُ أكثرَ من كل شخصٍ بشجاعة الإسكندر التي أثنى عليها إلى الغاية، ولكن أتعلمون أين كان يَرى هذه الشجاعة؟ كان يَجدُها حصرًا في الإقدامِ على اجتراعه شرابًا سيئ الطعم دفعةً واحدة، بلا تردُّد ومن غير أن يُبدي أقلَّ اشمئزاز. وكان الولدُ المسكينُ قد أُعطي منذ خمسة عشر يومًا دواءً فلم يتناوله إلا بمشقةٍ لا حدَّ لها، ولا يزال أثرُ طَعْمه الكريه في الفم، وما كان الموتُ والسُّمُّ لِيمُرَّا في ذهنه إلا كإحساساتٍ كريهة، وما كان ليتمثَّل غيرَ السَّنَا سُمًّا آخَر، ومع ذلك يجب أن يُعرَف أن حزْم البطل كان ذا أثرٍ عظيمٍ في فؤاده الفتي، وأنه عزم أن يكون إسكندرًا عند وجوبِ اجتراعه أوَّلَ دواء. وإني من غيرِ دخولٍ في إيضاحاتٍ تجاوز متناوَله لا ريبَ أيدْتُه في مناحيه الحميدة، وعُدتُ ضاحكًا في نفسي من حكمةِ الأبوين والمُعلِّمين الذين يُفكِّرون في تعليمِ الأولادِ التَّارِيخ.

أجلْ، إن من السهلِ أن تُوضع في أفواههم ألفاظٌ كالملوك والأباطرة والحروب والفتوح والثورات والقوانين، ولكن المسألة إذا ما دارت حولَ ربْط أفكارٍ واضحةٍ بهذه الكلمات بَدَت هذه الإيضاحاتُ مختلفةً كلَّ الاختلافِ عن حديثنا مع البستانيِّ رُوبِرت.

وسيسأل بعضُ القراءِ المستائين مِن «اسكُتْ يا جان جاك»، كما أُبصرُ عما أَجِد أخيرًا من رَوعةِ عملِ الإسكندر. فيا أيها التُّعساء! إذا ما وجب قولُ ذلك لكم فكيف تُدرِكونه؟ ذلك أن الإسكندر كان يؤمن بالفضيلة، ذلك أنه كان يؤمنُ بعقْله، ذلك أنه كان يؤمن بحياته، ذلك أن نفسه الكبيرة صُنِعَت للإيمان بذلك. وَيْ! يا لَكون هذا الدواء المُجتَرَعِ مهنةَ إيمانٍ رائعة! كلَّا، لم يَصنع إنسانٌ ما هو أرفعُ من ذلك، إذا ما وُجِد إسكندرٌ عصريٌّ فلْأُدَلَّ على أنه قَوَّامٌ بمثل تلك المآثر.

إذا لم يُوجد عِلمٌ للكلمات قَطُّ لم يوجد درسٌ للأولادِ خاصٌّ قَط، وإذا لم تكن لهم أفكارٌ حقيقية لم تكن لهم ذاكرةٌ حقيقيةٌ قَط؛ وذلك لأنني لا أدعو هكذا ذاكرةً لا تحفظ غيرَ الإحساسات، وما نفعُ تسجيلِ جدولٍ من الرموز التي لا تدلُّ على شيءٍ لديهم؟ ألَا تُعلَّمُ الرموزُ بتعلُّمِ الأشياء؟ ولِمَ يُحمَّلون مشقَّةَ تعليمهم إياها مرتَين على غيرِ جدوى؟ ومع ذلك فيا لَلْمبتَسرات الخَطِرة التي يُبدأ بتلقينهم إياها حين يُحمَلون على عَدِّهم من العلم كلماتٍ لا معنَى لها عندهم! ويقِلُّ تمييزُ الولدِ بالكلمة الأُولى التي يقنع بها وبالشيء الأوَّل الذي يتعلَّمه من الآخرين غيرَ مُطَّلِعٍ على فائدته بنفسه، ولا بُدَّ له من بَهْرِ أبصارِ الأغبياء قبْل أن يُعوَّض من هذا النقصان.١٧

كلَّا، إذا كانت الطبيعةُ تُنعِمُ على دماغِ الولدِ بتلك المرونةِ التي تجعله صالحًا لتقبُّل جميعِ أنواعِ الانطباعات، فليس ذلك لتُنقَش عليه أسماءٌ لملوكٍ وتواريخُ وألفاظٌ للأشعِرَةِ وكُرةٌ وجغرافيةٌ وجميعُ تلك الكلمات التي لا معنَى لها عند مَن هو في سِنِّه، والتي لا فائدةَ فيها لجميعِ النَّاس من أيِّ عُمُرٍ كانوا، فتُرهَقُ بها وَلُودِيتُه الكئيبة العقيم، بل لتُرسَم عليه باكرًا، وبحروفٍ لا تُمحَى جميعُ الأفكارِ التي يُمكنه أن يتمثَّلها والتي هي نافعةٌ له، وجميعُ الأفكارِ التي تلائم سعادتَه فيجب أن تُنيرَ له السبيلَ في جميعِ واجباته ذاتَ يوم، فيتخذُها نبراسًا يهتدي به في أثناء حياته هدايةً مناسبةً لكِيانه وخصائصه.

ومن غير دَرْسٍ في الكتب لا يَظلُّ نوعُ الذاكرة الذي يَحُوزه الولدُ مُعطَّلًا لهذا السبب، فيَقفُ نظرَه كلُّ ما يرى وكلُّ ما يسمع ويذكُرُه، وهو يُمسك سجلًّا في نفسه لأعمالِ النَّاس وأقوالهم، ويُعَدُّ جميعُ ما يحيط به كتابًا يُغني فيه ذاكرته بلا انقطاعٍ من غيرِ أن يُفكِّر في هذا، وذلك ريثما يُمكِنُ قوةَ التمييز فيه أن تنتفع به. وعلى اختيارِ هذه الأشياء، وعلى الاعتناءِ بأن يُعرَض عليه دائمًا ما يستطيع أن يَعْرِفه، وعلى إخفاء ما يجب أن يجهله؛ يتوقَّف الفنُّ الحقيقيُّ في تعهُّدِ هذه الخاصية الأُولى. وبهذا يجب أن يُسعَى في تكوينِ مستودعٍ للمعارفِ فيه نافعٍ لتربيته في أثناءِ شبابِه ونافعٍ لسلوكه في جميعِ الأوقات. والحقيقةُ أن هذا المِنهاجَ لا يصنعُ صِغارًا نادرين، ولا يوجِب التماعَ المربيات والمُعلِّمين، وإنما يُكوِّن رجالًا بصيرين أقوياءَ سالمين بدنًا وإدراكًا من غيرِ أن يكونوا موضعَ إعجابٍ صِغارًا ومع ظهورهم مدارَ افتخارٍ كِبارًا.

ولن يتعلَّم إميُل شيئًا على ظهر القلب، حتى الأمثالَ، حتى أمثالَ لافُونْتِن، مهما بلغت من البساطة والجمال؛ وذلك لأن ألفاظَ الأمثال ليست أكثرَ أمثالًا من كون ألفاظِ التَّارِيخ تاريخًا. وكيف يُبلَغُ من العَمى ما تُسمَّى الأمثالُ معه كتابَ أخلاقٍ للأولاد من غير أن يُفكَّر في كونِ المَثَلِ الخُلُقي يُضلُّهم حين يُسلِّيهم، وفي كونهم يَدَعُون الحقيقةَ تَفِرُّ حين يُفتَنون بالكَذِب، وفي كونِ ما يُصنَع لجعْلِ المعارفِ مستحبةً لديهم يَحول دون استفادتهم منها؟ أجلْ، تستطيع الأمثالُ أن تُثقِّف الرجال، ولكن يجب أن تُقال الحقيقةُ للأولاد عاريةً، حتى إذا ما سُتِرَت بغطاءٍ لم يَصْعُب عليهم أن يكشِفوه.

ويُعلَّمُ الأولادُ أمثالَ لافُونْتن، ولا تجِد واحدًا منهم يدركها، ولو أدركوها لكان الأمرُ أسوأَ مما هو عليه؛ وذلك لأن مبادئَ الأخلاقِ من كثرةِ الاختلاطِ فيها ومن عدمِ تناسبها مع عُمُرهم ما تحمِلُهم به على الرذيلةِ أكثرَ مما على الفضيلة. وستقولون إن ما تأتي هو من البِدَع، ولْيكُن بِدَعًا، ولكن لِننظُرْ هل ينطوي على حقائق.

أقولُ إن الولدَ لا يَفهَمُ الأمثالَ التي يُعلَّمُها مطلقًا؛ وذلك لأنه مهما يُبذَل من جُهدٍ لتبسيطها فإن المعارفَ التي يُراد استخراجُها منها تُوجِب إدخالَ أفكارٍ إليه لا يستطيع وعيها، على حينِ تَرى الشكلَ الشعري الذي يجعلها أيسرَ تَذكُّرًا يجعلها أعسرَ تصوُّرًا. وهكذا تُشرى المَلَاحةُ على حساب الوضوح. وإنَّا من غيرِ أن نورد هذا الحشدَ من الأمثال التي لا تنطوي على وضوحٍ ولا على فائدةٍ للأولاد، والتي يُعلَّمونها مع الأخرى على غيرِ هدًى لاختلاطها بها، نرى أن نقتصرَ على الأمثالِ التي يلوح أن المؤلِّف قد وضعها من أجلِ الأولاد.

لا أعْرِفُ في جميعِ مجموعةِ لافُونتِن غيرَ خمسة أمثال أو ستة أمثال سَطَعَت البساطةُ الصبيانيةُ منها سُطوعًا عظيمًا، وأُورِدُ من هذه الأمثالِ الخمسة أو الستة أوَّلَها،١٨ وذلك لأنَّ أدبَ هذا المَثَلِ أكثرُ ملاءمةً لكلِّ عُمُر، ولأنه أحسنُ ما يُدرِك الأولاد، ولأنه ألذُّ ما يتعلَّمون، ثُمَّ لأنَّه المَثَل الذي وضعه المؤلِّفُ على رأسِ كتابه عن تفضيل، ونحن إذ نفترض له هدفَ كونِه مفهومًا لدى الأولادِ رائقًا مُثقِّفًا لهم نَعُدُّه أثرَ المؤلِّف الرائعَ حقًّا، فليُسمَحْ لي أن أتتبَّعه وأفحصه في كلماتٍ قليلةٍ إذن.

الغراب والثعلب

مَثَلٌ

«الأستاذُ الغرابُ على شجرةٍ واقع.»

«الأستاذ!» ما معنى هذه الكلمة بنفسها؟ وما معناها أمام اسم عَلَم؟ وما معناها هنا؟

وما الغراب؟

وما «على شجرةٍ واقع»؟ لا يُقال «على شجرة واقع»، بل يُقال «واقعٌ على شجرة»، ومِنْ ثَمَّ يجب أن يُحدَّث عن التقديم والتأخير في الشِّعر، ويجب أن يُفرَّق بين النثر والنظم.

«يُمسِك في منقاره جُبنة.»

أيُّ نوعٍ من الجُبنة؟ أهي جُبنةٌ سويسرية، أم جبنةٌ بِرِيَّة، أم جبنةٌ هولندية؟ وإذا كان الولدُ لم يرَ الغِربانَ قَطُّ فما فائدةُ الكلام عنها؟ وإذا كان قد رآها فكيف يتصوَّر إمساكَها جُبْنًا في منقارها؟ لنصنعْ صورًا عن الطبيعة دائمًا.

«الأستاذُ الثعلبُ بالرائحةِ أُغري.»

أستاذٌ آخَر! ولكن هذا لقبٌ ملائمٌ له، هو أستاذٌ دَرِبٌ في حِيَلِ مهنته، ويجب أن يُحدَّث عن الثعلب، وأن يُفرَّق بين الثعلبِ الحقيقيِّ وثعلبِ الأمثالِ الاتفاقي.

«أُغريَ»: هذه كلمةٌ غيرُ مستعمَلة، فيجب إيضاحُها، ويجب أن يُقال إنه عاد لا يُنتفع بها في غيرِ النَّظْم، وسيسأل الولدُ عن السبب في أنه يُتكلَّم في النَّظْم على خلافِ ما في النثر، وما يكون جوابكم؟

«أُغرِيَ برائحةِ جُبنةٍ!» لا بُدَّ من أن تكون هذه الجُبنة التي يُمسكها غرابٌ واقعٌ على شجرةٍ ذاتِ رائحةٍ قوية حتى يَشَمَّها ثعلبٌ في غابةٍ أو في وِجَارِه! أهكذا تُدرِّبون تلميذَكم على روح النقد الصحيح الذي يأبى كلَّ شيءٍ غيرَ الأدلة الصائبة، والذي يُمازُ به بين الصدق والكَذِب في قِصص الآخرين؟

«هو يخاطبه بهذه اللغةِ تقريبًا.»

«هذه اللغة!» أتتكلَّمُ الثعالبُ إذن؟ أتتكلَّمُ بعينِ اللغةِ التي تتكلَّمُ بها الغِربان؟ أَعْمِلْ ذِهنَك أيُّها المُعلِّمُ الأريب، وزِنْ جوابَك قبْلَ إلقائِه؛ فهو أهمُّ مما تَظُن.

«عِمْ صباحًا يا سيِّدي الغُراب!»

«سيِّدي!» هذا لقبٌ يَرى الولدُ تحويلَه إلى هزوء حتى قبْل أن يَعْرِف أنه لقبُ تكريم، وإذا ما قيل «صاحبُ السيادة الغُراب» كان للقائلين شئونٌ أخرى قبل إيضاح كلمة «صاحب» هذه.

«يا لحُسْنك، يا لجمالك كما أرى!»

حَشْو، تطويلٌ غيرُ مفيد، يَرى الولدُ تكرار عينَ الشيء بألفاظٍ أخرى، فيتعلم الكلامَ بتوانٍ، وإذا قلتم إن هذا التطويلَ هو فنُّ المؤلِّف، وإنه من مُخيِّلَة الثعلب الذي يرى فيضَ الثناء بالكلام، فإن هذا الاعتذارَ يكون صالحًا تجاهي لا نحوَ تلميذي.

«ومِن غيرِ كَذِبٍ لو كانَ تغريدُك.»

«من غيرِ كَذِبٍ!» إذن يكذِبُ النَّاسُ أحيانًا، وما يكونُ حالُ الولدِ إذا ما عَلِمَ منكم أن الثعلبَ لا يقولُ «مِن غيرِ كَذِبٍ» إلا لأنه يَكْذِب.

«يلائمُ ريشَك.»

«يلائم!» ما معنى هذه الكلمة؟ علِّموا الولدَ أن يقابِل بين صفاتٍ مختلفةٍ كالصوت والريش لِترَوا مقدارَ ما يُدرِك أمرَكم.

«لكنتَ أبَا هَولِ هذه الغاب.»

«أبو الهَول!» ما أبو الهَول؟ هكذا نُقذَفُ في القرونِ الخاليةِ الكاذبة، نُقذَفُ في أساطيرِ الأقدَمِين.

«أهلُ هذه الغاب!» يا له من كلامٍ مجازي! إن المُصانِعَ يسمو بلسانِه ويُكثِر مِن رفْعِ شأنِه حتى يجعلَه أعظمَ فِتْنة، وهل يُدرِك الولدُ هذه الدِّقَّة؟ وهل يعلمُ أو يستطيعُ أن يَعْلمَ ما الأسلوبُ الرفيعُ وما الأسلوبُ الوضيع؟

«فَطَارَ قلبُ الغُرابِ من الفرحِ عندَ هذه الكلمات.»

لا بُدَّ من تجرِبة أشدِّ الإحساسات للشعورِ بهذه التعابيرِ التي تُضرَب بها الأمثال.

«ولكي يُظْهِرَ صوتَه الجميل.»

ولا يغِب عن بالكم وجوبُ معرفةِ الولدِ لما يُقْصَدُ بصوت الغُراب الجميل حتى يُدرِك هذا السطرَ وبقيةَ المثل.

«ويفتح مِنْقارَه الكبيرَ ويَدَع غنيمتَه تقع.»

وهذا السطرُ يقضي بالعجب، ويوحي انسجامُه بصورة، وأبْصِرُ مِنقارًا كبيرًا كريهًا فاغرًا، وأسمع وقوعَ الجُبنة من بين الغصون، غيرَ أن إدراك هذا النوعِ من الجمال بعيدٌ من الأولاد.

«ويقبض عليها الثعلبُ ويقول: سيِّدي الصَّالح.»

وهكذا يتحوَّل الصلاحُ إلى بلاهةٍ إذن، ولا ريبَ في أنه لا يُضيَّعُ وقتٌ في تعليم الأولاد.

«واعلَموا أن كلَّ مُصانِع.»

مثلٌ عام، لا دخلَ للولد فيه.

«يعيشُ على حسابِ مَن يستمعُ إليه.»

لا يوجد ولدٌ في العاشرة من سِنيه يُدرك هذا السطر.

«ويَعدِل هذا الدرسُ جُبنةً لا ريب.»

ويُمكن فَهْم هذا، ومعناه حسنٌ جِدًّا، ومع ذلك فإن من النادر وجودَ أولاد يقدِرون على مقابلةِ ما بين الدرس والجُبنة، فلا يُفضِّلون الجبنةَ على الدرس؛ ولذا يجب أن يُحمَلوا على إدراك كون هذا الحديث لا يَعدو حدَّ الهُزُوء، ويا للدِّقة فيه!

«ويعتري الغرابَ خَجَلٌ ويضطرِب.»

حشوٌ آخَرُ في الكلام، غيرَ أنَّ هذا لا معْذِرةَ عليه.

«ويَحلِف، ولكن بعد الأوان، بأنه لن يُؤخذَ بمثلِ ذلك.»

«يَحلِف!» فأيُّ مُعلِّم يبلُغُ من الحماقةِ ما يشرحُ معه للولدِ معنَى اليمين؟

وتلك تفاصيلُ كثيرة، ومع ذلك فهي أقلُّ مما يجبُ في تحليلِ جميعِ الأفكارِ التي يشتملُ عليها هذا المَثَل، وفي ردِّها إلى الأفكارِ البسيطةِ الابتدائيةِ التي تدخلُ في تركيبِ كلِّ واحدٍ منها، ولكنْ مَن ذا الذي يعتقدُ احتياجَه إلى هذا التحليلِ حتى يجعلَ نفسَه مفهومًا لدى الأولاد؟ لا تجدُ واحدًا مِنَّا فيلسوفًا بدرجةِ الكفايةِ حتى يضعَ نفسَه في مكانِ الولد، ولْننتقلِ الآن إلى عِلمِ الأخلاق.

وأسأل: هل يجبُ أن يُعلَّم الأولادُ البالغون من العُمُر عشرَ سنين وجودَ رجالٍ يُصانِعون ويَكْذِبون نفعًا لهم؟ كان يُمكنُ أن يُعلَّموا على الأكثرِ وجودَ ساخرين يهزءون بصِغار الأولادِ ويتهكمون بزهوهم الباطل سِرًّا، ولكن الجُبنة تُفسِدُ الجميع، وهم يُعلَّمون عدم ترْكها تسقط من مِنقارهم أقلَّ من جعْلها تسقُط من منقارِ آخَر، وهذا مَبدئي الثاني، وهو ليس أقلَّ أهميةً من الأوَّل.

وتتبَّعُوا الأولادَ وهم يتعلمون أمثالَهم تَرَوا أنهم يأتون عكسَ مقاصدِ المؤلِّف تقريبًا عندما يصبحون قادرين على تطبيقها، وأنهم يَميلون إلى حُبِّ عَيبٍ يستفيدون به من نقائصِ الآخرين بدلًا من ملاحظة نقيصةٍ يُراد شفاؤهم أو وقايتُهم منها. ويَضحك الأولادُ من الغراب في المَثَل السابق، ولكنهم يَعطِفون على الثعلبِ جميعًا، وتَرون ضرْب الزَّيز١٩ لهم مثلًا في القصة التالية، كلَّا، وإنما النملةُ هي ما يختارون، فلا يُحَبُّ الاستخزاء مطلقًا، وهم يتَّخذون الدَّور الرئيس دائمًا، وهذا هو اختيار الأثَرة، وهذا اختيارٌ طبيعيٌّ جِدًّا، ويا لهذا الدرس الفظيع للولد كما هو الواقع! إن أشنعَ جميع الجُفاة ولدٌ طمَّاعٌ قاسٍ يَعرِف ما يُطلَب منه وما يَرفِض، وتصنع النملة أكثرَ من هذا؛ فهي تُعلِّمه أن يهزأ عندما يَرفِض.

وفي جميع الأمثال؛ حيث يكون الأسدُ مِن أسطعِ الممثلين كما هي العادة، لم يَفُت الولدَ أن ينتحل وضعَ الأسد على الإطلاق، فإذا ما كان على رأس قِسمةٍ صرفَ همَّه في الاستيلاء على الجميع مقتديًا بمثاله، ولكن الولد يَغدُو بعوضةً عندما تَغْلِبُ الأسدَ لاختلاف الوَضْع؛ فيتعلم أن يَقتل بالمِنْخَس ذاتَ يومٍ مَنْ لم يجرُؤ على مهاجمتهم بقدمٍ ثابتة.

ومِن مَثَلِ الذئب النحيل والكلب السمين يتعلَّم درسَ تحلُّلٍ بدلًا من درسٍ في الاعتدال يُزعم أنه يُلقَى عليه. ولن أنسى أنني شاهدت ابنةً صغيرةً تبكي كثيرًا لِما كان من إحزانها بهذا المَثَل الذي أُلقِيَ عليها كدرسٍ في الطاعة دائمًا، ولم يَكد يُعرَف سببُ بكائها، وقد عُرِفَ مؤخرًا، وذلك أن هذه البنتَ المسكينة كانت تَضْجَر من سلسلتها، وكانت تَشعر بأن السلسلة تَحُكُّ جِيدَها، فتبكي لأنها ليست ذئبة.

وهكذا فإن أدبَ المَثَل الأوَّل المذكور هو للولد درسُ خِداعٍ دنيءٍ جِدًّا، وإن أدبَ المَثَل الثاني درسُ قسوة، وإن أدبَ المَثَل الثالث درسُ ظُلْم، وإن أدبَ المَثَل الرابع درسُ قَدْح، وإن أدبَ المَثَل الخامس درسُ تمرُّد، ولا يلائم هذا الدرسُ الأخيرُ تلاميذكم، كما أنه غيرُ نافع لتلميذي. وإذا ما ألقيتم عليهم تعاليمَ متناقضةً فأيةُ ثمرةٍ تنتظرون من رعايتكم؟ ولكن من المحتمل أن يكون جميعُ هذا الأدبِ الذي ينفعني في الاعتراض على هذه الأمثال يُجهِّزُ بأسبابٍ تَعدِل تلك للمحافظة عليها. ويجب أن يوجد في المجتمع أدبٌ قوليٌّ وأدبٌ فعلي، ولا يتشابه الأدبان مطلقًا، ويكون الأوَّل في كتاب الوعظ الديني حيث يُترَك، ويكون الثاني في أمثال لافُونتن للأولاد وفي قِصَصه للأمهات، ويكفي هذا المؤلَّف للجميع.

ولْنتَّفِق يا مسيو لافونت؛ فأمَّا أنا فأعِدُ بأن أقرأك مختارًا، وأن أُحِبَّك، وأن أرِدَ مواردَ أمثالِك؛ وذلك لأنني أرجو ألَّا أُخدَع حَوْلَ موضوعها. وأمَّا تلميذي، فدعني ألَّا أتركه يدرسُ أيَّ واحدٍ منها قبْل إثباتك لي أن من الصالح له أن يتعلَّم أمورًا لن يفقهَ منها غيرَ الرُّبع، وأنه لن يُخدَع فيما يُمكِن أن يُدرِك منها، وأنه لن يَقْلِبَ الوضعَ فيُقَلِّد الخبيثَ بدلًا من إصلاح غِرَّته.

وإني، إذ أنْزِع دروسَ الأولاد على هذا الوجه، أنزِع وسائلَ أكبرِ بؤسٍ فيهم، أي الكتب؛ فالمطالعةُ هي آفة الوَلُودِية، وتكاد تكون الشغلَ الوحيد الذي يُمكِن أن يوجَد لها. ولا يَكاد إميلُ يَعرِف ما الكتاب عند بلوغه الثانية عشرة من سِنيه، وسيُقال لي إن من الواجب أن يكون عارفًا القراءةَ على الأقل، وأوافق على هذا، وإنما يجب أن يَعْرِف القراءةَ عندما تكون نافعةً له، وهي لا تكون صالحةً لغيرِ ضَجَرِه حتى ذلك الحين.

وإذا كان لا ينبغي أن يُطالبَ الأولادُ بشيءٍ عن طاعةٍ؛ فإنه ينجُم عن هذا أنهم لا يقدِرون أن يتعلَّموا شيئًا لا يشعُرُون بفائدته الراهنة الحاضرة، سواءٌ لِلَّهو أو لِلخير، وإلا فما الذي يَحمِلُهم على تعلُّمه؟ إن فنَّ مخاطبة الغائبِين وسماعهم، وإن فنَّ نقْل مشاعرنا وعزائمنا ورغائبنا إليهم بلا وسيط، وهم بعيدون؛ هو فنٌّ يمكن أن تُجعَل فائدتُه محسوسةً في كلِّ عُمُر. وبأية معجزة أصبح هذا الفن، العظيم الفائدة والكثير الإمتاع، وبالًا على الوَلُودِية؟ ذلك لأنها تُكرَه على التزامه على الرغم منها، ولأنه يُجْعَلُ قيد استعمالٍ لا تفقه منه شيئًا. وليس الولدُ من الفُضُول القويِّ ما يُصلِح معه الآلةَ التي يُعذَّب بها، ولكن اجعلوا هذه الآلةَ خادمةً لِلهْوه ترَوْه يلازمها من فوْره وعلى الرغم منكم.

ويقوم ضجيجٌ حول البحثِ عن أصلحِ المناهجِ في تعليم القراءة، وتُختَرَع مقاطعُ وبطاقات، وتُصنَع من غرفةِ الولدِ قاعةُ طِباعة، ويريد لوك أن يُعلَّموا القراءةَ بالنَّرْد. يا لهذا الاختراع الرائع! يا لموضع الرثاء فيه! توجد طريقةٌ أفضلُ من جميع ذلك، توجد طريقةٌ أُغفِلَت على العموم، وهي الرغبة في التعلُّم، فامنحوا الولدَ هذه الرغبة، ثُمَّ دعُوا مقاطعَكم ونَرْدَكم هنالك، يَصلُحْ له كلُّ منهاج.

والمصلحةُ الحاضرةُ هي الدافع الكبير، وهي التي تأتي بنا إلى بعيدٍ سالمين. ويتناول إميلُ من أبيه أو أمه أو أقربائه أو أصدقائه أحيانًا بطاقاتِ دعوةٍ إلى غداءٍ أو نزهةٍ أو سَفرةٍ على الماء لِيشهد احتفالًا عامًّا، وتكون هذه البطاقاتُ قصيرةً جليةً سهلةً حسنةَ الخط، ولا بُدَّ من وجودِ واحدٍ ليقرأها له، ولا يكون هذا موجودًا في الوقت الذي يُطلَب فيه، أو إنه إلا يَرُدُّ إلى الولد معروفًا كان قد حَباه به أمس، وهكذا يمضي الوقتُ وتضيع الفرصة. وأخيرًا تُقرأ له البطاقة، ولكن بعد الأوان. وَي! يا ليته كان يَعْرِف القراءة! ويتناول بطاقاتٍ أخرى، يا لها من بطاقاتٍ قصيرة! يا لاهتمامه بالموضوع! ويحاول قراءتها، ويَجِدُ مساعدةً تارةً وإعراضًا تارةً أخرى، ويَبذُل وُسْعَه. وأخيرًا، يَفُكُّ نصفَ البطاقة، ويرى أنه مدعوٌّ لِتناول قِشدَةٍ غدًا، ولا يَعْرِف أين، ولا مع مَنْ، ويا للمجهود الذي يَبذل لقراءة البقية! ولا أعتقد احتياجَ إميلَ إلى مقاطع، وهل أتكلم الآن عن الكتابة؟ كلَّا، أخجل من التلهِّي بهذه التُّرهات في رسالةٍ عن التَّربية.

وأُضيف الكلمةَ الآتيةَ التي تشتمل على مبدأ مهم، وذلك أن يُنال بسرعةٍ فائقةٍ وعن يقينٍ ما لا يُستعجَل نيلُه، وأجدني واثقًا تقريبًا بأن إميل سيَعْرِف القراءة والكتابة تمامًا قبل بلوغه العاشرة من سِنِيه؛ وذلك لأن مما لا يهمني كثيرًا أن يَعْرِف ذلك قبْل الخامس عشر من عُمُره، ولكنني أفضِّل ألَّا يَعْرِف القراءةَ على ابتياع هذا العرفانِ على حسابِ كلِّ ما يُمْكن أن يجعله مفيدًا. وما فائدةُ القراءة له إذا ما كَرِهها دائمًا؟ «يجب أن يُنتَبَه على الخصوص إلى كونِ الدروس التي لا يزال راغبًا عنها، غيرَ مكروهةٍ لديه، وألَّا يُبْعدَه منها هذا النفورُ عند ظهوره، بعد انقضاء الوقت الذي كان فيه أُميًّا» (كَنْتِلْيان).

وكلَّما أصررتُ على منهاجي غيرِ الفعَّال شعرتُ باشتداد الاعتراضات، وإذا لم يتعلم تلميذكم منكم شيئًا تعلَّم من الآخرين، وإذا لم تَدْحضوا الخطأ بالحقيقة تعلَّم الأكاذيب، وسيتلقى المُبْتَسَراتِ التي تخشون إعطاءه إياها، من جميع مَن يحيطون به، وستدخُل بجميع حواسِّه، فُتفسِدُ عقلَه حتى قبل أن ينمو، أو إن ذهنه، الذي أُخمِدَ بعدم النشاط، يغرق في المادة؛ فعدمُ تعوُّد التفكير في الوَلُودِية ينزِعُ منها هذه الخاصيةَ في بقية العُمُر.

ويُخيَّل إليَّ أنني قادرُ على الجواب عن هذا بسهولة، ولكن لِمَ الأجوبةُ دائمًا؟ فإذا كان منهاجي يجيبُ عن الاعتراضات بنفسه عُدَّ صالحًا، وإن لم يُجِب لم يُساوِ شيئًا، وأواصل.

وإذا ما اتخذتم الخِطةَ التي أخذتُ في رسْمها فاتبعتم قواعدَ مخالِفةً رأسًا للقواعد القائمة، وإذا لم تَسِيروا بعيدًا بذهن تلميذكم، وإذا لم تُضِلُّوه بلا انقطاعٍ في أقاليمَ أخرى وقرونٍ أخرى عند أقاصي الأرض حتى السموات، وعملتم على حِفظِه لنفسه دائمًا منتبهًا إلى كلِّ ما يَمَسُّه مباشرة؛ وجدتموه قادرًا على الإدراك والتذكُّر، وعلى التعقُّل أيضًا؛ فهذا هو نظام الطبيعة، وكلَّما أصبح الشخص فعَّالًا اكتسب تمييزًا مناسبًا لقواه، وليس بغيرِ القوة التابعة للقوة المحتاج إليها لبقائه ما تنمو فيه خاصية التفكير الصالحة لاستعمال ما يفيض من هذه القوة في شئونٍ أخرى. ومتى أردتم تعَهُّدَ ذكاء تلميذكم فتعهَّدوا القُوَى التي يجب أن يهيمن عليها هذا الذكاء، ودرِّبوا جسمه بلا انقطاع، واجعلوه عُصْلُبيًّا حتى تجعلوه حكيمًا عاقلًا، ولْيعمل ولْيسعَ ولْيعْدُ ولْيصرُخ، ولْيكن دائم الحركة، ولْيصبِح رجلًا عن قوةٍ حتى يكونه عن عقلٍ من فوْره.

حقًّا أنكم تَخْبُلُونه بهذا الأسلوبِ إذا ما وجَّهتُموه، فقُلْتم له دائمًا: اذهب، تعالَ، ابقَ، افعلْ هذا، ولا تفعلْ ذلك. وإذا كنتم تديرون برأسِكم يديه عادَ رأسُه لا يكون نافعًا لديه، ولكن اذكروا ما اشترطناه، وهو: أنكم إذا لم تكونوا غيرَ متحذلقِين فلا تُجهِدوا أنفسكم بقراءة كتابي.

ومن الخطأ الذي يُرثَى له أن يُتصَوَّر أن تمرينَ البدنِ يَضُرُّ أعمالَ الروح، كأنه لا ينبغي لهذين الأمرَين أن يسيرا متفقَين، وأنه لا يجوز لأحدهما أن يوجِّه الآخر!

ومن النَّاس صِنفان تُمرَّن أبدانُهما دائمًا، ولا يُفكِّران إلا قليلًا، لا ريبَ، في تعهُّدِ أذهانها، وهما: الفلاحون والمتوحشون؛ فأمَّا الأوَّلون فهم غِلاظٌ أفظاظٌ أغبياء، وأمَّا الآخرون فيُعرَفون بحِدَّة الحواسِّ ودقَّةِ الأذهان، ولا تجِدُ على العموم مَن هو أثقلُ مَن الفلاح ولا مَن هو أدقُّ من الوحشي. ومن أين يأتي هذا الفرْق؟ فالأوَّل إذ يفعل ما يُؤمر به دائمًا، أو يرى ما مَرَن عليه أبوه، أو ما فعله بنفسه منذ صِباه، لا يسير إلا عن نمطية، وهو إذ لا يأتي بغيرِ أعمالٍ واحدةٍ في جميعِ حياتِه الآليةِ تقريبًا تقوم العادة والطاعة عنده مقامَ العقل.

