وجوم …

«جنيس بلابت» فتاة شقراء جميلة، جمعت كل شروط الجمال، ولم يكن ينقصها شيء من مستلزماته، ومع ذلك كانت تعترف أنها ليست جميلة للحد الذي يلزم «رالف كنج» أن يمكث معها ولا يفارقها أبدًا، ورالف أحد أصحاب الملايين في نيويورك، وقد تعرَّف بها حديثًا، فأعلن لها أنها أجمل فتاة رآها للآن، ودعاها لأن تترك مسكنها في نيويورك وترحل معه إلى الجنوب، وكم كانت الحياة جميلة في «فيلا فلاوريدا» حيث سكنا! وقد طابت لها الحياة هناك وشعرت بالسعادة.

ثم لم يلبث بعد زمن قصير أن أخبرها بعبارة جافة مقتضبة أنه قد أودع لها في المصرف ما يكاد يكفيها من المال للرجوع إلى نيويورك، وقد فهمت من عبارته المختصرة أنه في حالة عصبية وغير مستريح البال. ثم رأته وهو داخل إلى الحديقة، وتبيَّنت على جبهته المقطبة صورة لحالته الفكرية، وعرفت أنه رغمًا عما قاله لها لا يزال منزعجًا، بل إن انزعاجه الحقيقي يفوق الظاهر على وجهه، ولما لم تكن جنيس ماهرة لتحتال عليه حتى تعرف سبب انزعاجه أو لتجعله لا يُفلت من يدها، بل وفوق ذلك كادت تفقد ثقتها في جمالها الجذاب، بدأت تتودد إليه ثانية: «لا تدعنا نفترق يا حبيبي، ربما كنت تعبًا وتحتاج إلى تغيير الهواء. اذهب في رحلة قصيرة وأنا أنتظرك هنا، ولكن لا تطردني، لا تتركني يا حبيبي، إني أموت …!»

… ثم ألقت بذراعيها حول رأسه ولامس خدها خده، أما فمها فقد طبع على فمه قبلة طويلة، ومال جسمها على جسمه! أما هو فقد تحوَّل عنها بقسوة وابتعد عنها، وقال: «لقد انتهى شأني معك، ألا تفهمين كلامي؟ لم نتزوج من بعض، لم تكن بيننا تلك العبارة السخيفة: «لا فراق بيننا إلى الموت» لقد أخذت فرصتك بعد أن أتيت إلى هنا بمحض رغبتك.

جنيس! أولى بك أن تتركيني بسكون، وفي المصرف أجرة رجوعك إلى نيويورك وفوقها مائتا جنيه.» وقد أصغت جنيس إلى حديثه ولهجة الاستهزاء التي كان يتحدث بها، وقد برزت أسنانها وضغطت على شفتيها من الغيظ، وتهورت هي أيضًا ثم قالت: «إنك لم تسأم مني بعد! إنه شخص آخر قد ملك عليك حواسك، إنها امرأة أخرى.» فهز كتفيه وقال: «لقد ذكرت الصدق، إنك مصيبة، هي امرأة أخرى.»

فصاحت جنيس: «سأجد هذه المرأة وسأحذرها، سأذكر لها أن فتنتك لا تدوم إلا ليلة واحدة، سأحذرها أن لا تثبت آمالها ومشاريعها.»

ابتسم رالف ابتسامة ألم وقال: «إنها لا تحتاج إلى رسالتك، إنها تعرف عني أكثر منك …! إذا لم يكن قد قدر لي أن أتشاجر معها، وإذا لم أكن حزينًا وقت أن رأيتك للمرة الأولى فإني أشك يا جنيس إذا كنت لاحظت شيئًا من جمالك.»

وقد تأثرت جنيس من لهجة الهزء التي كان يتحدث بها، واشتعلت نيران الغضب في قلبها، وقد شعرت بالإهانة حينما عرفت أنها لم تكن إلَّا ألعوبة لمدة قصيرة، وأنه لم يمكث معها إلا تسلية لنفسه ريثما يزول الغضب الذي كان يشعر به نحو المرأة التي يحبُّها حقيقة؛ فصاحت به وصوتها يرتجف: «ستدفع الثمن غاليًا! سأعرف هذه المرأة، وسيكون لي شأن معها، سأتسبب في ضررها بأي طريق … سأفعل.»

