قصة العذراء

هي زهرة لم تمتدَّ إليها يد.
لقد عاشت عذراء وماتت عذراء.
لقد فضلت العرض على الحياة.
الجيش في تقهقر، فما على القائد إلا أن ينادي جنوده ويخطب فيهم قائلًا:

فلنتقهقر بانتظام حتى لا نخسر شيئًا، ولنحافظ على ذخيرتنا، حتى نصل إلى بلدة قريبة نحتمي فيها من شر الأعداء وننظم أمورنا، وسيكون طريقنا إلى هذه البلدة طريق الصحراء، وهو طريق متعب، ولكنه خير في الواقع من الوقوع في أيدي الأعداء، وما أخالكم إلا موافقين على ما حدثتكم عنه. الطريق منتشرة فيه الأديرة التي يؤمُّها الرهبان والراهبات، فيجب أن نستولي في طريقنا على تلك الأديرة عسانا نجد فيها شيئًا من الزاد.

وافق الجند على ما قاله قائدهم، وكان واجبًا أن يوافقوا؛ فالمركز حرج.

ساروا أيامًا في الصحراء يعانون آلام السير، ولاح لهم في أحد الأيام بناء شاهق تظهر عليه آثار القدم، وكان بسيطًا كالحصون، له باب ضخم يحسبه الناظر باب مدينة، فما رأوه حتى تشجَّعوا ونسوا تعبهم؛ فقد عرفوا أن البناء لم يكن إلا ديرًا، ربما وجدوا فيه طعامًا وراحة من وعثاء السير.

وصلوا إلى الدير ففتحوه فلم يجدوا أحدًا، إلا أنه بعد برهة جاءت سيدة متمنطقة بالسواد لا يظهر إلا وجهها، وسألتهم: ماذا يريدون؟

نادى الجند رئيسهم، فلما حضر أخبرته تلك السيدة أن المكان دير للراهبات، فلا يصح أن يتعرضوا لأحد بسوء، فهن نساء عزل، فأمنها القائد على حياة الراهبات وسألها شيئًا من الزاد لجنده.

اطمأنت السيدة وأتتهم بما طلبوا، فجلسوا في حديقة الدير يأكلون.

•••

كان الضابط في الأربعين من عمره، وكان رجلًا لئيمًا خسيسًا شهوانيًّا، وأراد أن يسري عن نفسه ما بها من الضجر والتعب، وحسب أنه ربما وجد من يمكنها أن تسري عنه في راهبة من راهبات الدير! يا لله! لقد بلغت به الخسة والدناءة أنه يريد أن يدنس الدير الذي تتناجى فيه الراهبات مع ربهن، حيث انقطعن للعبادة بعيدًا عن مظاهر الدنيا الزائفة.

انتهز غفلة من رئيسة الدير وصعد السلم، ومنه إلى غرفة كانت فيها راهبة، لحظها وهي تطل من الشباك.

كان على الراهبة مسحة من الجمال، هي البقية الباقية بعد تعب الصلاة والسهر وتحمُّل آلام تلك المعيشة البسيطة، بعد أن فرَّت من الدنيا إلى ذلك الدير، لما رأت الشر وقد انتشر، والخطيئة وقد عمَّت.

•••

دخل المجرم يريد غرضه الدنيء، ورفع السيف في وجهها مهددًا إياها إن نطقت كلمة واحدة فجزاؤها القتل.

سكتت تفكر، ثم ابتسمت له وتظاهرت بالرضا، عجبًا! ماذا جرى؟ نظرت إليه وقالت: فلتجس لتستريح؛ فيظهر أنك متعب.

جلس وجلست بجانبه فاطمأنَّ، واستبشر بتلك الغنيمة الباردة. قالت له: عجبي لكم يا رجال الحرب، أما تخافون الموت حتى تقذفوا بأنفسكم إلى أحضانه؟

فاسمع لذلك الجبان وهو يجيبها: إنها الظروف هي التي تضطرنا، فوالله لولا خوفي أن يقال عني جبان لهربت قبل أن يعرضوا عليَّ تلك القيادة المشئومة.

فابتسمت وقالت: هلا علمت أن لديَّ دهانًا لا يعرف إلا في هذا الدير، إذا طليت به جسمك لا تؤثر فيه حدة السيوف؟

– عجبًا! وأين هو؟ إني لمحتاج لمثل هذا الدهان.

– سآتيك به، وربما أعطيتك قليلًا منه.

•••

كان الرجل من أبناء ذلك العهد الذي سادت فيه الخرافات وقلَّ من لا يؤمن بها في ذلك العهد، فلا عجب إذا صدق بأن لديها دهانًا له مثل تلك الخاصة، وقد فكر في نفسه: أن ماذا يضيره لو هلك الجيش وعاش هو بفضل هذا الدهان العجيب؟

أتته بقارورة وأرته فيها مسحوقًا أبيض، فتلهف شوقًا عليه، ولكنه شك في حقيقته، وصرح لها بعدم تصديقه؛ فأخذت قليلًا من المسحوق وطلت به رقبتها ثم قالت له: ما دمت لا تصدق فهاك الدليل: اضرب بسيفك الحاد بكل قواك على رقبتي!

تردد قليلًا، ولكنها شجعته فضرب …

لقد كاد يغمى عليه، فقد رأى رأسها وهو يتمايل، ثم رأى جسمها وهو يسقط على الأرض بلا حراك، إذن لم تكن هذه إلا خدعة، ولم يكن هناك ثمَّ دهان سحري.

ماتت الراهبة، وقد اسودَّت الدنيا في وجهه، فلم ير أمامه غير شيئين: جسم الراهبة «العذراء» وقارورة الدهان المزعوم، فأخذ يجول بنظره تارة إلى الجسم وتارة إلى القارورة، ثم انتابه شبه جنون ففتح باب الغرفة الموصد وجرى بسرعة وسيفه المخضب بدماء العذراء لا يزال في يده، ثم نادى جنوده وهو يجري قائلًا: هيا، هيا من هذا المكان!

وما زال يجري حتى لحق به بعض جنوده، فإذا هو يبكي كالأطفال الذين لا عقل لهم وهو يقول: قتلتُها … قتلتُها! (موضوعة).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