وغيرُ هذا حالُ الوحشي؛ فبما أنه غيرُ مرتبطٍ في مكان، ولا يُفْرَض عليه شغل، ولا يُطيع أحدًا، وليس له قانونٌ غيرُ إرادته، فإنه مضطرٌّ إلى التعقُّل في أعمالِ حياته، وهو لا يأتي بحركة، ولا يقوم بخُطوةٍ من غير أن يُبصِر نتائجَهما مقدمًا، وهكذا فإنه كلَّما تمرَّن بدنًا تنوَّر روحًا، وينمو بأسُه وعقلُه معًا، ويساعد كلٌّ منهما على نشوء الآخر.

ولْنرَ أيها المُعلِّم الفاضل، أيُّ تلاميذِنا يشابه الوحشيَّ وأيُّهما يشابه الفلاح؛ فأمَّا تلميذُكم الخاضعُ في كلِّ شيء لسلطانٍ مُرْشدٍ دائمًا فإنه لا يصنع شيئًا بلا أمر، وهو لا يجرُؤ على الأكل إذا جاع، وعلى الضَّحك إذا فَرِحَ، وعلى البكاء إذا تَرِح، وعلى تقديم يدٍ قبْل الأخرى، وعلى تحريك رِجلٍ إلا كما يُؤمر، وهو لن يجرؤ على التنفُّس إلا وَفْقَ قواعدكم. ولِمَ تريدون أن يُفكِّر ما دمتم تُفكِّرون في كلِّ أمرٍ بدلًا منه؟ وما حاجته إلى بصيرةٍ ما دام معتمِدًا على بصيرتكم؟ وهو، إذ يراكم تقومون بحفْظه وراحته، يشعر بأنه في غِنًى عن القيام بهذه الرعاية، ويستند تمييزه إلى تمييزكم، ويَصنَع بلا تأمُّلٍ كُلَّ ما لا تنهَونه عنه عالِمًا بأنه يفعله بلا خطر. وما حاجته إلى تَعلُّم علائم المطر ما عَرَف أنكم تَنظُرون إلى السماء بدلًا منه؟ وما حاجته إلى تنظيم نُزْهته ما دام لا يخشى أن تُضِيعوا عليه وقتَ الغداء؟ ويأكل إذا لم تمنعوه من الأكل، فإذا منعتموه منه لم يأكل، وهو لا يَسْمَع نصائح مَعِدَته، ويَسْمَع نصائحكم. ومن العبثِ أن تُلينوا بدنَه بعدم الحركة؛ فلن تجعلوه مَرِنًا في إدراكه. وعلى العكس تُزِيلون حُظوَةَ العقل في نفسه بجعله يَستَعمِلُ ما لديه من عقلٍ قليلٍ في أمورٍ تبدو له أكثرَ ما يكون عدمَ فائدة، وهو إذ لا يَرى وجهَ صلاحِ العقلِ مطلقًا، يحكم بعدم صلاح العقل لشيء. ويَصدُر أسوأُ ما يُصاب به من سوءِ التعقُّل عن العَوْد إلى ذات السوء، ويقع هذا غالبًا من غيرِ أن يخطُر بباله، ويعود مثلُ هذا الخطر الشامل لا يخيفه.

ومع ذلك فإنكم تَجِدون له ذِهنًا، هو له ذهنٌ للهَذْرِ مع النساء وَفْقَ اللهجة التي تكلَّمتُ عنها، ولكنه إذا ما حاق به خطر، ووجبَ عليه اتخاذُ قرارٍ في أحوالٍ صعبة، وجدتموه أشدَّ غباوةً وبلاهةً مائةَ مرةٍ من ابن أغلظ قَروي.

وأمَّا تلميذي، أو تلميذُ الطبيعة على الأصح؛ فهو إذ يتدرَّب باكرًا على كفاية نفسه بنفسه ما أمكن، لا يتعوَّدُ الالتجاءَ إلى الآخرين بلا انقطاع، وأقلُّ من هذا عَرْضُه كبيرَ معرفتِه عليهم. وهو يَميزُ ويُبصِرُ ويتعقَّلُ بدلًا من ذلك في كلِّ ما هو خاصٌّ به مباشرة. وهو لا يُثرثِر، وهو يعمل، وهو لا يَعْرِف كلمةً عن كل ما يقع في العالم، وإنما يَعْرِف جيِّدًا أن يُحسِن صُنْعَ ما يلائمه. وبما أنه دائمُ الحركة فإنه مُلزَمٌ بملاحظةِ أمورٍ كثيرةٍ ومعرفةِ كثيرٍ من النتائج. وهو ينال تجرِبةً عظيمةً مُبكِّرًا، وهو يتلقَّى دروسه من الطبيعة لا من النَّاس. ويزيدُ ما يتعلَّم صلاحًا بنسبةِ ما لا يَرَى في أيِّ مكانٍ كان من عزمٍ على تعليمه. وهكذا فإن جسمه ورُوحه يتمرَّنان معًا. وبما أنه يسيرُ وَفْقَ فكره دائمًا، لا وَفْقَ فكرِ غيره، فإنه يوحِّدُ بين عملَين توحيدًا مستمرًّا. وهو كلَّما صار قويًّا عُصْلُبيًّا صار رصينًا بصيرًا. وهذه هي الوسيلة في أن يُحاز ذاتَ يومٍ ما يُعتَقَدُ أنه مناقِض؛ أي ما يجمعه جميعُ العظماء تقريبًا من قوَّة البَدن وقوة الروح وعقل الحكيم وبأس المصارع.

ويا أيها المُعلِّم الشاب، أوصيك بفنٍّ صعب، وهو أن تَحْكم بلا تعاليم، وأن تصنع كل شيء بعدم صُنْع شيء. وأعترف بأن هذا الفن ليس من مقتضيات سِنِّك؛ فليس صالحًا لِتألُّق مواهبك في البُداءة، ولا لإظهار مقدرتك لدى الآباء، ولكنه وحدَه مؤدٍّ للنجاح، ولن تصل إلى صُنْع حكماءَ مطلقًا ما لم تصنع في بدء الأمر فُجَّارًا. وكانت هذه تربية الإسبارطيين القائمة على البدء بتعليمهم سرقةَ غدائهم بدلًا من إلصاقهم بالكتب، وهل كان الإسبارطيون غِلاظًا عندما يَكبَرون؟ ومَن ذا الذي لا يَعْرِف قوَّتهم في الجواب على البديهة؟ وهم إذ خُلِقوا ليَغلِبوا كانوا يسحقون أعداءهم في الحروب على أنواعها، فيخشى الأثِنيُّون المهاذير كلامَهم كما يخشون ضرباتهم.

والمُعلِّم في التربيات الأعظم رعايةً يقود ويعتقد أنه يسيطر، والواقع أن الولد هو الذي يهيمن؛ فهو ينتفع بما تَطلبون منه لينال منكم ما يروقه، وهو يَعْرِف دائمًا أن يَحملَكُم على إنفاقِ ساعةِ دوامٍ مع ثمانية أيامٍ ملاطَفة، ولا بُدَّ من معاهدته في كلِّ دقيقة. وتنقلب هذه المعاهدات التي تقترحونها على شاكلتكم فينفِّذها على شاكلته إلا ما يلائم أهواءه، ولا سيَّما حين تكونون من ضَعف الرأي ما تضعون معه من الشروط نفْعًا له ما يثِق بأنه يناله سواءٌ أقام بالشرط الذي فُرِضَ عليه مقابلةً أم لم يقُم. ويقرأ الولدُ في ذهنِ المُعلِّم عادةً أكثرَ مما يقرأ المُعلِّم في قلب الولد بمراحل، ويجب أن يكون الأمر هكذا، وذلك أن كلَّ حِذْقٍ يستعمله الولد المُلقَى حبلُه على غاربه في سبيل حفْظ نفسه يستعمله لإنقاذ حريته الطبيعية من قيودٍ طاغيته، على حين يَجِدُ هذا الطاغيةُ الذي لا مصلحةَ مُلِحَّةً لديه في اكتناه الآخر، أن من الموافق لحسابه، أحيانًا، أن يَترُك له كسلَه وزهوَه.

واسلُكوا طريقًا معاكسةً مع تلميذكم، ولْيَعتقد أنه السيدُ دائمًا مع أن السيادة لكم في الحقيقة، فلا يوجد انقيادٌ أتمُّ من انقياد الذي يحافظ على الحرية ظاهرًا؛ فعلى هذا الوجه تُقهَر الإرادةُ نفسُها. ألَا يكون الولدُ المسكينُ الذي لا يَعرِف شيئًا ولا يستطيع شيئًا ولا يَعلَم شيئًا؛ تحت رحمتِكم؟ ألَا تتصرفون بالنسبة إليه في كلِّ ما يحيط به؟ ألستم السيدَ الذي يُكيِّفه كما يروقه؟ ألا تكونُ أعمالُه وألعابُه وأتعابُه أمورًا في يدِكم من غيرِ أن يعرف؟ أجلْ، لا يجوزُ له أن يفعل غيرَ ما يريد، ولكن لا يجوز له أن يريدَ غيرَ ما تريدون أن يفعل، ولا يجوز له أن يتقدَّم خُطوةً لم تكونوا قد أبصرتموها، ولا يجوز له أن يَفتحَ فاه لقولٍ لا تَعرفونه.

وهنالك يُمكِنه أن يقوم بتمريناتٍ بدنية تتطلبها سِنُّه، من غير أن يَخْبَل ذهنه، وهنالك تَرونه يَقصِرُ همَّه على انتفاعه من كلِّ ما يحيط به بما هو أفيدُ لراحته الحاضرة، بدلًا من أن يَشْحَذ حيلتَه لاجتنابِ سلطانٍ ثقيل. وهنالك يعتريكم الدَّهَش من دقَّة وسائله في امتلاك كلِّ ما يستطيع الوصولَ إليه، وفي التمتُّع بالأشياء من غيرِ استعانةٍ برأيٍ حقًّا.

وإذا ما تركتموه سيدَ رغائبه على ذلك الوجه لم تُثيروا أهواءه مطلقًا، وإذا لم يُصنَع غيرُ ما يلائمه لم يَصنع من فوْره غيرَ ما يجوز أن يصنع. ومع أن جسمه دائمُ الحركة، ما تعلَّق الأمرُ بمصالحه الحاضرة المحسوسة، فإنكم سترون أن ما يستطيع من عقلٍ ينمو بأحسنَ كثيرًا، وعلى وجهٍ أكثرَ ملاءمةً له من دروسٍ نظريةٍ صِرفة.

وهكذا، إذ لا يراكم تبالغون في مقاومته، وإذ لا يرتاب منكم مطلقًا، وإذ لا يكون لديه شيءٌ يكتمه عنكم، لا يخادعكم ولا يَكذِب عليكم مطلقًا، وإنما يَبدو كما هو بلا وَجَل. ويمكنكم أن تَدرسوه على مَهْل، وأن تحيطوه بجميعِ الدروس التي تريدون إلقاءها عليه، من غيرِ أن يخطُرَ بباله تلقي أي واحد منها مطلقًا.

وكذلك لن يرقُبَ مسالككم بعينِ فُضولٍ غَيور، ولن يتلذَّذ سِرًّا بقيدِ خطأٍ لكم، وهذا الأذى الذي نتلافاه عظيمٌ جِدًّا، وذلك أن من أوَّلِ ما يُعْنى به الأولادُ هو اكتشاف نواحي الضَّعف فيمن يهيمنون عليهم كما قلت ذلك، ويَحْمل هذا الميلُ إلى الخُبْث، ولكنه لا ينشأ عنه، وإنما ينشأ عن الحاجة إلى اجتناب سلطانٍ يزعجهم. وبما أن الأولاد مُثقَلون بالنِّير الذي يُفرَض عليهم فإنهم يحاولون خلْعَه عنهم، وما يجدون من عيوبٍ في المُعلِّمين يُزوِّدهم بوسائلَ صالحةٍ لذلك، ومع ذلك فإن من العادةِ أن يُلاحَظ النَّاسُ من خلال نقائصهم وأن يُسَرَّ باكتشافها عندهم. ومن الواضح أيضًا أن يُسَدَّ هذا المنبعُ للعيوب في قلب إميل، وإذ لم يكن لإميلَ أيُّ نفعٍ في اكتشافِ عيوبٍ لي، فإنه لا يبحث عنها فيَّ، كما أنه لا يحاول كشفَ عيوبَ الآخرين إلا نادرًا.

وتَلوح هذه الأفعالُ كلُّها صعبةً؛ وذلك لأنها لا تخطُر على البال، ولكنها مما لا يَجوز أن يكون هكذا في الأساس، ولي الحقُّ بأن أفترض لكم من المعارف الضرورية ما تُزاولون معه المهنةَ التي اخترتم. ويجب أن يُفتَرَض لكم علمٌ بالسَّيْر الطبيعي للقلب البشري، وأنكم تَعرفون درسَ الإنسان والفرد، وأنكم تعرفون مقدَّمًا ما تخضع له إرادةُ تلميذكم من جميع الموضوعات التي تلائم سِنه وتضعونها أمام عينيه، وهل من غيرِ الواقع أن تنِمَّ حيازةُ الإنسان للأدوات ومعرفتُه استعمالَها جيِّدًا على أنه سيدُ العمل؟

وستعترضون بأهواء الولد، ولستم على صوابٍ في هذا؛ فليس هوى الأولاد من عمل الطبيعة مطلقًا، وإنما هو نتيجةُ نظام سيئ، وذلك أن يكونوا قد أطاعوا أو أَمروا، وقد قلتُ مائةَ مرة إنه كان لا ينبغي أن يقع هذا ولا ذاك؛ ولذا لا يكون لدى تلميذكم من الأهواء غيرُ ما تكونون قد علَّمتموه، ومن العدل أن تنالوا جزاء ما اقترفتم، ولكنكم ستقولون: كيف يُعالَج ذلك؟ هذا ممكن أيضًا بأصلحِ سلوكٍ وبصبرٍ كثير.

كان قد عُهِد إليَّ لبضعةِ أسابيعَ في أمرِ ولدٍ لم يُعوَّد تنفيذَ رغائبه فقط، بل عُوِّد حمْلَ جميعِ النَّاسِ على تنفيذها أيضًا؛ ومِنْ ثَمَّ كان هذا الولدُ جَموحًا، ويريد منذ اليوم الأوَّل أن يمتحن مجاراتي له؛ فينهض في منتصف الليل، وبينا كنتُ غارقًا في نومي يثِبُ من سريره ويتناول مِبذَله ويناديني، وأنهض وأُشعِل الشمعة، ولا يريد أكثرَ من هذا، ويمضي رُبع ساعة ويَنْعُس ويَضْجَع ثانيةً قانعًا باختباره. ويعود إلى ذلك بعدَ يومين وينال عينَ النجاح، وذلك من غيرِ أن يبدو عليَّ أقلُّ علامةٍ على عدم الصبر، ويُقبِّلُني عند اضطجاعه ثانية، وأقول له بهدوء: «أحسنت جِدًّا يا صديقي الصغير، ولكن لا تَعُد إلى هذا.» وتثير هذه الكلمةُ فضوله، ويودُّ في الغد أن يرى قليلًا كيف أجرُؤ على مخالفته، فلا يفوته أن ينهضَ في ذاتِ الساعة وأن يناديَني، وأسأله عما يريد، ويقول لي إنه لم يستطِع أن ينام، وأجيب بكلمة: «يا خسارة!» وأسكت. ويرجو أن أُشعل الشمعة، وأسأل: «لأي شيء؟» وأسكت. ويُزعجه هذا الإيجاز، ويتلمَّس القَدَّاحَ في الظلام، ويحاول إخراجَ النار منه، ولا أستطيع منعَ نفسي من الضحك عند سماعي ضربَه لأصابعه، ويعتقد أخيرًا أنه لا يقدِر على الزَّنْد، فيأتي بالقدَّاحة إلى سريري، فأقول له إنني لم أطلبها وأقلِبُ ظهري، وهنالك يذرع الغرفة طائشًا صارخًا مغنيًا صاخبًا خابطًا نفسه على المِنضدة والكراسي بضرباتٍ عُنِيَ كثيرًا بأن تكون معتدلة، مع صياحٍ شديدٍ آملًا أن يُقلقني، وكان ذلك كلُّه على غيرِ جدوَى. وقد رأيت أنه وإن كان مستعِدًّا للهياج والغضب، غيرُ مُستعدٍّ لاعتدال الدم.

ومع ذلك فقد عَزم على قهْر صبري بعناده، وقد بلغ من نجاحه في الاستمرار على ضوضائه ما كِدتُ أتميَّزُ معه من الغيظ. وقد أبصرتُ أنني أُفسِدُ كلَّ أمرٍ بانفجارٍ غيرِ مناسب، وأرى سلوكَ سبيلٍ أخرى، وأنهض من غير أن أنطِق بكلمة، وأذهب إلى القدَّاحة فلا أجدها، وأسأله عنها ويعطيني إياها فرِحًا لانتصاره عليَّ في آخِر الأمر. وأقدَح بالزَّنْد وأُشعل الشمعة، وأُمسك الولدَ من يده وأسير به هادئًا إلى غرفةٍ ملاصقةٍ ذاتِ مصاريعَ مُحكمةِ الإغلاقِ؛ حيث لا يوجد شيءٌ يُكسَر، وأترُكه فيها بلا نور، ثُمَّ أُغلِقُ البابَ عليه بالمفتاح، وأعود لأنامَ غيرَ مخاطبٍ إياه بكلمةٍ. ولا تسأل عن شِدة ما كان هناك من ضجَّة في بدء الأمر، وهذا الذي كنت أنتظر ولم أهتز. ويسكُن الضجيجُ مؤخرًا، وأستمِع وأُدرِك أنه استقام، ويهدأ بالي، وأدخل الغرفةَ صباحًا، وأجد العاصي الصغير ضاجعًا على متكأٍ نائمًا نومًا عميقًا كان في أشد الاحتياج إليه بعد ذلك العناء.

ولا يَقِف الأمرُ عند ذلك الحد؛ وذلك أن الأمَّ تَعلَم قضاءَ الولدِ ثُلُثَي الليلِ خارجَ فراشه، ويُقضى على العمل حالًا، ويبدو الولدُ مثلَ هالك. والولد إذ يرى فرصةً صالحةً للانتقام يزعم أنه مريضٌ غيرَ مُبصِرٍ أنه لا يَكسِب من وراء هذا شيئًا، ويُدعى الطبيب. ومن سوء حظ الأم أن كان هذا الطبيب ماجنًا أراد أن يتلهَّى بذُعرها، فعَمِل على زيادته، ومع ذلك فقد قال لي همْسًا: «دعني أعمل، فأعِدُك بأن يُشفَى الولدُ بعد قليلٍ من مُرادِ مَرضِه.» والواقع أن الولدَ أُوصِي بالحِمية والتزام الغرفة، وفُوِّض أمرُه إلى الصيدلي، ومن حسرتي أن رأيتُ هذه الأمَّ المسكينةَ فريسةَ خداعِ جميعِ مَن يحيطون بها خلا نفسي، وأن كنتُ موضعَ حقدِها لأنني لم أُخادعها قَط.

وتقول لي بعد لَومٍ شديد إن ابنها غلامٌ أُمْلُود،٢٠ وإنه الوارثُ الوحيدُ لأسرته، وإن من الواجب أن يُحافَظ عليه بأي ثمنٍ كان، وإنها لا تريد أن يُعاكَس. وأوافقها على ذلك، ولكنها تَعني بمعاكسته أن يُطاع في كلِّ أمر، وأرى أن أُعامِل الأمَّ بمثلِ ما عاملتُ الولد، فأقول لها بفتور: «سيدتي، لا أعْرِف كيف يُربَّى الوارِثُ مطلقًا، وأكثرُ من هذا أنني لا أريد أن أعْرِف هذا، فيُمكنك أن تُرتِّبي أمورِك وَفْقَ هذا.» وقد كانوا محتاجين إليَّ لأيامٍ أُخَر أيضًا، فهدَّأ الأبُ كلَّ شيء، وكتبت الأمُّ إلى المُعلِّم ليُعجِّلَ رجوعه، وأبصر الولدُ أنه لا يكسِب شيئًا من منْع نومي ومن انتحاله المرض، فوطَّنَ نفسه على النوم وعلى الظهور حسنَ الصحة أيضًا.

ولا يُمكن أن يُتصوَّر مقدارُ ما كان المُعلِّم التَّعِس خاضعًا له من أهواء الطاغية الصغير؛ وذلك لأن التَّربية كانت تتمُّ على عينَي الأم التي لا تُطيق أن يُعصى الوارث في شيء، وكان عليه أن يكون مستعدًّا ليأخذه معه كلَّما أراد الخروج، أو أن يتبعه على الأرجح. وفي هذا كان الولدُ يختار الساعة التي يكون مُعلِّمه مشغولًا فيها، وقد أراد أن يتخذ نحوي ذات السلطان وأن ينتقم نهارًا من الراحة المُلزَم بأن يتركها لي ليلًا. وقد رضيتُ بجميعِ هذا فرِحًا وأخذتُ أُبدي مخلصًا ما يساوِرُني من حُبُور بجعله مسرورًا. ولما دار الأمر حول شفائه من هواه بعد هذا انتحلتُ وجهًا آخَر.

وأوَّلُ ما وجب فعله أن يُوضع في موضعِ المخطئ، ولم يكن هذا صعبًا. وبما أنني كنت أعْرِف أن الأولادَ لا يحلُمون بغيرِ الحاضر؛ فقد سَهُلَ عليَّ أن أؤثِّرَ فيه بتبصُّري، فأُعنى بأن أهيئ له في المنزل لهوًا كنت أعْرِف ملاءمته لذوقه إلى الغاية، فإذا رأيته غارقًا به اقترحتُ القيامَ بنزهةٍ قصيرة. ولم يَقبل، وأُصِر، ولا يَستمع لي، وعليَّ أن أُذعِن، ويُقيِّد علامةَ الإذعان في نفسه باعتناء.

ويأتي دَوري في الغد، ويسأم من شغله كما كنت أنتظر، وعلى العكس أَظهَرُ كثيرَ الشغل، وكان هذا كافيًا ليقرِّرَ، ولم يتوانَ في انتزاعي من عملي لآتيَ به إلى نُزهَةٍ بأسرعَ ما يمكن، فرفضتُ وأصرَّ، وأقول له: «كلَّا؛ فقد تعلَّمتُ من تنفيذ رغبتك أن أُنفِّذ رغبتي، ولا أريد الخروج.» ويجيب بشِدَّة: «حسنًا، سأخْرُج وحدي.» وأقول: «كما تريد.» وأعود إلى عملي.

ويلبَس ثيابه، ويضطرب بالُه قليلًا من إغضائي عنه وعدم اتِّباعي إياه. فلما استعدَّ للخروج أتى لتحيتي، فحيَّيتُه. ويحاول أن يخوِّفني بقِصة أسفاره التي سيقوم بها، فيظُنُّ مَن يسمعُه أنه ذاهبٌ إلى أقاصي الدنيا. وأتمنَّى له رحلةً طيبةً من غيرِ أن أُحرِّكَ ساكنًا، ويتضاعف ارتباكُه، ومع ذلك فقد أظهر الحزم، وقال لخادمه أن يتبعه عندما همَّ بالخروج. وكان الخادم قد حُذِّر فاعتذرَ بعدمِ مساعدة الوقت وبأنه قائمٌ بأموري، فيجب أن يُطيعني قبْل أن يُطيعه. ويعتري الولدَ دَهَشٌ في هذه المرة، وكيف يَتصور تركُه يخرُج وحدَه، وهو يعتقد أنه أهمُّ النَّاس ويرى حِرصَ السماء والأرض على سلامته؟ ومع ذلك فقد أخذ يشعر بضَعفه، وأدرك أنه يكون وحيدًا بين أناسٍ لا يَعْرِفونه، ويُبصِرُ مقدَّمًا ما ينتظره من أخطار، ولا يزال أزرُه يشتد بعناده وحدَه، وينزل من الدَّرَج على مَهلٍ وبلا مَيل، ويدخل الشارع أخيرًا ساليًا بعضَ السُّلوان عن الضُّرِّ الذي قد يَمَسُّه بأمله في جعلي مسئولًا.

وذلك ما كنتُ أنتظر، وكلُّ شيء كان مُعدًّا مقدَّمًا، وكنتُ مجُهَّزًا بموافقة الأب، كأن الأمرَ ضربٌ من المناظر العامة. ولم يَكد يتقدَّم بضعَ خُطوات حتى صار يسمع عن اليمين وعن الشمال أقوالًا مختلِفةً حوله، ومن ذلك: «أين يذهب وحدَه هذا الجار السيد الظريف؟ سيضيع، سأطلب منه أن يجيء عندنا. احذري يا جارة، ألَا ترين أنه فاجرٌ صغيرٌ طُرِد من بيت أبيه لأنه لا يصلُح لشيء؟ لا يجوز إيواءُ الفَجَرة، ولْيذهب إلى حيث يشاء. حسنًا، ولْيحفظه الله! فمما يَغيظني أن يُصاب بسوء.» ويتقدَّم قليلًا فيلاقي أولادًا طائشين من لِدَاته تقريبًا، فيزعجونه ويَهزءون به. وكلَّما تقدَّم وجد ما يضايقه، وهو إذ كان وحيدًا بلا حمايةٍ رأى نفسه أُلعوبةَ جميعِ النَّاس، وأحَسَّ بكثيرٍ من الحَيرة أن عقْدةَ كتفه وزُخرفَه الذهبي لا يَجلُبون إليه احترامًا.

ومع ذلك فقد عهدتُ إلى أحد أصدقائي الذين كان لا يَعْرِفهم مطلقًا أن يَرْقُبه، فكان يتتبَّعه خُطوةً خُطوةً من غيرِ أن ينتبه إلى ذلك، وكان يدنو منه عند الاقتضاء. وكان هذا الدُّور المشابه لدور سِبريغاني في بُرْسُنْيَاك يتطلب رجلًا وافرَ العقل، فقام به الصديقُ خيرَ قيام، وذلك أنه لم يجعل الولدَ أَوْجَلَ جَزوعًا بتلقينه ذُعرًا كبيرًا، وإنما أَشعره بعدم تبصُّرِه في عمله الشاق. فلما مضى نصف ساعةٍ أتاني به ليِّنًا خَزِيًا غيرَ مجترئ على رفْع عينيه.

وتُكمَل بَلِيَّته في رحلته حين عودته إلى البيت تمامًا؛ فقد نزل أبوه للخروج فلقيه على الدَّرَج، وكان عليه أن يُخبِرَ عن المكان الذي أتى منه، وعن سبب عدم وجودي معه.٢١ وودَّ الولدُ المسكين لو يكون تحت الأرضِ مائةَ قدم، ولم يَتَلَهَّ الأبُ بأن يوجِّه إليه لومًا شديدًا، وإنما قال له بجفاءٍ لم أكن أنتظره: «إذا أردتَ الخروج وحدَك أمكنك فعلُ ذلك، ولكن بما أنني لا أريد أن أرى عاصيًا في منزلي، كما تصنع، فحذارِ أن تعود.»

وأمَّا أنا فقد استقبلتُه غيرَ لائمٍ ولا ساخر، ولكن مع شيءٍ من الرَّصانة، ولم أشَأ أن آتي به للنزهة في اليوم نفسِه خشيةَ أن يدور في خَلَده أن كلَّ ما وقع لم يكن غيرَ لَعِب. ومما طاب لي كثيرًا أن رأيته في غدِ ذلك اليوم يمرُّ معي، كأنه في موكبِ نصر، أمام مَن سَخِروا منه أمسِ حينما كان وحدَه. وهكذا يمكنكم أن تدركوا أنه عاد لا يتوعدني بالخروج من غيرِ أن يكون معي.

فبهذه الوسائل وما ماثلها وُفِّقْتُ في المدة القصيرة التي قضيتُها معه أن أجعله يفعل كلَّ ما أريد، وذلك من غيرِ أن آمره بشيء، ومن غير أن أصُدَّه عن شيء، ومن غير أن أعِظه بشيء، ومن غير أن أحُثَّه على شيء، ومن غير أن أُضجِرَه بدروسٍ لا طائل تحتها. وكذلك كان يبدو راضيًا إذا تكلمت، ولكنه كان يُذعَر إذا ما التزمتُ جانبَ الصمت؛ وذلك لأنه كان يعلم أن بعض الأمور ليس صوابًا، وأن الدرس يأتي من ذات الشيء دائمًا، ولكن دعنا نَرجع إلى الموضوع.

وهذه التمرينات المتصلة، المتروكة لتوجيه الطبيعة وحدَه، إذ تُقوِّي الجسم، لا تؤدي إلى عدمِ خَبَل الرُّوح فقط، بل على العكس تكوِّن فينا أيضًا نوع العقل الوحيد الذي يتقبله الدُّور الأوَّل من العُمُر، والذي هو ألزمُ ما يكون في أيِّ دورٍ من أدوار العُمُر، وهي تُعلِّمنا كيف نُحسِن استعمالَ قُوانا كما تُعلِّمنا ما بين أجسامنا والأجسام المحيطة بنا من صلة، وهي تُعلِّمنا استعمالَ الوسائل الطبيعة الواقعة في مُتناوَلنا والملائمة لأعضائنا. وهل تُوجد رُعونةٌ كرعونةِ الولد الذي يُنَشَّأ في الغُرفة على عينَي أمِّه دائمًا، فيجهل ما الثِّقَل وما المقاومة، ويريد قلع شجرة عظيمة أو رفْع صخرة؟ وقد أردت في أوَّل مرةٍ خرجت فيها من جنيف أن ألحَقَ حِصانًا راكضًا، وقد رميت حجارةً على جبل ساليف البعيد منِّي فرسخَين، فكنت موضعَ سُخرية أولاد القرية عادِّين إياي من البُلْه. وفي العام الثامن عشر من العُمُر يُعلَّم ما العَتَلةُ في الفلسفة، ولا يوجد قرويٌّ صغيرٌ بالغٌ من العُمُر اثنتي عشرة سنة لا يَعْرِف استعمالَ العتلةِ أحسنَ مما يَعْرِف الميكانيُّ الأوَّلُ في الأكاديمية، وما يتلقاه التلاميذُ بينهم في ساحة المدرسة أفيدُ مائةَ مرةٍ مما يُقال لهم في حجرة الدرس.

وانظروا إلى سِنَّوْرٍ داخلٍ غرفةً للمرة الأُولى؛ فهو يزور ويُبصِر ويشم، ولا يبقى دقيقةً واحدةً مستقِرًّا، وهو لا يركَن إلى شيءٍ قبْل أن يفحص كلَّ شيء، ويَعْرِف كل شيء. وهذا ما يفعل الولدُ الذي يبدأ بالمشي فيدخُل ساحةَ العالَم على هذا الوجه، ويقوم الفرْق الوحيد على أنه يُضاف في الملاحظة إلى حاسة البصر المشتركة بين الولد والسِّنَّوْر ما حَبت الطبيعة به الأوَّلَ من يدين، وما حَبت به الثاني من حاسة شمٍّ نفَّاذة. وهذا الاستعداد الذي يُحسَن تعهُّدُه أو يُساء هو الذي يجعل الأولادَ ماهرين أو غِلاظًا، متثاقلين أو نِشاطًا، طائشين أو فُطُنًا.

وبما أن حركاتِ الإنسانِ الطبيعيةَ الأُولى تقوم على قياسه بجميع ما يحيط به وعلى الشعور في كلِّ شيء يُدرِكُ بجميع الخواص الحساسة التي يُمكن أن تناسبه، فإن درسه الأوَّل يكون ضرْبًا من الفيزياء التجريبية الملائمة لبقائه، فيُحوَّل عنه بدروسٍ نظرية قبل أن يَعْرِف مكانه في هذا العالَم. وبيْنا يمكن أعضاءه الدقيقةَ المرِنةَ أن تطابق الأجسام التي يجب أن تؤثِّر فيها، وبينا تكون حواسُّه سالمة من الأوهام، يكون هذا زمنَ تمرينِ الأعضاء والحواس على الوظائف الخاصة بهما، يكون هذا دَورَ تعلُّمنا معرفةِ العلاقات المحسوسة بيننا وبين الأشياء. وبما أن كل شيء داخل ضمن الإدراك البشري، يأتيه من الحواس، فإن عقلَ الإنسان الأوَّل هو عقلٌ حسي، وهذا هو العقل الذي يَصلُح أساسًا للعقل الذهني؛ أي إن أساتذتنا الأوَّلين في الفلسفة هي أرجلنا وأيدينا وعيوننا. ولا ينطوي استبدالُ الكتب بجميع هذا على تعليمنا التعقُّل، بل يُعلِّمنا انتحال عقل الآخرين، بل يعلِّمنا كثرةَ الاعتقاد وقلةَ المعرفة.

ويجب لممارسةِ صَنْعةٍ أن يُبدَأ بإحرازِ وسائلها، ويجب للقدرةِ على استعمالِ هذه الوسائل استعمالًا نافعًا أن تكون من المتانةِ ما تُقاوِم معه الاستعمال، ويجب لِتَعلُّم التفكير أن تُدرَّب إذن أعضاؤنا وحواسُّنا وأطرافُنا التي هي وسائلُ عقلنا، ويجب للانتفاعِ بأقصى ما يُمكن من هذه الوسائل أن يكون الجسمُ الذي يُزوَّد بها عُصْلُبيًّا سالمًا. وهكذا، فإن من البعيد أن يتكوَّن عقلُ الإنسانِ مستقلًّا عن الجسم، وحسنُ تكوين الجسم هو الذي يجعل أعمال الذهن سهلةً صحيحة.