فرد رالف: «يجب أن تعرفي من هي أولًا، وعلى كل حال فلن يزعجها ما ستذكرين لها، فهي تعلم أني لست من الأنبياء.» وقد دلَّها هزُّ كتفيه على مقدار ما يعلقه من الأهمية على تهديدها بالانتقام، وشعرت أنها قد ضاقت ذرعًا بغضبها هذا، وبدأت عاطفة الشر والجريمة تتحرَّك في داخلها، ولكنها سكتت مؤقتًا، وقد عرفت أنها قد غلبت على أمرها، وأنها لا يمكنها أن ترد على لسانه الحاد، ذلك الذي كان حبيبها من وقت قصير، وحتى بعد أن هدأ غضبها الحاد، بقي الشعور بوجوب الانتقام، وشعور بوجوب الأذى، أذى لهذه المرأة التي أخذت منها رالف، والتي عرفت أنها تقف حائلًا بينهما.

وأخذ رالف قبعته من فوق المائدة ووضعها على رأسه، وكان مظهره واعتناؤه بملابسه ووجهه الجميل دلائل على أنه كان أصغر من سنه الحقيقي. لقد كانت تشعر بالفخر في أوائل أيامها عندما كان في صحبتها.

وقبل أن يخرج من الغرفة التفت نحوها وقد انبسطت أسارير وجهه وابتسم، فقد خشي عاقبة غضبها، ولكنه عاد فقطَّب جبينه عندما رأى أنها تجاهلت يده التي مدها إليها ليصافحها، وقال بخشونة: «إني آسف لأنه لا يمكنك أن تكوني مسامحة حتى نحو أصدقائك!» وخرج غاضبًا بعد أن أغلق الباب بشدة.

سارت جنيس إلى الشباك، ووقفت بلا حراك تتبعه بنظراتها، ثم انفرجت شفتاها عن ابتسامة حزن وألم، لم تفكر في البكاء؛ فهي لم تدَّعي يومًا ما أنها كانت تحبه، وقد ائتمرت حسب إرادته وأتت إلى الجنوب كما طلب منها، بعد أن حذرتها الفتيات الأخريات، وطلبن منها أن تبتعد عن رالف كنج؛ فكل مرتاد لبرودواي يعرف الشيء الكثير عن تقلبه وخلقه، أما جنيس فقد ضحكت منهن ومن حديثهن، واستولى عليها شعور أنها ستكون هي التي يمكنها أن تملك رالف إلى الأبد، ولكنها فشلت في محاولتها، وسقطت كالأخريات اللاتي لا عدد لهن، وألقى بها بعيدًا كلعبة صغيرة رماها الطفل الذي كان يلعب بها بعد أن سئم منها، ولم تنجح إلا المرأة الأخرى، المرأة التي امتلكته من قبل، والتي سيرجع إليها الآن، هذه هي الفائزة رغم سقوط جنيس والأخريات.

وكانت كل دقيقة تمضي الآن تزيد في كراهية جنيس لتلك المرأة، وتناوبتها رغبات مختلفة؛ أن تشد شعر هذه المرأة وتخدش وجهها وتشوه جمالها، وأن تؤذيها بكل وسائل الأذى.

نظرت جنيس إلى المياه الزرقاء التي كانت تمتد أمام ناظرها، لم تكن ترغب أن تترك المكان، فقد كانت مستريحة فيه، شعرت بارتياح وهي ترى أغصان النخيل وهي تهتز والأزهار وهي متفتحة الأكمام، وترى جمال الطبيعة ممثلًا حولها، ولكنها الآن مضطرة أن تقفل راجعة إلى نيويورك بسبب هذه المرأة المجهولة المكروهة، وليس هناك إلا مبلغ صغير من المال مودع باسمها في المصرف، وفي نيويورك يجب أن تبحث عن عمل جديد قبل أن ينفد المال كله من يدها، وعندما بدأت الشمس في الغروب وصبغت البقعة بلون أحمر، لم تكن حرارتها لتوازي حرارة نيران الحقد التي كانت تلتهب في قلب الفتاة التي هزأ منها رالف كنج.

