١٤

إليزابيث كُسْتِلُّو ضيفة مثالية حقًّا. تنحني على طاولة القهوة في أحد أركان غرفة المعيشة التي استولت عليها، تقضي نهاية الأسبوع مستغرقة في نسخة ضخمة مكتوبة على الآلة الكاتبة، يبدو أنها تضع لها حواشي. لا يقدِّم لها وجباتٍ، ولا تطلب. تختفي من الشقة من وقت لآخر دون كلمة. يمكنه فقط أن يخمِّن ماذا تفعل: ربما تلفُّ في شوارع شمال أدليد، ربما تجلس في مقهى تقضم كعكة وتشاهد حركة المرور.

يبحث، في إحدى مرات غيابها، عن النسخة المكتوبة على الآلة الكاتبة، ليتعرف على ما بها، فلا يعثر عليها.

يقول لها مساء الأحد: هل لي أن أستنتج أنك أتيْتِ إليَّ طارقة بابي لتقومي بدراستي وتضعيني في كتاب؟

تبتسم. هل يمكن أن يكون الأمر بهذه البساطة، مستر ريمنت.

– لماذا لا يكون بسيطًا؟ يبدو لي شديد البساطة. تكتبين كتابًا وتضعينني فيه؟ هذا ما تفعلينه؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما نوع الكتاب، ثم ألا تعتقدين أنك في حاجة إلى موافقتي أولًا؟

تتنهد. إذا كنتُ في سبيلي لأضعك في كتاب، كما تقول، فسأفعل ذلك ببساطة. أغير اسمك وظرفًا أو اثنين من ظروف حياتك، لألتف على قانون الحرية، وهو ما يحدث عادة. ولن أحتاج إلى الإقامة معك. لا، أنتَ أتيْتَ إليَّ، كما أخبرْتُكَ، الرجل ذو الساق الفاسدة.

تعب من إخباره بأنه أتى إلى هذه المرأة. يبدي ملاحظة بطريقة جافة قدر ما يستطيع: ألا ترين أن استخدام شخص أتى إليك طوعًا أسهل؟ تخلي عني. لستُ شخصًا سهل الانقياد، كما ستكتشفين قريبًا. انصرفي. لن أحتجزك. ستجدين راحة في التخلص مني. والعكس صحيح.

– وعاطفتك غير المناسبة؟ أين أعثر على شخص آخر مثلك؟

– عاطفتي، كما تقولين، لا تخصُّكِ، مسز كُسْتِلُّو.

– تبتسم ببرود، وتهز رأسها. ترد بهدوء: لسْتَ مَنْ يخبرني بما يخصني.

تقبض يده بقوة على عكازه. لو كان عكازًا حقيقيًّا، من طراز قديم، مصنوع من خشب الدردار أو خشب الأوكالبتوس، لو كان ثقيلًا بعض الشيء، بدل أن يكون من الألومونيوم، لهوى به على جمجمة العجوز الشمطاء، مرة بعد أخرى، بقدر ما تستدعي الضرورة، إلى أن تستلقي تحت قدميه وتتشرب السجادة دمها، وليفعلوا به بعد ذلك ما يشاءون.

يرن جرس التليفون. مستر ريمنت؟ أنا ماريانا. كيف حالك؟ آسفة لغيابي بضعة أيام. كنتُ مخطئة. آتي غدًا، موافق؟

هذه هي الحكاية بينهما إذن، كانت مخطئة. نعم، بالطبع موافق، ماريانا. أتمنى أن تكوني في أفضل حال. أراك غدًا كما كنتِ عادة.

يخبر ضيفته بنبرة حقيقية بقدر ما يستطيع: تعود ماريانا إلى الوظيفة غدًا. آن أن تنصرفي، يأمل لو تفهم الرسالة.

– حسن. سأبتعد عن طريقها. وحين يحملق فيها بغضب: هل تخشى أن تعتقد أني من صديقاتك القدامى؟ تبتسم له ابتسامة لا يمكن أن توصف بأقل من البهجة. لا تأخذْ كل الأمور بجدية، بول.

ينكشف السبب وراء قرار ماريانا بالعودة وهي على الباب. حتى قبل أن تخلع سترتها — تمطر، مطرًا دافئًا مشبعًا ببخار يحمل رائحة الأوكالبتوس — تلقي على الطاولة كراسة دعاية مصقولة. على الغلاف بنايات شبه غوطية أمامها مروج شاسعة؛ ثمة ولد أنيق، في مجموعة، خلع سترته، وربطة عنق بجانب لوحة مفاتيح كمبيوتر، وصديق بنفس الأناقة يحدق من فوق كتفه. وِلنْجتون كولج: خمسة عقود من التفوق. لم يسمع أبدًا عن ولنجتون كولج.