وإني، حين أَدُلُّ على الوجهِ الذي يجب أن يُنفَقُ فيه فراغُ الوَلُودِية الطويل، أَلِجُ بابَ التفصيلِ الذي يلوح أنه موضعُ هزوء، وسيُقال لي إن الدروس التي تقع تحت سلطانِ نقدِك الخاص، فتقتصر على تعليمِ ما لا يحتاج إليه أحد، دروسٌ مُضحِكة! ولِمَ يُقضى الوقت في تعليمٍ يأتي من نفسه، ولا يُكلِّف تَعبًا ولا رعاية؟ وأيُّ ولدٍ بالغٍ من العُمُر اثني عشر عامًا لا يَعْرِف جميعَ ما تريد تعليمَ تلميذِك إياه، فضلًا عما يكون مُعلِّموه قد علَّموه إياه؟

أنتم مخطئون يا سادتي؛ فأنا أُعلِّم تلميذي صنعةً طويلةً جِدًّا، شاقَّةً جِدًّا، صنعةً لا يَحُوزها تلاميذكم لا ريب، صنعةَ كونه جاهلًا؛ وذلك لأن عِلمَ مَن يعتقد أنه يَعْرِف ما يَعْرِف فقط يُرَدُّ إلى شيء قليل. وأنتم تُلقون عِلمًا، حسنًا، وأمَّا أنا فأُعنَى بالوسيلةِ الصالحةِ لاكتسابه. ويُرْوى أن أهل البندقية أطْلَعوا سفيرَ إسبانية على كنوزِ القديس مُرقص، وكان هذا في احتفالٍ عظيم، فقَصَرَ مجاملتَه على قولهِ وهو ينظر إلى ما تحت المناضد: «هنا لا يوجد جذر.» فلا أرى مُعلِّمًا يَعرِض معرفةَ تلميذه من غيرِ أن أُحاول قولَ مثل هذا له.

ويَعزو جميعُ مَن يُنعِمون النظرَ في طرازِ حياة القدماء إلى التمريناتِ الرياضيةِ تلك القوةَ في الجسم والذهن التي تَمِيزهم من المعاصرين بأوضحِ ما يمكن. ويدلُّ الوجه الذي يَدْعم مُونْتِينُ به هذا الرأيَ على أنه كان متأثِّرًا به كثيرًا، فيعودُ إليه بلا انقطاعٍ وعلى ألفِ طَرْزٍ. وهو إذ يتكلم عن تربية الولد، يقول: «يجب لتقوية رُوحه أن تُقوَّى عضلاته، وهو يُعوَّدُ الألمَ حين يُعوَّد العمل، ولا بُدَّ من تدريبه على خُشونة الرياضة البدنية حتى يألفَ عُنفَ الانخلاعِ وشدةَ المَغْص وقسوةَ جميع الأمراض.» وعلى ما بين الحكيمِ لوكَ والصالحِ رُولانَ والعالِمِ فلُوري والمتحذلقِ كرُوزا من اختلافٍ كبيرٍ في شتَّى المسائل؛ تجدُهم جميعًا متفقِين في مسألةِ تمرينِ أبدانِ الأولادِ وحدَها. وهذا هو أصوبُ ما في تعاليمهم، وهذا هو أكثرُ الأمورِ إهمالًا، وسيكون هكذا دائمًا، وكنت قد تكلمتُ عن أهميته بدرجةِ الكفاية. وبما أنه لا يمكن أن يُبيَّن حولَ ذلك من الأسبابِ والقواعدِ ما هو أفضلُ مما وَرَدَ في كتاب لوك؛ فإنني أَقنعُ بإحالةِ القارئ إليه بعد أن أُبيح لنفسي إضافةَ بعض الملاحظات إلى ملاحظاته.

ويجب أن تكون الأعضاءُ في الجسمِ النامي طليقةً سهلةَ الحركة في الثياب، فلا ينبغي أن يُضايقَ شيءٌ حركتَها ولا نُموَّها، فلا ضَيِّقَ ولا لاصقَ بالبدن، ولا رُبُط. ويُعَدُّ اللباسُ الفرنسيُّ المُتعِبُ للرجالِ وغيرُ الصحيِّ لهم ضارًّا بالأولاد على الخصوص، وتَصْرَى٢٢ الأخلاطُ الراكدةُ التي يُوقَف دورانُها بسُكونٍ يزيد بالحياة المتوانية الحضرية، فتَعْفَن الأخلاطُ وتُسبِّب داءَ الحَفَر الذي يزيد انتشارُه كلَّ يوم بيننا مع أنه مجهولٌ تقريبًا لدى القدماء الذين كانوا يتَّقونه بطرازِ لُبْسهم وأسلوبِ معيشتهم. ولا يتلافى لباسُ الفرسانِ هذا المحذورَ، بل يزيده، وإذا ما أُريد به إنقاذُ الأولادِ من بعض الرُّبُط ضغطهم بدنًا ضغطًا كليًّا. وأفضلُ ما يُصنع في هذا السبيلِ هو أن يُتركوا لابسين سُترةً لأطولِ وقتٍ ممكن، ثُمَّ أن يُعطَوا ثوبًا فَضْفاضًا من غيرِ أن يُعنى بتجسيم قَوامهم؛ لِما يؤدي إليه هذا من تشويههم على وجهٍ آخَر. وتنشأ جميعُ عيوبهم بدنًا ورُوحًا عن ذاتِ العلَّة تقريبًا، ويُراد جعلُهم رجالًا قبلَ الأوان.

ويُوجَدُ من الألوانِ ما هو مُشرِقٌ وما هو قاتم. ويُفضِّلُ الأولادُ الألوانَ الأُولى، وهي تلائمهم أيضًا، ولا أدري ما السببُ في عدمِ أخذِ الملاءمة الطبيعية في هذا بعين الاعتبار. ولكن بما أنهم يُرجِّحون النسيجَ الفاخِر، فإن هذا يعني استهواء النفائسِ لأفئدتهم وميلَهم إلى جميع مناحي الزِّي، ولم يأتِهم هذا الذوقُ من أنفسهم لا ريب. ومن المتعذر بيانُ مقدارِ ما لاختيارِ الثيابِ وعواملِ هذا الاختيارِ من تأثيرٍ في التَّربية. وليس الأمهاتُ العُميُ وحدَهن مَن يَعِدْن أولادَهن بالزخارفِ مكافأةً لهم، بل يُرى أيضًا مُعلِّمون من الحمقى يهدِّدون تلاميذَهم بثوبٍ أكثرَ خشونةً وأعظمَ بساطةً عِقابًا لهم، وذلك كأن يقولوا لهم: «إذا لم تكونوا أحسنَ درسًا، وإذا لم تكونوا أكثرَ اعتناءً بثيابكم، فإنكم ستُحمَلون على لُبْسِ ثيابٍ كثيابِ هذا الفلَّاحِ الصغير.» ويَعْدِل هذا قولَهم للتلاميذ: «اعلمُوا أن الإنسانَ ليس شيئًا بغيرِ ثيابه، وأن قيمتَكم بما تَلْبَسون.» وهل يُعجَبُ من تأثُّرِ أولادنا بهذه الدروس الصائبة، ومن كونهم لا يُقدِّرون غيرَ الزُّخرف، ومن كونهم لا يرون المَزِيَّة في غيرِ المظهر؟

وإذا ما وجبَ أن أرُدَّ إلى الصوابِ ولدًا بالغًا هذا المقدارَ من الدَّلالِ، صرفتُ همي في جعْلِ أفْخَر ثيابه أكثرَ ما يكون إزعاجًا، فتُضايقه دائمًا، وتضغطه دائمًا، وتُربِكه على ألفِ وجهٍ دائمًا. وصرفتُ همي في هَزْمي الحريةَ والبهجةَ أمام بهائه، فإذا أراد أن يشترك في ألعابِ أولادٍ آخرين أكثرَ بساطةً في اللُّبْس كَفُّوا كلُّهم عن اللَّعِب، وتوارَوا كلُّهم من فوْرهم. وأخيرًا أبْلُغ من إمْلالِه أُبَّهتَه وإشباعِه من زَهوِه، وأخيرًا أبلُغ من جعلِه عبدًا لثوبه الذهبي، ما أجعل من هذا وذاك معه بليةَ حياته، فيرى أن أسودَ سجنٍ مُظلمٍ أقلُّ هولًا من عُدَّة زينته؛ فأوَّل ما يتمناه الولدُ أن يطيبَ عيشًا ويكونَ حُرًّا ما دام لم يُجعَل عبدًا لمُبْتَسَراتنا. وتُعدُّ الثيابُ الأكثرُ بساطةً والأعظمُ إراحةً والأقلُّ تعبيدًا له؛ أثمنَ ما يكون عنده دائمًا.

وتُوجَد للجسمِ عادةٌ ملائمةٌ للتمرينات، وتوجد له عادةٌ أكثرُ ملاءمةً لعدمِ الحركة، وبما أن هذه تَدعُ للأخلاطِ سبيلًا سهلًا نَمَطيًّا، فإن من الواجب أن تَضْمن البدنَ من تقلُّبات الجو. وبما أن الأخرى تجعله ينتقل بلا انقطاعٍ من الحركة إلى الراحة، ومن الحرارة إلى البرودة، فإن من الواجب أن نُعَوِّده عينَ التقلبات؛ ومِنْ ثَمَّ يجب أن يَلْبَس سكانُ المنازل وأهل المدن ثيابًا دفيئة في كلِّ وقت حفْظًا للبدنِ ضِمن درجةٍ من الحرِّ متساويةٍ واحدةٍ تقريبًا في جميعِ الفصول والساعات. وأمَّا الذين يأتون ويذهبون في الريح وتحت الشمس والمطر، وأمَّا الذين يسيرون كثيرًا ويقضون معظمَ أوقاتهم في العراء؛ فيجب أن يَلبَسوا ثيابًا خفيفةً دائمًا، وذلك ليتعوَّدوا جميعَ تقلبات الجوِّ وجميعَ درجات الحرِّ دائمًا، من غيرِ أن يُعنَتُوا، فأنصحُ هؤلاء وأولئك بألَّا يُغيِّروا ثيابَهم وَفْقَ الفصول، وسيكون هذا عادةَ إميلَ الدائمة. ولا أقصِد بهذا أن يَلْبَس ثيابَ الشتاء في الصيف كالحضريين، بل أقصد أن يَلْبَس ثيابَ الصيف في الشتاء كالعُمَّال، وكانت هذه عادةَ السِّير نِيُوتُن مدى حياته، وقد عاش ثمانين سنة.

وقليلُ كسوةٍ للرأس، أو لا كسوةَ للرأس، في جميع الفصول. وكان قدماء المصريين حاسري الرأسِ دائمًا، وكان الفرس يَسْتُرون رءوسهم بتيجانٍ ضخْمة، واليومَ يَسْتُر الفرسُ رءوسهم بعمائمَ كبيرةٍ يجعل جوُّ البلادِ استعمالَها ضروريًّا كما يرى شارْدان. وقد ذكرتُ في كتابٍ آخَر ما أتاه هِيرُودُتْس من تفريقٍ في ميدان القتال بين جماجمِ الفرس وجماجمِ المصريين. ولِذا، فبما أن من المهم أن تكون عظامُ الرأس أشدَّ صلابةً وأعظمَ كثافةً وأقلَّ عطْبًا وأندرَ منافذَ لتسليح الدماغِ ضدَّ الجروح، فضلًا عن الزُّكام والنَّزلات وجميع مؤثرات الهواء، فعوِّدوا أولادَكم أن يَبْقَوا حاسري الرأسِ في الصيف والشتاء والنهار والليل دائمًا. وإذا كنتم تودُّون نظافةَ شَعْرهم وانتظامَه، فتريدون غطاءً له في الليل، فلْيكن هذا قَلَنْسُوَةً رقيقةً ذاتَ شُقُوقٍ مشابهةً للشَّبَكة التي يَلُفُّ البَشْكُنْسُ بها شعورَهم. وأعْرِف جيِّدًا أن معظمَ الأمهات اللائي وقفتْ ملاحظةُ شارْدان أنظارَهم أكثرَ مما وقفَتْها براهيني سيَعتقدن أنهن يَجِدن جوَّ فارسَ في كل مكان، ولكني لم أختَر تلميذي الأوروبي لأجعل منه آسيويًّا.

وعلى العمومِ يُلْبَسُ الأولادُ ثيابًا كثيرة، ولا سيَّما في الدَّور الأوَّل من عُمُرهم، مع أنه يجب أن يُعوَّدوا البردَ أكثرَ من أن يُعوَّدوا الحر؛ فالبرد لا يؤذيهم مطلقًا إذا ما عُرِّضوا له باكرًا، ولكن بما أن نسيجَ جِلْدِهم لَيِّنٌ جِدًّا رَخوٌ جِدًّا، فيساعد العَرَق على السَّيْلِ بكثرة، فإنه يُسْلِمُهُم بالحَر المتناهي إلى ضَنًى لا مَفرَّ منه. ولْنعلَم أيضًا أنه يَهْلِك به في شهر أغسطس أكثر مما في أي شهرٍ آخَر، ثُمَّ إنه يظهر من الثابت عند المقابلةِ بين شعوب الشمال وشعوب الجنوب أن الإنسان يصير عُصْلُبيًّا بشدَّة البردِ أكثرَ مما بشدةِ الحَر، ولكن كلَّما كَبُرَ الولدُ واشتدت أليافُه عوِّدوه احتمالَ شعاعِ الشمس مقدارًا فمقدارًا، وهو إذا ما تَدرَّج في هذا السبيل جعلتموه يُطيق قيظَ المِنطقة الحارة بلا خطر.

وبينما يُتحِفُنا لُوكُ بمبادئَ صائبةٍ ذاتِ فُحُولةٍ تراه يقع في متناقضاتٍ لا تُنتَظر من مفكرٍ مُدقِّقٍ مثله؛ فهذا الرجلُ الذي يَودُّ اغتسال الأولاد في الماء القارس صيفًا لا يريدُ أن يشربوا ماءً باردًا، ولا أن يناموا على الأرض في أمكنةٍ رطيبة٢٣ إذا ما كانوا دَفئِين. ولكن بما أنه يوَدُّ أن يَنْفُذ الماءُ أحذيةَ الأولاد في جميع الأوقات، فهل يكون نفوذُ الماء إليها أقلَّ مقدارًا عندما يكون دفيئًا؟ أفلا يُمكِن أن يُجْعَل له من حيث نسبةُ البدن إلى الرِّجْلَين عينَ الاستقراء الذي أتى به من حيث نسبةُ الرِّجْلَين إلى اليدين، ومن حيث نسبةُ البدنِ إلى الوجه؟ وأقول له: إذا كنت تريد أن يكون كلُّ الإنسان وجهًا، فلِمَ تلومني إذا ما أردت أن يكون كلُّه رِجْلَين؟

وهو، لكي يحول دون شُرْبِ الأولادِ عندما يكونون دَفئين، أوصى بأن يأكلوا مقدَّمًا كِسرَة خبزٍ قبل أن يشربوا؛ فمن الغرابة بمكانٍ إعطاءُ الولدِ ما يأكل عندما يكون ظَمِئًا، وأفضِّل أن يُعطَى ما يشرب عندما يكون جائعًا. ولا أقْنَع مطلقًا بأن تكون شهواتنا الأُولى مختلَّةً كثيرًا، فلا يمكن قضاؤها من غيرِ أن نُعرِّض أنفسنا للخطر، ولو كان الأمر هكذا لهلك الجنسُ البشريُّ مائةَ مرة قبْل أن يُعرَف ما يجب أن يُعمَل لبقائه.

وأريد أن يُعطى إميلُ ما يشرب في كلِّ مرةٍ يعطَشُ فيها، أريد أن يُعطى ماءً قَرَاحًا من غيرِ إعداد، حتى من غير أن يُفتَّر، ولو كان غارقًا في عَرَقه، ولو في صميم الشتاء. وكلُّ ما أوصي بمراعاته هو أن يُمازَ نوعُ الماء، فإذا كان ماءَ نهرٍ فقدِّموه إليه كما هو حالًا؛ أي كما أُخرِج من النهر، وإذا كان ماءَ ينبوع فدَعُوه في الهواء بعضَ الوقت قبل أن يشربه، وذلك أن الأنهار في الفصول الحارة تكون حارَّة، وأن هذا ليس حالَ الينابيع التي لم تَمَسَّ الهواء، فيجب الانتظارُ حتى تنال حرارةَ الجو. وعلى العكس يكون ماء اليَنْبوع أقلَّ خطرًا في الشتاء من ماء النهر من هذه الناحية. ولكنه ليس من الطبيعي ولا المألوف أن يُعرَقَ في الشتاء ولا سيَّما في العراء؛ وذلك لأن الهواء البارد إذ يَلطِم الجِلدَ بلا انقطاعٍ يَرُدُّ العَرَق إلى الداخلِ ويَحول دون انفتاحِ المسامِّ بما فيه الكفاية حتى يمنحه ممرًّا حُرًّا. والواقع أنني لا أقْصِد أن يتدرَّب إميلُ شتاءً بجانب النار، بل في سواء الأرياف بين الجليد، ولْنَترك إميلَ يشرب متى عَطِش ما دام لا يَدْفأ بغيرِ كُرَاتٍ ثلجية والرَّمي بها. ولْيُداوِم على التدرُّب بعد أن يشرب، ولا نخشَ صدورَ أي عارض من هذا، وإذا ما أخذ يَعْرَق على تمرينٍ ما فَعطِش فلْيشربْ ماءً باردًا حتى في ذلك الوقت، وإنما اجعلوه يسير إلى بعيدٍ بخُطًا قصيرةٍ باحثًا عن الماء؛ ففي قَرٍّ كهذا الذي أفْتَرِض يكون قد بَرَد عَرَقُه حين وصوله إلى مكانِ الشُّرْب بلا خطر، وعليكم أن تتخذوا هذه الاحتياطات من غير أن يشعر بها على الخصوص؛ فعندي أن يَمرض أحيانًا أفضلُ من أن ينتبه إلى صحَّته دائمًا.

ويحتاج الأولادُ إلى نومٍ طويلٍ لِمَا يقومون به من تمرينٍ متناهٍ، ويُعَدُّ أحدُ الأمرين مُلطِّفًا للآخر، ويدلُّ هذا على احتياجهم إليهما. والليلُ هو وقتُ الراحة، وقد عيَّنته الطبيعة. ومن الملاحظات الثابتة أن يكون النومُ أعظمَ هدوءًا وأكثرَ دَعَةً حين تكون الشمسُ تحت الأُفُق، وأن الهواءَ الدَّفِئ بأشِعَّتها لا يَضْبط حواسَّنا في مثل هذا السكونِ العظيم، وهكذا فإن أنفعَ العاداتِ للصحَّة أن يقعَ النهوضُ والنومُ مع الشمس لا رَيب؛ ومِنْ ثَمَّ كان احتياجُ الإنسانِ والحيوان في أقاليمنا إلى النومِ في الشتاء مدةً أطولَ مما في الصيف على العموم، غير أن الحياة المدنية ليست بسيطةً طبيعيةً سالمةً من التقلبات والعوارض بما فيه الكفاية حتى يُعوَّدَ الإنسانُ تلك النمطيةَ فتُجعَلَ ضروريةً له. وما لا شك فيه وجوبُ الخضوعِ لقواعد، ولكن أُولَى هذه القواعد هي أن يُستطاع نقضُها بلا خَطَرٍ عندما تقضي الضرورةُ بذلك؛ ولذا لا تُترِفوا تلميذَكم على غيرِ بصيرةٍ بدوامِ نومٍ هادئ لا يُقطَع مطلقًا. نعم، أسْلِموه في البُداءة إلى قانونِ الطبيعة دون مراعاةٍ لغيره، ولكن لا تَنسَوا وجوبَ كونه فوق هذا القانون بيننا، فيستطيع أن ينام متأخرًا وأن ينهض صباحًا وأن يوقَظ بغتة، وأن يقضي الليالي واقفًا من غيرِ أن يُزعَج. ولْيُبدأ بذلك باكرًا، ولْيُسلَك السبيلُ رُويدًا وعلى درجاتٍ لملاءمة تلك الأحوال التي تُقوِّضه إذا ما حُملَ على الخضوع لها بعد تمام تكوينه.

ومن المهم أن يُعَوَّد النومَ على فراشٍ غيرِ مُريحٍ في بدء الأمر، فتكون هذه وسيلةَ عدمِ عَدِّه أيَّ سريرٍ سيِّئًا. وإذا تحولت الحياةُ القاسيةُ إلى عادةٍ زادت الإحساساتُ المستحبةُ على العموم. وتُعِدُّ الحياةُ الناعمةُ ما لا حدَّ له من الإحساسات المستكرَهة على العموم. ولا يَجِد مَن يُنشَّئون في التَّرفِ الكثيرِ نومَهم على غيرِ الرِّيش الناعم. ويَجِد مَن تعوَّدوا النومَ على الألواح رُقادَهم في كلِّ مكان؛ فلا يوجد فِراشٌ خَشِنٌ لمن ينام عندما يَضْجَع.

ومن شأنِ الفِراش الوثير، حيث يُغاص في الريش والزَّغَب، أن يُذيب البدنَ ويَحُلَّه، وتَدْفأ الكُليَتان اللتان يُشتمَل عليهما اشتمالًا حارًّا؛ ومِنْ ثَمَّ تنشأ الحصاةُ وغيرُها من الأمراض في الغالب، كما ينشأ مِزاجٌ لطيفٌ يُغذِّيها جميعًا لا ريب.

وأحسنُ فِراش هو ما يُوجِب أحسنَ نوم، وهذا ما أُعِدُّه مع إميلَ نهارًا، ولسنا محتاجَيْن أن يُجلَب إلينا بعبيدٍ من فارسَ لصُنْع فِراشٍ لنا، ونحن نَنقُل فِراشنا حين نحرُث الأرض.

وأعْرِف، عن تجرِبة، أن الولدَ إذا كان ذا صحةٍ جُعِلَ ينام ويستيقظ كما يُراد تقريبًا. وإذا كان الولدُ ضاجعًا ويُزعِجُ خادمتَه بثرثرته فقالت له «نَم»؛ كان هذا كما لو قالت له «شُفِيت» عندما يكون مريضًا. وأصحُّ طريقةٍ لِحمْله على النومِ هو أن يُسأم؛ فهو لا يلبث أن ينام إذا ما كلمتموه بما يُكره به على السكوت، وتكون المواعظُ نافعةً في بعض الأمورِ دائمًا، ومن النافع أن تَعِظُوه ما هدهدتموه، ولكنكم إذا ما استعملتم هذا المنوِّمَ ليلًا فاحذروا استعمالَه نهارًا.

وأُوقظُ إميلَ أحيانًا، وذلك عن خشيةِ تَعوُّدِه النومَ زمنًا طويلًا أقلَّ مما عن تعويده كلَّ شيء، حتى استيقاظَه فجأة، وذلك إلى أنني أكون قليلَ استعدادٍ لوظيفتي إذا لم أستطِع حمْله على الاستيقاظ من تلقاءِ نفسه وعلى النهوضِ كما أريد من غيرِ أن أقول له كلمةً واحدة.

وإذا لم يَنَمْ نومًا كافيًا جعلتُه يُبصِر صباحًا مُمِلًّا من الغد، فيَعُدُّ كسْبًا كلَّ ما يتركه للنوم من ذلك، فإذا ما نام كثيرًا أظهرتُ له عندما يصحو لهوًا يَروقه، وإذا أردت أن يُفيقَ في الوقت المُعيَّن قلت له: «سأذهب في الساعة السادسة من الغد لأصطاد سمكًا، وسأتنزَّه في المكانِ الفلاني، أفتريد أن تكون معي؟» ويوافق، ويرجو منِّي أن أُوقظه، وأَعِدُ أو لا أعِدُ وَفْقَ الحاجة، فإذا ما أفاق متأخِّرًا وجدني ذاهبًا، ومن البلية ألَّا يقدِرَ من فوْره أن يُفيق من تلقاء نفسه.

ثُمَّ إذا حدث أن ولدًا بليدًا مال إلى الصَّرى في الكسل، وهذا نادر، فلا يجوز أن يُسْلَم إلى هذا الميل حيث يَخمُد نشاطه تمامًا، وإنما يجب اتخاذ بعض المحرِّضات لإيقاظه. ومما يُدرَك جيِّدًا أنه لا ينبغي أن يُحمَل على السير بالقوة، بل أن يُحرَّك ببعض المُغريات التي تُحمِله عليه، وإلى الغايتَين يسوقنا هذا المُغرِي المختارُ من نظام الطبيعة.

ولا أتصور شيئًا لا يستطيع، مع شيءٍ من اللباقة، أن يُلقِّن الأولادَ الذوق، حتى الحَنَقَ، وذلك من غير زهوٍ ولا منافسةٍ ولا حسد، فيكفي لذلك نشاطُهم وروحُ المحاكاة فيهم، ولا سيَّما مَرَحُهم الطبيعي، هذه الوسيلةُ التي لا يُشكُّ في القبض عليها، والتي لم تَخْطُر ببالِ مُعلِّمٍ قَط؛ وذلك أنهم في جميع الألعاب التي أُقنِعوا بأنها ليست غيرَ ألعاب يَحتمِلون بلا توجُّع حتى مع الضَّحِك ما كانوا لا يحتملونه من غيرِ أن يسكبوا سُيولًا من الدموع. ويُعَدُّ الصومُ الطويلُ واللكمُ والحرقُ والتَّعبُ على أنواعه؛ لهوَ صِغارِ الهمَج، وهذا دليلٌ على أن للألم نفسِه من الفُتُون ما يُمكن أن يَنْزِع كرْبَه، ولكن لا يستطيع جميعُ المُعلِّمين طبخَ هذا الطعام، كما أن جميع التلاميذ لا يذوقونه من غيرِ انقباض، وهذا بِدْع، فإذا لم أحترِزْ تُهْتُ في الشواذ.

ولا يَعني احتمالُه كونَ الإنسانِ عبدًا للألمِ ولأمراض نوعِه وللعوارض ولأخطار الحياة وللموت أخيرًا، وكلَّما عُوِّد الإنسانُ جميعَ هذه الأفكار شُفِيَ من الإحساس المُزعج الذي يضيف إلى السوء عدمَ الصبرَ على احتماله، وكلَّما جُعل الإنسانُ يألف ما يمكن أن يصيبه من الأوصاب نُزِعت منه زُبَانَى الغرابة كما قال مُونْتين، فيغدو روحه متينًا سالمًا من الجُروح، ويصير جسمُه دِرعًا تقيه جميعَ السهام التي يُمكن أن تكون قاتلة، حتى إن دُنوَّ الموتِ إذ لم يكن الموتَ نفسَه فإنه لا يَكاد يُشعَرُ به على أنه هكذا؛ فهو لن يموت، وإنما يكون حيًّا أو ميتًا لا غير، وعنه قال مُونْتين نفسُه كما قال عن مَلِك مَرَّاكُش: «لم يَمُدَّ إنسانٌ حياتَه بعيدًا في الموت.» ويُعَدُّ الثباتُ والحزم كبقية الفضائلِ مدارَ تخرُّج الولد، ولكن الأولاد لا يتعلَّمون هذه الفضائلَ بتعلُّم أسمائها، وإنما يتعلمونها بحمْلهم على ذَواقها من غيرِ أن يَشْعُروا.

ولكنني إذ أتكلَّم عن الموت أسأل: ما السبيلُ التي أسلُك مع تلميذي تجاه خَطَر الجُدَري؟ أيُلقَّحُ به صغيرًا أم ننتظر إصابتَه به إصابةً طبيعية؟ إن الأمرَ الأوَّلَ أكثرُ ملاءمةً لعادتنا، وذلك أنه يحفظ حياتَه في وقتٍ تكون فيه عظيمةَ القيمة، وذلك على حساب خطرٍ يَحيقُ بحياته عندما تكون أقلَّ قيمة، وذلك إذا ما جاز لنا استعمالُ كلمةِ الخطرِ نحو تلقيحٍ أُحْسِن صُنْعه.

وأمَّا الأمرُ الثاني، فأكثرُ ملاءمةً لمبادئنا العامة، وذلك أن يُترَك للطبيعة اتخاذُ ما تَودُّ اتخاذَه وحدَها، فإذا ما تدخَّل الإنسانُ في ذلك تركتِ الطبيعةُ ذلك من فوْرها. وتَرى رَجُل الطبيعةِ مستعِدًّا دائمًا، ولْنَدعْه يُلقَّح من قِبَل هذا السيدِ الذي يختار الوقتَ المناسبَ أحسنَ مما نختار.

ولا تستنبِطوا من ذلك أنني ناقمٌ على التلقيح، وذلك أن الأسباب التي أُعفي بها تلميذي منه سيئةُ الملاءمة لتلاميذكم، وتُعِدُّهم تربيتُكم لعدم الإفلات من الجُدَري حينما يكونون عُرضَةً لهجومه، فإذا تركتموه يأتي مصادفةً هلكوا به على ما يحتمل. ومما أرى في مختلف البلدان أن مقاومةَ التلقيح تزيد بنسبةِ ما يصبح فيها ضروريًّا، ويَسهُل إدراكُ هذا، وأكاد أترفَّع عن معالجةِ هذه المسألة من أجْل إميل، وهو إمَّا أن يُلقَّح وإمَّا ألَّا يُلقَّح، على حَسَب الأزمنة والأمكنة والأحوال، وهذا ما لا يُكتَرَث له بالنسبة إليه تقريبًا. وبيانُ الأمرِ أنه إذا ما أُتحِف بالجُدَري كان هنالك ما يُبصَر به مرضه ويُعرَف مقدَّمًا، وهذا شيء، ولكنه إذا ما أُصيب به إصابةً طبيعيةً يكون قد حُفظ من الطبيب، وهذا هو الأصلح.

وتُفضِّل التَّربيةُ الحاجبة، التي لا تَميل إلى غيرِ تمييزها من الشعب مَن يتلقَّوْنها دائمًا، أغْلَى تعليمٍ على التعليم المعتاد، ولو كان هذا الأخيرُ أكثرَ فائدة، ومن ذلك أن الفِتيان الذين عُنيَ بتربيتهم يتعلَّمون ركوبَ الخيل لِغَلَاء هذا كثيرًا، ولكنك لا تَجِد واحدًا منهم يتعلَّم السباحةَ تقريبًا لعدمِ تكليفها شيئًا، ولأن الصانعَ يستطيع أن يسبح كأي إنسان كان. ومع ذلك، فإن المسافرَ يركب الفرسَ من غيرِ سابقِ تعليمٍ، ويستقرُّ على ظهرها وينتفع بها لحاجته بما فيه الكفاية. وأمَّا في الماء فإن الإنسانَ يَغرَق إذا لم يسبح، ولا تكون السباحةُ بلا تعليم. ثُمَّ إن الإنسانَ لا يُكرَه على ركوبِ الخيل إذا كان يخشى الهلاك، على حينِ لا يثِق الإنسانُ باجتنابِ خطرٍ يُعرَّض له غالبًا كالغَرَق. وسيكون إميلُ في الماء كما على الأرض، ولِمَ لا يكون قادرًا على العيش في جميع العناصر؟ أجْعَل منه نَسْرًا إذا ما استطعتُ تعليمَه الطيرانَ في الهواء، وأجعل منه سَمَنْدرًا٢٤ إذا استطاع احتمالَ النار.

ويُخشى أن يَغرَق الولدُ حين تعليمه السِّباحة، ويقع الوِزْر عليكم دائمًا، سواءٌ أَغَرِق حين تعليمه السِّباحةَ أم لعدم تعليمه إياها. والغرورُ وحدَه هو الذي يجعلنا مغامرين، ولا نكون هكذا إذا لم يَرَنا أحد، ولن يكون إميلُ هكذا ولو رآه جميعُ النَّاس. وبما أن التمرين لا يتوقَّف على الخَطَر، فإنه سيتعلَّم في قناة حديقة أبيه عبورَ الدَّردنيل، ولكن يجبُ أن يُتَعوَّد الخَطَرَ أيضًا لكي يُتَعلَّم عدمُ الانزعاج به. وهذا قسمٌ جوهريٌّ من التخرُّج الذي تكلمتُ عنه منذ قليل. وبما أنني أكون منتبهًا، فضلًا عن ذلك، إلى المقابلة بين الخطر وقُوَاه، مع مشاطرته هذا الخطر، فإنه لا يكون ما أخشى معه غفلتي ما دمتُ أُنظِّم أمرَ حفْظه وَفْقَ تنظيمي حفظَ نفسي.

والولد أصغرُ من الرجل، وليس عند الولد ما عند الرجل من قوَّةٍ وعقل، ولكنه يَرى ويسمع مثلَه أو يَكاد، وله مِثلُ ذوقِه حِسًّا، وإن كان هذا الذوقُ أقلَّ دِقة، وهو يُفرِّق بين الروائحِ مثْلَه وإن لم تكن له ذاتُ اللذة. والحواسُّ هي أُولى الخصائص التي تتكوَّن فينا وتَكمُل؛ ولذا فهي أوَّلُ ما يجب تعهُّدُه، وهي الوحيدةُ التي تُنسى، أو التي تكون أكثرَ ما يُهمَل.

ولا يعني تدريبُ الحواسِّ استعمالَها فقط، بل يعني أيضًا تعلُّمَ حُسنِ الحُكْم بها، بل يعني تَعلُّمَ الشُّعورِ بها؛ فنحن لا نَعْلَم اللمسَ ولا الرؤيةَ ولا السماعَ إلا كما تعلَّمنا.