وتمشت ببطء في الغرف التي تكوِّن منزلها المؤقت، الذي نعمت فيه بالحياة هنيهة من الزمن، وقد خالجها أسف وحزن وخوف لمبارحتها إياه؛ فهي تريد أن تمتع فيه إلى الأبد؛ ففيه ترى ضوء الشمس وتشعر بحرارتها وترى الأزهار، أما في نيويورك فماذا ترى سوى الجليد والجو الممطر؟

وقد مكثت إلى منتصف الليل على أمل أن يغير رالف رأيه، ولما لم يفعل أمرت وصيفتها أن تعد الحقائب وعزمت على أن تبرح المنزل في الصباح التالي.

•••

وفي نيويورك لم تجد ترحيبًا من أحد، وحدث ما كانت تخشى؛ إذ حلت فتاة أخرى محلها في المسرح الذي كانت تشتغل فيه، ولم تكن لمديره رغبة في مساعدتها؛ لأنها كانت قد تركته فجأة في أحرج الأوقات، فكانت تعاني فوق ذلك هزء الفتيات بها ونكاتهن عليها، وكلمات الشفقة والرثاء المعسولة.

فابتعدت عنهن، ولم تجهد نفسها للحصول على عمل، وحتى لما نفد المال من يدها لم تشتغل، فقد كانت رغبتها في اكتشاف مقر المرأة التي سلبت منها رالف كنج تفوق بكثير رغبتها في الحصول على أي عمل، كانت تعرف عنوانه في نيويورك، ولكنها استبعدت هذا الخاطر من فكرها؛ فإنه رغم ما كان معروفًا عن سوء سلوك رالف، فقد كان له مركز ممتاز في البيئات الشريفة العالية المنزلة، وذلك بالنسبة لماله ولاسم أسرته القديمة، ولهذا استبعدت جنيس أن يأخذ أي امرأة — حتى تلك التي كان حبها يملك عليه مشاعره — إلى منزله بنيويورك.

وفي يوم من الأيام قالت لها «فون برادلي» — وهي فتاة كانت تعيش معها في غرفة واحدة اقتصادًا للنفقات: «يجب أن تعترفي أن رالف كنج الذي رحلت معه مرة شاب جسور، فلا بد أن تكون معه الآن امرأة جديدة، فمن مدة طويلة مضت كنت أرى فيها دائمًا الستائر مسدلة على نوافذ المنزل، ولكن البارحة فقط لاحظت أن الستائر قد رفعت، وأن نافذة قد فتحت، واليوم وأنا مارة في الطريق رأيت امرأة — امرأة بارعة الجمال — تطل من الشباك …»

هزت جنيس كتفيها، وتظاهرت أن الأمر لا يهمها، وأنه سواء لديها، ولكن الحق أن نار الحقد بدأت تحترق بين ضلوعها، وقَرَّ قرارها النهائي على أن تذهب في اليوم التالي وترى هذه المرأة الفائزة، وتضربها وتهددها لتترك رالف إلى الأبد، والحق أنه كان شعور شرٍّ ووحشية يقع ضرره على جنيس نفسها.

غير أنه — بعد كل هذا — لم تتحقق خططها التي دبرتها، وكانت زيارتها لمنزل رالف كنج سببًا في التأثير عليها ووجومها عن الانتقام، وسبَّب ما رأته هناك جمود عاطفة الأثرة في نفسها وتلطيف حدتها.

حدث أن مدخل البيت كان مفتوحًا، وكان الخادم منهمكًا في عمله، تقدَّمت جنيس — وهي متحلية بملابسها الجديدة — وقرعت الجرس.

وفي هذه اللحظة شعرت بازدياد ضربات قلبها، وأخيرًا لما فتح الباب دخلت كأنها سيدة آمرة، وسارت إلى منتصف القاعة.

وهناك وقفت وقد ارتسمت على فمها آيات التعجب؛ فإن ما رأته لم يكن يخطر على بالها من قبل أن تراه، ولم تكن تتوقعه بالمرة؛ ففي الغرفة التي امتلأت بضوء الشمس، وقفت امرأة أكبر سنًّا منها بقليل وأكثر مهابة، رفعت المرأة بصرها، وكانت منهمكة في إصلاح رداء، ونظرت إلى جنيس.