تقول ماريانا: يقول دراجو إنه سيلتحق بها. تبدو مدرسة رائعة، ألا تظن ذلك؟

يتصفح كراسة الدعاية. يقرأ بصوت عالٍ: معهد الأخت إلى ولنجتون كولج في بمبروكشير. يُعدُّ الشباب لتحديات قرن جديد … في مجال الأعمال، والعلم والتكنولوجيا، والقوات المسلحة. أين هذا المكان؟ كيف اكتشفْتِه؟

– في كَنْبرا. في كنبرا يتعرف على أصدقاء جدد. أصدقاؤه في أدليد ليسوا طيبين، يجرونه إلى الحضيض. تنطق أدليد بالطريقة الإيطالية، في تناغم مع سبَيْدر. من دبروفنيك، على مرمى حجر من فينيسيا.

– وأين سمعْتِ عن ولنجتون كولج؟

– يعرف دراجو كل شيء عنها. مدرسة تغذي أكاديمية قوات الدفاع.

– مدرسة مغذية.

– مدرسة مغذية. لهم الأولوية كما تعرف.

يعود إلى كراسة الدعاية. نموذج الالتحاق. جدول المصروفات. يعرف أن مصروفات المدارس الداخلية باهظة؛ ومع ذلك، تصدمه الأرقام بالأسود والأبيض.

– كم سنة يقضيها هناك؟

– عامين إن بدأ في يناير. في عامين يمكن أن يتخطى العام الثاني عشر، وبعد ذلك يمكن أن يحصل على إعانة مالية. كل ما يحتاج إليه مصروفات عامين.

– دراجو متحمس للمدرسة؟ وافق على الالتحاق بها؟

– متحمس جدًّا. يريد أن يلتحق بها.

– من الطبيعي، كما تعرفين، أن يلقي الآباء نظرة على المدرسة قبل أن يتورطوا. تجولي في المباني والأفنية، تحدثي مع الناظر، استكشفي المكان. هل أنت متأكدة من أنك وزوجك ودراجو لا تريدون زيارة ولنجتون كولج أولًا؟

تخلع ماريانا سترة المطر — مصنوعة من مادة بلاستيكية نقية، عملية تمامًا — وتلقي بها على أحد المقاعد. جلدها دافئ ومتورد. لا أثر للتوتر الذي حدث في لقائمها الأخير. تقول: هل تظن أن من الضروري أن يذهب مستر ومسز يوكتش من مُنُّو بارا، ليريا إن كانت ولنجتون كولج مناسبة لابنهما؟

نبرتها هادئة. إذا كان هناك شخص مرتبك فسيكون هو.

– تعرف، مستر ريمنت، أن زوجي كان رجلًا مشهورًا ومرموقًا في كرواتيا. ألا تصدَّقُني؟ صوره في كل الصحف. ميروسلاف يوكتش والبطة الآلية. في التلفزيون — تحرك إصبعين في الهواء — البطة الآلية تمشي، وتصدر صخبًا كأنها تقول كواك، وتأكل — تربت على صدرها — وأشياء أخرى أيضًا. بطة قديمة، قديمة. تأتي من السويد. تأتي إلى دبروفنيك عام ١٦٨٠م، من السويد، لا أحد يعرف كيف يصلحها. ثم يصلحها ميروسلاف يوكتش بصورة رائعة، كان، على مدى أسبوع، أسبوعين، رجلًا شهيرًا في كرواتيا. لكن هنا — ترفع عينيها إلى السماء — من يهتم؟ لا أحد في أستراليا يسمع عن البطة الآلية. لا أحد يعرفها. ميروسلاف يوكتش، لا أحد يسمع عنه. مجرد عامل في مجال السيارات. بلا قيمة، عامل في مجال السيارات.

يقول: لستُ متأكدًا من أني سأتفق معك. العامل في مجال السيارات ليس بلا قيمة. لا أحدَ بلا قيمة. وعلى أية حال، سواء قمتم بزيارة مسئولي ولنجتون كولج أم لا، سواء كنتم من منو بارا أو تِمْبوكتو، يمكن أن أحدس فقط بأن فلوسكم ستسعدهم. اذهبي واكتبي الطلب. سأدفع. أقدم لك الآن شيكًا بمصروفات الطلب.