ويوجد من التمرينات ما هو طبيعيٌّ آليٌّ صِرف، فيَصلُح لجعْل الجسم عُصْلُبيًّا من غيرِ تحسينٍ للفكر. أجلْ، إن السباحةَ والعدوَ والوثوبَ وسَوطَ الخُذْروف وقَذْف الحجارةِ أمورٌ حسنةٌ جِدًّا، ولكن ألَا يوجد لدينا غيرُ الذُّرعان والسيقان؟ أليس عندنا عيونٌ وآذان؟ وهل هذه الأعضاءُ غيرُ ذاتِ نفعٍ في استعمال الأُولَى؟ إذن، لا تقتصروا على تدريب القُوى، بل درِّبوا جميعَ الحواسِّ التي توجِّهها أيضًا، وانتفعوا بكلِّ ما يُمكِن من الحواس، ثُمَّ حقِّقوا تأثيرَ كلٍّ منها بالأخرى، وقِيسوا واحسُبوا وزِنوا وقابلوا، ولا تستعملوا القوَّة إلا بعد أن تُقدِّروا المقاومة، ولْيَقم تقديرُكم للمعلول على سبْقِه للوسائلِ دائمًا. وأَغْرُوا الولدَ بألَّا يقوم بجهودٍ ناقصةٍ أو زائدة، وإذا ما عوَّدتموه أن يُبصِر نتيجةَ جميعِ حركاته على هذا الوجه فيُقَوِّم بالتجرِبة زلَّاتِه، أفلا يكون من الواضح ظهورُه حصيفًا كلَّما سار؟

وإذا ما وجبت إزاحةُ كتلَةٍ فتناول عتلةً طويلةً أنْفقَ حركةً كثيرة، وإذا ما تناولها قصيرةً لم تكن لديه قوةٌ كافية، فيُمكِن التجرِبةَ أن تُعلِّمه اختيارَ القضيبِ الضروري تمامًا، وليست هذه الحكمةُ فوق مستوى عُمُره إذن. وإذا ما وجب حمْلُ ثِقلٍ وأراد أن يكون وزَينًا بمقدارِ ما يستطيع أن يَرفع ولم يحاوِل أن يَشُولَ أكثرَ مما يقدِر، أفلا يُضطرُّ إلى تقديرِ الثِّقَل بالنظر؟ وإذا أراد أن يقابلَ بينَ كُتَلٍ من ذاتِ المادةِ مختلفةِ الحُجومِ أو أن يختارَ بين كُتَلٍ من ذاتِ الحجْمِ مختلفةِ المواد، أفلا يجبُ أن يمارس المقابلةَ بين أوزانها المعينة؟ لقد رأيتُ فتًى حسنَ التَّربيةِ لم يُرِد أن يَعْرِف، إلا بعْدَ التجرِبة، كَونَ الدَّلوِ المملوءةِ نُشَارةً من خشبِ البلُّوطِ أقلَّ ثِقَلًا من عينِ الدَّلوِ المملوءةِ ماء.

ولا نسيطر على استعمالِ جميعِ حواسِّنا بالتساوي، ومن هذه الحواسِّ حاسَّةُ اللمسِ التي لا يُعطَّل عملُها في أثناء اليقظةِ مطلقًا، وهي شاملةٌ لسطحِ بدننا بأجمعِه، وذلك كحارسٍ دائمٍ يُخبرنا بكلِّ ما يُمْكن أن يؤذيَه. وهذه الحاسَّةُ أيضًا هي التي ننالُ بها طوْعًا أو كَرْهًا وبأسرعِ ما يمكن، ما يؤدِّي إليه ذلك التمرينُ المتصلُ من تجرِبة، وهذه الحاسةُ هي من حيث النتيجةُ أقلُّ ما يحتاج إلى تدريبٍ خاص، ومع ذلك فإننا نلاحظ أن للعُمْيان حاسَّةَ لمسٍ أصدقَ مما لدينا وأدق؛ وذلك لأنهم إذ كنوا عاطلين من باصرةٍ مرشِدةٍ لهم يضطرُّون إلى تعلُّمهم بحاسَّة اللمسِ حصْرًا آراءً نَكْسِبها بالأخرى أيضًا. ولِمَ لا نتمرَّن إذن على المشي في الظلامِ مثلهم، فنعرفَ الأجسامَ التي يمكن أن نبلُغَها، ونحكم في الأشياء التي تحيط بنا، ونصنع ليلًا وبلا ضياءٍ جميعَ ما يصنعون نهارًا وبلا عيون؟ إننا نكون في وضعٍ أفضلَ مما يكونون ما سطعت الشمس، فإذا ما جنَّ الليلُ ساروا أدِلَّاء لنا من ناحيتهم؛ فنحن عُميٌّ نصفَ حياتنا، وذلك مع الفارق القائل إن العُميَ الحقيقيين يَعْرِفون ما يصنعون دائمًا، وإننا لا نجرؤ على التقدُّم خُطوةً في سواء الليل. وستقولون لي: لدينا نور. ماذا! آلاتٌ دائمًا! ومَن يجيب بأنها ستَتْبَعكم في كلِّ مكانٍ عند الضرورة؟ وأمَّا أنا فأفضِّل أن تكون لإميل عينان في بنانه٢٥ على أن تكونا له في دُكَّان الشمَّاع.

وإذا كنتم ضِمنَ بناءٍ في وَسَط الليل، فصَفِّقوا بيديكم لِتُدْرِكوا من رنينِ المكانِ كونَه كبيرًا أو صغيرًا، وهل أنتم في سوائه أو في زاويةٍ منه. وبما أن الهواء يكون أقلَّ استدارةً وأكثرَ ترديدًا على مسافةِ نصف قدمٍ من الجدار فإنه يبدو ذا أثرٍ من نوعٍ آخَر في الوجه، وقِفوا في مكان، ودُورُوا بالتعاقُب إلى جميعِ الجهات لتدلكم ريحٌ خفيفةٌ على وجود باب، وإذا كنتم في سفينةٍ عرفتم من النَّمط الذي تَلْطِم الريحُ به وجوهَكم هل يُسيِّركم مجرى النهر بسرعةٍ أو ببطء، وذلك فضلًا عن الجهة التي تَسيرون إليها. ولا تتمُّ هذه الملاحظاتُ وما إليها من مئات الملاحظات المماثلة الأخرى إلا ليلًا؛ فمهما بُذِل من انتباهٍ حولها نهارًا ساعدتنا الباصرةُ عليها أو صرفتنا عنها فتَفلِتُ مِنَّا، ومع هذا لا توجد هنا يدٌ ولا عصًا أيضًا، وما أكثرَ المعارفَ البصريةَ التي يُمْكن أن تُكتَسب باللَّمْس من غيرِ أن يُلمَس شيء!

كثيرُ ألعابٍ في الليل، وهذا الرأي أهمُّ مما يلوح بمراحل، ومن الطبيعي أن يُخيفَ الليلُ الرجالَ وبعضَ الحيوانات.٢٦
وقليلٌ من النَّاس مَن يُعفَون من هذه الضريبةِ بالعقل والمعارف والذهن والشجاعة. وقد رأيت مفكرِين وملحدِين وفلاسفةً وجنودًا يكونون في النهار من الشجعان، فإذا ما أرخى الليل سُدُولَه ارتجفوا كالنساء عند حَفيفِ ورقةِ شجر، ويُعزَى هذا الذُّعر إلى أحاديثِ المَراضِع، وهذا خطأ، فلذاك سببٌ طبيعي، وما هذا السبب؟ هو الذي يجعل الصُّمَّ حَذِرين والقومَ خُرافيين، هو جهلُ الأشياءِ التي تحيط بنا وجهلُ ما يقع حولنا،٢٧ وبما أنني تعودَّتُ أن أُبصرَ الأشياءَ من بعيدٍ، وأن أرى تأثيرَها مُقدَّمًا، وذلك من غيرِ أن أشاهد شيئًا مما يحيط بي، فكيف لا أفترض ألفَ موجود وألفَ حركةٍ تُقدَّر أن تؤذيني، فيتعذر عليَّ أن أضمن نفسي تجاهها؟ ومن العبثِ أن أعلمَ أني في أمانٍ حيث أكون، ولستُ أعْرِف هذا المأمن ما لم أرَه فعلًا. ولديَّ إذن سببُ خوفٍ دائم مما ليس عندي في وضح النهار. والواقع أنني أعْرِف أن الجسم الغريب لا يستطيع أن يؤثِّر في جسمي من غير أن يُخبِرَ عن نفسه بصوتٍ ما، وما أكثرَ ما تكون أذني مرهَفةً بلا انقطاع! وإذا ما حدث صوتٌ خفيفٌ لا أستطيع إدراك سببه، حفزتني مصلحة بقائي إلى افتراضي في بدء الأمر أكثر ما يُمكِن أن يحمِلَني إلى الحذر؛ ومِنْ ثَمَّ كل ما يمكن أن يُخيفني.

ولا أجِدُني مطمئنًّا إذا لم أسمع شيئًا على الإطلاق؛ وذلك لأن من الممكن أن أُفاجأ في آخِرِ الأمرِ عند عدم وجود صوت، ويجب أن أفترض الأمورَ كما كانت سابقًا، وكما يجب أن تكون أيضًا، وأن أرى ما لا أرى. وهكذا فإنني إذ أُعمِل خيالي عن اضطرارٍ أعودُ غيرَ سيِّدٍ له من فوْري، ولا ينفعُ ما أكون قد صنعتُ تسكينًا لروْعي لغيرِ زيادةِ ذُعري. وإذا ما سمعتُ صوتًا سمعتُ لصوصًا، وإذا لم أسمعْ شيئًا رأيت أشباحًا، وما يوحي به حبُّ البقاء من حَذَرٍ لا يُلقي فيَّ غيرَ عواملِ الخوف. وليس كلُّ ما يُطَمْئِنُني في غيرِ عقلي، وغيرُ هذا ما تخاطبني به الغريزةُ التي هي أقوى من العقل. وما فائدةُ التفكيرِ في عدمِ وجودِ شيءٍ يُخشى ما دام لا يوجد ما يُعمَل إذ ذاك؟

ويدلُّ سببُ الداءِ الموجودِ على الدواء، وتقتُلُ العادةُ الخيالَ في كلِّ شيء. والأشياءُ الجديدةُ وحدَها هي التي تُوقِظه، والذاكرةُ لا الخيال، هي التي تَعْمل في ما يُرى كلَّ يوم، وهذا هو سببُ المَثَلِ القائل: «لا ينشأ الهوى عن العادة»؛ وذلك لأن الأهواءَ لا تشتعل بغيرِ الخيال؛ ولذا لا ينبغي اتخاذُ العقلِ دليلًا مع مَن تريدون شفاءه من هولِ الظلام، وجِيئوا به إلى الظلامِ غالبًا، وثِقوا بأن جميعَ براهين الفلسفة لا تَعْدِل هذه العادة، ولا يدور رأسُ المُسقِّفون على السُّطُوحِ مطلقًا، ولا يخاف في الظلام مَن يتعوَّد أن يكون فيه.

وإليك إذنْ فائدةً أخرى من ألعابِ الليلِ مُضافةً إلى الأُولى، ولكن إذا أُريدَ نجاحُ هذه الألعابِ لم يُوصَ ببهجتِها كثيرًا. ولا شيءَ كئيبٌ كالظلام، ولا تَحبِسوا ولدَكم في سجنٍ مظلم، ولْيَضْحَك حينَ دخوله في الظلام، ولْيَضْحك قبْلَ خروجِه منه، وذلك لِتَحُول فكرةُ اللهوِ الذي يَترُك والذي يَجِدُ دونَ الخيالاتِ الوهميةِ التي يُمكِن أن تساوره.

ويوجد للحياةِ حدٌّ يَرجِعُ الإنسانَ إلى الوراءِ إذا ما تخطَّاه، وأشعُر بأنني جاوزتُ هذا الحد؛ ولذا أستأنف عملًا آخَر، وما تنطوي عليه الكُهُولةُ التي تُشْعِرني بنفسِها من فراغٍ يَرسُم لي راجعًا زمَن السِّنِّ الأُولى العَذْب. وإني حين أَشِيب أعودُ ولدًا، وأذكُر مختارًا ما صنعتُ ابنًا للعاشرة أكثرَ من ذكري ما صنعتُ ابنًا للثلاثين. ويا أيها القرَّاء، اغفِروا لي إذَن استنباطي الأمثلةَ من نفسي أحيانًا؛ وذلك لأن حُسنَ وضْعِ هذا الكتابِ يقتضي صُنْعي له طيِّبَ الخاطر.

وقد كنتُ في الأريافِ نزيلَ قَسٍّ اسمُه مسيو لَنْبِرْسيه، وكان يرافقني ابنُ خالٍ لي أغنى منِّي؛ فكان يُعامَل مثلَ وارثٍ على حين لم أكنْ غيرَ يتيمٍ فقيرٍ لبُعدي من أبي. وكان ابن خالي الأكبر بِرْنارد يُثيرُ العجبَ بجُبْنه ولا سيَّما في الليل. وقد بلغتُ من الهزوء بجُبْنه ما أراد معه مسيو لَنْبِرْسيه الذي ضاق ذرْعًا بتبجُّحي أن يختبر شجاعتي؛ فناولني مِفتاحَ الكنيسة في ليلةٍ من ليالي الخريف السُّود، وطلب منِّي أن أذهبَ للبحثِ عن الكتابِ المقدَّس في المذْبحِ حيثُ تَرَكَه، وقد أضاف إلى ذلك من الكلام المثير للهِمَّة ما جَعل أمرَ تأخُّري متعذِّرًا.

وأذهبُ بلا قِنْديل، ولو أخذتُه معي لكان الوضعُ أسوأ مما عليه كما يُحتمل، وكان عليَّ أن أمُرَّ من المقبرة، فجاوزتها بِحَزم؛ وذلك لأنه لم يكن ليساورَني هَوْلٌ ليليٌّ ما دمتُ في العَراء.

وأفتحُ الباب، وأسمعُ في القُبَّة صدًى مشابهًا لأصوات، فيأخذ في زلزلةِ حَزْمي الروماني، وأريد الدخولَ بعد فتح الباب، ولكنني لم أكد أتقدَّم بضعَ خُطُوات حتى وقفت، وذلك أنني إذ أبصرتُ الظلامَ الدامسَ الذي كان يَسودُ هذا المكانَ الواسع، استحوذ عليَّ هولٌ وَقَف شعري، وأتقهقر وأخْرُج وألوذُ بالفِرار مرتجفًا تمامًا، وأجِد في صَحْن الكنيسة كُلَيبًا اسمه سلطان، وتُلْقي ملامساتُه الخفيفةُ سكينةً في قلبي، وأخجل من خوفي، وأرجع محاولًا جَلْبَ سلطان معي، ولم يُرِدْ سلطان اتِّباعي. وأُجاوزُ البابَ فجأة، وأدخل الكنيسة، ولم أكَد أَدْخُلها حتى اعتراني الخوفُ ثانية، وقد بَلَغ هذا الخوفُ من الشدةِ ما فقدتُ معه صوابي، ومع أن المذبحَ كان عن يميني، ومع أنني عرفتُ ذلك جيِّدًا؛ فقد انفتلتُ من غيرِ وعي وبحثتُ عنه في الشمال وقتًا طويلًا. وقد ارتبكتُ بين المقاعدِ وعُدتُ لا أعْرِفُ أين أنا. وبما أنني لم أستطِع أن أجدَ المِنبرَ ولا الباب؛ فقد اضطربتُ اضطرابًا لا يُوصف. وأُبصرُ البابَ أخيرًا، وأهمُّ بالخروجِ من الكنيسة، وأبتعِدُ عنها كما في المرة الأُولى، عازمًا على عدمِ دخولها وحدي في غير النهار.

وأعود حتى المنزل، وبينما كنت مستعِدًّا للدخول إذ تَبيَّنتُ صوتَ مسيو لَنْبِرْسيه وهو يُقهقِه، وأَعُدُّ قهقهتَه موجَّهةً إليَّ مُقدَّمًا، ويَرْبُكُني أن أرى نفسي عُرضةً لها، فأتردَّد في فتْح الباب، وأسمع الآنسةَ لَنْبِرْسيه في تلك الأثناء وهي تقول للخادمةِ أن تأخذَ المصباحَ عن قلقٍ نحوي، ويستعِدُّ مسيو لَنْبِرْسيه للبحث عني على أن يرافقه ابنُ خالي الجسورُ الذي لن يُقصِّر في منْحِه جميعَ فَخْر السَّرِية بعد ذلك. وتَزول جميعُ مخاوفي بغتة، ولم يَبقَ عندي غيرُ الخَوْف من أن أُباغَت هاربًا. وأَرْكُض وأطير إلى الكنيسة، وأَصِلُ إلى المِنْبر من غيرِ أن أَضِلَّ ومن غيرِ أن أتردَّد، وأَرْتقيه، وأتناوَل الكتابَ المقدس، وأَثِبُ منه، وأكون بعد ثلاثِ قفَزَاتٍ خارجَ الكنيسة التي نَسِيتُ حتى إغلاقَ بابها، وأدخل الغرفةَ ضَيِّقَ النَّفَس وأَطرح الكتابَ المقدَّس على المِنضَدة دَهِشًا، ولكنْ خافقًا فَرَحًا بإنجازي ذلك من غيرِ تلك المساعدةِ المقترَحةِ نحوي.

وسأُسأل هل أُقدِّمُ هذا الحادثَ مثالًا يُحتذى ومَثلًا على ما أُطالب به من بهجةٍ في هذه الأنواعِ من التمرينات، كلَّا، وإنما أُقدِّمه دليلًا على أنه لا شيءَ يستطيع أن يُسكِّنَ رَوْعَ خائفٍ من أشباحِ الليلِ غيرُ سَماعِه في غرفةٍ مجاورةٍ أصحابًا يضحكون ويتسامرون هادئين. وأريد بدلًا من أن يتلهَّى المُعلِّم مع تلميذه وحدَه أن يُجمَع في الليالي كثيرٌ من الأولادِ الطيِّبي المِزاج، وألَّا يُرسلوا متفرقين في البُداءة، بل يُرْسل كثيرٌ منهم مجتمعين، وألَّا يجازفَ بإرسال أيِّ واحدٍ منهم منفردًا حتى يُطمأنَّ مُقدَّمًا بأنه لا يكون خائفًا كثيرًا.

ولا أتصور شيئًا أبهجَ ولا أنفعَ من مثلِ هذه الألعابِ ناظرًا إلى قلَّةِ ما يَحتاج إليه تنظيمُها من مهارة، وأُقِيم في بَهْوٍ كبيرٍ مثلَ تِيهٍ مؤلَّفٍ من لوحاتٍ ومُتَّكآتٍ وكراسٍ وحواجز، وأضَع في مُنعَرَجات هذا التِّيه العُقْدِ وبين ثماني عُلَبٍ أو عَشْر عُلَبٍ مُقلَّدةٍ، عُلْبةً حقيقيةً مشابهةً لها تقريبًا، مملوءةً مُلبَّسًا، وأُعيِّن بكلامٍ واضح، ولكن مع الإيجاز، مكانَ العُلْبة الصحيحة، وأُعْطي أناسًا أكثرَ من الأولادِ انتباهًا٢٨ وأقلَّ منهم طيشًا من الدلائلِ ما يكفي لتمييزها. ثُمَّ أَجعل صغارَ المتبارين يَضرِبون القرعةَ، فأُرسِل الواحدَ منهم تِلوَ الآخر حتى تُوجَد العُلْبةُ الحقيقية، وذلك مع زيادة صعوبة العمل بنسبة مهارتهم.

وتَصوَّروا هِرْكُولًا صغيرًا يَصِل حاملًا عُلبةً بيده فخورًا بسَريَّته، وتُوضع العُلبة على المِنْضَدة، وتُفتَح باحتفالٍ كبير، وهنا أسمع قهقهاتٍ وسُخْرياتٍ صادرةً عن العُصبة الفَرِحة إذ رأت بدلًا من المُلبَّس جِعْلانًا وحَلَزُونًا وفَحْمًا وبَلُّوطًا ولِفْتًا وموادَّ مماثلةً أخرى مُرتَّبةً على أُشْنَةٍ أو قُطْن. وفي مرةٍ أخرى تُعلَّق على جِدارِ غرفةٍ مُكلَّسةٍ حديثًا لُعبةٌ ومنقولاتٌ صغيرةٌ أخرى، فيُطلَب من الأولادِ أن يُحضِروها من غيرِ أن يَمَسُّوا الجِدار. ولا يَكَادُ الجالبُ لها يَدخلُ حتى يُرَى إخلالُه بالشَّرْط لِمَا يَنِمُّ على سوءِ تصرُّفِه طَرَفُ قُبَّعَتِه المُبيَّضُ وطَرَفُ حذائِه وذيلُ ثوبِه وكُمُّه. ويُعدُّ هذا كافيًا، وأكثرَ من كافٍ على ما يحتمل، لإدراك روح هذه الألعاب. وإذا كنتم تنتظرون أن أقولَ لكم كلَّ شيء فلا تقرءوا كتابي مُطلَقًا.

وأيُّ تفوُّقٍ في الليلِ لا يتَّفِق لمن نُشِّئ هكذا على الرجالِ الآخرين؟ فبما أن رجليه تَعوَّدتا أن تَرْسَخ في الظلام، وبما أن يديه تَمرَّنتا على لمْسِ جميعِ الأجسامِ المجاورةِ بسهولة؛ فإنها تَقوده في أحلكِ ظلامٍ بلا مشقة. وبما أن خيالَه مملوءٌ بألعابِ فَتَائِه الليلية؛ فإن من الصعب أن ينصرفَ إلى أمورٍ مخيفة. وإذا ما اعتقد أنه يَسمع قهقهاتٍ كانت هذه قهقهاتِ أصحابِه القدماءِ بدلًا من قهقهاتِ الجِن. وإذا ما تَمثَّلَ مجلسًا كان هذا غرفةَ مُعلِّمه، لا مجتمعَ سَحَرَةٍ في الليل مطلقًا. ولن يكون الليلُ شيئًا كريهًا عندما ذكَّره بأفكارٍ سارَّة، فيُحِبُّه بدلًا من أن يخشاه. وهو يستعدُّ في كلِّ ساعةٍ عند كلِّ حملةٍ عسكرية، سواءٌ أكان وحدَه أم مع كتيبته، وهو يدخل معسكر شاوُل ويجول فيه من غيرِ أن يَضِلَّ، وهو يصل إلى خيمة الملكِ من غيرِ أن يُوقِظ أحدًا، وهو يعود منه من غيرِ أن يَشعُر به أحد، واقصدوه بلا وَجَلٍ عندما يجب سَلْبُ حُصُنِ رِيزُوس؛ فمن الصعب أن تجدوا رجلًا مثلَ أُوليس بين من نُشِّئوا على وجهٍ آخَر.

وقد شاهدتُ أُناسًا يريدون بالمفاجآت أن يُعوِّدوا أولادَهم ألَّا يخافوا شيئًا في الليل، وهذا المنهاجُ سيئٌ جِدًّا، وهو يؤدي في الحقيقةِ إلى عكس ما يُبحَثُ عنه، وهو لا ينفع لغيرِ جعْلِهم أكثرَ جُبنًا دائمًا، وما كان العقل ولا العادة ليستطيعا تسكينَ الرَّوْع حول خطرٍ حاضرٍ لا يُعرَف مداه ولا نوعه، كما أنهما لا يستطيعان تسكينَ الرَّوْع حول وَجَلٍ من المفاجآت التي تُبْتَلى في الغالب، ومع ذلك فكيف يُطمَأنُّ إلى وقايةِ تلميذكم من مثلِ هذه العوارض؟ وهذا أصلحُ رأيٍ يمكن أن يُعطاه حول ذلك مُقدَّمًا كما يَلوح لي، فأقول لإميل: «هنالك تكون في وضْعِ المُدافعِ عن نفسه، وذلك أن المعتدي لا يَدَعُك تَحكم في هل يريد أن يؤذيَك أو يُخيفَك. وبما أن له هذا الوضعَ الملائمَ فإنك لا تجد ملاذًا حتى في الفِرار، فاقبضْ بجُرأةٍ إذن على مَن يُباغِتك ليلًا، إنسانًا كان أو حيوانًا، واضْغطْه وقِفْه بما لديك من قوَّة، وإذا ما انتفض للمقاومةِ فاضربْ بلا هوادة، ولا تتركْه يذهب قبْل أن تعرفَ مَن هو مهما قال أو فَعل. ومن المحتملِ أن تَعرف بالاستيضاح عدمَ وجودِ شيء تخشاه، غير أن هذه الطريقةَ في معاملةِ المُجَّانِ مما يَحول دون رجوعهم إلى ذلك بحكم الطبيعة.»

ومع أن حاسةَ اللمسِ أكثرُ حواسِّنا دوامَ تمرين؛ فإن أحكامَها تظَلُّ مع ذلك أكثرَ نقصًا وأشدَّ غِلظةً من أيةِ حاسَّةٍ أخرى كما قلت؛ وذلك لأننا نُدخِل في استعمالها عادةَ البصر دائمًا، ولأن العينَ إذ تبلغُ الشيءَ بأسرعَ مما تَبْلُغه اليد، فإن النفْس تستغني عنها في الحكم. وبالمقابلة تجدُ أحكامَ اللمسِ أعظمَ صحةً لأنها أكثرُ ما يكون اقتصارًا؛ فبما أنها لا تمتدُّ إلى أبعدَ مما تمتدُّ إليه أيدينا فإنها تُقَوِّم طيشَ الحواسِّ الأخرى التي تتناول من بعيدٍ أشياءَ لا تَكد تُحِسُّها، وذلك بدلًا من حاسةِ اللمسِ التي تَشعر جيِّدًا بكلِّ ما تُحِسُّه. ونحن إذ نُضيفُ قوَّةَ العَضَل إلى فعْلِ الأعصابِ كما يروقنا، فإننا نوحِّد، بإحساسٍ يقع في وقتٍ واحد، بين حكمِ حرارة الجو والأجرام والأشكال وحكمِ الثِّقل والصلابة. وهكذا فإن حاسة اللمس إذ كانت بين جميعِ الحواس أحسنَ ما يُخبِرُنا بما يُمكنُ الأجسامَ الغريبةَ أن تُؤثِّر في جسمنا؛ فإن عادتها أكثرُ العادات شيوعًا، وهي أسرعُ ما يمنحُنا من المعارف الضرورية لبقائنا.

وإذا كانت حاسةُ اللمس تقوم مقامَ حاسة البصر، فلِمَ لا يمكنُها كذلك أن تقوم مقامَ حاسة السَّمع إلى حدٍّ ما، ما دامت الأصواتُ تُثير في الأجسامِ الطنَّانةِ اهتزازاتٍ تُحَسُّ عند اللمس؟ إذا ما وُضِعَتْ يدٌ على كَمانٍ جَهيرٍ أمكنَ أن يُماز، من غيرِ استعانةٍ بالعيون وبالآذان ووفَق الوجهِ الذي يهتز به الخشبُ ويرتج، كونُ الصوتِ الذي يصدر ثقيلًا أو حادًّا، وكونه ناشئًا عن الزِّير٢٩ أو عن القرار، وإذا ما مُرِّنت الحواسُّ على هذه الفروقِ لم أشُكَّ في كوننا نُصبح مع الزَّمن من الشعورِ بحيث نَسمع بالأصابعِ لحنًا كاملًا. والواقع أن من الواضح عند افتراضِ هذا إمكانَ مخاطبةِ الصُّمِّ بالموسيقا بسهولة؛ وذلك لأن الألحان والأزمان إذ لم تكن أقلَّ تأثُّرًا بالتراكيب المنتظمة من المفاصل والأصوات، فإن من الممكن أن تُتَّخَذ كعناصرَ للكلام.

ويُوجَد من التمرينات ما تَكِلُّ به حاسةُ اللمس، ويجعلها أكثرَ عياء، وعلى العكس يوجد من التمرينات ما تُشحَذُ به ويجعلُها أكثرَ دقةً ولطافة، وتُضيفُ الأُولى كثيرًا من الحركة والقوة إلى انطباع الأجسام الصُّلبة الدائم، فتجعل الجلدَ قاسيًا جاسيًا، وتَنزِع منه الإحساسَ الطبيعي، وتُغَيِّر الثانيةُ هذا الإحساسَ بلمْسٍ خفيفٍ كثيرٍ، فيكتسب الذهنُ المنتبِهُ دائمًا إلى الانطباعات المُكرَّرة بلا انقطاع، سهولةَ الحكمِ في جميعِ تحولاتها، ويُشعَرُ بهذا الفرْق في جميعِ الآلات الموسيقية، وذلك أن لمْسَ الكمانِ الجهيرِ والكمانِ الأجهر، حتى الكمانِ، لمْسًا شديدًا أليمًا إذ يَجعل الأصابعَ أكثرَ مرونةً فإنه يُصَلِّب أطرافَها، ويجعلها البيانُ مَرِنةً حساسةً في الوقت نفسه، وبهذا يُفضَّلُ البِيَان.

ومن المهم أن يَجْسَأ الجِلدُ أمام مؤثِّرات الهواء فيستطيع مقاومةَ تقلُّباته؛ وذلك لأن الجِلد يحفظ بقيةَ الجسم. وإذا عدوتَ هذا وجدتني لا أريد أن تَجْسأ اليدُ بأن يُفرَطَ في تمرينها على ذاتِ الأعمالِ بلُؤم، ولا أن يصير جلدُها عظميًّا تقريبًا فتفقِدُ الحسَّ اللطيفِ الذي يُعرَف به ما تُمَرُّ عليه من الأجسامِ والذي يجعلنا نرتجِف في الظلام بمختلف الوجوه أحيانًا وعلى حسب نوع اللمس.

ولِمَ يُلزَمُ تلميذي بأن يَجعَلَ تحتَ قدمَيه جِلْدَ بَقَرٍ دائمًا؟ وأيُّ أذًى يمكن أن يَلْحَقه إذا ما استعملَ جِلْدَه الخاصَّ نعلًا له؟ ومن الواضحِ أن رِقَّةَ الجِلْدِ في هذا القسمِ لا يُمكِن أن تكون نافعةً لشيءٍ مطلقًا، ويُمكِن أن تكونَ ضارَّةً كثيرًا غالبًا. ومما حدث في وَسَط الشتاء أن استيقظ أهلُ جنيفَ في مدينتهم هذه عند منتصف الليل بفعل العدو، فوجدوا بنادقهم قبْل أن يجدوا أحذيتهم، ومَن يقول إن جنيفَ كانت لا تصبح قبضةَ العدوِّ لو كان أهلوها لا يَعْرِفون أن يَسيروا حُفَاة؟

ولْنُجهِّز الإنسانَ دائمًا ضدَّ الحوادث المفاجئة، ولْيَركُض إميلُ حافيًا في كلِّ صباح وفي جميعِ الفصول، وذلك في الغرفةِ وعلى الدَّرَجِ وفي الحديقة، وسأُقلِّدُه بدلًا من توبيخه، وإنما سأُعنَى بإبعادِ الزجاج، ثُمَّ لِيَتعلَّم اتخاذَ جميعِ الخُطوات التي تُسهِّلُ نُشوءَ البدن، واتخاذَ وضعٍ سهلٍ متينٍ في جميعِ الأحوال، ولْيَعلم الوثوبَ بعيدًا عاليًا، ولْيَعلم الصعودَ في الشجرِ وتسوُّرَ الجُدُر، ولْيَجد توازنَه دائمًا، ولْتَكن جميعُ حركاتِه وسكناتِه منتظمةً وَفْقَ قوانينِ تَوازنِ القُوى المتعادلة، وذلك قبْل أن يُوضِحَ عِلْمُ تَوازُنِ الأجسامِ تلك القوانينَ له، ويجب أن يَشْعُر بأنه في وضْعٍ حَسنٍ أو سيئ من حيث الوجهِ الذي يَضَعُ رِجْلَه به على الأرضِ والحالُ التي يكون بها جسمُه على ساقه. ولِلوضْعِ الوطيدِ رَوْعتُه دائمًا، وتُعَدُّ أمتنُ الهيئاتِ أظرفَها، ولو كنتُ مُعلِّمَ رقصٍ ما أتيتُ جميعَ قِرْدياتِ مارْسِلَ٣٠ الملائمةِ للبلد الذي جَعلها فيه، ولكنني آتي بتلميذي إلى أسفلِ صخرةٍ بدلًا من شَغْله بقفَزَاتٍ إلى الأبد؛ فهنالك أُظهِر له الوضعَ الذي يتَّخذ، وكيف يكون حالُ بدنه ورأسه، وأيُّ الحركات يأتي، والنَّمط الذي يَضع به رِجْله تارةً ويده تارةً أخرى للسيرِ سيرًا خفيفًا في الدُّروب الوَعِرة الصعبة المُتْعبة، وللوثوب من نقطةٍ إلى أخرى صاعدًا ونازلًا، فأجعله يُباري أَيِّلًا لا راقصًا في الأُبِرا.

وعلى نسبةِ ما تَجْمَع حاسةُ اللمس أعمالَها حوْل الإنسانِ تُوَسِّع حاسةُ البصرِ أعمالَها بعيدةً منه، وهذا ما يجعل هذه الحاسة خادعة، وذلك أن الإنسانَ يشتمل على نصف أُفُقه في لمْحةِ بصر، وكيف لا يتطرَّق الخطأ حوْل واحدٍ من جَمْعِ هذه الإحساساتِ الحادثةِ في وقتٍ واحد، وحول ما تُثير من آراء؟ وهكذا فإن حاسةَ البصرِ أكثرُ حواسِّنا خطأ؛ وذلك لأنها أوسعُ الحواسِّ مَدًى؛ وذلك لأنها إذ تَسبِق الحواسَّ الأخرى بمساوفَ تكون أعمالُها عاجلةً جِدًّا متَّسِعةً جِدًّا، فلا يمكن أن تقوم بتلك الحواس، وذلك إلى أن الوَهْم حوْل المنظورات أمرٌ ضروريٌّ للوصولِ إلى معرفة المساحة وقياسِ ما بين أجزائها، ولولا الظواهرُ الخادعةُ ما رأينا شيئًا في البُعد، ولولا تسلسلُ الحَجْم والضياء ما استطعنا تقديرَ أيةِ مسافةٍ كانت، وإن شئتَ فقُلْ إن المسافة لا يكون لها وجودٌ عندنا، ولو بدت لنا إحدى الشجرتَين المتساويتَين البعيدةُ مِنَّا مائةَ خُطوةٍ، كبيرةً جليةً كالشجرةِ الأخرى البعيدةِ عَشْرَ خُطُوات لوضعناها بجانب هذه، ولو كُنَّا نُبصِر جميعَ أبعادِ الأشياءِ وَفْقَ قياسِها الحقيقي ما رأينا أيةَ مسافةٍ كانت، ولَبَدا الجميعُ على عيوننا.

