العلم

لقد كان علم فرنسا هو الذي يخفق فوق حقول الحنطة، أحمر وأزرق وأبيض. وكانت الأزهار والنباتات ترقص في هواء الصباح البارد.

وظهر وسط الحقول منزل قاتم اللون، وكأنه رابض هناك. بدأت الشمس في الظهور، وأرسلت أشعتها إلى ذلك البيت، وخرجت فتاة ظهر من لباسها أنها من القرويات، وهي صبوحة الوجه، يظهر على وجهها الساذج آثار الجمال.

وحولها كانت أصوات الدجاج تعلو، وصوت صياح الديك يصل إلى مكان بعيد. إلا أن عينَي الفتاة كانا يحدِّقان في سحابة زرقاء تسير في السماء، ثم تثبت أخيرًا بين الحقول.

هزت كتفيها في اشمئزاز: «الحرب … مرة أخرى!» وضربت الأرض برجلها وهي غضبى. لم تكن لها فائدة من استمرار تلك الحرب التي كانت تأخذ من القرية أجمل شبانها، وترسل بهم — إن لم يكن إلى الموت — فإلى الفخر والمجد.

وفي الطريقين ضياع لمستقبل فتيات القرية! كانت الحياة في القرية تمر ببطء وتمهل كَسَيْرِ الرجل الكهل الذي بلغ من العمر عتيًّا.

كانت نظارة الفتاة ثابتة على الدخان وهو يتصاعد من إحدى الجهات حتى إنها لم تسمع صوتًا بين سنابل الغلال؛ ومن ثم قفز رجل وأسرع يحتمي بالباب، وصاح بحذر صيحة صغيرة، ثم انتصب واقفًا أمامها.

هو رجل عليه ملابس جنود فرنسا، وهو ممزَّق الثياب متربها، جميل رغم هذا التراب الذي كان يعلو كل جزء من جسمه، له عينان سوداوان لامعتان: «يا إله السماء! لكم أرعبتني …»

كان في صوت الفتاة رنة حياء، رغم أنها كانت تحدق في وجهه، وتكاد تلتهمه بنظراتها.

ثم أسندت ذراعيها إلى الباب، وقالت له وكأنها قد عادت إلى الحياة: «أظن أنك آتٍ من المعركة؟ لقد كانت رحى الحرب دائرة هناك، أليس كذلك؟»

وأشارت بهزة من رأسها إلى الجهة التي كان الدخان لا يزل يتصاعد منها.

وقال الرجل مزمجرًا: «هؤلاء الألمان الخنازير! … هم لا يهمهم إلا القتل والقتل والقتل، إنهم لا يريدون الفتك بفرنسا، بل يريدون أرواح الناس فقط … وقد هجموا علينا مفاجأة هناك …»

ثم استراح قليلًا وهو يستند إلى باب المنزل، وضحك ضحكة أشبه بشهقة: «أظن أنني الفرد الوحيد الذي بَقِيَ على قيد الحياة وأنا …»

ثم سكت فعاد المكان إلى سكونه.

وتقدمت إليه الفتاة وهي مرتعبة، ومدت له يدها قائلة: «هل أنت مصابٌ بجرح أو شيء؟ دعني أحضر لك شيئًا؛ ماءً أو أي مساعدة أخرى؟ ماء أو …»

فهز رأسه، وظهرت ابتسامة هزء وسخرية على فمه أبانتها أسنانه البيضاء، ثم ضرب الأرض بيده وقال: «لقد مضى زمني يا فتاتي، إن لديَّ خرقًا هنا كفيلًا بأن يزهق حياة قطة ذات تسع أرواح، ولكن قبل … رحيلي …»

وأدخل يده إلى صدره وقال: «انظري هنا أيتها الفتاة.»