هكذا تجري الأمور. بكل سهولة. يتورط. صار أبًا روحيًّا. الأب الروحي: شخص يقود طفلًا إلى الرب. هل يجد في نفسه القدرة على قيادة دراجو إلى الرب؟

تقول ماريانا: رائع. أخبرُ دراجو. تجلب له السعادة الحقيقية. وقفة. وأنت؟ ساقك بخير؟ لا تؤلمك؟ تقوم بتمريناتك؟

يقول: الساق بخير، لا تؤلمني. ما لا يقوله هو: لماذا تركْتِ الوظيفة، ماريانا؟ لماذا تخلَّيْتِ عني؟ علاقة مهنية صعبة، ألم تكن كذلك؟ أراهن على أنك لا تريدين أن تسمع مسز بوتز بذلك.

ما زال مفعمًا بالحزن، يريد إشارة من ماريانا تنم عن الندم. وينتشي، في الوقت ذاته، بعودتها، وتستثيره تمامًا الفلوس التي على وشك أن يدفعها. يبهجه العطاء دائمًا، يعرف ذلك عن نفسه. مما يدفعه إلى مزيد من العطاء. مثل المُقامِر. كل الإثارة في الخسارة. خسارة وراء خسارة. السقوط المتهور والطائش.

أرست ماريانا، في طريقة عملها المعتاد، نظامًا في العمل. تبدأ بغرفة النوم، تخلع ملاءات السرير وتفرش ملاءات نظيفة. ويمكن أن تشعر بعينيه تقع عليها، إنها على يقين من ذلك، يمكن أن تشعر بالدفء آتيًا منه، مداعبًا «وركيها» وثدييها. ينطلق إيروس منه بقوة في الصباح. لو يستطيع، بمعجزة، أن يعانق ماريانا في الحال، في هذه الحالة المزاجية، ينتهز الفرصة المواتية، قد يتغلب على استقامتها، إنه على استعداد للرهان. لكن، بالطبع، مستحيل. وقاحة. أسوأ من الوقاحة، جنون. لا يجب حتى أن يفكر في ذلك.

ثم يُفتَح بابُ الحمَّام وتدخل كُسْتِلُّو المرأة إلى المشهد، في روب وشبشب. تجفف شعرها بفوطة، كاشفة عن بقع قرنفلية في فروة رأسها. يقدمها بسرعة خاطفة: ماريانا، هذه مسز كُسْتِلُّو. تقيم هنا لفترة قصيرة. مسز يوكتش.

تقدم ماريانا يدها فتأخذها كُسْتِلُّو المرأة بهمهمة دينية. تقول: أعدك بألا أقف في طريقك.

– لا تقلقي.

يسمع، بعد دقائق، صوت غلق الباب الخارجي. يشاهد، من النافذة، كُسْتِلُّو المرأة تتسحب في الشارع باتجاه النهر. وعلى رأسها قبعة من القش، يعرف أنها قبعته، لم يستخدمها منذ سنوات. أين عثرتْ عليها؟ هل تفتش في خزانته؟

تقول ماريانا: سيدة لطيفة. هل هي صديقة؟

– صديقة؟ لا، لا إطلاقًا، مجرد زميلة. وراءها بعض المهام في البلدة، وتمكث هنا لبعض الوقت.

– حسن.

ماريانا على عجل من أمرها، أو هذا ما يبدو. من المعتاد أن أول ما تقوم به في الصباح هو الاهتمام بساقه ومرافقته في تمريناته. لكنها اليوم لا تذكر التمرينات. تقول: عليَّ أن أذهب، إنه يوم خاص، عليَّ أن آخذ ليوبيكا من مجموعة اللعب. تخرج من حقيبتها فطيرة مجمدة. أعود بعد ظهيرة اليوم، ربما. هذا بسيط شيء اشتريته لغدائك. أتركُ الفاتورة، تدفع لي فيما بعد.

يصحح لها: شيء بسيط.

تردد: شيء بسيط.

بمجرد أن تنصرف يصر المفتاح في المزلاج وتعود إليزابيث كُسْتِلُّو. تعلن: اشتريتُ بعض الفاكهة. تضع كيسًا من البلاستيك على الطاولة. ستتم مقابلة، يمكن أن أخمن. هل تظن أن ماريانا جديرة بذلك؟

– مقابلة؟

– من أجل هذه الكلية. سيطلبون مقابلة الولد وأبويه، خاصة الأبوين، ليتأكدوا من أنهما على المستوى المطلوب.