ولا يوجد للحُكم في حجمِ الأشياءِ ومسافتها غيرُ قياسٍ واحد؛ أي فُتْحَةُ الزاويةِ التي تُحْدِثها في عيوننا. وبما أن هذه الفُتْحة معلولٌ بسيطٌ لِعِلَّةٍ مركَّبة، فإن ما تُثيره من حُكْمٍ فينا يَدعُ كلَّ عِلَّةٍ خاصةٍ غيرَ معينة، أو يَغدو خاطئًا بحُكْم الضرورة؛ وذلك لأنه كيف يُمازُ بالعينِ المجرَّدةِ كونُ الزاوية التي يبدو الشيءُ بها أصغرَ من الآخر هي إياها لأن هذا الشيءَ الأوَّلَ معلولٌ أصغرُ لها، أو لأنه أكثرُ بُعدًا؟

ويجب أن يُتَّبَع هنا منهاجٌ مباينٌ للسابقِ إذن، وذلك أن يُجعَل عُضوُ البصرِ خاضعًا لعضوِ اللَّمسِ بدلًا من تبسيطِ الإحساسِ وتضعيفهِ وتحقيقهِ بإحساسٍ آخَرَ دائمًا؛ ومِنْ ثَمَّ أن تُزجَرَ صولةُ الحاسَّة الأُولى باتِّئاد الحاسةِ الثانية وانتظامِها. وبما أننا لم نُخضِع أنفسنا لهذه العادة، فإن قياساتنا بالتقديرِ تكون مختلَّةً جِدًّا، وليس لنا بلمحةِ البصر أيُّ دقَّةٍ للحُكم في الارتفاع والطول والعمق والمسافات، ويبدو الدليلُ على أن الخطأ بالعادةِ أشدُّ مما بالحاسَّةِ في كون المهندسين والمسَّاحين والمعماريين والبنَّائين والمصوِّرين على العموم ذوي لمحةٍ أحكمَ كثيرًا مما لدينا، وفي كونهم يُقدِّرون قياسات الاتساع بإتقانٍ أعظمَ مما نقوم به؛ وذلك لأن مهنتَهم إذ تمنحُهم في ذلك من التجرِبة ما نُهمِل اكتسابَه فإنهم يُزيلون الالتباسَ من الزاوية بالظواهر التي تُلازِمها والتي تُعيِّنُ في أعينهم ما بين سبَبَيْ هذه الزاوية من نسبةٍ تعيينًا دقيقًا.

ويَسْهُلُ على الأولاد أن ينالوا دائمًا كلَّ ما يَمنَحُ الجسمَ حركةً من غيرِ أن يُضَايَق، ويوجَد ألفُ وسيلةٍ تَحْفِزُهم إلى قياسِ المسافاتِ ومعرفتِها وتقديرِها. وها هي ذي شجرةُ كَرَزٍ عاليةٌ جِدًّا، فما نَصْنعُ لاقتطافِ الكَرَز؟ وهل يَصْلُح سُلَّمُ النِّبْر٣١ لهذا؟ وها هو ذا جدولٌ عريضٌ جِدًّا، فكيف يُعبَر؟ وهل يُوضَع لوحٌ من الحَوْش على ضِفَّتَيه؟ وإذا أردنا أن نصطاد من نوافذنا سَمَكًا في خنادقِ القلعة، فكم يَجب أن يكون عددُ باعاتِ قَصَبتنا؟ وإذا أردتُ وضْعَ أرجوحةٍ بين هاتَين الشجرتَين، فهل يكفينا حبلٌ طولُه اثنتا عشْرة قدمًا؟ ويُقال لي إن غرفتنا في المنزل الآخر ستكون خمسًا وعشرين قدمًا مربعة، فهل تظنُّون أنها تلائمنا، وهل تكون أكبرَ من هذه؟ ونحن نلتهب جوعًا؛ ففي أيِّ القريتَين هاتَين ننال غداءً بأسرع ما يمكن؟ … إلخ.

وكان يُرادُ أن يُدرَّبَ على الركضِ ولدٌ مِكسالٌ بطيءٌ غيرُ راغبٍ هذا التمرينَ أو ذاك، وإن كان يُعَدُّ للجندية، ومما حدث أن أُقنِعَ — ولا أدري كيف — بأنه لا يُطلَبُ ممن هو من طبقتِه أن يَفْعل شيئًا ولا أن يَعلَم شيئًا، وبأن شَرَفه يقوم مقامَ الذُّرْعان والسِّيقان كما يقوم مقامَ جميعِ أنواعِ المزايا، فلا تَكاد تكفي حتى حيلةُ شِيرونَ لتجعلَ من مثْلِ هذا الشريفِ أَشِيلًا ذا رِجْلٍ خفيفة، وكان الأمرُ يَزيد صعوبةً بِعَزْمي على عدمِ أمره بشيء، وقد تنزَّلتُ عن حقوقي في التحريض والوعد والوعيد والمباراة وحُبِّ الظهور، وكيف أجْعله يريد العدوَ من غيرِ أن أقولَ له شيئًا؟ إن العَدْوَ بنفسي وسيلةٌ مضمونةٌ قليلًا وذاتُ محذور. ثُمَّ إنه كان من المطلوب أن أستخرج من ذلك التمرينِ معارفَ له أيضًا، وذلك تعويدًا لأعمالِ الآلة وأعمالِ الرأي أن تسيرا جنْبًا إلى جنْبٍ دائمًا، وإليك ما سلكتُ أنا الذي يتكلم في هذا المثال:

كنتُ حين أذهبُ للنزهةِ معه في أوقات العصر أَضَع في جيبي أحيانًا قطعتَين من الحَلوى التي يُحِبُّ كثيرًا، وكان كلٌّ مِنَّا يأكلُ واحدةً منهما حين النُّزهة،٣٢ ثُمَّ نعود مسرورَين. ومما أَبْصَرَ ذاتَ يومٍ، وجودُ ثلاثِ قِطَعٍ معي، وكان يمكنه أن يأكل سِتًّا منها من غيرِ أن يُزعَج، ويُسرِع في أكل قطعته ليطلُب مني الثالثة، وأقول له: كلَّا، إنني سآكلها، أو نقتسمها بيننا. ولكنني أُفضِّل أن يتنازعها ذانك الغلامان الصغيران فينالها الفائز في تسابقهما عدْوًا، وأناديهما وأُريهما قطعةَ الحلوى وأَعْرِض عليهما الشَّرط، ولم يطلُبا ما هو خيرٌ من هذا. وتُوضَع الحلوى على حَجَرٍ كبيرٍ اتُّخِذَ هَدَفًا، وتُعيَّن المسافةُ ونذهب لنجلسَ وتُعْطى الإشارة، وينطلِقُ الغلامان الصغيران، ويَقبِض الفائزُ على الحلوى ويأكلها بلا رحمةٍ على مرأى من الحُضُور والمغلوب.

وكانت هذه الأُلْهُوَّةُ خيرًا من الحلوى، ولكنها لم تُؤثِّر في بدء الأمر ولم تأتِ بنتيجة. ولم أيأس، ولم أستعجل؛ فتعليمُ الأولادِ مهنةٌ تقضي بإضاعةِ الوقتِ كسْبًا منه. ونُداوِم على نُزَهِنا، وتُؤخذ ثلاثُ قِطَعٍ من الحلوى غالبًا، وتُؤخذ أربعُ قِطَعٍ منها أحيانًا، ويكون معنا في الحين بعد الحين قطعةٌ واحدةٌ أو قطعتان للعدَّائين، وإذا لم تكن الجائزةُ كبيرةً لم يكن مَن يتنازعونها من ذوي الطمع، وإنما كان الفائزُ بها محلَّ ثناءٍ واحتفال. وكان كلُّ شيء يتم بأُبَّهة، وكنت أجعل المسافةَ أطولَ مما هي عليه، وأُشْرِك فيها كثيرًا من المتبارِين توسيعًا لنطاقِ العَدْوِ وزيادةً في الإمتاع. ولا يَكادُ المتبارون يبدءون بالسباق حتى يقفَ المارُّون لمشاهدتهم، وكان يُشجِّعهم الهُتَافُ والصُّراخ والتصفيق. وكنتُ في بعضِ الأحيانِ أرى الصبي يهتزُّ وينهضُ ويصرُخُ عندما يكاد أحدُ المتبارين يبلُغ الآخرَ أو يسبقه؛ فكانت هذه ألعابًا أُلَنْبيةً بالنسبة إليه.

ومع ذلك فإن المتبارين كانوا يستعملون الخِداع أحيانًا؛ فيتحاجزون تبادلًا، أو يُسقِطُ بعضُهم بعضًا، أو يدفع الواحدُ منهم في طريقِ الآخرِ حَصَبًا، فيجهِّزني هذا بسببٍ لفصلِ بعضهم عن بعض، ولجَعْلهم ينطلقون من أماكنَ مختلفةٍ على أبعادٍ متساويةٍ من الهدف، وسترون علَّةَ هذا الحَذَر عما قليل؛ وذلك لأنني سأعالج هذا الأمرَ المهم مفصَّلًا.

ويسأم السيدُ الشريفُ من أن يرى على عينٍ منه دائمًا حَلَاوَى تُحرِّك شهوتَه، فيدور في خَلَده أخيرًا أن حُسْنَ العَدْوِ يُمكِن أن يكون صالحًا لشيءٍ ما، وهو إذ يرى لنفسه ساقَين أيضًا يأخذ في اختبارِ نفسِه سِرًّا. وأحترِزُ من رؤيةِ شيء، ولكن مع إدراكي أن خِطَّتي نجحت. ولمَّا اعتقدَ أنه ذو قوَّةٍ كافية — وهذا ما أبصرته — تظاهرَ بإزعاجي في سبيلِ حيازتِه قطعةَ الحلوى الباقية، وأرفِض، ويُصِر، وأخيرًا يقول لي بلهجةِ الغاضب: «حسنًا! ضَعْها على الحَجَر، وعيِّنِ الميدان، وسَنرى.» وأقول له ضاحكًا: «حسنًا! هل يستطيع الشريفُ أن يركض؟ ستشتد فيك شهوةُ الطعام من غيرِ أن تنالَ ما تقضيها به.» ويُنْخَزُ بسُخْريتي فيبذُل جُهدَه، وينال الجائزةَ بسهولةٍ لما كان من جَعْلي هذا السباقَ قصيرًا وإقصائي منه أحسنَ عَدَّاء. وليس من الصعب أن يُتصوَّر بعد هذه الخُطوةِ الأُولى كيف سَهُلَ عليَّ أن أسْتَكِدَّه،٣٣ ولسرعانَ ما بَلَغَ من الوَلَع بهذا التمرينِ ما صار يطمئنُّ معه تقريبًا إلى الفوزِ على الأولادِ الآخرين من غيرِ محاباةٍ مهما كان السباقُ طويلًا.

وأظفَرُ بهذا النصر، فينشأ عنه من النتائجِ ما لم يَخطُر ببالي، وكان يفوز بالجائزة على نُدرة، فيأكلُها وحدَه دائمًا تقريبًا، وذلك كما كان يصنع منافسوه، ولكنه لمَّا تعوَّد النصرَ أصبح كريمًا، وصار يقاسِم المغلوبين إياها، وهذا ما زوَّدني بملاحظةٍ أدبيةٍ عَرَفتُ بها مبدأ الكرم الحقيقي.

وعلى ما كان من استمراري على تعيينِ الحدودِ في مختلفِ الأماكن؛ حيث يجب أن ينطلق كلُّ واحدٍ معًا، كنتُ أجعل المسافاتِ متفاوتةً من غيرِ أن يشعُر، وبهذا كان يَلحَقُ ضررٌ بيِّنٌ بالذي يجب عليه أن يسيرَ أكثرَ من الآخرِ وصولًا إلى الهدفِ نفسه، ولكنني مع ترْكِ الخِيارِ لتلميذي كان هذا التلميذُ لا يَعْرِف الانتفاعَ به، وذلك أنه كان يُفضِّل أجملَ الطُّرُق غيرَ مبالٍ بالمسافة دائمًا، وذلك مع بَصَري خيارَه بسهولة، فكنتُ أسيطرُ تقريبًا على فوْزه بالحلوى أو خُسْرِه لها، كما أريد، وكانت لهذه الشطارةِ فائدةٌ لأكثرَ من غاية. ولكن بما أن مقصدي قام على إدراكه الفرْق؛ فقد سَعيت أن أجعلَ هذا الفرْق ظاهرًا لديه، ولكنه وإن كان بليدًا عند الهدوء، كان كثيرَ النشاطِ في ألعابهِ بالِغَ الثِّقةِ بي، فأبذُل كلَّ عناء لجَعْله يُدرِك أنني أغُشُّه في اللعب، وأخيرًا أبلُغ غايتي على الرغم من طيشه، فيلومني على ذلك، وأقول: «من أيِّ شيء تشكو؟ أمِنْ أجْل هِبةٍ أريدُ حُسْنَ وضْعِها وأنا صاحبُ شروطها؟ ومَن ذا الذي يُكرِهُك على العَدْو؟ وهل وعدتُكَ بأن أجعلَ الأشواطَ متساوية؟ ألم يكن لك الخيار؟ الْتَزِمْ أَقْصَرَها، فلا شيء يمنعك من ذلك، وكيف لا ترى أنك أنت الذي أُحابي، وأن التفاوتَ الذي تتذمَّر منه قد جُعِلَ نفْعًا لك لو كنت تَعرِف أن تستفيد منه؟» والأمر واضح، وقد أدركه، وقد وجب أن يُنظرَ إليه عن كَثَبٍ ليختار. وأوَّل ما أريد هو أن يَعُدَّ الخُطُوات، غيرَ أن مقياسَ خُطُوات الولدِ بطيءٌ قابلٌ للخطأ، ثُمَّ إنني رأيت أن أكثرَ السباقات في اليوم الواحد. وبما أن اللهوَ أصبح نوعًا من الوَلَع فقد أسِفَ الولدُ على إنفاقِ الوقتِ المُعدِّ للعدْوِ في قياسِ الأشواط. والواقعُ أن نشاطَ الوَلُودية يأبَى مثْلَ هذا البطوء؛ ولذا فقد دُرِّبَ الولدُ على حُسْنِ البَصر والإصابة في تقدير المسافة بالنظر، وبذا لم أجدْ كبيرَ مشقة في توسيع هذا التمييزِ وتغذيته. وأخيرًا كان له ببضعة أشهرًا في التجارِب والأغاليط المصححة من تقديرِ الأبعاد بالرؤية ما كنتُ إذا وضعتُ معه بالفكرِ قطعةً من الحلوى على شيءٍ بَعيدٍ، أظهرَ في تعيينِ مسافتها بلمْحةٍ تعيينًا دقيقًا ما يَظهَرُ بسلسلةِ المسَّاحِ تقريبًا.

وبما أن البصر هو أقلُّ ما يمكن فصْلهُ من الحواسِّ عن أحكام الذهن، فإنه لا بدَّ من انقضاءِ زمنٍ طويلٍ لتعلُّم الرؤية، ولا بدَّ من زمنٍ طويلٍ يُقضى في المقابلةِ بين حاسة البصر وحاسة اللمس؛ تعويدًا لأُولى هاتَين الحاستَين أن تجعلَنا ذوي صلةٍ صادقةٍ بالصُّورِ والمسافات. ولولا حاسةُ اللمس، ولولا الحركةُ التدريجية، ما كانت أنفذُ عيونِ العالَم لتمنحنا أيَّ فكرٍ عن الاتساع. ولا يجب أن يكون العالَمُ كلُّه غيرَ نقطةٍ عند المَحَار، وما كان العالَم ليبدوَ أكبرَ من ذلك، ولو أنبأتْ هذا المَحَارَ نفسٌ بشريةٌ بذلك. وليس بغيرِ قوَّة المشي واللمسِ والعَدِّ والقياسِ ما نتعلَّم تقديرَ أبعادِ الأشياء، ولكن إذا ما قِسنا دائمًا واعتمدت الحاسةُ على الآلةِ لم تَفُز هذه الحاسةُ بسدادٍ. وكذلك لا يجوز أن ينتقل الولدُ من القياسِ إلى التقديرِ دفعةً واحدة، وإنما يجب في البُداءة أن يداوِم على المقابلة بين الأجزاء عندما لا يستطيع أن يقابل دفعةً واحدة، وذلك بأن يستبدل الكُسور التقديرية بالكسور الصحيحة، فيتعوَّد تطبيقَ القياسِ بالعين وحدَها بدلًا من تطبيقه باليد دائمًا. وأَوَدُّ مع ذلك أن يُحقِّقَ عملياته الأُولى بالقياسات الحقيقية حتى يُصحِّح أغاليطه، وأن يتعلَّم عند بقاءِ ظاهرٍ خادعٍ في الحاسةِ تصحيحَه بتمييزٍ أصلحَ من ذاك، ويوجد من المقاييس الطبيعية ما هو واحدٌ في جميعِ الأمكنةِ كقَدمِ الإنسانِ وطولِ ذراعَيه وقامته. وإذا ما قدَّر الولدُ ارتفاعَ طبقةٍ من البناءِ أمكنَه الانتفاعُ بمُعلِّمه قياسًا، وإذا ما قدَّر ارتفاعَ برجِ جَرَسٍ أمكنه أن يَقيسَه بالبيوت، وإذا أراد أن يَعْرِفَ فراسخَ الطريقِ عَدَّ ساعاتِ السير، ولكن على أن يصنعَ جميعَ هذا بنفسه، لا أن يُصنَع له شيءٌ منه.

ولا يُمْكِن تَعلُّمُ تمييزِ اتساعِ الأجسامِ وحجْمِها جيِّدًا قبْل أن يُتعلَّم في الوقت نفسِه معرفةُ أشكالها، حتى تقليدُها؛ وذلك لأن هذا التقليدَ لا يتوقَّف من حيث الأساسُ على غيرِ قوانين المناظر؛ لأنه لا يُمكِن تقديرُ الاتساعِ بظواهره من غيرِ أن يُشعَر بهذه القوانين بعضَ الشعور. ويحاوِل جميعُ الأولاد الذين هم كثيرو التقليدِ أن يَرْسُموا، وأُريدُ أن يُكِبَّ إميلُ على هذا الفن، لا للفنِّ نفسِه ضَبْطًا، بل لتقويم باصرته وجَعْلِ يدِه مَرِنة. وليس من المهم على العموم أن يُمارِس هذا أو ذاك، وذلك على أن يكتسبَ بهذه الممارسةِ بصيرةَ الحسِّ وحُسْنَ عادةِ البدن؛ ولذا فإنني أحترزُ كثيرًا من تعيينِ مُعلِّمِ رسمٍ له لا يَحمِلُه على غيرِ تقليدِ مُقلَّدات، ولا يَجْعَلُه يَرسُم من غيرِ الرُّسوم، وأقصدُ بذلك ألَّا يكون له غيرُ الطبيعةِ أستاذ، وغيرُ الأشياءِ نموذج، وأريد أن يكون الأصلُ نفسه تحت عينيه، لا الورقةُ التي تَعرِضه، كما أريد أن يرسمَ بالقلم الرصاصي بيتًا عن بيتٍ وشجرةً عن شجرةٍ ورجلًا عن رجلٍ حتى يتعوَّد ملاحظةَ الأشياء وظواهرها جيدًا، لا أن يَعُدَّ من التقليد الحقيقي ما هو زائفٌ اتفاقيٌّ من التقليدات. وسأحوِّله أيضًا عن رسمِ شيءٍ اعتمادًا على الذاكرة عند عدم وجود المواد، وذلك إلى حين انطباع صورتها في مُخيِّلته انطباعًا صحيحًا عن ملاحظاتٍ متتابعة، وذلك خشيةَ فقْده معرفةَ النِّسَب وذوقَ محاسنِ الطبيعة عن استبداله بحقيقة الأشياء صُوَرًا غريبةً وهمية.

وأعْرِف جيِّدًا أنه سيُسيء الرسمَ على هذا الوجه زمنًا طويلًا قبل أن يصنع ما تسهُل معرفته، وأنه سيتأخَّر في اقتباسِ رشاقة الخطوط ورسمِ المصورين الخفيف، ومن المحتمل ألَّا ينالَ على الإطلاق ما عند المصَوِّر من بصرٍ في الأشياء الماثلة وحسنِ ذوقٍ في الرسم، وهو بالمقابلة سينال بصرًا أكثرَ إصابةً ويدًا أكثرَ إحكامًا، ومعرفةً لما بين الحيوانات والنباتات والأجسام الطبيعية من نِسَبٍ حقيقية في الحجم والصورة، وتجرِبةً سريعةً في أثَر المناظر، وهذا ما أردتُ صُنْعه تمامًا. ولم أهدِف إلى معرفتهِ تقليدَ الأشياء كعلمه بها، فأفضِّل أن يُريَني نباتَ الأَقَنْثَة على إجادته رسمَ أوراقِ تاجٍ لعمودٍ.

ثُمَّ إنني لا أزعم أن لتلميذي وحدَه لهوًا في هذا التمرينِ وغيره، بل أريد أن أجعله أكثرَ طيبًا له أيضًا، وذلك بأن أقاسمه إياه دائمًا، ولا أريد أن يكون له منافسٌ غيري مطلقًا، ولكنني أكونُ له منافسًا بلا مَهْلٍ ولا خَطَر، وهذا ما يَحْمله على الاكتراث لأشغاله من غيرِ أن يُثيرَ حسدًا بيننا. وسأتناول القلمَ الرصاصي على مثاله، وسأستعمله في بدء الأمر استعمالًا سيِّئًا كما يَصْنع، وسأكون مِثْلَ أبِلَ، فلا أجِدُني غيرَ رديء الرسم، وسأبدأ برسمِ رَجُلٍ كما يَرْسُم الخَدَمُ على الجُدْران، فأجعلُ خطًّا لكلِّ ذراع وخطًّا لكلِّ ساق، وأجعل أصابعَ أضخمَ من الذِّراع، وسيُدرك كلٌّ مِنَّا عدمَ التَّناسب هذا بعد زمن، وسنلاحظ أن للساقِ ثِخَنًا، وأن هذا الثِّخنَ ليس واحدًا في كل موضع، وأن للذراع طولًا معينًا بالنسبة إلى الجسم … إلخ. وسأسيرُ في هذا التدرُّجِ بجانب تلميذي، أو إنني أسبقه قليلًا حتى يسهل عليه أن يصل إليَّ دائمًا وأن يتقدمني غالبًا. وستكون لدينا أصباغٌ وأرياش، وسنحاول تقليد ألوان الأشياء ومظهرها وصورتها، وسنلوِّن، وسنزيِّن، وسنسيء التصوير، ولكننا لن ننقطع عن ترصُّد الطبيعة في تصويرنا الرديء، ولن نصنع شيئًا غير واقعٍ تحت عيني هذا الأستاذ.

وكُنَّا في همٍّ من أجْل زخارف غرفتنا، وها هي ذي واقعةٌ الآن تحت أيدينا، وسنضع رسومَنا ضمْن أُطُر، وسنُطبِقُها بزجاجٍ جميلٍ لكيلا يمسَّها أحد، فإذا رآها كلُّ واحدٍ مِنَّا باقيةً على الحال التي وضعناها فيها وجد من المصلحة ألَّا يُهمِل رسومه. وأرتِّبها حول الغرفة ترتيبًا منتظمًا، ويَدُلُّ كلُّ رسمٍ مكرَّرٍ عشرين مرة أو ثلاثين مرة، على تقدُّم الواضع في كلِّ نسخةٍ تقدُّمًا يترجَّح بين الحين الذي كان البيتُ فيه مُربَّعًا غيرَ مُهندَمٍ والحينِ الذي كان فيه مقدَّمُ البناء ومظهرُه الجانبي وظِلالُه على أصحِّ ما يكون. ولا يفوتُ هذا التدرُّجُ أن يَعرِضَ علينا بلا انقطاعٍ ألواحًا ممتعةً لنا جالبةً لأبصار الآخرين، وأن يُحرِّكَ تنافسنا دائمًا، وأضعُ للأُولَى من هذه الرسومِ ولِأغلظِها أُطُرًا على جانبٍ من اللمعانِ والتمويهِ بالذهبِ إمعانًا في إظهارها. ولكن التقليد عندما يصبح أكثرَ دقةً ويكون الرسمُ حسنًا حقًّا، فإنني لا أضعُ له غيرَ إطارٍ بسيطٍ جِدًّا؛ فهو يعودُ غيرَ محتاجٍ إلى زُخْرُفٍ غيرِ زخرفِ نفسه؛ فمن الخُسْرِ أن يشاطرَ الوشْيُ ما يستحقه الشيء من انتباه. وهكذا يَتوق كلُّ واحدٍ مِنَّا إلى فَخْرِ الإطارِ غيرِ المُدَبَّج، ومتى أراد أحدُنا ازدراء رسمِ الآخر حَكَم عليه بإطارٍ مُموَّهٍ بالذهب، ومن المحتمل أن تذهب هذه الأُطُر المذهبة مثلًا بيننا ذات يوم، فنقضي العجب من وجودِ أناسٍ كثيرين يدلُّون على حقيقتهم بوضعهم أنفسَهم ضِمنَ أُطُرٍ على هذا الوجه.

وقد قلتُ إن علمَ الهندسة ليس في متناوَلِ الأولاد، ولكن هذا ذَنْبنا، ونحن لا نشعر بأن منهاجَهم غيرُ منهاجِنا مطلقًا، وبأن ما يصبحُ فنَّ برهنةٍ لنا لا ينبغي أن يكون لهم غيرَ فنِّ الرؤية. وأفضلُ لنا أن نتخذ منهاجَهم من أن نمنحَهم منهاجنا؛ وذلك لأن أسلوبنا في تعليمِ علمِ الهندسة هو عملُ خيالٍ كما هو عملُ برهنة، فمتى بُسِطَت قضيةٌ وجب تخيُّل دليلِها؛ أي أن تُوجَد القضيةُ المعروفةُ مُقدَّمًا فيجبُ أن تكونَ هذه القضيةُ نتيجةً لها، وأن تُخْتَار هذه النتيجةُ من بينِ جميعِ النتائجِ التي يُمكن استخراجُها من ذاتِ القضية.

وهكذا فإن أدقَّ المُبَرْهِنين يبقى ضَيِّقَ النِّطَاقِ إذا لم يكن مُستَنبِطًا. وما ينشأ عن ذلك؟ ينشأ عن ذلك إملاءُ البراهينِ علينا بدلًا من حمْلِنا على اكتشافها، وكونُ المُعلِّم يُبرهن من أجلنا بدلًا من تعليمنا البَرْهَنة، فلا يُمَرِّن غيرَ ذاكرتنا.

واصنعُوا صُوَرًا متقنة، ورتِّبوها، وضَعُوا بعضَها فوقَ بعض، وافحصُوا ما بنيها من نِسَب، تَجِدوا جميعَ علمِ الهندسةِ الابتدائيةِ سائرًا من ملاحظةٍ إلى أخرى، وذلك من غيرِ سؤالٍ ولا تعريفاتٍ ولا مسائلَ ولا أيِّ شكلٍ برهانيٍّ آخَرَ غيرِ التنفيذِ البسيط. وأمَّا أنا فلا أزعمُ أنني أُعلِّم إميلَ الهندسةَ مطلقًا، وإميلُ هو الذي يُعلِّمني إياها، وأبحثُ عن النِّسَب ويَجِدُها؛ وذلك لأنني أبحثُ عنها على وجهٍ أحْفِزُه به إلى اكتشافها. ومن ذلك أنني بدلًا من استخدام بيكارٍ لرسمِ دائرة، أرسمها بقلمٍ رصاصيٍّ في طَرَفِ خيطٍ دائرٍ حول قُطب، وإذا أردتُ بعد ذلك أن أقابلَ بين أنصافِ قُطرِ الدائرةِ ضَحِك إميلُ منِّي وأراني أن عينَ الخيطِ المشدودِ دائمًا لا يُمكن أن يَرسُم مسافاتٍ متفاوتة.

وإذا أردتُ قياسَ زاويةٍ ذاتِ ستين درجةً رسمتُ من رأسِ هذه الزاويةِ دائرةً بكاملها لا قوسًا؛ وذلك لأنه لا ينبغي أن يُضمَن للأولاد شيء، وأجِدُ أن جزءَ الدائرةِ الواقعَ بين ضِلعي الزاوية هو سُدسُ الدائرة، وأرسُم من ذاتِ الرأس بعد ذلك دائرةً أكبرَ من تلك وأجِدُ أن هذه القوسَ الثانيةَ هي سُدُس دائرتها أيضًا، وأرسم دائرةً ثالثةً مشتركةَ المركزِ وأقومُ عليها بذاتِ التجرِبة، وأداومُ على عينِ الاختبارِ في دوائرَ جديدةٍ إلى أن يغتاظَ إميلُ من غباوتي فيُخبرَني بأن كلَّ قوس، صغيرةٍ أو كبيرة، تشتمل عليها ذاتُ الزاويةِ تكون الجزءَ السادسَ من دائرتها … إلخ. وها نحن أولاء نستعمل المِنْقلةَ الهندسيةَ عما قليل.

وتُرسَمُ دائرةٌ لإثباتِ كونِ الزاويتَين المتجاورتَين مساويتَين لزاويتَين قائمتَين، وأمَّا أنا فأصْنع على العكس ما يلاحِظُ إميلُ به هذا في الدائرة أوَّلًا، ثُمَّ أقول له: «إذا ما أزلنا الدائرةَ وتركنا الخطوطَ المستقيمة، فهل تُبدِّل الزاويتان حجمَهما … إلخ؟»

وتُهمَل الدقةُ في الأشكالِ لافتراضها، ويُعنَى بالإثبات، وعلى العكسِ لا نبالي بالإثبات، وسيكون أهمُّ شيءٍ عندنا أن نرسمَ خطوطًا مستقيمةً جِدًّا دقيقةً جِدًّا متساويةً جِدًّا، وأن نصنعَ مُربَّعًا كاملًا جدًّا، وأن نُخطِّطَ دائرةً حسنةَ الاستدارة، وسندرُس الشكلَ بجميعِ خاصِّيَّاته المحسوسة تحقيقًا لدقَّته، وسيُتيح لنا هذا فرصةَ اكتشافِ خصائصَ جديدةٍ كلَّ يوم، وسنَثْني نصفَي الدائرة من القُطْر، وسنَثني نصفَي المربع من الزاويتَين المتقابلتَين، وسنقابلُ بين الشكلين لنرى أيُّهما أدقُّ أطرافًا؛ ومِنْ ثَمَّ أتقنُ صُنعًا، وسنتباحثُ حوْل وجودِ هذه المساواةِ في التقسيمِ في المسطحاتِ المتوازيةِ الأضلاعِ والمربعاتِ المنحرفة … إلخ، دائمًا أوْ لَا، وسنحاولُ أحيانًا أن نُبصرَ نجاحَ التجرِبة قبْل القيامِ بها، وسنسعى في اكتشافِ الأسباب … إلخ.

وليس علمُ الهندسةِ عند تلميذي غيرَ حُسنِ استخدامِ المسطرةِ والبيكار، ولا ينبغي له أن يَخلِطَ بينه وبين الرسمِ حيث لا يَستعملُ من هاتَين الآلتَين هذه ولا تلك، فسيُقفَل على المِسطرة والبيكار بالمفتاح، ولن يُؤذن له في استعمالها إلا نادرًا ولوقتٍ قصير، وذلك لكيلا يتعوَّد إساءةَ التصوير، ولكننا نستطيع أن نحملَ أشكالنا في نُزَهِنا أحيانًا لنتكلم عمَّا صنعناه وعمَّا نريد صُنْعَه.

ولن أنسى أنني شاهدتُ فتًى في تُورِين عُلِّمَ في صباه ما بين الاستداراتِ والسطوحِ من نِسَب، وذلك بأن يُترَك له كلَّ يومٍ أن يختارَ من الأشكالِ الهندسيةِ ما تساوت استدارتُه طولًا، وقد استنفدَ هذا النَّهِمُ الصغيرُ فنَّ أرشميدسَ لِيجدَ الشكلَ الذي كان يوجَدُ فيه أكثرُ ما يُؤكَل.

ومتى أطار الولد طيَّارةَ ورقٍ مَرَّن عينَه وذراعَه على الإحكام، ومتى ساطَ خُذْرُوفًا زادَ قُوَّته باستعمالها، ولكن من غيرِ أن يتعلَّم شيئًا. وقد سألتُ في بعضِ المراتِ عن السببِ في أنه لم يُعرَض على الأولادِ من الألعابِ القائمةِ على البراعةِ كالتي يقوم بها الرجال، كالتِّنس والصولجان والبِلْيار والنَّبْل والكُرَة وآلات الطرب، وقد أُجبت بأن بعضَ هذه الألعابِ فوقَ قُواهم، وبأن أعضاءهم وحواسَّهم ليست من النموِّ ما تَقوم معه ببعضها الآخر. وأجِدُ هذه الأسبابَ واهية؛ فليس للولدِ قامةُ الرَّجلِ ولكنه يَلبَس مِثل ثوبه. ولا أعني أن يلعبَ بقضباننا بليارًا بالغًا من الارتفاعِ ثلاثَ أقدام، ولا أقْصِدُ أن يَلْعب بالكُرة في ملاعبنا، أو أن تُحمَّل يدُه الصغيرةُ مِضْربًا من مضاربنا، وإنما أريد أن يلعبَ في رَدْهةٍ تُضمَن نوافذُها، فلا يَسْتعمل في البُداءةِ غيرَ كراتٍ رَخْوة، وتكون مضاربُه الأُولى من خَشَبٍ ثُمَّ من رَقٍّ ثُمَّ من وتَرٍ من الأمعاءِ مشدودٍ بنسبةِ تَقدُّمه، وتُفَضِّلون الطيارةَ الورقيةَ لأنها أقلُّ إتعابًا ولا تنطوي على خَطَر، ولستم على حقٍّ في هذين السببين؛ فالطيارة الورقية من ألعاب النساء، ولكنك لا تجدُ من النساء مَنْ لم تَفِرَّ من كُرَةٍ متحركة، ولا ينبغي لجلودهن البِيضِ أن تَخْشُن بالرَّض، ولا تنتظر وجوههن جروحًا. وأمَّا نحن، الذين خُلِقوا ليكونوا أقوياء، فهل نكون هكذا بلا مشقة؟ وأيُّ دفاعٍ نَقدِرُ عليه إذا لم نُهاجَم قَط؟ يقوم النَّاسُ دائمًا بألعابٍ لا ينطوي الخطأ فيها على خطر، ولا تُؤذي الطيارةُ التي تَسقطُ أحدًا، ولكن لا شيءَ يجعل الذُّرعانَ لينةً كحفظِ الرأس، ولا شيءَ يجعلُ البصرَ صائبًا كضمانِ العيون. وألعابٌ كالوثُوبِ من طَرَفِ رَدْهةٍ إلى طَرَفِها الآخرِ وكتقديرِ نَطَّةِ كُرَةٍ لا تزال في الهواء وإعادتِها بيدٍ قويةٍ وطيدةٍ؛ أقلُّ ملاءمةً للرَّجلِ من صَلاحِها لتكوينه.