لم تكن المرأة جميلة فتانة ترفل في ثياب حريرية كما كانت جنيس تتصورها دائمًا، ولكنها كانت صبوحة الوجه، بضَّة الجسم، جذَّابة الملامح، ترى الطيبة والشفقة مرتسمة على وجهها.

ورفع طفل صغير ذهبي الشعر بصره عن الكتاب الذي كان مشغولًا بتقليب صفحاته، ونظر إلى جنيس بعينين واسعتين متسائلين.

وانزعج طفل آخر أصغر منه من دخول الطارق المفاجئ الغريب؛ فأسرع إلى أمه يحتمي تحت ذراعها.

أما جنيس فقد صعقت في موقفها؛ فقد تأثَّرت بمظاهر هذه السعادة الشاملة، والسكون المنزلي.

لم يحدث لجنيس طول حياتها مثل هذا التأثير، مَرَّ بفكرها أن هذه المرأة التي امتلكت قلب رالف كنج ونجحت عن الأخريات، هذه المرأة التي رجع إليها أخيرًا وإلى الأبد — كما يظهر — لا بد وأن تكون زوجته!

وقد كانت تظن — عندما سارت مع كنج — أنه ليس إلَّا ذلك الشاب الخليع المستهتر المتنقِّل بين أحضان النساء، أما الآن فقد هدأ غضبها فجأة! ولم تعد تخطر في بالها الأفكار الحقيرة السابقة، وبينها خطط الانتقام. وشعرت بقلبها وقد تغيَّر وامتلأ إخلاصًا ونورًا! وهذه المرأة — زوجه — لا بد أنها على بيِّنة من أمر زوجها ورعونته وسقطاته، فإذا كانت تحبه وتريده — مع كل ما تعرفه عنه — فهي تستحقه إذن، ذلك ما حكمت به جنيس. وكانت نظرتها الصغيرة هذه — نظرتها الصغيرة إلى الحياة العائلية، إلى نمط من الحياة لا تعرف عنه إلا القليل — سببًا في أن تصل عواطف المحبة إلى أعماق قلبها، حتى إن مقدار البغض الحاد الذي كانت تشعر به نحو كنج نفسه نَقَصَ؛ فإنه لم يخل من فضيلة واحدة، على الأقل هي التي جعلته يعود إلى زوجه.

لقد حضرت تحمل الكثير من كلمات السباب والغضب كي توجهها إلى المرأة التي كانت تنتظر أن تجدها في مسكن رالف، أما الآن فهي مرتبكة، تبحث في عقلها عن كلمات الاعتذار التي يجب أن تردَّ بها على زوجه التي تسألها بصوت لطيف عما تطلب.

دمدمت معتذرة بحدوث خطأ، ثم أسرعت وهي تتعثَّر في مشيتها إلى باب القاعة ومرقت منه، وقد هدَّأت من عواطفها الثائرة وهي تنزل السلم، ومع الحزن الذي كانت تشعر به كان هناك في نفسها شعور آخر بالراحة والرضاء؛ فقد ذهبت فكرة الانتقام — على الأقل — من بالها بعد أن كانت تقلق عليها منامها، فيمكنها الآن أن تنصرف جديًّا إلى البحث عن عمل. كانت واثقة من أنها ستجده على أي حال؛ فمديرها القديم وتكينز كان مستعدًّا أن يساعدها لو أنها تملَّقته أو لاطفته قليلًا، وهي الآن بعد أن بعدت عواطف الشر عن قلبها سيمكنها أن تنال عطفه.

•••

وإذا رجعنا إلى المنزل الذي كانت فيه جنيس من هنيهة لسمعنا أصغر الطفلين ينظر إلى أمه ويقول لها: «ألم يكن منظرها مضحكًا يا أماه؟ أظن أنها لم تكن تنتظر أن تجدنا هنا.»

هزت المرأة الجميلة رأسها وقالت: من المؤكد لا يا عزيزي، وربما كانت إحدى صديقات المستر كنج، ويظهر أن الكثيرين لم يسمعوا بعد أنه أجَّر لنا سكنه هذا إبان غيابه في رحلته في البحر الأبيض!

عن «ماري سيرز‏»‏

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