– دراجو هو الذي يطلب الالتحاق، وليس أبواه. لو أن مسئولي ولنجتون كولج لديهم أي إحساس، فسيقفزون ليأخذوا دراجو.

– ولكن ماذا لو سألوا الأبوين صراحة كيف يدبران تلك المصروفات الهائلة؟

– سأكتب لهم خطابًا. أقدم الضمانات. أفعل كل ما هو مطلوب.

تبني هرمًا صغيرًا من الفاكهة؛ المشمش، الخوخ، العنب، في سلطانية على طاولة القهوة. تقول: يا له من أمر رائع. إني جد سعيدة لأن الفرصة سنحت لي لأعرفك على نحو أفضل. إنك تمنحني الإيمان!

– أَمنحكِ الإيمان؟ لم يقل أحد ذلك من قبل.

– نعم، تمنحني الإيمان مرة أخرى. يجب ألا تأخذ ما قلتُه عنك وعن مسز يوكتش على محمل الجد. أنا مرتبكة، هذا كل ما في الأمر؛ لأني في حضرة حب حقيقي من طراز قديم. أنحني لك.

تتوقف عَمَّا تقوم به وتحني رأسها، بطريقة لا تخلو من السخرية، انحناءات بسيطة.

تواصل: مَهما يكن، تذكَّرْ، ما زال عليك تَخطِّي حاجز ميروسلاف. لا يمكن أن نسلِّم بأن ميروسلاف سيوافق على التحاق ابنه بمدرسة داخلية خيالية على بعد آلاف الأميال. وسيوافق على أن تُؤْخَذ عليه تعهدات مالية من رجل تزوره زوجته ستة أيام في الأسبوع، الرجل ذي الساق المفقودة. هل فكَّرتَ ماذا ستفعل مع ميروسلاف؟

– سيكون غبيًّا إن رفض. الأمر لا يتعلق به، يتعلق بابنه، مستقبل ابنه.

تقول بهدوء: لا، بول، ليس صحيحًا. من الولد إلى الزوجة، ومن الزوجة إليه، هكذا يسير الخيط. تمسُّ كبرياءه، شرف رجولته. عليك أن تواجه ميروسلاف عاجلًا أو آجلًا. ماذا تقول حين يأتي ذاك اليوم؟ «أحاول تقديم مساعدة ليس إلا؟» هل هذا ما ستقوله؟ لن يكون كافيًا. الحقيقة وحدها ستكون كافية. والحقيقة أنك لا تحاول تقديم مساعدة. بالعكس، تحاول أن تلقي بدلوك في شئون عائلة يوكتش. تحاول أن تمتلك نبضات مسز ي. أن تغري أطفال مستر ي بالبُعد عنه وتتخذهم أطفالًا لك، واحدًا أو اثنين أو حتى الثلاثة. لا يمكن أن أصف هذه الأجندة بالود إطلاقًا. لا، لسْتَ صديق ميروسلاف، وأرى أنك لا يمكن أن تكون صديقه بأي شكل. لن يعاملك ميروسلاف بلطف؛ وهل يمكن أن تلقي عليه باللائمة؟ كيف يمكن إذن أن تتصرف مع ميروسلاف؟ لا بد أن تفكِّر. لا بد أن تفكر. تنقر جبهتها بأنملة. وإذا أخذتْكَ أفكارُكَ إلى حيث أعتقد، إلى حائطٍ سدٍّ بالتأكيد، فعندي بديل أقترحه عليك.

– بديل لماذا؟

– بديل لهذا الوضع المُعقَّد تمامًا بينك وبين آل يوكتش. انسَ مسز يوكتش وتعلُّقَكَ بها. عد بذاكرتك إلى الوراء. هل تتذكر آخر مرة زرْتَ فيها قسم تقويم العظام بالمستشفى؟ هل تتذكر المرأة ذات النظارة القاتمة التي كانت في المصعد؟ التي كانت برفقة امرأة أكبر منها؟ تتذكر بالطبع. تركتْ تأثيرها فيك. حتى أنا أستطيع رؤية ذلك.

– لا شيء في حياتنا يحدث بلا معنى، بول، كما يمكن أن يخبرك أي طفل. هذا درس من الدروس التي نتعلمها من القصص، واحد من دروس كثيرة. هل تقرأ قصصًا؟ خطأ. لا يجب.