ويُقال إن أليافَ الولدِ رَخوَةٌ جِدًّا، وهي أقلُّ قوَّةً مما لدى الرجل، ولكنها أكثرُ مرونة، وذراعُ الولدِ ضعيفة، ولكنها ذراعٌ في آخرِ الأمر، ويجب أن يُصنَعَ بها مع حفْظِ النِّسبةِ كلُّ ما يُصنَع بآلةٍ مماثلةٍ أخرى، ولا يوجدُ للأولادِ في أيديهم أيُّ حِذْقٍ كان؛ ولذا فإنني أريد منحَهم إياه، وليس عند الرجلِ القليلِ التدريبِ أكثرُ مما عندهم، ولا نستطيعُ أن نعرِفَ عادةَ أعضائنا قبْل استعمالها، ولا يوجدُ غيرُ تجرِبةٍ طويلةٍ واحدةٍ نتعلَّم بها الانتفاعَ بأنفسنا، وهذه التجرِبةُ هي الدرسُ الحقيقيُّ الذي لا يمكننا أن نُقبِل عليه باكرًا.

وكلُّ ما يُصنَع ممكنٌ صُنْعُه، والواقعُ أنه لا شيءَ أكثرُ شيوعًا من أن يُرَى أولادٌ مهرةٌ رَشَقٌ حائزون في أعضائهم عينَ الرَّشاقةِ التي يُمكن أن تكون في الرَّجل. ويُشاهَدُ في جميعِ الأسواقِ تقريبًا من الأولادِ مَن يَرتجحون ويمشون على أيديهم ويَقْفِزون ويرقُصون على الحبل، وما أكثرَ السِّنين التي اجتذبت فيها كتائبُ من الأولاد بِرَقَصَاتِها الرمزيةِ جُموعًا من حُضَّارِ الكُمِدْيةِ الإيطالية! ومَن ذا الذي لم يسمعْ في ألمانية وإيطالية حديثًا عن كتيبةِ التمثيلِ بالإشاراتِ لنِيكوليني الشهير؟ وهل لاحظ أحدٌ في هؤلاء الأولادِ حركاتٍ أقلَّ نشوءًا، وأوضاعًا أقلَّ ظرافةً، وآذانًا أقلَّ سدادًا، ورقصًا أقلَّ خفةً، مما في الراقصين الكاملي التدريب؟ ولْتَكُن الأصابعُ ثخينةً قصيرةً قليلةَ الحركةِ في البُداءة، ولْتَكن الأيدي سمينةً قليلةَ القدرةِ على الإمساك، فهل يمنَعُ هذا أولادًا كثيرين من الكتابةِ أو الرسمِ في سنٍّ لا يَعْرِف آخرون فيها إمساكَ اليَرَاعِ أو القلمِ الرَّصاصي؟ ولا تزالُ باريسُ بأسْرِها تَذكُرُ أمرَ البُنَيَّةِ الإنكليزيةِ التي كانت تأتي بالعجائب على البِيَان،٣٤ وقد رأيت في منزلِ حاكمٍ ابنًا له بالغًا من العُمُر ثماني سنين كان يُوضَع على المائدةِ فيبدُو كالتمثالِ بين الأطباق، فيعزِف على كَمانٍ يَعدِل حجْمَه تقريبًا، ويقضي حتى المتفننون العجبَ من إيقاعه.

وتُثبِتُ هذه الأمثلةُ ومائةُ ألفِ مثالٍ مماثلٍ أن ما يُعْزَى إلى الأولادِ من عدم أهليةٍ مفروضةٍ في تمريناتنا أمرٌ خياليٌّ كما يلوح لي، وأن النجاحَ إذا لم يُكتَب لهم في بعضها كان هذا نتيجةَ عدمِ تدريبهم على ذلك مطلقًا.

وسيُقال لي إنني أقَعُ هنا من حيث البَدنُ فيما أُنحِي باللائمةِ عليه من خطأٍ في تثقيفِ ذهنِ الأولادِ قبْل الأوان، والفرقُ عظيمٌ جِدًّا؛ وذلك لأن أحدَ هذين التقدمَيْن ليس غيرَ ظاهرٍ مع أن الآخرَ حقيقي، وقد أثبتُّ أنهم غيرُ حائزين للذهن الذي يَلُوح أنهم حائزوه، مع أنهم يَفعَلون جميعَ ما يَظهَرُ أنهم فاعلوه، ثُمَّ إن من الواجب أن يُذكَر دائمًا أنه لا يجوزُ أن يكونَ جميعُ هذا غيرَ ما تطالبهم به الطبيعةُ من تسهيلِ الحركاتِ وتوجيهها طَوْعًا، غيرَ فَنِّ تحويلِ أُلهُوَّاتِهم إلى ما هو أحلى منها، وذلك من غيرِ أن يحوِّلها أيُّ ضَغْطٍ إلى عمل، وذلك مع السؤالِ أخيرًا: أيُّ شيءٍ لا يَتَلَهَّون به، فلمْ أقْدِرْ أن أجعلَه موضعَ مَعْرِفةٍ لهم؟ حتى إنني عند عدمِ استطاعتي صُنْعَ هذا لا يكون تقدُّمهم في المعرفةِ مهمًّا كثيرًا في الزَّمن الراهن ما داموا يتلهَّون بلا ضررٍ ويَقْضُون أوقاتهم مَرِحين، وذلك بدلًا من أنه إذا ما قضت الضرورةُ أن يتعلموا هذا أو ذاك عند كلِّ مناسبةٍ كان من المتعذَّر بلوغُ هذا أو ذاك من غيرِ إكراهٍ وكَدَر وضَجَر.

وما قُلْته عن الحاسَّتَين اللتَين لهما من الاستعمالِ ما هو أدومُ وأتمُّ يُمكِن أن يُتَّخَذَ مثالًا للوجهِ الذي تُمارَس به الحواسُّ الأخرى، وتَسْري الباصرةُ واللامسةُ على الأجسامِ الساكنةِ والأجسامِ المتحركةِ على السواء، ولكن بما أنه لا يوجدُ غيرُ اهتزازِ الهواء ما يَقْدِر على التأثيرِ في حاسةِ السمعِ؛ فإنه لا يوجدُ غيرُ الجسمِ المتحركِ ما يُحدِث ضوضاءَ وصوتًا، فإذا كان كلُّ شيء ساكنًا لم نَسمعْ شيئًا مطلقًا. وفي الليل؛ حيث لا نتحرَّكُ إلا بمقدارِ ما تروقنا الحركة؛ لا نخشى إذَنْ غيرَ الأجسامِ التي تتحرَّك، فمنِ المهم أن تكونَ لنا آذانٌ مرهفة، فنستطيعَ أن نحكمَ بالإحساسِ الذي يَقرَعُنا في كونِ الجسمِ الذي يُوجبه كبيرًا أو صغيرًا، بعيدًا أو قريبًا، وفي كوْنِ اهتزازه عنيفًا أو ضعيفًا، ويكون الهواءُ المهتزُّ عُرضةً لانعكاساتٍ تُردِّده، وهذه الانعكاساتُ إذ تُحدِث أصداء، تُكرِّرُ الإحساسَ وتجعلنا نسمعُ الجسمَ الصَّخَّابَ أو الرنَّانَ في مكانٍ غيرِ المكانِ الذي يكون فيه، وإذا ما وضعنا الأُذنَ على الأرضِ في سَهلٍ أو وادٍ سمعنا صوتَ رجالٍ أو خطوَ خيلٍ أبعدَ كثيرًا مما يكون لو بَقِينا واقفين.

وكما أننا قابلنا بين الباصرةِ واللامسةِ كان من الحَسَنِ أن نُقابلَ بين الباصرةِ وحاسةِ السمع، وأن نرى أيُّ الأثَرَيْن يَصِلُ بأسرعَ من الآخرِ إلى عُضوه إذا ما صَدَرا عن ذاتِ الجسم معًا، ومتى رأينا نارَ مِدْفعٍ أمكننا اتقاءُ الضربة، ولكنْ متى سمعنا صوتَه عاد لا يكونُ من الوقتِ ما يُمكن ذلك معه، فالقذيفةُ تكون قد وصلت. ومن الممكن أن يُحكَم في المسافةِ عند وقوعِ الرعدِ بفترةِ الزَّمن الذي ينقضي بين البَريقِ والهزيم، فاصنعوا ما يَعْرِف الولدُ به جميعَ هذه التجارِب، وليأتِ من التجارِبِ ما يكون في متناوَله، وليَجِد الأخرى باستقرائه، بَيْدَ أنني أُفضِّل مائةَ مرةٍ جهلَه لها على أن تقولوها له.

ولدينا عضوٌ يجاوبُ حاسَّة السمع؛ أي عضو الصوت، وليس لدينا من الأعضاء ما يُجاوب حاسةَ البصر، فلا نُردِّد الألوانَ كما نُردِّد الأصوات، ثُمَّ إن هذه وسيلةٌ لِتَعَهُّدِ حاسةِ السَّمْعِ بتمرينِ العُضو الفاعلِ والعُضوِ المُنْفعل مبادلة.

وللإنسان ثلاثةُ أنواعٍ من الأصوات، وهي: الصوت المتكلِّم أو الناطق، والصوت المغنِّي أو المطرِب، والصوت العاطفي أو المعبِّر، ويَصْلح هذا الأخيرُ لسانًا للأهواء مُحرِّكًا للشدو والكلام. وللولدِ هذه الأنواعُ الثلاثةُ من الصوتِ كما للرجل، وذلك من غيرِ أن يَعْرِف مَزْجَ ما بينها، وللولدِ ما عندنا من الضَّحِك والصُّراخ والتوجُّع والنِّداء والأنين، ولكنه لا يَعْرِف أن يمزُجَ بين هذه الإمالاتِ والصوتَين الآخرين. وليست الموسيقا الكاملةُ غيرَ التي تؤلِّف بأحسنِ ما يُمْكِن بين هذه الأصواتِ الثلاثة، ويَعجِزُ الأولادُ عن هذه الموسيقا، وليس لِغنائهم روحٌ مُطلَقًا، وكذلك في الصوتِ المتكلم لا تجدُ للسانهم نَبَراتٍ. وهم يَصرخون، ولكنْ لا يَنْبِرون. وكما أنه لا يوجدُ في كلامِهم نَبْرَةٌ إلا نادرًا يَندُرُ وجودُ قوةٍ في صوتهم. وسيكون كلامُ تلميذنا أكثرَ توحيدًا وأعظمَ بساطةً أيضًا؛ وذلك لأن أهواءه لا تَمزُج لسانَها بلسانِه عن عدمِ تَنبُّه؛ ولِذا لا تَحْمِلوه على تلاوةِ أدوارٍ عن ظهْرِ القلب من مأساةٍ أو كُمِدْيَة، ولا تَرغَبوا في تعليمه الإنشاد، فلا بُدَّ له من حِسٍّ بالغٍ حتى يُنعِم بصوتٍ على أمورٍ لا يُدرِكُها، وبنَبْرَةٍ على مشاعرَ لا يُحِسُّها مُطلَقًا.

وعلِّموه الكلامَ بسيطًا واضحًا، واللفظَ جليًّا جيِّدًا، والنُّطقَ مُحْكَمًا بعيدًا من التكلُّف، وعلِّموه معرفةَ الحركاتِ النحوية ووضْعَ الكلماتِ في مواضعها، وأن يُخْرِجَ من الأصواتِ ما يكفي للسماعِ دائمًا، لا أن يُخْرِجَ منها أعلى مما يجب؛ أي أن يجتنب هذا العيبَ الشائعَ بين الأولادِ الذين نُشِّئوا في المدارس، فلا يجوز وجودُ ما هو زائدٌ في أيِّ شيءٍ كان.

وكذلك في الغِناء اجعَلوا صوتَه مُحكَمًا سَهْلًا ليِّنًا ذا رنين، فتكون أُذُنه مرهفةً في الوزنِ والانسجامِ لا غير، ولا تُلائم الموسيقا التقليديةُ والتمثيليةُ سِنَّه، حتى إنني لا أُريد أن يُغنِّي بالكلام، وهو إذا ما أراد أن يُغنِّي حاولتُ أن أضعَ له أغانيَ مقصودةً ملائمةً لعُمُرهِ بسيطةً بساطةَ أفكاره.

وتَرَون أني قليلُ العَجَلةِ في تعليمه قراءةَ الخط، وليس غيرَ ذلك أمري في تعليمه قراءة الموسيقا، فَلْنُبْعِد من دماغِه كلَّ انتباهٍ شاق، ولا نستعجلْ تثبيتَ الإشارات الاصطلاحية في ذهنه. وأعترفُ بأن لهذا صعوبتَه كما يلوح؛ وذلك لأن معرفةَ المجسَّدات إذا لم تَبْدُ في البُداءةِ أكثرَ لزومًا لمعرفةِ الغِناء من معرفةِ الحروفِ لمعرفةِ الكلام؛ فإنه يوجد — مع ذلك — ذلك الفرْقُ القائلُ إننا نُردِّد أفكارَنا الخاصةَ بالكلام، وإننا لا نُردِّد غيرَ أفكارِ الآخرين بالغِناء، والواقعُ أنه لا بدَّ من قراءتها لترديدها.

ولكنَّ أولَ ما يُقال إنها تُسمَع قبْل أن تُقرَأ، وإن الغِناء يُردَّدُ في الأذنِ بأصدقَ مما في العين، ثُمَّ إنه لا يكفي ترديدُ الموسيقا لمعرفتِها جيِّدًا، بل يجب تأليفُها، ويجب تعلُّمُ الأمرين معًا، وإن لم يَحْدُث هذا لم تُعرَف الموسيقا قَط. وفي البُداءةِ مَرِّنوا موسيقيَّكم الصغيرَ على وَضْعِ عباراتٍ منتظمةٍ حسنةِ الإيقاع، ثُمَّ مرِّنوه على رَبْطِ ما بينها بلحنٍ بسيطٍ جِدًّا، وأخيرًا مرِّنوه على تعيينِ ما بينها من علائقَ مختلفةٍ بترقيمٍ صحيح، وهذا يكون بحُسنِ اختيارِ المَحَاطِّ والسَّكَنَات. وإياكم والغِناءَ الغريبَ على الخصوص، وإياكم والشجوياتِ والتعبيرات؛ فاللحْنُ الشادِي البسيط دائمًا، واللحن المشتقُّ من أوتارِ النغمِ الجوهرية دائمًا، يبلُغ من الدلالة على أداته دائمًا ما يُشعَرُ به ويُصاحَبُ بلا مشقة، وذلك أن تدريبَ صوتِ الولدِ وأُذُنه يوجبان عدمَ غنائه بغيرِ البيانِ مطلقًا.

ويتطلَّبُ تعيينُ الألحانِ جيِّدًا أن تُلفَظ واضحةً حين النطق بها؛ ومِنْ ثَمَّ أتت عادةُ التنغيم ببعض المقاطع، ويتطلب تمييزُ الدرجاتِ إطلاقَ أسماءٍ على هذه الدرجات وعلى حدودِها المختلفةِ الثابتة، ومن هنا جاءت أسماءُ الفواصلِ كما جاءت أيضًا حروفُ الأبجديةِ التي تُمازُ بها مفاتيحُ البِيَانِ ومُجَسَّدات السُّلم، ويُعَيِّن C وA ألحانًا ثابتةً تُرَدَّدُ دائمًا بعينِ المفاتيح، وغيرُ ذلك أمرُ ut وLa، فأمَّا ut فهو على الدوامِ أساسُ السُّلَّمِ الأكبر، أو وسيطُ السُّلَّمِ الأصغر، وأمَّا La فهو على الدوامِ أساسُ السُّلَّمِ الأصغرِ أو المُجسَّدةُ السادسةُ للسُّلَّمِ الأكبر. وهكذا فإن الحروفَ تَميزُ الحدودَ الثابتةَ لنِسَب منهاجنا الموسيقي، وإن المقاطع تَميزُ الحدودَ المتناظرةَ لِمَا تشابه من النِّسَب في مختلف الألحان، وتَميزُ الحروفُ مفاتيحَ البِيَان، وتَميزُ المقاطعُ درجاتِ السُّلَّم. وقد خَلط موسيقيُّو فرنسة بين هذه الفروقِ خلطًا غريبًا؛ فلم يُفرِّقوا بين معنى المقاطعِ ومعنى الحروف، وهم إذ ضاعفوا إشاراتِ المفاتيحِ على غيرِ جدوى، لم يَدَعوا من ذلك قَطُّ ما يُعبَّر به عن أوتارِ اللحن. وهكذا فإن ut وC عندهم شيءٌ واحد، وليس الأمرُ هكذا، ولا يجوز أن يكونَ هكذا، وإلَّا فما يكون استعمالُ C؟ وكذلك فإن طريقتَهم في التنغيمِ كثيرةُ الصعوبةِ من غيرِ أن تكونَ لها أيةُ فائدة، ومن غيرِ أن تَحمِلَ للذهنِ أيةَ فكرةٍ واضحة، ما أمكن أن يَدُلَّ المقطعان ut وmi على الثالثِ الأكبرِ أو الثالثِ الأصغرِ أو الثالثِ الزائدِ أو الثالثِ الناقص. ويا له من نصيبٍ عجيبٍ أن يكون هذا البلدُ العالميُّ الذي تُوضَعُ فيه أروعُ كتب الموسيقا عينَ البلدِ الذي يبدو أصعبَ ما تُعَلَّم فيه ضَبْطًا!
ولْنتَّبِعْ مع تلميذنا طريقًا أكثرَ بساطةً وأشدَّ وضوحًا، فلا يكون له غيرُ سُلَّمين ذواتي نِسَبٍ واحدةٍ بينهما دائمًا، فيُشار إليهما بعينِ المقاطعِ دائمًا. وسواءٌ أغنَّى أم عَزَف على آلةٍ كان الرأي أن يَعْرِف إقامةَ سُلَّمه على كلِّ واحدٍ من الألحان الاثني عشر التي يُمكِنه الانتفاعُ بها أساسًا. وسواء ألَحَّنَ على D أم على C أم على G … إلخ، كان الرأي أن تكونَ النهايةُ La أو ut وَفْقَ السُّلَّم. وهكذا فإنه يُدْرِك مقصِدَكم دائمًا، وستكون نِسَبُ السُّلَّمِ الجوهريةُ للغِناء والعزف كما ينبغي حاضرةً في ذهنه دائمًا، وسيكون إنجازُه أكثرَ وضوحًا وتقدُّمُه أكثرَ سرعة. ولا يوجدُ ما هو أغربُ مما يَدْعُوه الفرنسيون بالتنغيمِ الطبيعي، وذلك لقيامه على إقصاء ما ينطوي عليه الشيء من أفكار، واستبدالنا بها أفكارًا غريبةً لا تؤدي إلى غيرِ الإغواء، ولا شيءَ أقربُ إلى الطبيعةِ من التنغيمِ عن تغييرٍ في اللحنِ عند تغييرِ السُّلَّم. ولقد تكلمت عن الموسيقا بما يزيدُ على الكفاية، فعلِّموها كما تشاءون، ولكنْ على ألَّا تَعْدُوَ حدَّ الأُلهُوَّة على الإطلاق.

وها نحن أولاء قد اطَّلعنا جيِّدًا على حالِ الأجسامِ الغريبةِ عن جسمنا وعلى وزنها وشكلِها ولونِها ومتانتِها وجَسامتِها ومسافتِها وحرارتِها وسكونِها وحركتِها، وقد عرفنا أيُّ الأجسامِ يلائمنا أن ندنوَ منه أو نبتعدَ عنه، وذلك على الوجهِ الذي يجب علينا أن نتخذَ به من الوضعِ لكسرِ مقاومته، أو لإبدائنا نحوَه من المقاومةِ ما نَقي به أنفسَنا من أذاه. ولكن هذا ليس كافيًا؛ فبدَنُنا يَضْنى بلا انقطاع، فيحتاج إلى تجديدٍ دائمًا، وعلى ما لدينا من قدرةٍ على تغييرِنا موادَّ أخرى في عنصرنا الخاص؛ فإن خيارَنا ليس من الأمورِ التي لا يُؤبه لها. وليس كلُّ شيءٍ غذاءً عند الإنسان، ولا يوجد بين ما يُمكِن أن يكون غِذاءً من الموادِّ ما يلائمه على السواء، وذلك على حَسَبِ تركيبِ عِرْقه، وعلى حَسَبِ الإقليمِ الذي يعيش فيه، وعلى حَسَبِ مِزاجِه الخاص، وعلى حَسَبِ طِرازِ حياتِه الذي يقتضيه حالُه.

ولو وجبَ لاختيار الأغذيةِ التي تلائمنا أن ننتظرَ تعليمَ التجرِبةِ إيانا أن نَعرِفها وأن نَنْتخبها؛ لَهلكنا جائعين أو مسمومين، غير أن اللطيفَ الأعلى الذي جَعَلَ من لذَّةِ الموجوداتِ الحسَّاسةِ وسيلةَ بقائها قد أنبأنا بما يَروقُ حاسَّةَ ذوقِنا ما يلائم مَعِدَتنا، ومن الطبيعي ألَّا يوجدَ للإنسانِ طبيبٌ أضمنُ من شهوةِ الطعامِ الخاصةِ فيه، ولا أشكُّ في أن الإنسانَ في حالتِه الابتدائيةِ كان يَجدُ في ألذِّ الأطعمةِ أكثرَها نفعًا للصحة.

ويوجد ما هو أكثرُ من ذاك، وذلك أن صانعَ البَرَايا لم يَقْضِ ما جَعل فينا من احتياجاتٍ فقط، بل قَضى ما جَعلناه لأنفسنا أيضًا، وهو — لكي نضعَ الرغبةَ بجانبِ الحاجةِ — قد جعل طُعومنا تتغيَّر وتَفْسُدُ مع طُرُزِ حياتنا، وكلَّما ابتعدنا عن حالِ الطبيعةِ فَقَدْنا طُعومَنا الطبيعية، وإن شئت فقُل إن العادةَ تجعل لنا طبيعةً ثانيةً نَبلُغ من إقامتِها مقامَ الأُولى ما لا تَجِدُ معه أحدًا مِنَّا يَعرِفُ غيرَها.

ومِنْ ثَمَّ يُرَى أن أقربَ الطُّعومِ إلى الطبيعةِ هي التي يجب أن تكونَ أكثرَها بساطة؛ وذلك لأنها أسهلُ ما يَتحوَّل، وذلك بدلًا من أن تتخذ شكلًا لا يتغيَّر أبدًا بما يكون من شحْذِها وإثارتِها بأهوائنا. والإنسانُ الذي لم يتكيَّف ببلدٍ بعدُ ينتحِلُ عاداتِ أي بلدٍ كان بلا مشقة، ولكن الإنسان الذي هو من بلدٍ لا يعود ابنًا لبلدٍ آخر.

ويَلوح لي هذا صحيحًا بالنسبةِ إلى جميعِ الحواس، وأكثرُ من هذا أيضًا عند تطبيقه على حاسَّة الذَّوق حصْرًا. واللَّبنُ هو غذاؤنا الأوَّل، ولا نتعود الطُّعومَ القويةَ إلا بالتدريج، وتَكرهها نفوسُنا في البُداءة، وكانت ولائمُ الأوَّلين٣٥ تقوم على الفواكهِ والخُضَرِ والأعشاب، وأخيرًا على بعضِ اللحوم المشوية بلا تابلٍ ولا مِلْحٍ. وقطَّب الهمجيُّ عندما شَرِب الخمرَ لأوَّل مرة ورَماها، حتى إنه إذا وُجِدَ بيننا مَن عاش حتى العشرين من عُمُره من غيرِ أن يذوقَ السوائلَ المختمرةَ عاد لا يستطيع تعوُّدَها، ونكون كلُّنا من الزاهدين في الخمرِ إذا لم تُقدَّم إلينا في صِبانا. ثُمَّ إن طعومَنا كلَّما كانت بسيطةً بدت عامة، وتقَع أعمُّ كراهياتِنا على الأطعمةِ المركَّبة، وهل شاهدتم أحدًا يكره الماءَ والخبز؟ هذا هو أثرُ الطبيعة، وهذا هو نظامُنا إذن، ولْنحفظْ للولدِ ذوقَه الفطري ما أمكن، ولْيكن غذاؤه عاديًّا بسيطًا، ولا تَعتَدْ حاسَّةُ ذوقِه غيرَ الطُّعوم المعلَّلة قليلًا، ولا نَدعه يكون ذا ذوقٍ نمطيٍّ حصْرًا.

ولا أبحثُ هنا في هلْ هذا الطرازُ من العيشِ أصلحُ للصحة أو لا، فلا أنظرُ إلى الأمرِ من هذه الناحية، وإنما يكفيني أن أعرِف لتفضيلِه أنه أكثرُ ما يلائم الطبيعةَ وأنه أسهلُ ما يتكيَّف مع جميعِ الطُّرُزِ الأخرى. ويَظهر لي أن من غيرِ الصواب ذَهابَ بعضِهم إلى وجوبِ تعويدِ الأولادِ أطعمةً يتناولونها إذا ما كَبِروا، ولِمَ يكونُ غذاؤهم هو إياه على حينِ يختلف طرازُ عيشِهم كثيرًا؟ يحتاجُ الرجلُ الذي نَهَكه العملُ والهمومُ والمشاقُّ إلى أطعمةٍ عُصارية تحمِل نشاطًا جديدًا إلى دماغه، ويحتاج الولد الذي يلهو وينمو جسمه إلى طعامٍ وافرٍ يورثه كثيرًا من الكَيلُوس. ثُمَّ إن الرجلَ النامي يكون قد قرَّر مهنته وشُغله ومنزله، ومَن ذا الذي يستطيع أن يطمئنَ إلى ما يخبِّئه القدَرُ للولد؟ ومهما يكن من أمرٍ فلا نُعطِه من الطِّباعِ المعينةِ ما يكلِّفه كثيرًا إذا ما أراد تغييره عند الضرورة، ولا نعمل ما يموت معه جوعًا في البلدان الأخرى إذا لم يَجُرَّ وراءه طاهيًا فرنسيًّا في كلِّ مكان، أو أن يقول ذاتَ يومٍ إن الإنسان لا يستطيع أن يأكل في غيرِ فرنسة، وهذا مدْحٌ مبهجٌ جاء عَرَضًا، وأمَّا أنا فأقول على العكس إنه لا يوجد غيرُ الفرنسيين مَن لا يَعْرِفون الأكل ما وَجَبَ وجودُ فنٍّ خاصٍّ تُجْعلُ الأطعمةُ به صالحةً للأكلِ عندهم.

والذائقةُ بين مختلفِ حواسِّنًا هي أكثرُ ما يؤثِّر فينا على العموم، وذلك أن مما نكترث له أكثرَ من سواه هو أن نحكمَ جيِّدًا في الموادِّ التي يجب أن تكون جزءًا من جوهرنا أكثرَ من أن تكونَه الموادُّ التي لا تعدو حدَّ اكتنافنا. ويوجد ألْفُ شيء لا تَكترث له اللامسةُ والسامعةُ والباصرة، ولكنك لا تجدُ شيئًا لا تأبهُ له الذائقة.

ثُمَّ إن فعْلَ هذه الحاسة بدنيٌّ ماديٌّ تمامًا، وهي الوحيدة التي لا تخاطب الخيالَ بشيء، أو التي هي أقلُّ ما يَدخُل الخيالُ في إحساساته، وذلك على حين يَدمغ التقليدُ والخيالُ أثرَ الحواسِّ الأخرى بطابعٍ أدبيٍّ غالبًا، وكذلك تؤثِّر حاسة الذوق تأثيرًا فاترًا في الأفئدة الرقيقة الشهَّاءة والطبائعِ الهاوية الحساسة حقًّا، مع أن الحواس الأخرى تحرِّكها بسهولة على العموم. ومع أنه يَلوح وضْعُ الذائقة دون الحواس الأخرى، ويُجعل الميلُ الذي يُسلِمنا إليها أدعى إلى الازدراء، فإنني على العكس أصِلُ إلى النتيجة القائلة إن أصلح وسيلة للسيطرة على الأولاد هي أن يُجلَبوا بأفواههم، ويُفضَّلُ عامل الشَّرَه على عامل الزهو خاصَّة، وذلك من حيث كونُ الأوَّل شهوةَ الطعام الطبيعية التابعة للذائقة رأسًا، ومن حيث كون الثاني من عمل الرأي التابع لهوى النَّاس ولضروب سوء الاستعمال. والشَّره هو هَوَى الصِّبا، ولا يقِف أمامَ هَوًى آخَر، ويتوارى عند أقلِّ منافسة. وَيْ! صدِّقوا قولي، إنَّ الولدَ لا يُعتِّم أن ينقطعَ عن التفكيرِ فيما يأكل، ومتى شُغل قلبُه كثيرًا عادت ذائقتُه لا تشغله مطلقًا، ومتى كبُر وَجَدَ ألفَ إحساسٍ صائلٍ يَحُلُّ محلَّ شَرَهِه، فلا يؤدي إلى غيرِ إثارة زهوه؛ وذلك لأن هذا الهوى الأخير وحدَه يتزوَّد من الأُخَرِ حتى يبتلعَها جميعًا. ومما بحثتُ فيه أحيانًا أمرُ هؤلاء الذين يُعْنَون بالأطعمة النفيسة، فلا يَحلُمون عندما يستيقظون بغيرِ ما يأكلون في نهارهم، ومنهم مَن وصفَ وليمةً بأدقَّ ممَّا صَنَعَ بُولِيبُ عن إحدى المعارك، وقد وجدتُ أن جميعَ هؤلاء الرجالِ المزعومين لم يكونوا غيرَ أولادٍ في الأربعين من عُمُرهم، خالين من النشاطِ عاطلين من الثبات؛ «فلسنا سوى رجالٍ مساكين.» والشَّرَه هو عيب القلوب الضعيفة، وتكون رُوح الشَّرِه في ذائقته، وهو لم يُخلَق إلا ليأكل، وهو من الغباوة والعجز ما تكون المائدة معه مكانَه الوحيد، وما تكون الأطباق معه محلَّ تفكيره الوحيد، ولْنَدَعْ له هذا العمل غيرَ آسِفِين؛ فهذا خيرٌ له ولنا.

ومن ضيقِ الذهن أن يُخشى تأصُّل الشَّرَه في ولدٍ قادرٍ على القيام بشيءٍ ما؛ ففي الوَلُودِية لا يُفكَّرُ في غير ما يُؤكل، وفي دَوْر الشباب يعود الولد غيرَ مُفكِّر في ذلك، وكلُّ طعامٍ صالحٌ عندنا، ولدينا أمورٌ كثيرةٌ أُخرى نُعنى بها، ولا أريد مع ذلك استعمالَ دافعٍ وضيعٍ على غير رصانة، ولا أن تدعموا بقطعةٍ لذيذةٍ شرفَ صُنْعِ عملٍ جميل. ولكن إذا كانت الوَلُودِية لَعِبًا ولهوًا فقط، أو وجب أن تكون هكذا، فإنني لا أرى السبب في عدم وجود جوائزَ ماديةٍ ومحسوسةٍ للتمرينات البدنية الصِّرفة. وإذا ما أَبصَرَ مايُورقِيٌّ صغيرٌ سَلَّةً على رأس شجرة فأسقطها بضربةِ مِقلاعٍ؛ أفلا يكون من الإنصاف أن يستفيد من ذلك فيتناول فُطورًا فاخرًا تعويضًا له من القوة التي يكون قد استعملها نَيلًا لها؟٣٦ وإذا ما استطاع شابٌّ إسبارطيٌّ أن يتسرَّب في مطبخٍ بمهارةٍ متمثِّلًا خَطَرَ مائةِ جلدةٍ فسرق منه جروَ ثعلبٍ حيًّا، ومضى به في ثوبه محتملًا خَدْشه وعضَّه وإدماءه، تاركًا إياه يمزِّق أحشاءه خشيةَ حيائه من مفاجأة، وذلك من غير أن يَزوي ما بين حاجبيه أو أن يرفع صوتًا؛ أفلا يكون من الإنصاف أن يستفيد من فريسته أخيرًا فيأكلها بعد أن أُكِل؟ لا ينبغي أن تكون الوجبة الفاخرة مكافأة، ولكن لِمَ لا تكون نتيجة جهودٍ بُذِلَت فوزًا بها؟ لا يَعُدُّ إميلُ قطعةَ الحلوى التي وضعتُها على الحجر جائزة عَدْوه جيِّدًا، وإنما يَعْرِف أن الوسيلة الوحيدة لحيازة هذه القطعة هو أن يَصِلَ إليها قبل غيره.

