هل هي آثمة؟

جلس الفتى في الحانة يتناول أقداح الخمر، وكان يسرف في الشرب، وعليه ملامح التفكير العميق، كان يتناول الكأس ثم يضع رأسه بين كفيه وهو عابس الوجه، يحدق في الفضاء، لا يلتفت للذين حوله، وقد ارتسمت على وجهه صورة من صور الألم والحزن.

فإذا أصغيت إلى تلك الكلمات التي كان يتحدث بها إلى نفسه سمعته يقول: «زوجي! زوجي! تخونني! يا للمصاب؛ الزوج التي كنت أعتقد أنها ملاك هبط من السماء، الزوج التي عبدتها عبادة، وأحببتها أكثر من نفسي … «آه» يا لها من خائنة! إذن فلم تكن نظراتها إلا نظرات غدر … ولم تكن ابتساماتها لي إلا ابتسامات الخديعة والمكر، ثم لا تخجل تلك الشقية فتتحدث بخيانتها.»

ثم يستمرُّ في احتساء أقداح الخمر … حتى ثمل أو كاد …

•••

لهذا الفتى قصة، قصة فيها شيء من الغرابة، فهذه الخمر التي رأيناه يحتسيها في الحانة، لم يكن قد ذاقها منذ عام، كان قد هجر الحانات والمشارب منذ زواجه.

كان عاملًا صغيرًا، يعيش منفردًا، ولقد تصادف أن رآها، تلك التي اختارها زوجًا فيما بعد فأحبها. أما هي فكانت لا تبادله هذا الحب، بل كانت تكرهه، ولم تكن لتريده زوجًا لها، ولكنه انتهز فرصة وقوع أهلها في ضائقة مالية فطلب يدها، فلم يمانعوا، وجمعتهما الأقدار. كان يحبها حبًّا شديدًا فأخلص لها، ومن يوم زواجه بها هجر الحانات وترك أصدقاء وصديقات السوء، وابتسم له القدر، فحسُن مركزه، وصار ذا ثروة تُذكَرُ.

أما هي فرغم أنها أكرهت على هذا الزواج ولم تكن راغبة فيه، إلا أنه لم يمضِ زمن طويل حتى راقت لها الحياة الزوجية؛ فأحبت زوجها، غير أنه كانت هناك نقطة سوداء في حياتها، فقد كان لها خليل قبل زواجها، كان له معها شأن يذكر! أما ذلك الخليل فقد كان من المستهترين الذين لا يهمهم إلا إرواء غليل شهواتهم. أخلصت لحليلها من يوم زواجها، غير أن الاعتراف بالجريمة كان عبئًا ثقيلًا لا قِبَلَ لها بحمله، فكم نغَّص عليها سعادتها وحياتها، كانت تنظر إلى زوجها فترثي له، وترى أنها غير مستحقة لعطفه وحبه.

كانت تشعر كأنها آثمة خائنة، وأنه محال أن تكفر عن جرمها هذا بغير الاعتراف لزوجها، وبعد ذلك قد لا تشوب سعادتها شائبة، فتعيش مطمئنة في أمن من وخز ضميرها. وأخيرًا أخيرًا، اجترأت أن تفاتح زوجها، وبدأت تستعطفه، وكأنها كانت تظن أن زوجها سيفتح لها ذراعيه فيضمها إلى صدره ويقول لها: «قد نسيت الماضي.»

إلا أن شيئًا من ذلك لم يكن؛ فقد ثار الرجل عندما سمع أولَ حديثها، ثم هدَّدها بالقتل، ثم أخذ يصيح كالمعتوه، وبدأ يلعنها ويلعن ساعةَ رآها وساعةَ تزوجها.

لقد دخل في رُوعِ الرجل أن زوجه لا تزال تخونه، وأن ذلك الجنين الذي في بطنها ليس ابنه، رأى آماله تنهار، ورأى أنه فقد كل شيء؛ فَقَد زوجه، فلمن يحيا بعد ذلك وليس له أحد في حياته؟ أما ذلك الجنين الذي لم يَرَ نور الحياة بعد فهو ليس ابنه، وليتكفل به والده.

أما الزوج فلم تتمكَّن من مفاتحته ثانية أو إقناعه بخطئه. ولما هدأ شعر بحزن شديد ورأى أن يهجر المنزل؛ فهو يذكره بشبح الخيانة، فترك المنزل وفيه زوجه تبكي وتندب حظها العاثر.

هل أخطأت باعترافها؟

أما هو فإلى الحانة، فماذا يحول الآن بينه وبينها؟ لا شيء.

وهو جالس في الحانة كما رأيناه يحتسي الخمر تباعًا.

•••

هذه هي قصته، أما ما حدث له بعد ذلك فقد ترك الحانة في ساعة متأخرة من الليل، بعد أن ثمل بنشوة الخمر، ولم تكن هيئته لتنبئ بالخير، وظل يتجوَّل في الشوارع إلى الصباح، فعثر به رجال البوليس وأرسل إلى المخفر كاللص، ولما بدءوا في استجوابه تبيَّن لهم أنه معتوه، وأنه فاقد لرشده؛ فقرروا إرساله إلى المستشفى.

عن «الفرنسية‏»‏

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