– أكمل لك حكاية المرأة ذات النظارة القاتمة. إنها، للأسف، ضريرة. فقدتْ بصرها منذ عام نتيجة ورم خبيث. فقدتْ إحدى عينيها بالكامل، استؤصلت جراحيًّا، وفقدت الأخرى وظيفتها أيضًا. كانت قبل الفاجعة جميلة، أو على الأقل جذابة؛ وهي اليوم، للأسف، قبيحة بقدر ما يكون الضرير قبيحًا. يفضل المرء ألا ينظر إلى وجهها. أو بالأحرى، يحدق المرء فيها ثم يشيح ببصره، نافرًا. وهي، بالطبع، لا ترى هذا النفور، إلا أنها تشعر به. تعي نظرات الآخَرِين مثلما تعي الأصابع التي تتلمسها، تتلمسها وتتراجع.

– أن تكون ضريرة أسوأ من أية تحذيرات سمعَتْها، أسوأ مما تخيَّلتْ. إنها يائسة. صارت عرضة للاشمئزاز في شهور. لا تستطيع الخروج إلى النور؛ حيث يمكن أن تقع عليها العيون. تود لو تختفي. إنها مفعمة بشهوة تعيسة. وهي، كامرأة في صيف حياتها، تجأر بالشهوة، يومًا بعد يوم، كما تجأر بقرة أو خنزيرة في الحر.

هل تندهش لما أقول؟ تظن أنها مجرد قصة أخترعها؟ ليست كذلك. المرأة موجودة، وقد رأيْتَها بأم عينيك، واسمها مارينَّا. هذا العالم الذي يبدو هادئًا، العالم الذي نسكنه، مليء بأهوال لا يمكن أن تتخيلها مَهما حاولْتَ، بول. ما يحدث في أعماق المحيطات، مثلًا، في قاع البحر؛ يتجاوز كل ما يمكن أن نتخيله.

– ما تتوق إليه مارينَّا ليس المواساة، وبالتأكيد ليس التأليه، بل الحب في أقوى تجلياته الجسدية. تود أن تكون، ولو لوقت قصير، كما كانت من قبل. أقول لك: لماذا لا ترى من تستطيع أن تحقق هدفك وهدفها معًا، أنت ومارينَّا، هي ضريرة، وأنت أعرج؟

– أخبركَ بشيء آخر عن مارينَّا. مارينَّا تعرفك. نعم، تعرفك. تعارفتما، أنت وهي. هل تدرك ذلك؟

بدا الأمر وكأنها تقرأ من دفتر يوميات. وكأنه احتفظ بدفتر يوميات، وتسحَّبَتْ هذه المرأة ليلًا إلى شقته وقرأَتْ أسراره. لكنه لا يحتفظ بدفتر يوميات، إلا إذا كان يكتب وهو نائم.

يقول: أنتِ مخطئة مسز كُسْتِلُّو. لم أرَ المرأة التي تشيرين إليها، وتسمينها مارينَّا؛ إلا مرة واحدة، في المستشفى، ولا يمكن أن تكون قد رأتني. وبالتالي لا يمكن أن تكون قد تَعرَّفَت عليَّ، بمعنى من المعاني.

– نعم، قد أكون مخطئة، هذا مُحتمَل. وقد تكون أنتَ المخطئ. ربما تعود مارينَّا إلى فترة سابقة من حياتك، حين كنتما صغيرَيْن ومكتمِلَين وبحالة تَسُر النظر، وتكون قد نسيتَ ذلك ببساطة. كنْتَ مصوِّرًا محترفًا، أليس كذلك؟ ربما التقطتَ لها صورة ذات يوم، وركَّزت كل انتباهك على الصورة التي التقطتها، وليس عليها هي، مصدر الصورة.

– ربما. لكن ذاكرتي ما زالت بخير، ولا أتذكر شيئًا من هذا القبيل إطلاقًا.

– حسن، سواء كنتما صديقين قديمين أم لا، لماذا لا ترى من تستطيع أن تحقق هدفك وهدفها معًا، أنت ومارينَّا؟ سآخذ على عاتقي، واضعة في الاعتبار الظروف الاستثنائية للحالة، مسألة ترتيب لقاء بينكما، لا تحتاج إلا إلى أن تنتظر وتستعد. تأكدْ، لو أن هناك اقتراحًا أقدمه لها فسأقدمه بطريقة تجعلها تأتي بدون أن تفقد احترامها لنفسها.