ولا يُناقِض هذا المبادئَ التي قدَّمتُها منذ هنيهة حوْل بساطة الأطعمة؛ وذلك لأن مداراةَ شهوةِ الطعام في الأولاد لا تَعني تهييج حساسيتهم، بل تعني قضاءها فقط، وهذا ما يُنال بأكثر الأشياء شيوعًا بين النَّاس إذا لم يُعمَل في ترقيق ذوقهم، وتُعَدُّ شهوةُ طعامهم الدائمة التي تُهيِّجها ضرورةُ النمو تتبيلًا ثابتًا يقوم فيهم مقامَ غيره من تتبيلٍ كثير، وما يكون من فواكهَ وألبانٍ وقِطَعٍ من الحلوى أدقَّ من الخبز الاعتيادي قليلًا، ولا سيَّما فنُّ توزيع جميع هذا باعتدال، أمورٌ تُساقُ بها جيوشٌ من الأولاد إلى أقصى العالَم من غير أن يُمنَحُوا ذوقًا للأطعمة القوية، ومن غير أن يُجازَف بإضعاف ذائقتهم.

ومن الأدلة على كون ذَوْق اللحم غيرَ طبيعيٍّ للإنسان عدمُ اكتراث الأولاد لهذا الطعام، وإجماعُهم على تفضيل الأغذية النباتية كالألبان والحَلاوَى والفواكه … إلخ. وكلُّ الأهمية في عدم إفساد هذا الذوقِ الفطري، وفي عدم جعْل الأولاد من الضواري مطلقًا. وإذا لم يكن هذا من أجْل صحتهم فليكن من أجل طباعهم؛ وذلك لأنه مهما يكن من وجهٍ لتفسير الاختبار فإن من الثابتِ كونَ كِبارِ أكَلَةِ اللحوم أقسى من غيرهم وأجْفى على العموم. وهذه المشاهدةُ صادقةٌ في كلِّ زمانٍ ومكان؛ فبربرية الإنكليز أمرٌ معروف،٣٧ وعلى العكس يُعدُّ الغُور أكثرَ النَّاس حِلمًا،٣٨ وجميع الهَمج قساة، ولا تَحْملهم طبائعُهم على أن يكونوا هكذا مطلقًا، وتأتيهم قسوتُهم من أطعمتهم، وهم يذهبون إلى الحرب كما يذهبون إلى الصيد، ويعاملون النَّاس كالدِّببة، حتى إن الجزَّارين لا تُقبَلُ شهادتهم في إنكلترة، وكذلك الجرَّاحون.٣٩ وتقسو قلوبُ أعظم الأشرار بشُرب الدم اقترافًا للقتل. ويَجْعل أُوميرسُ من السِّكْلُوب، الذين هم أَكلةُ لحم، أناسًا فُظَعاء، ويَجْعل من اللُّوتُوفاج٤٠ قومًا لطفاء بلغوا من الأُنس ما يَنسى الإنسان، إذا ما عاملهم، بلدَه معه ليعيش بينهم.

قال بلوتارك: «تسألني عن سبب امتناع فيثاغورس عن أكل لحم الحيوان، ولكنني أعود فأسألك من ناحيتي عن مقدار الشجاعة التي وَجَبَ وجودُها عند أوَّلِ إنسانٍ قَرَّب من فمِهِ لحمَ حيوانٍ مذبوحٍ وكَسَرَ عظْمَ حيوانٍ يقضي أجَلَه، وأَحْضرَ أمامَه أجسامَ أموات؛ أي جُثَثًا، والْتَهمَ في مَعِدَته أعضاءً كانت قُبَيْلَ ذلك تَثْغو وتَخور وتسير وتنظر، وكيف استطاعتْ يدُه أن تطعن بسكينٍ قلبَ موجودٍ حسَّاس؟ وكيف استطاعت عيناه أن تحتمِلَ منظرَ القتل؟ وكيف استطاع أن يشاهدَ ذبْحَ حيوانٍ مسكينٍ أعْزلَ وسَلْخَه وتقطيعَه؟ وكيف استطاع أن يُطيقَ مَرْأى لحومٍ مختلجة؟ وكيف لم يَقِئ من رائحتها؟ وكيف لم يتقزَّز ولم يشمئز ولم يأنف عندما أخذ يُقلِّب أدرانَ هذه الجروحِ ويُزيلُ الدمَ الأسودَ الخاثرَ الذي كان يُغطِّيها؟

كانت الجلود المسلوخة ممدودةً على الأرض، وكانت اللحوم تَعِجُّ على السَّفُّود،٤١ ولم يستطع الرجل أن يأكلها من غير أن يرتعش، ويسمع أنينها في بطنه.

ذلك ما وجب أن يكون قد تخيَّله وأحسَّه في المرة الأُولى التي قَهَرَ فيها الطبيعة إعدادًا لهذه الوجبة الفظيعة، في المرة الأُولى التي كان له فيها جوعُ حيوانٍ حي، فأراد أن يغتذي بحيوان لا يزال يرعى، فقال كيف يجب أن تُذبَح الشاة التي كانت تلحسُ يديه، فمِن أولئك الذين بدءوا هذه الولائم الجافية ما يجب أن يُدهَش، لا مِن الذين يتركونها، ثُمَّ إنه كان يُمكِن أولئك الأوائلَ أن يُسوِّغوا وحشيتهم بمعاذيرَ تُعْوِزُ وحشيتَنا، فيجعلنا عدمُ وجودِها برابرةً أكثرَ منهم مائة مرة.

أيْ أحِبَّاءَ الآلهةِ من النَّاس! سيقول لنا أولئك الأوائلُ من الآدميين: قابِلوا بين الأزمنة، وانظروا مقدارَ ما أنتم عليه من سعادةٍ ومقدارَ ما كُنَّا عليه من بؤس! لقد كانت الأرض التي تكونت حديثًا والهواء المشحون بالأبخرة غيرَ طائعَين لنظام الفصول بَعد، وكان مجرى الأنهار المتقلب يُخرِّب ضِفافها من كل ناحية، فتَغْمُر الغُدرانُ والبحيراتُ والمناقعُ العميقةُ ثلاثةَ أرباع وجه الدنيا، وكان الربعُ الآخرُ مستورًا بالأدغال والغابات غيرِ المثمرة، وكانت الأرض لا تُنتِج أيةَ ثمرات صالحة، ولم تكن لدينا أيةُ آلة للحِراثة، وكُنَّا نجهل فنَّ الانتفاع بها، وما كان وقتُ الحصاد لِيأتيَ مَن لم يَبذُروا شيئًا قَط. وهكذا كان الجوع لا يتركنا مطلقًا، وكان الطُّحْلب والقِشر طعامَنا العاديَّ في الشتاء، وكان بعضُ جذورِ العِكْرِش والخَلَنْج طعامَ مآدبَ عندنا، وكان النَّاس إذا ما استطاعوا أن يجدوا زُؤانًا وجَوْزًا أو بَلُّوطًا يرقصون طربًا حول سِنديانةٍ أو زانَةٍ على صوتِ بعض الأغاني الغليظة، داعينَ الأرضَ مُرضِعَهم وأمَّهم، وهنالك كان مِهْرجانُهم الوحيد، وتلك كانت ألعابُهم الوحيدة، وأمَّا بقيةُ الحياة البشرية فلم تكن غيرَ ألمٍ وتَعَبٍ وشقاء.

وأخيرًا، عند عدم تقديم الأرض الجرداء العارية شيئًا إلينا، كُنَّا نضطرُّ إلى مخالفة الطبيعة في سبيل بقائنا؛ فنأكل رفقاءَ شقائنا خشيةَ الهلاك معهم، ولكنْ من ذا الذي يُكرِهُكُم على سفك الدماء أيها الرجال القُساة؟ انظروا إلى الأموال التي تَدْفُق حوْلكم، وإلى مقدار ما تنتج الأرض من ثمرات، وإلى ما تُعطيكم الحقول والكروم إياه من ثروات، وإلى الحيوانات التي تُقدِّم إليكم ألبانًا لتغذيتكم وجِزَزًا لإلباسكم! وما تطلبون منها زيادةً على ذلك؟ وأيُّ سَورةِ غضبٍ تَحْمِلُكم على اقترافِ كثيرٍ من التقتيل مع أنكم مُشبَعون بالأموال طافحون بالأرزاق؟ ولِمَ تِكْذِبون على أُمِّكم الأرضِ متهمين إياها بالعجز عن إطعامكم؟ ولِم تُذنبون تجاه سِيرِسَ الواضعةِ للقوانين المقدَّسة وتجاه باخوسَ الظريف المُفرِّج عن النَّاس، وذلك كما لو كانت هِباتهما الوافرة غيرَ كافية لبقاء الجنس البشري؟ وكيف يَسمَحُ لكم قلبُكم بأن تَخْلِطوا ثمارَها الحلوة بعظامٍ على موائدكم، وأن تشربوا مع اللبن دمَ الحيوان الذي يعطيكم إياه؟ أجل، إن النمور والأسود التي تُطلِقون عليها اسم الضواري تَتْبع غريزتَها كَرْهًا، فتَقتُل الحيوانات الأخرى لتعيش، ولكنكم وأنتم أوحشُ منها مائةَ مرةٍ تكافحون الغريزةَ بلا ضرورةٍ انهماكًا في ملاذِّكم الجافية. وليست الحيوانات التي تأكلون من النوع الذي يأكل الأخرى، وأنتم لا تأكلون الضواري، بل تقلِّدونها، وأنتم لا تَبْدون جياعًا إلا تجاه الحيوانات البريئة الوديعة التي لا تؤذي أحدًا والتي ترتبط فيكم وتنفعكم، فتفترسونها مكافأةً لها على خِدَمها.

أيها القاتلُ خلافًا للطبيعة! إذا ما أصررتَ على زعْمِك أن الطبيعةَ صَنَعَتْك لِتفترس أمثالَك من الموجوداتِ ذاتِ اللحمِ والعظم، والحسَّاسةِ الحيةِ مثلَك، فاقضِ إذن على ما توحي به إليك من مقتٍ لتلك الأطعمة الكريهة، واقتل الحيوانات بنفسك؛ أي بيديك كما أقول؛ أي بلا آلاتٍ حديديةٍ ولا سواطير، ومزِّقها بأظفارك كما تَصنع الأسودُ والدببة، وعَضَّ هذه البقرةَ وقطِّعها إربًا إربًا، وأنْشِب أظفارك في جِلْدها، وكُلْ هذا الحَمَل حيًّا والتهم لحمَه دفيئًا، واشربْ رُوحَه مع دمه. أنت ترتعش! أنت لا تجرؤ أن تُحِسَّ لحمًا حيًّا يرتجف بين أسنانك! أيها الإنسان السيئ! أنت تبدأ بقتل الحيوان ثُمَّ تأكله، كأنك تجعله يموت مرتَين، ولا يكفي هذا، إنك لا تزال تشمئزُّ من اللحم الميت، ولا تُطيقُه أمعاؤك، فيجب أن يُحوَّل بالنار؛ أي أن يُسْلَق ويُشوَى ويُعلَّل بالتوابل التي يُنكَّرُ بها، ولا بدَّ لك من جزارِين وطُهاة وشوَّائين ومَن إليهم ممن يَنزعون منك مقتَ القتل ويعوِّدونك أجسامًا ميتةً حتى تُخدَعَ حاسةُ الذوق بهذا التنكير فلا تَلْفِظ ما هو غريبٌ عنها مطلقًا، متذوِّقةً مع اللذة جُثثًا يَشُقُّ على العين حتى منظرُها.»

ومع أن هذه القطعةَ غريبةٌ عن موضوعي، فإنني لم أستطع مقاومة ما ساورني من إغراءٍ بنقلها، وأظنُّ أن القليل من القرَّاء مَن يُنكِرُ عليَّ هذا.

ثُمَّ مهما يكُن من نظامٍ تمنحون الأولادَ إياه، ولكن مع تعويدهم الأطعمةَ الشائعة البسيطة فقط، فدَعُوهم يأكلونها، ودَعُوهم يَعْدُون ويَلْعَبون كما يروقهم، ثُمَّ ثِقوا بأنهم لن يأكلوا كثيرًا، ولن تكون عندهم تُخَمٌ قَط، ولكن إذا ما أجعتموهم نصف الوقت فوجدوا وسيلةً يُفلِتون بها من رقابتكم عَوَّضوا أنفسَهم من ذلك بما لديهم من قوة، فيأكلون حتى الطِّفاح، حتى الانفِزَار، ولا تُجاوِزُ شهوةُ الطعامِ حَدَّها فينا إلا لأننا نريدُ منْحَها قواعدَ غيرَ قواعدِ الطبيعة، وذلك مع دوامنا على الترتيب والتعيين والزيادة والنقصان، فلا نَصْنع شيئًا إلا والميزانُ في يدنا، ولكن هذا الميزان تابعٌ لأهوائنا لا لِمَعِدَتنا، وأعود إلى أمثلتي دائمًا، وترى خزائنَ الفواكه والخبز مفتوحةً عند القرويين، ولا يَعْرِف رجالُهم ولا أولادُهم ما التُّخَم.

وإذا حدث أن كان الولدُ أكولًا على الخصوص، وهذا ما يتعذَّر وقوعُه عند اتِّباع منهاجي على ما أعتقد، فإنه يَسهُلُ شَغلُه بأُلهُوَّات ملائمةٍ لذوقه، فيُنتهى إلى نَهْكِه بخَواءٍ من غير أن يَشعُر. وكيف يفُوت جميعَ المُعلِّمين مثلُ هذه الوسائل الثابتة السهلة جِدًّا؟ ورَوى هِيرودُتس أن مجاعةً كبيرةً ضربت أطنابها بين اللوديين، فعَنَّ لهم أن يخترعوا من الألعاب وغيرها من التسليات ما عَوَّضوا أنفسهم به من الجوع، فقضَوا أيَّامًا بكاملها من غير أن يُفكِّروا في الأكل.٤٢ ومن المحتمل أن قرأ مُعلِّموكم الفضلاء هذا الفصلَ من غير أن يَروا ما يُمكِن تطبيقه منه على الأولاد، وقد يقول لي بعضهم إن الولد لا يَترُك غداءه طوعًا في سبيل درسه. فيا أيها المُعلِّمون، إنكم على صواب، فلمْ أفكِّر في هذه الأُلْهوَّة.

ونسبة الشَّامَّة إلى الذائقة كنسبة الباصرة إلى اللامسة، فهي تسبقها، وهي تُخبِرُها بالوجه الذي يجب أن تتأثَّر به من هذه المادة أو تلك، وهي تُرغِّبُها فيها أو تُبعِدها منها، وذلك وَفْقَ الانطباع الذي يُتلقَّى عنها مقدَّمًا. ومما قيلَ لي إن للهمج شامَّةً تتأثر على غير ما تتأثَّر به شامَّتُنا، فيحكُمون على خلاف ما نحكم في الروائح الطيبة والروائح الكريهة. وأعتقد صحَّة هذا؛ وذلك أن الروائح في نفسِها أحاسيسُ ضعيفة، وهي تَهُزُّ الخيالَ أكثر من أن تَهُزَّ الحاسَّة، وهي لا تؤثِّر بما تمنح بمقدار تأثيرها بما تجعله يُنْتَظر. وإذا ما سُلِّمَ بهذا وُجِدَ أن أذواقَ فريقٍ إذْ تختلف بطراز عيشه عن أذواق الفريق الآخر، فإنه وَجَبَ أن تَجْعَل له أحكامًا في الأطعمة تختلف عن أحكام هذا اختلافًا كبيرًا، ومن ثمَّ في الروائح التي تُنبئُ بها، ومن ذلك أن التَّتَريَّ يتلذَّذُ بشمِّ مُعسكَرٍ نتنٍ بحصانٍ ميتٍ تلذُّذَ الصائدِ عندنا بحَجَلَةٍ نصفِ عَفِنَةٍ.

وكأن إحساساتِنا البطَّالة مُطيَّبَةٌ بأزهارِ حديقة، فيجب ألَّا يَشعُرَ بها مَن يَمشون كثيرًا حتى يرغبوا في النزهة، ومَن لا يعملون بما فيه الكفاية حتى تكونَ لديهم شهوةُ السكون، وما كان الجياعُ دائمًا ليجدوا لذَّةً بُعطُورٍ لا تَنِمُّ على ما يُؤكَل مُطلَقًا.

والشَّامَّة هي حاسةُ الخيال، وهي إذ تمنح الأعصابَ قوةً بالغةَ الشدةِ تؤثِّر في الدماغ كثيرًا لا ريب؛ ولذا فإنها تُوقِظُ المِزاجَ لوقتٍ وتُنْهِكه لزمنٍ طويل. وللشامَّة في الحُبِّ نتائجُ لا تُنكَر، وليس العِطر الناعم في غرفة الزينة شَرَكًا ضعيفًا بمقدار ما يُظَن، ولا أعْرِف هل يجب أن يُبارَك أو يُرثَى للرجل العاقل والقليل الانفعال الذي لا تجعله رائحةُ الزهور على صدرِ خليلته يختلج مطلقًا.

ولا ينبغي لحاسة الشم أن تكون إذن بالغةَ الفعل في الدَّوْر الأوَّل من العُمُر؛ حيث لا تُحرِّك الخيالَ غيرُ أهواءٍ قليلةٍ بَعْد، فلا يَتقبَّل تهييجًا. وحيث لا يكون هنالك من التجرِبة الكافية ما يُبصَرُ معه بحاسَّةٍ مقدَّمًا أمرٌ تَعِدُنا به حاسَّةٌ أخرى. وقد أيَّدَت المشاهدةُ هذه النتيجةَ تأييدًا تامًّا. ومن المُحقَّق أن حاسة الشم كليلةٌ بليدةٌ تقريبًا عند معظم الأولاد، لا عن كون الإحساس غيرَ دقيقٍ في الأولاد كما في الرجال، أو أكثر مما عندهم على ما يُحتمَل، بل عن كونهم لا يضيفون إليه أيَّ فكرٍ آخر، فلا يَسهُل تأثُّرهم بحسِّ لذَّةٍ أو ألم، فيكونون أقلَّ منه افتتانًا أو تأذيًا بذلك، وإني مع عدم خروجٍ عن ذاتِ الطريقة، ومن غير رجوعٍ إلى علم التشريح المقارَن بين الجنسين، أعتقد سهولةَ معرفةِ السبب في كون النساء أشدَّ تأثُّرًا بالروائح من الرجال على العموم.

ويُقال إن متوحشي كَنَدَة يُمعِنون في جعْل شامَّتهم دقيقةً إلى الغاية منذ دَوْر الصِّبَا، فيستغنون معه عن استخدام الكلاب في الصيد مع وجود كلابٍ عندهم، قائمين مقامَ الكلاب في ذلك بأنفسهم. ويُخيَّلُ إليَّ، كما هو الواقع، أن الأولاد إذا ما نُشِّئوا على شمِّ غدائهم كما يَشَمُّ الكلبُ الطريدةَ أمكنَ إحكامُ شامَّتهم بما يبلُغُون معه هذه الدرجة، ولكنني لا أرى في الأساسِ إمكانَ الحصولِ على عادةٍ كثيرةِ الفائدةِ من هذه الحاسة ما لم يَكُن ذلك لإطلاعهم على صِلاتها بحاسة الذوق. وقد عُنِيَت الطبيعةُ بحَملِنا على معرفة هذه الصلات، فجعلت عملَ هذه الحاسة الأخيرة غيرَ منفصلٍ عن عمل الأخرى، وذلك بجعلها عضويهما متجاورَين، ووضعها في الفم اتِّصالًا مباشرًا بين الاثنتَين، فلا نذوق شيئًا من غير أن نَشَمَّه. وإنما أريد عدمَ إفساد هذه الصلات الطبيعية خَدْعًا للولد، كأن يُخفَى طعمُ العلاج بطِيبٍ طيِّب، وبيان الأمر هو أن الحاسَّتَين من الاختلاف ما لا يُساء معه استعمالُهما، وبما أن الحاسة الأشد فعلًا تبتلع عمل الأخرى، فإن العلاج لا يُتناوَل بأقلَّ من ذاك تَقزُّزًا، ويمتدُّ هذا التقزُّزُ إلى جميع الإحساسات التي تَقْرعه في الوقت نفسه، ويستدعي الخيالُ عند أضعفِ إحساسٍ إحساسًا آخَر، ويعود أعذبُ عِطرٍ رائحةً كريهةً عنده، وهكذا فإن احتياطاتنا الطائشة تزيد مقدار الإحساسات المستكْرَهة على حساب الإحساسات المستعْذَبة.

وبَقيَ عليَّ أن أتكلم في الأبواب الآتية عن تَعهُّد حاسَّةٍ سادسةٍ تُدْعى الحاسةَ العامة؛ لأنها تنشأ عن استعمال الحواسِّ الأخرى استعمالًا منتظمًا أكثرَ من كونها مشتركةً بين جميع النَّاس، فتدلُّنا على طبيعة الأشياء بتزاحم ظوهر تلك الحواس، ومِنْ ثَمَّ لا يوجد لهذه الحاسة السادسة عضوٌ خاصٌّ مطلقًا، ولا تقيم هذه الحاسة بغير الدماغ، وَتُسَمَّى أحاسيسُها الباطنيةُ مَحضًا إدراكاتٍ أو أفكارًا، ويُقاسُ مدى معارفنا بعدد هذه الأفكار، ويصدُرُ سداد الرأي عن صفائها وجلائها، وما يُدعى العقلُ البشريُّ قائمٌ على فنِّ المقابلة بينها. وهكذا فإن ما أُسمِّيه العقلَ الحسَّاس أو الصَّبَوي يقوم على تكوينِ أفكارٍ بسيطة عن تزاحم كثير من الإحساسات، وهكذا فإن ما أسميه العقلَ الذهني أو البشري يقوم على تكوين أفكارٍ مركَّبة عن تزاحم كثيرٍ من الأفكار البسيطة.

وإني حين أفترض أن مِنْهاجي هو منهاج الطبيعة، وأني لم أُخطئ في تطبيقه، فإننا نكون قد أتينا بتلميذنا من خلال بلد الإحساسات، حتى حدود العقل الصبوي، وتكون الخُطوة الأُولى التي نجاوز بها هذه الحدودَ خُطوةَ رجل، ولكنْ دعنا نُلقِ نظرةً على الميدان الذي طُفْنا فيه قبل الدخول في هذا الميدان الجديد، ولكلِّ عُمُر، وإن شئت فقُل لكل دَورٍ في الحياة، كمالُه الملائم، نَضْجُه الخاص به، ونَسمع حديثًا عن الرجل النامي في الغالب، ولكن لننظر إلى الولد النامي، فسيكون هذا المنظرُ أكثرَ جِدَّةً علينا، ولا يكون أقلَّ قبولًا على ما يحتمل.

وتُعَدُّ حياةُ المخلوقات المتناهية من الهُزَال والضيق ما لا تَهزُّنا معه مطلقًا عندما لا نرى غيرَ ما هو كائن، والأوهام هي التي تُزيِّن الأشياءَ الحقيقية. وإذا كان الخيال لا يُضيف فُتُونًا إلى ما يَقف نظرنا، فإن اللذة الجديبة التي تتَّفق لنا تقتصر على العضو، وتَدَع الفؤادَ فاترًا. أجل، إن الأرض التي تَزَّيَّنُ بكنوز الخريف تَعْرِض ثروةً تُعْجَبُ بها العين، بَيْدَ أن هذا الإعجابَ غيرُ مؤثِّرٍ مطلقًا، وهو يَصْدُر عن التأمُّل أكثرَ من صدوره عن الإحساس، وفي الربيع لا يستر الأريافَ العاريةَ شيءٌ بَعْدُ تقريبًا، ولا تُقَدِّم الغابُ من الظلِّ شيئًا، ولا يبدو من الخُضْرَة غيرُ النَّبْت، ويتأثر القلب بمنظرها؛ فنحن إذ نرى بعث الطبيعة هكذا نشعر بانتعاشنا ويحيط بنا خيال اللذة، وتكون صواحبُ الشهوة هؤلاء، وتكون الدموعُ العَذْبة هذه، على أطراف أجفاننا، ولكن منظر القِطَاف مهما كان حيًّا نشيطًا لطيفًا لا يُسيلُ عَبْرة.

ولِمَ هذا الاختلاف؟ وذلك لأن الخيال يُضيف إلى منظر الربيع منظرَ الفصول التي تَعْقُبه، ويَضُمُّ إلى هذه البراعم التي تراها العينُ أزهارًا وثِمارًا وظلالًا وأسرارًا يُمكِن أن تستتر تحتها، ويَجمَعُ في نقطة واحدة أزمانًا تتعاقب، ويُبصِر الأشياءَ كما تكون أكثر مما يريد، ولأنها يتوقف عليه اختيارُها، وعلى العكس، لا يُبصَرُ في الخريف غيرُ ما يكون، وإذا ما أُريد بلوغُ الربيع وَقَفَنا الشتاء، ويزول الخيالُ المُجمَّدُ على الثلج والجليد.

وهذا هو مصدر الفُتُون الذي يَكون عند تأمُّل صِبًا جميلٍ مُفَضَّل على كمال سنِّ الرُّشد، ومتى يَطيب لنا أن نرى رجلًا؟ ذلك عندما تَحْمِلنا ذكرى أفعاله على العَوْد إلى حياته وتجديد شبابه في أعيننا من حيث النتيجة، وإذا ما أُلزِمنا باعتباره كما هو، أو بافتراض ما سيكون في مشيبه، فإن فكرة الطبيعة المائلة إلى الزوال تقضي على جميع سرورنا، فلا شيء يَسُرُّ في رؤيةِ رجلٍ يسير بخُطًا كبيرةٍ نحو قبره، وتَجعل صورةُ الموت كلَّ شيءٍ قبيحًا.

ولكنني إذا ما تَمثَّلتُ ولدًا يترجَّح عُمُره بين العاشرة والثانية عشرة، سليمًا قويًّا حسنَ التكوين بالنسبة إلى سِنَّه، لم يُوحِ إليَّ بفكرةٍ غيرِ سارَّة نظرًا إلى الحاضر أو المستقبل، فأراه فَوَّارًا حارًّا ذا حيوية، أراه بلا هَمٍّ قاضمٍ وبلا احترازٍ طويلٍ شاق، أراه متفرِّغًا لحاضره، متمتِّعًا بعافيةٍ تامَّةٍ يبدو أنها تريد أن تمتدَّ إلى خارج نطاقه، وأَتَنوَّره في عُمُرٍ آخرَ مُدرِّبًا لحواسِّه وذهنه وقواه التي تنمو فيه يومًا بعد يوم، فيُقيم في كلِّ ساعةٍ دليلًا عليها، وأتأمَّلُه ولدًا فيروقني، وأتصوره رجلًا فيروقني أكثرَ من ذاك، ويلوح أن دمه الحامي يُلْهِب دمي، فأعتقد أني أحيا حياته وأن نشاطه يُجدِّد شبابي.

وتدقُّ الساعة، ويا له من تحوُّل! تُغبِرُ عينُه من فوْره، ويزول سرورُه لحينه، وداعًا أيها الفرَح، وداعًا يا ألعابَ المرح، ويُمسكه رجلٌ شديدٌ غضُوبٌ من يده، ويقول له بوقار: «لِنذهبْ أيها السيد.» ويذهب به. وأُبصِرُ كُتبًا في الغرفة التي يدخُلانها، كُتُبًا! يا له من أثاثٍ كئيبٍ نظرًا إلى سِنِّه! وينقاد الولد المسكين، ويُلقي نظرةَ أسفٍ على كلِّ ما يحيط به، ويَسكت، وينصرف، وتنتفخ عيناه دموعًا لا يجرؤ على سَكْبها، ويَضخُم قلبُه زفراتٍ لا يجرؤ على إظهارها.

وأنت الذي ليس لديه مثلُ ذلك ما يَخشى، وأنت الذي ليس لديه دَورٌ من الحياة يُعَدُّ وقتَ ضِيقٍ وسأم، وأنت الذي يستقبل النهارَ بلا جَزَع والليلَ بلا هَلَع، وأنت الذي لا يَعُدُّ الساعات إلا بمسرَّاته. تعالَ، تعالَ يا تلميذي السعيد الحبيب، لنتعزَّى بحضورك عن ذهاب ذلك التَّعِس، تعالَ. هو يَصِل، وأشعر عند دُنوِّه بهَزَّةِ فرحٍ يشاطرني إياها، هذا هو صديقه وصاحبه، هذا هو رفيق ألعابه الذي يجتمع إليه. ومما لا مِراء فيه أنه حين يراني لا يبقى زمنًا طويلًا من غير أن يلهو، وليس أحدنا تابعًا للآخر مطلقًا، ولكننا نتفق دائمًا، ولا نكون مع أحدٍ سعداء كما نكون عليه معًا.

ويَنِمُّ مُحيَّاه وشكلُه وقوامُه على الطُّمأنينةِ والرضا، ويطفَحُ وجهه صحة، وتَدُلُّ خُطاه الثابتةُ على القوَّة، ولا يُوجَدُ في سَحْنَتِه الرقيقةِ بلا تَفَهٍ شيءٌ من التأنُّث؛ فالريح والشمس طبعتاها بطابعِ الرجولةِ المُكرَّم، وتأخذ عضلاتُه التي لا تزال مستديرةً في الإشارة إلى أساريرِ وجهٍ ناشئ، ويظهرُ على عينيه اللتَين لم تُلهبهما نارُ هوًى بعدُ صفاؤهما الأصليُّ على الأقل، ما داما لم يُظْلِما بأحزانٍ طويلة، وما دامت لم تُخطِّط خدَّيه دموعٌ لا حَدَّ لها. وأَبْصِروا في حركاتهِ السريعة، ولكن مع المَضاء، رشاقةَ سِنِّه، ومتانةَ الاستقلال، وتجرِبةَ التمارينِ الكثيرة. أجلْ، إنَّ له وجهًا طليقًا وثَّابًا، ولكن من غيرِ صفاقةٍ ولا خُيَلاء، ولا يقعُ وجههُ الذي لم يَلصَق بالكتب على مَعِدَتِه مطلقًا، ولا يحتاج إلى أن يُقال له: «ارفعْ رأسك.» ولم يَحْمِلْه الخجلُ ولا الوجَلُ على خفضِ رأسهِ قَط.

ولْنَجعلْ له مكانًا في وَسَط المجلس، وافْحصوه أيها السادة، واسألوه بكلِّ ارتياح، ولا تخشَوا لَجَاجه ولا هَذْره ولا أسئلته الطائشة، ولا تخافوا تغلُّبَه عليكم، ولا زعْمه أن يشغلكم بنفسه فلا تقدِروا على التخلُّص منه.

وكذلك لا تنتظروا منه أحاديثَ حُلوَة، ولا أن يخاطبكم بشيءٍ أُمليه عليه، ولا تنتظروا منه غير الحقيقة الساذجة البسيطة الخالية من التزويق والتكلُّف والزهو، وسيُحدِّثكم عن سوءِ ما صنع أو عن سوءٍ يَرَى أن يَصنع، ولكنْ بصراحةٍ كالتي تُبدَى عن خيرٍ يُصنَع، وذلك من غير أن يرتبك حول ما يكون لقوله من أثرٍ فيكم، فسيتخذ من البساطة في الكلام ما يُذكِّر بأوَّل عهده.

ونُحِبُّ أن نتوسَّم الخيرَ في الأولاد، ومما يُثير الأسف دائمًا تلك الغباوات التي تصدر لتَقلِبَ — دائمًا تقريبًا — آمالًا يُرغَبُ في استنباطها من عبارةٍ موفقة تجري على لسانهم مصادفة، وإذا حدث، ولكن على نُدرَة، أن ألقى تلميذي مثلَ هذه الآمال، فإنه لا يَصْدُر عنه ما يوجب الأسفَ مُطلَقًا؛ وذلك لأنه لا ينطق بكلمةٍ باطلة مطلقًا، ولا يَضنى بثرثرةٍ يَعلَمُ أنها لا تُسمَع مُطلَقًا، وأفكاره محدودة، ولكنها واضحة. وهو إذا لم يَعْرِف شيئًا من الاستظهار، فإنه يَعْرِف كثيرًا عن تجرِبة، وهو إذا كان أقلَّ اقتدارًا من ولدٍ آخرَ على القراءة في كتبنا، فإنه أحسنُ مطالعةً في كتب الطبيعة، وليس ذهنه في لسانه بل في رأسه، وهو أقلُّ ذاكرةً منه حكمًا، وهو لا يَعْرِف أن يتكلم غيرَ لغة واحدة، ولكنه يُدرِك ما يقول، وهو إذا لم يكن كالآخرين حُسْنَ قولٍ فإنه يفوقهم حُسْنَ فعل.

وهو لا يَعْرِف ما النَّمطية٤٣ ولا العُرف ولا العادة، وما صَنعه أمسِ لا يؤثِّرُ فيما يَصنَعُ اليومَ٤٤ مُطلَقًا، وهو لا يَتَّبع صيغةً مطلقًا، وهو لا يُذعِن لمرْجعٍ ولا لمثالٍ مطلقًا، وهو لا يَعمل ولا يقول غير ما يلائمه. وهكذا فلا تنتظروا منه كلامًا أُمليَ عليه ولا أوضاعًا دُرِسَت له، وإنما انتظروا منه دائمًا تعبيرًا صادقًا عن أفكاره وسلوكًا ناشئًا عن ميوله.