ونظرت الفتاة باستغراب إلى ما قدمه إليها وقالت: «ما هذا؟»

وقد ظهر لها كأنه قطعة قماش ملونة لفت بنظام، وقال بصوت أجش: «لقد أنقذته بأي الأسعار!»

ثم فرد قطعة القماش وقال: «علم فرنسا! لم يحصلوا على هذا — على الأقل — هؤلاء الألمان الملاعين، انظري هنا أيتها الفتاة …»

ثم أطبق يده على معصمها الذي لوحته حرارة الشمس وصاح بها: «يجب عليك أن تحافظي على هذا …» فقالت: «دعك من العلم.»

ثم أمسكت اليد التي طوقت معصمها بشجاعة: «إنه على أي حال قطعة قماش، وأنت شاب جميل، وأنا أريد أن أساعدك، لا تذهب.»

وكان في عينيها بريق غريب بينما كانت تحدِّق فيه: «في إمكاني أن أخبِّئك.»

وقد شعرت أن يده قد انفضَّت عن يدها وقد صاح بها: «خبئي فرنسا بدلًا مني، إيهٍ أيتها الفتاة! إن العلم هو فرنسا، يجب ألا يصل إلى أيدي الأعداء الألمان، هل تسمعين؟»

وكان يتكلم غاضبًا، ثم بدأ يلفُّ قطعة القماش بسرعة، ونظر إليها بيأس يبحث عن مخبأ … ثم تكلَّم ببطء: «إن ملابسك واسعة، خبئيه هنا، فرنسا في صدر امرأة! إنه لحصن آمن من برلين!»

ثم قال بصوت عالٍ: «أسرعي أيتها الفتاة!»

ثم بدأ يلاحظ الفتاة باهتمام وهي تفتح صدرها بأصابعها الكبيرة، وبعد أن أقفلته ثانية.

وبينما هو ينظر إذ خارت قواه وارتمى ناحية الباب، وكاد يقع لولا أن أسندته الفتاة بذراعها، وهدأ لحظة قصيرة وهو بين ذراعيها، ثم تململ بحركة صغيرة مؤلمة، وحاول أن يقف، وسمعته الفتاة يقول لنفسه: «خير لي أن أذهب، فيظهر أنه أقرب مما أظن!»

ثم تحول إلى الفتاة وحدَّق فيها بعينيه السوداوين: «أصغي إليَّ أيتها الفتاة، إذا مرَّ الألمان من هذه الناحية فاذكري أنك لم تريني والوقت لا يزال مبكرًا، فسيصدقونك.»

ثم نظر حوله إلى هذا العالم الذي لا يحوي إلا تغريد الطيور، وصوت اهتزاز سنابل القمح وهي تتماوج في الهواء، قالت الفتاة وقد احمرَّ وجهها خجلًا: «قبلني — على الأقل — قبل رحيلك.»

نظر إليها ببرود وقد وقفت أمامه ملتهبة العاطفة، عليها كل جمال الشباب، ثم هزَّ كتفيه وصاح: «واهًا! إنكنَّ — معاشر النساء — كلكنَّ على شاكلة واحدة، إنك تحملين فرنسا في صدرك، ثم …»

وضحك ضحكة مغتصبة: «وأنا رجل ميت، ومع ذلك تتحدثين عن الحب؟! الحب! … إيهٍ! إنها الحياة هي التي أحتاجها أيتها الفتاة!»

وقد قذفها بهذه الكلمات، وإن هي إلا أحجار ثم سار في طريقه.

وانثنت هي فوق الحاجز الخشبي بسكون، وبدأت ترقبه وسنابل الغلال تنفرج عن بعضها لتسمح لجسمه بالمرور، إلى أن سكن الصوت. ولم تبق إلا الأزهار وهي ترقص والهواء يداعبها.

ضربت الفتاة صدرها بيدها وصاحت: «فرنسا! أنا أكره فرنسا!»

وقد جالت الدموع الكبيرة في عينيها.

عن «لويز هيلجرز‏»‏

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