وتَجِدُون له عددًا قليلًا من المبادئ الخُلُقية الخاصة بحاله الحاضرة، ولا تجِدون له مبدأ خاصًّا بحال النَّاس، وما فائدة هذه المبادئ للولد ما دام غيرَ عُضوٍ عاملٍ في المجتمع؟ إذا ما كلمتموه عن الحرية والتملُّك وعن العهد أيضًا أمكنه أن يَعْرِف حتى هذا الحد، وهو يَعْرِف السببَ في أن الذي له هو له، والسببَ في أن الذي ليس له هو ليس له، فإذا عدا هذا عاد لا يَعْرِف شيئًا، وإذا ما كلمتموه عن الواجب والطاعة لم يَعْرِف ما تَقصِدون أن تقولوا، وإذا ما أمرتموه أن يَصنع شيئًا لم يَصْغَ إليكم، ولكنكم إذا قلتم له: «اعمل لي هذا المعروف أرُدَّه إليك في الوقت المناسب.» بادرَ من فوْره إلى إرضائكم؛ وذلك لأنه لا يَطْلُب ما هو أفضلُ من بسْط سلطانه، ومن حصوله منكم على حقوقٍ يَعْرِف أنها لا تُنتهك، حتى إن من المحتمل ألَّا يأسف على مكانٍ يُحرَز، أو على حسابٍ يُقدَّم، أو على مبلغٍ يُطلَب، ولكنه إذا ما ساوره هذا الباعثُ الأخير خرج عن دائرة الطبيعة، وأعوزكم إغلاقُ جميع أبواب الغرور مُقدَّمًا.

ويحتاج من ناحيته إلى مساعدة، وهو يطلبها من أوَّلِ مَن يصادف بلا تفريق، هو يطلبها من الملك أو خادمه؛ فجميع النَّاس متساوون في نظره. وترون من اللهجة التي يطلب بها أنه يشعر بعدمِ وجودِ أحدٍ مَدِين له بشيء، وهو يَعْرِف أنه يطلب فضلًا، وهو يَعْرِف أيضًا أن الإنسانية تأمر بأن يُجاب إلى ما يسأل. ويكون كلامه بسيطًا موجزًا، وينِمُّ صوته ونظرته وحركته على مخلوقٍ تعوَّد القبول والرفض على السواء. وليس هذا ما ينطوي عليه خضوع العبد من صَغارٍ وذِلَّة، ولا لهجةُ السيد المتجبر، وإنما هو اعتمادُ متواضعٍ على نظيره، وإنما هو حِلمٌ كريمٌ مؤثِّرٌ ناشئٌ عن موجودٍ حُر، ولكنه حَسَّاسٌ خافضُ جناحٍ يَطلب العون من موجودٍ حُر، ولكنه قويٌّ محسن، وإذا منحتموه ما يطلُب لم يشكر لكم، وإنما يشعر بأنه عَقدَ دَينًا، وإذا رفضتم ما يطلب لم يألم ولم يُلحِف قَط؛ فهو يَعْرِف أن هذا غيرُ مُجْدٍ، وهو لن يقول في نفسه: «لقد رُفِضَ طلبي.» بل يقول: «لم يكن هذا ممكنًا.» والأمر كما قلت: إنه لا ينبغي أن يُثارَ على الضرورة المُسلَّم بها.

ودَعُوه طليقًا وحدَه، وارقُبُوه وهو يسير من غير أن تقولوا له شيئًا، ورَوْا ما يصنع وكيف يتأهَّب لما يصنع، وبما أنه لا يحتاج إلى إقناعِ نفسِه بأنه حُرٌّ فإنه لا يفعل شيئًا عن طيشٍ مطلقًا، وإنما يأتي عملَ سلطانٍ على نفسه، أوَلَا يَعلم أنه سيدُ نفسِه دائمًا؟ وهو نشيطٌ رشيقٌ خفيف، وتجد في حركاته كلَّ ما ينطوي عليه عُمُره من حيوية، ولكنك لا ترى له من الحركات ما لا يهدف إلى غاية، ومهما يُرِد أن يفعل فإنه لن يحاول فِعْلَ ما يفوق طاقته؛ وذلك لأنه اختبر قواه وعَرَف ما هي، وستكون وسائلُه صالحةً لمقاصده دائمًا. ومن النادر أن يعمل قبل أن يطمئن إلى النجاح، وستكون له عينٌ بصيرةٌ يقظى، ولن يتصدَّى للآخرين حتى يسألهم بغباوةٍ عن جميع ما يرى، ولكنه يُدقِّقُ فيما يرى بنفسه ويبذل جهدًا ليصل قبل السؤال إلى ما يريد أن يعلَم، وهو إذا ما وقع في ورطةٍ طارئةٍ كان ارتباكه بها أقلَّ من ارتباك الآخرين، وإذا ما وُجِدَ خطرٌ قلَّ ذُعره أيضًا. وبما أن خياله يظلُّ مُعطَّلًا أيضًا، ولم يُصنَع شيءٌ لإثارته، فإنه لا يرى غير ما هو واقع ولا يُقدِّر الأخطار إلا بمقدارها مُحافِظًا على اعتدال دمه دائمًا، وتبلغ الضرورة من شدة الوطأة عليه ما لا يقاومها معه أيضًا، وهو يحمل نِيرَها منذ ولادته، وهو يتعوَّدها، فيكون مستعدًّا لكلِّ شيءٍ في كل وقت.

وسواءٌ عليه، أعَمِل أم تلهَّى، يتساوى هذان الأمران عنده؛ فألعابه أعماله، لا فرق بينهما لديه، وهو يَضع في كلِّ ما يصنع ما يُغري بالمرح كما يضع من الحرية ما يروق مُبديًا ميلَ ذهنه ومدى معارفه. أليس من مناظر هذا العُمُر الساحرة الحُلوة أن يُرى ولدٌ ظريفٌ حادُّ البصر مَرِح النظر، ذو ملامحَ تدلُّ على الرِّضا والصفاء، وذو وجهٍ طليقٍ باسم، يأتي أكثرَ الأمور جِدِّيَّة وهو يلعب، أو يأتي أكثرَ الألعاب لغوًا وهو يعمل؟

أَوَتُريدون الآن أن تحكموا فيه بالقياس؟ اجعلُوه بين أولادٍ آخرين، ودَعُوه لنفسه، فلا تَلبثوا أن ترَوا أيُّهم أحسنُ تقويمًا حقًّا وأيُّهم أكثرُ اقترابًا من كمالِ سنِّه. ولا أحد بين أبناء المدينة أمهرُ منه، ولكنه أقوى من كلِّ واحدٍ آخَر، وهو إذا ما وُجِد بين الفتيان الفلاحين ساواهم قوةً وفاقهم مهارة. وهو في جميع الأمور التي تكون في متناول دور الصبا يَظهرُ أحسنَ من جميعهم حُكمًا وتعقُّلًا وبصيرة، وإذا ما دار الأمر حول العمل، والعَدْو والوثوب، وزعزعة الأجسام ورفْعِ الأجرام وتقدير المسافات، واختراع الألعاب ونَيل الجوائز؛ قيل إن الطبيعةَ خاضعةٌ لأوامره ما سهُلَ عليه أن يجعل كلَّ شيءٍ خاضعًا لإرادته؛ فهو قد صُنِع لقيادة أمثاله والسيطرة عليهم، وما اتَّفَقَ له من نبوغٍ واختبارٍ يقوم مقامَ الحقِّ والسيادة. ومهما يكن الرِّداء الذي يرتديه والاسم الذي يحمله فلا أهمية لهما، فسيُكتب له السبق في كل مكان، وسيكون رئيسًا للآخرين حيثما كان، وهم سيشعرون بأنه أفضل منهم دائمًا، وهو سيكون السيد من غير أن يريد القيادة، وهم سيطيعون من حيث لا يَدْرُون.

وهو قد بَلغ ذروةَ الكمال من دَوْر الصبا، وهو قد قَضى حياة وَلَد، وهو لم يشترِ كماله على حساب سعادته، وعلى العكس قد تسابقت هذه الأمور انقيادًا له. وهو إذ نال كلَّ ما لِسنِّه من عقلٍ كان سعيدًا حُرًّا بمقدار ما تسمح به بنيتُه، وإذا ما أتى الموت الحاصد فقَطَع به زهرةَ آمالنا لم نَبْكِ حياته ولا موته معًا قَط، ولم نُلهِب آلامنا عن تذكُّرنا آلامًا أورثناه إياها، وإنما نقول: «لقد تمتَّع بصباه على الأقل، ولم نَنزِع منه شيئًا أنعمت الطبيعة به عليه.»

وأكبرُ محذورٍ في هذه التَّربية هي كَونُها لا تُقدَّر من غيرِ ذوي البصائر، وكَونُ الولدِ الذي يُنشَّأ بتلك العنايةِ البالغةِ لا يبدو في عيونِ العوامِّ غيرَ خشِن. والمُعلِّم يُفكِّرُ في مصلحةِ الولدِ أقلَّ مما يُفكر مصلحته الخاصة، وهو يُعنى بإثباته أنه لا يُضِيع وقتَه، وأنه يستحقُّ الأجرَ الذي يُعطاه، وهو يُزوِّده بمحصولٍ سَهْلٍ عَرْضُه، ممكنٍ إظهارُه متى يُراد. وليس المهمُّ في فائدةِ ما يُعلِّمه إياه، بل في سهولةِ تَبيُّنه، وهو يَشْحَن ذاكرتَه بمائةِ حشوٍ يركُمه فيها بلا انتخابٍ ولا تمييز، ومتى وجب امتحانُ الولدِ حُمِل على نشرِ بضاعته، وهو إذا ما عَرَضها حازَ قبولًا، ثُمَّ يَطوي رِزْمته ويذهب. وأمَّا تلميذي فليس غنيًّا بهذا المقدار، وليست عنده رِزمةٌ ينشرها مطلقًا، وليس عنده ما يَعْرِض غيرُ نفسه. والواقع أن الولدَ كالرَّجل، لا يُعرَف في دقيقةٍ واحدةٍ. وأين هم الراصدون الذين يمكنهم إدراكُ خصائصه أوَّلَ وهلة؟ أجلْ، قد يوجد مثل هؤلاء، غير أنهم قليلون، ولا تكاد تجدُ واحدًا منهم بين كلِّ مائة ألف أبٍ.

وإذا ما كُثِّرت الأسئلة تبرَّم منه جميع النَّاس، ولا سيَّما الأولاد، ورفضوها، وذلك أنه لا تكاد تَمضي بضعُ دقائق حتى يكون انتباههم قد كَلَّ، وعادوا لا يُلقون السمع إلى ما يسألهم عنه سَئولٌ عنيد، وعادوا لا يُجيبون إلا عن غير تبصُّر. ويُعَدُّ هذا الأسلوب في امتحانهم حذْلقيًّا غيرَ نافع، وفي الغالب تُعَدُّ الكلمةُ العابرة أفضلَ من الكلام المُطوَّل في الدلالة على إحساسهم وإدراكهم، ولكن ليُحتَرَزْ من كون الكلمة قد أُمليت أو أُلقيَت عَرَضًا. ولا بُدَّ للرجل من أن يكون صائب الحكم حتى يُحسِن تقدير حُكم الولد.

وقد سمعتُ المرحومَ اللورد هَيْد يقول إن صديقًا له عاد من إيطالية بعد غياب ثلاثة أعوام، فأراد فحص ابنَه البالغَ من العُمُر ما بين التاسع والعاشر، ويذهب ذاتَ مساء هو وابنه ومُعلِّمه للنزهة في العراء؛ حيث يلهو الطلبة بقيادة طيَّاراتٍ. وبَيْنا كان الأب مارًّا قال لابنه: «أين الطيَّارة التي تُلقي هذا الظل؟» فقال الولد من غيرِ تردُّدٍ ولا رفْعِ رأسٍ: «على الطريق العام.» ويقول اللورد هَيد مُعقِّبًا: «حقًّا أن الطريق العام كان بيننا وبين الشمس.» ويُقبِّل الأب ابنه عند سماع هذه الكلمة، ويُنهي فحصه وينصرف من غيرِ أن يقول شيئًا. فلما كان الغدُ أرسل إلى المُعلِّم شهادةً يُجري عليه بها وظيفةً مدى العُمُر فضْلًا عن رواتبه.

يا لذلك الأب من رجلٍ! ويا لَلْولد الذي وُعِدَ به! إن السؤال مُلائمٌ لعُمُر الولد ضبطًا، والجواب بسيطٌ تمامًا. ولكن انظر إلى ما يَفترِض من بصيرةٍ في قوة التمييز عند الولد! هذا هو الوجه الذي رَدَّ به تلميذُ أرسطو جِماحَ ذلك الحِصان الشهير الذي لم يستطع أن يُروِّضه فارس.

١  لا شيءَ أدعى إلى السخريةِ وسوءِ الضمان من مِشيئةِ أولئك الذين أكثر من سوقهم ببريمِ إسنادٍ في صغرهم، وهذه من الملاحظات التي عُدتْ مبتذلةً لصوابها، والتي هي صائبة من عدة وجوه.
٢  لِيُذْكرْ أنني أتكلَّم هنا عن الذين لا يدركون، لا عن جميعِ الناس.
٣  كان تِمِسْتُوكل يقول لأصدقائه: «إنَّ هذا الغلامَ الصغيرَ الذي ترون هو حَكَم بلاد اليونان؛ وذلك لأنَّه يسيطر على أمِّه، ولأن أمَّه تسيطر عليَّ، ولأنني أسيطر على أهلِ أثينة، ولأن الأثينيين يسيطرون على الأغارقة.» وي! ما أكثرَ صغار القادةِ الذين يوجدون في الإمبراطوريات العظيمة غالبًا! وذلك إذا ما نزل من الأمير حتى اليد الأُولى التي تدير الأمورَ خفية.
٤  أثبتُّ في كتابي «مبادئ الحقوق السياسية» أنه لا يوجد أي إرادة خاصة يمكن تنظيمُها بالنظام الاجتماعي.
٥  يجب أن يَشعرَ بأن اللذةَ حاجةٌ أحيانًا كما أن الألمَ ضرورةٌ غالبًا، ولا يوجد إذن غيرُ رغبةٍ واحدةٍ للأولادِ لا يجوز أن يُجابوا إليها مطلقًا، وهي أن يُطاعوا، ولذا يجب أن يُنْتبه على الخصوص إلى السببِ الذي يَحْملهم على الطلب، وذلك في جميع ما يطلبون، وامنحوهم، ما أمكن، جميعَ ما يَرُوقهم حقيقةً، وارفِضوا دائمًا كلَّ ما يطلبون عن هوًى أو عن حبٍّ للسيطرة.
٦  لِيُعْلم أن الولدَ يَعُدُّ من الأهواء كلَّ إرادةٍ مخالفةٍ لإرادته، ولا يَعْرِف سببًا لها، والواقعُ أن الولدَ لا يدرك سببًا لأي شيء لا يلائم أهواءه.
٧   القُلُزُّ: النُّحاس الذي لا يعمل فيه الحديد.
٨  لا يجوز أن يُسمح للولدِ بأن يعارض الكبار، ولا مَن هم مساوون له، كما يعارض مَن هم دونه، وإذا ما أقْدمَ على ضرْب شخصٍ ضربًا جديًّا، ولو كان خادِمَه ولو كان الجلَّاد، فدَعُوا المعتدَى عليه يرد الضربات إليه مع الربا، حتى لا يعودَ إلى مثل ذلك أبدًا. وقد رأيت من المربيات الغافلات مَن يُثِرن عنادَ الولد ويحرضنه على الضرْب ويَدَعنه يضربهن فيضحكن من ضرباته الضعيفة، غير مفكِّراتٍ في كون هذه الضربات هي ضربات قاتلة في نيَّة الهائج الصغير، وفي كون الصغير إذا أراد الضرْبَ في صغره أراد القتل في كبره.
٩  هذا هو السبب في كونِ معظمِ الأولاد يريدون استردادَ ما يُعطُون، وأنهم يبكون عندما لا يُراد ردُّ ذلك إليهم، وما كان هذا لِيحدث لهم لو تمثَّلوا ما العطاء، وهنالك يكونون أشدَّ حَذرًا حينما يُعطُون.
١٠  وفضلًا عن ذلك فإن هذا الواجبَ في محافظةِ الولدِ على عهوده لا يُرسَّخ في رُوحِ الولد بفعل فائدته، ولا يَلبث الحسُّ الباطني أن ينمو، فيفرضه عليه كقانونٍ للضمير، كمبدأ غريزي لا يُنتَظر لنموه غيرُ المعارف التي يُطبَّق عليها، ولم يُرسم هذا الخطُّ الأوَّلُ بِيدِ الناس، بل نُقش في قلوبنا من قِبَلِ صانعِ كلِّ عدل. وأزيلوا قانونَ العهود الابتدائي والالتزام الذي يَفرضه تجدوا كلَّ شيء في المجتمع البشري وهميًّا باطلًا، ومَن لم يحافظْ على وعْدِه إلا عن منفعةٍ له فإنه لا يكون مرتبطًا فيه بأكثرَ مما لو كان لم يُعطَ وعدًا قَط، أو إنه يكون في القدرةِ على نقضهِ كالمقامرين الذين لا يتريثون في الاستفادةِ من تفوُّقهم إلا لِيرقُبوا الدقيقةَ التي يزيدون فيها كسْبَهم. وهذا المبدأ من الأهميةِ بمكانٍ عظيم، وهو يستحق كلَّ تعمُّق؛ وذلك لأن الإنسانَ يأخذ في مناقضة نفسه هنا.
١١  وذلك كحالِ المُذْنب المتهم بإحدى القبائح فيدافع عن نفسِه بقوله إنه رجل صالح؛ فهو بهذا يكذِب في الوقائع وفي الحق.
١٢  لا شيءَ أبعدُ من الصوابِ كهذه الأسئلة، ولا سيَّما عندما يكون الولدُ مُذنبًا، وذلك أنه إذا اعتقد أنكم تَعرفون ما صَنَعَ أبصرَ أنكم تَنصِبون له شَرَكًا. ولا تخلو هذه الفكرةُ التي تساوره من أن تُقلِقه ضدكم، وهو إذا لم يعتقد ذلك قال في نفسه: «لِمَ أبوحُ بذنبي؟» وهكذا تكون هذه المحاولةُ في الكَذِب نتيجةَ سؤالِكم الطائش.
١٣  لِيعلمَ أنني لا أحُل مسائلَه متى يريد، بل متى أريد، وإلا جعلت نفسي خاضعًا لرغباته ووضعت نفسي في أخطرِ موضعٍ من التبعية يمكن أن يقع فيه مؤدِّبٌ نحوَ تلميذه.
١٤  يتضمن مبدأُ عدمِ الإضرار بأحدٍ مطلقًا أعظمَ استقلالٍ ممكنٍ عن المجتمع البشري؛ وذلك لأن نفعَ الواحد في الحال الاجتماعية يعني ضررَ الآخر بحكم الضرورة، وهذه النسبة هي من جوهر الأمور، ولا شيءَ يستطيع تبديلها، وليُبْحث على نورِ هذا المبدأ في أي الرجلين أصلحُ من الآخر: الرجل الاجتماعي أم الرجل المعتزل؟ ويقول مؤلِّفٌ مشهورٌ إنه لا يوجد غيرُ الشَّرِير مَن يكون وحدَه. وأمَّا أنا فأقول: إنه لا يوجد غيرُ الصالحِ مَن يكون وحدَه. وإذا كانت هذه القضيةُ أقلَّ صلاحًا للحكم، فإنها أكثرُ حقيقة من الأُولى وأعظم صوابًا منها. وإذا كان الشَّرِير معتزلًا فأيُّ شَرِيرٍ يأتيه؟ ففي المجتمع ينصب حبائلَه ضرًّا بالآخرين، وإذا أُريد قلبُ هذا البرهانِ على رجلِ الخير فإنني أُجيب على هذا بالنص الخاص بهذا التعليق.
١٥  A la mode.
١٦  لقد لاحظتُ مائةَ مرة عند الكتابة أن من المتعذرِ في سِفْرٍ مطوَّلٍ أن يُطلَق عينُ المعاني على عينِ الكلمات دائمًا، ولا تجد لغةً بالغةً من الغنى ما تجهز معه بألفاظٍ وتعبيرات وجمل ما يمكن أن يعتور أفكارنا من تغيير. أجلْ، إن طريقةَ تعريفِ جميعِ الألفاظ، وقيامَ التعريفِ مقامَ المعرَّف دائمًا، أمرٌ جميل، غيرَ أنه ليس عمليًّا؛ وذلك لأنه كيف تجتنب الدائرة؟ وقد تكون التعاريفُ صالحةً إذا لم تُستَعمَل ألفاظٌ لوضْعِها. وتَراني قانعًا مع ذلك بأن الوضوحَ ممكنٌ حتى عند فقرِ لغتنا، لا بإطلاقِ عينِ المعاني على عينِ الألفاظ، بل بأن يقع في كلِّ مرةٍ تستعمل فيها كل كلمة تعيين المعنى الذي يُطلق عليها تعيينًا كافيًا بالقرينةِ التي تطابقها، وأن يتخذ كل دَورٍ تُستعمَل فيه هذه الكلمةُ تعريفًا لها. وقد قلتُ تارةً إن الأولاد عاجزون عن الاستدلال، كما عزوتُ إليهم الاستدلالَ بشيءٍ من الدِّقة تارةً أخرى. ولا أراني مناقضًا لنفسي في أفكاري، ولكني لا أستطيع أن أنكر مناقضتي لنفسي في كلماتي غالبًا.
١٧  أمرُ معظمِ العلماء في ذلك كالأولاد، وينشأ العِلمُ الواسعُ عن كثرةٍ في الأفكار أقلَّ مما عن كثرةٍ في الصور، وتُحفظ التواريخُ والأعلام والأماكن وجميعُ الأشياء المنفردة في ذاكرة الرموز. ومن النادر أن يُذكر بعضُ هذه الأشياء من غيرِ أن يُرى في الوقت نفسِه ظاهرُ الصفحة التي تُقرأ فيها أو باطنها، أو تُبصَر الصورةُ التي رُئيت عليها أوَّل مرة. وهذا ما كان عليه العِلمُ الدارجُ في القرونِ الأخيرة تقريبًا. وأمَّا العِلم في عصرنا فشيءٌ آخَر؛ فعاد لا يُدرَس ولا يُلاحظ، بل يُحلم به. ونُعطى، برصانة، أحلامَ بعض الليالي السيئة على أنها من الفلسفة. وسيُقال لي إنني أعْلم أيضًا، وأوافق على هذا، غيرَ أن ما لا يَحترِز الآخرون من صُنْعه أقدِّمه على أنه أحلام، تاركًا للقارئ أن يبحث عن وجودِ شيء لديهم مفيدٍ لذوي الانتباه أو لا.
١٨  هذا هو المَثَل الثاني، لا الأوَّل، كما لاحظه مسيو فورمه.
١٩   الزَّيز: دُويبة تطير وتقف طويلًا على الشجر، ولها صوتٌ كأنها تقول «زيز»، فسُميَّت به.
٢٠   الأُمْلُود: الليِّن الناعم.
٢١  لا خطرَ في مثلِ هذه الحال من أن يُطالَب الولدُ بقول الصدق؛ وذلك لأنه يُعرف عجزه عن كتمانه، ولأنه إذا ما جرُؤ على الكَذِب لم يلبث أن يُدان.
٢٢   صرى الماء: طال مُكْثُه وتغيَّر.
٢٣  كأن صِغار الفلاحين كانوا يختارون الأرضَ الجافَّة ليجلسوا عليها أو ليناموا عليها، وكأنه سَمِع أن رطوبةَ الأرض قد أضرَّتهم، ولو ألقينا السَّمع إلى الأطباء لاعتقدنا أن جميع الهمج من الكسحان بفعل الرثية.
٢٤   السَّمَنْدر أو السَّميدر: دابةٌ تعيش في الماء وعلى اليابسة، وقيل إنها تفرز مادةً تُطفِئ النار، ولذلك قالوا: إنَّها لا تحترق.
٢٥   البنان أطراف الأصابع.
٢٦  يكون هذا الخوفُ واضحًا عند كسوف الشمس كسوفًا كليًّا.
٢٧  إليك أيضًا سببًا آخَر أوضحه فيلسوفٌ استشهدتُ بكتابه كثيرًا، وورِدتُ مناهلَ بصائره الواسعة غالبًا:

إذا ما قضتْ بعضُ الأحوال الخاصة بعدمِ تكويننا فكرةً صادقةً عن المسافة، فلم نستطِع أن نحكم في الأشياءِ إلا باتساع ما تُصوِّره في أعيننا من زاويةٍ أو رسم، تَطرَّق الخطأ إلينا حولَ حجمِ هذه الأشياء لا محالة؛ فكل واحد يَعْرِف بالتجرِبة أننا حين السفر ليلًا نَحْسَب العليقةَ القريبةَ شجرةً عظيمةً بعيدة، وأننا نَحْسَب الشجرةَ العظيمةَ البعيدةَ عليقةً قريبة. وكذلك إذا لم تُعرف الأشياء بشكلها، ولم نستطِع أن نكوِّن فكرةً عن المسافة بهذه الوسيلة تَطرَّق الخطأ إلينا حتمًا، فإذا ما مرت ذبابةٌ مسرعة على بُعد خطواتٍ من أعيننا بدت لنا في هذه الحالة طيرًا على مسافةٍ بعيدة، وإذا وُجد حصانٌ بلا حركةٍ في وَسَطِ حقلٍ، وكان متخِذًا من الوضْع ما يشابه وضعَ الضأنِ مثلًا لم يبدُ لنا غيرَ كبشٍ ما دُمْنَا لا نعرف أنه حصان. ولكننا إذا ما عرفناه ظهر لنا في الحال ضخمًا كالحصان، وصحَّحنا حكمَنا الأوَّلَ من فوْرنا.

وفي كلِّ مرة تجدنا ليلًا في أماكنَ مجهولة؛ حيث لا نستطيع أن نحكمَ في المسافة، وحيث لا نستطيع أن نعرفَ شكلَ الأشياءِ بسبب الظلام، حاقَ بنا خطرُ الوقوعِ في الخطأ في كل ثانية حول الأحكام التي نصدرها عن الأشياء التي تبدو لنا. ومن هنا يأتي الهولُ أو ذلك الخوفُ الباطني الذي يلقيه ظلامُ الليلِ في جميعِ الناسِ تقريبًا. وعلى هذا تقوم ظاهرة الأشباحِ والأشكال الضخمة الهائلة التي يروي كثيرٌ من الناس أنهم رأوها، وهم يُجابون على هذا عادةً بأن هذه الأشكالَ كانت في خيالهم. ومع ذلك فإن من الممكن أن كانت هذه الأشكالُ في أعينهم، وأن كانوا قد رَأَوا في الحقيقة ما يقولون إنهم أبصروا؛ وذلك لأن مما يحدث، قطعًا، أنه في كل مرة لا يمكن أن يُحْكم في الشيء إلا بالزاوية التي يكونها الشيءُ في العينِ، يضخم هذا الشيء المجهول ويعظُم كلَّما اقترب منه، فإذا ما بدا في البُداءة للناظر الذي لا يستطيع أن يَعْرِف ما يرى، ولا أن يحكم في المسافة التي يراه عليها. وإذا ما ظهر في البُداءة — كما أقول — عاليًا بضعُ أقدامٍ مع بُعده عشرين أو ثلاثين خطوة؛ لاح عاليًا أقدامًا كثيرةً عندما يصير بعيدًا خطواتٍ قليلة، وهذا ما يجب أن يُدهِشه ويُخِيفه إلى أن يمسَّ الشيء أو يعرفه؛ وذلك أنه في الثانية التي يَعْرِف فيها الحقيقة يتضاءل من فوْره ذلك الشيءُ الذي كان يبدو له ضخمًا، ويعود لا يظهر له منه غيرُ حجْمه الحقيقي، ولكنه إذا ما فرَّ أو لم يجرُؤ أن يدنو، كان من الثابت أنه لا يكون لديه من الأفكار عن ذلك الشيء غيرُ الصورة التي كوَّنها في العين وأبصر بها في الحقيقة شكلًا ضخمًا هائلًا حجمًا وهيئة؛ ولذا تقوم مُبْتَسَراتُ الأشباحِ على الطبيعة. ولا تتوقَّف هذه الظاهرات على الخيال وحدَه خلافًا لما يعتقد الفلاسفة. (بوفون، التاريخ الطبيعي، جزء ٦، صفحة ٢٢)

وقد حاولت في المتن أن أثبت أنها وليدةُ الخيال قسمًا في كل وقت، وأمَّا من حيث السبب الموضَّح في النَّص المقْتَبس، فإن من الواضح أن عادة السَّيْر ليلًا تعلِّمنا أن نفرِّق بين تلك الظاهراتِ التي تقتبسها الأشياءُ المنظورةُ في الظلامِ من تشابُه الأشكال واختلاف المسافات؛ وذلك لأن الهواء إذا كان من النور ما نبصر معه رسومَ الأشياء، وذلك مع وجودِ هواءٍ كثيرٍ معترضٍ في البُعد الكبير، كانت رؤيتنا لهذه الرسوم أقلَّ وضوحًا عند كون الشيء أكثر بُعدًا مِنَّا، وهذا ما يكفي لوقايتنا بقوَّة العادة من الخطأ الذي يوضِّحه بوفون هنا. ومهما تفضَّلوا من إيضاحٍ فإن منهاجي مؤثرٌ دائمًا، وهو الذي تؤيده التجرِبة تمامًا.
٢٨  يقضي تدريبُ انتباهِهم بألَّا تقولوا لهم غيرَ أمورٍ يكون من مصلحتهم الواضحة الحاضرة أن يدركوها جيِّدًا، وذلك من غيرِ تطويلٍ ولفظٍ زائدٍ وإبهامٍ وغموضٍ في قولِكم.
٢٩   الزِّير: الدقيقُ من الأوتار.
٣٠  مُعلِّم رقص مشهور بباريس، كان يَعْرِف جماعته جيِّدًا، فيأتي ما هو أرعن بالحيلة، فيعلق على فنِّه من الأهمية ما يحمل معه أكبرَ تقدير له في الأساس، وإن كان يُرى مضحِكًا. واليوم لا يزال يُرى في فنٍّ آخَرَ ممثلٌ هزليٌّ جامعٌ بين المهمِّ والأرعنِ، فيلاقي من النجاحِ ما ليس أقلَّ من ذلك، ويكون هذا الأسلوبُ في مأمنٍ بفرنسة دائمًا، ولا حظَّ فيها للنبوغِ الحقيقي الأكثرِ بساطةً والأقلِّ خداعًا مطلقًا، ويُعَدُّ الحياءُ فيها فضيلةَ الأغبياء.
٣١   النِّبْر: بيتُ التاجر الذي تُنْضَد فيه الغلال والمتاع.
٣٢  النُّزهة الريفية كما يُرى بعد قليل. وأمَّا النُّزَه العامة في المدن فهي تَضر الولدَ من الجنسين؛ ففي هذه النزهة يصير الأولادُ مختالين ومحلَّ نظر. وفي اللكسنبرغ والتويلري، ولا سيَّما الباله رويال، تقتبس شبيبة باريس الرائعة ذلك الوضع الماجن الوقح الذي يجعلها موضعَ سخرية وهزوء وازدراء في جميع أوروبة.
٣٣   استكدَّه: طلب منه الاشتدادَ في العمل.
٣٤  أتى غلام في السابع من عُمُره ما هو أدعى إلى العجبِ بعد ذلك الحين.
٣٥  انظر إلى أركادية بوزانياس، وانظر أيضًا إلى قطعة بلوتارك المنقولة فيما بعد.
٣٦  ترك المايورقيون هذه العادةَ منذ قرون كثيرة، وقد كانت سبب شهرة راشق المقلاع بينهم في حينها.
٣٧  أعْرِف أن الإنكليز يُباهون كثيرًا بإنسانيتهم وحسن مِزاج قومهم الذين يدعونهم «الأمة ذات الطبيعة الطيبة»، ومن العبث أن يعلنوا هذا جهدهم؛ فلا أحد غيرهم يكرِّر زعمهم.
٣٨  يُعَد البانيانُ الذين يمتنعون عن تناول كل نوع من اللحم بأشد مما عليه الغور حلماء مثل هؤلاء تقريبًا، ولكن بما أن أخلاقهم أقل صفاء وديانتهم أقل صوابًا، فإنهم ليسوا مثلهم صلاحًا.
٣٩  أشار أحد مترجمي هذا الكتاب من الإنكليز إلى غلطي هنا، وكلاهما صححه؛ فشهادة الجزارين والجراحين مقبولة، غير أن الجزارين لا يُقبَلون كمحلفين أو أعضاء في القضايا الجنائية مع أنه يُسمَح للجراحين أن يكونوا هكذا.
٤٠   هم أَكَلَة النبق.
٤١   السَّفُّود: حديدة يُشوى عليها اللحم.
٤٢  تجد قدماء المؤرخين حافلين بآراءٍ يمكن الانتفاع بها، ولو كان ما يعرضونه من الوقائع غير صحيح، ولكننا لا نعرف اقتباس أي فائدة حقيقية من التاريخ؛ فالنقد الدقيق يستغرق كل شيء، كأن من المهم جِدًّا أن تكون الوقائع صحيحة حتى يكون من الممكن استخراج درس نافع منها، فعلى العقلاء أن يَعُدوا التاريخ نسيجًا من الأقاصيص التي نرى الناحية الخلقية منها كثيرة الملاءمة للقلب الإنساني.
٤٣  La routine.
٤٤  تنشأ جاذبيةُ العادة عن كسلِ الإنسان الطبيعي، ويزيد هذا الكسل بتعاطيه؛ فمن السهل البالغ صُنْعُ المصنوع، وذلك بما أن السبيل تكون ممهَّدة فإن سلوكها يكون سهلًا جِدًّا، وكذلك فإنَّ من الممكن أن يُلاحظ كونُ سلطان العادة عظيمًا إلى الغاية على الشِّيب والكسالى، وكونه ضعيفًا إلى الغاية على الشبيبة وذوي النشاط، وهذا النظام غير صالح لسوى أصحاب النفوس الضعيفة، وهو يُضعِفها يومًا بعد يوم، والعادة الوحيدة النافعة للأولاد هي الخضوع لضرورة الأمور بلا مشقة، والعادة الوحيدة النافعة للرجال هي الخضوع للعقل بلا مشقة، وكل عادة غير هذه نقيصة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