– كلمة أخيرة. أَقترِح عليك، افعل ما تفعله أنت وهي، مَهما يكن، في الظلام. كما هو ظلام بالنسبة لها. اعتبر سريرك كهفًا. حين تهب العاصفة، تدخل الصيادة البتول بحثًا عن ملاذ. تمد يدها فتلتقي بيد أخرى، يدك. وهلم جرًّا.

كان عليه أن يقول شيئًا حاسمًا، لكنه لا يستطيع، وكأنه مخدَّرٌ أو مذهولٌ.

تواصل كُسْتِلُّو: من الأحداث التي تَدَّعِي أنكَ لا تتذكرها، اليوم الذي قد تكون أو لا تكون التقطتَ فيه صورة لها، ولا يمكن أن أقول: كنْ أقل ثقة في نفسك، قلِّبْ ذاكرتك وستندهش من الصور التي تطفو على السطح، لكن لن أضغط عليك. لنشيِّد الجانب الذي يخصك من القصة بافتراض أنك لم تُلْقِ عليها سوى نظرة واحدة، في المصعد. نظرة واحدة، لكنها كافية لإشعال الرغبة. ماذا سيُولَد من رغبتك واحتياجها؟ العاطفة في أسمى صورها؟ حريق خريفي عظيم مرة أخرى؟ لنرَ. الموضوع في يدك، يدك ويدها. هل فرضيتي مقبولة؟ قل نعم إن كانت كذلك. أو إن كنْتَ خجِلًا، هز رأسك. نعم؟

– اسمها مارينَّا كما قلتُ بتضعيف النون. ليس لي شأن بذلك. ليس في استطاعتي تغيير الأسماء. يمكن أن تطلق عليها اسمًا آخر مؤقتًا إن أحببْتَ، اسم تدليل، دارلنج أو كيتِن أو ما شئت. كانت متزوجة، وانهار الزواج بعد ضربة القدر التي وصفتُها، مثلما انهار كل ما عداه. حياتها فوضى. تعيش حاليًا مع أمها، المرأة التي رأيتها معها، الحيزبون.

– تكفي هذه الخلفية حاليًا. يمكن أن تعرف البقية من شفتيها. بتضعيف النون. يُحكى أنها ابنة فلاح خنزير. هِندامُها فوضى ككل شيء آخر في حياتها، لكن يمكن التغاضي عن ذلك، من لا يخطئ أحيانًا وهو يلبس في الظلام؟

– عصبية لكنها نظيفة. منذ أن أجريت لها الجراحة، الجراحة بالغة الدقة، على العكس تمامًا من عملية البتر التي تشبه الجزارة، صارت موسوسة بشكل مَرَضيٍّ بشأن النظافة، وبشأن رائحتها، يحدث هذا مع بعض المكفوفين. من الأفضل أن تكون نظيفًا من أجلها أيضًا. سامحني إن تكلمْتُ بفجاجة. استحم جيدًا، اغسل كل جزء، وتخلَّ عن هذا الوجه الحزين. فقدان الساق ليس مأساة، على العكس فقدان الساق ملهاة، فقدان أي جزء ناتئ من الجسم ملهاة، وإلا لما كان لدينا هذه النكات الكثيرة عن الموضوع. كان هناك رجل عجوز بساقٍ واحدة، خرج يتسول بقبعته. وهلم جرًّا.

– أنصحك، بول: الأعوام تجري بسرعة البرق، فاستمتع وأنت ما زلتَ متوردًا. الوقت متأخر دائمًا أكثر مما تظن.

– ولا، ماريانا الأخرى، المرأة الممرضة، لم تكن فكرتي، إن كان هذا ما يدهشك فهذه الأمور لا تخضع لنظام. ماريانا من دبروفنيك، عاطفتك غير المناسبة، وصلتْ عن طريق صديقتك مسز بوتس. لا تهمني في شيء.

– لا تعرف ماذا تفعل بي، أليس كذلك؟ تُفكِّر فيَّ وكأني قضية. معظم الوقت تظن أن حديثي هراء، وأني أجعل الأمور على هواي. إلا أني ألاحظ أنك لم تَثُرْ بعد. تتحملني على أمل أن أكف وأنصرف. لا تنكرْ، مكتوب على وجهك، واضح أمام الجميع. أنت أيوب، وأنا إحدى المصائب المستعصية التي نزلَتْ بك، المرأة التي لا تكف، معبَّأة بخطط لإنقاذك من نفسك، ثرثرة، ثرثرة، ثرثرة، والسلام هو كل ما تصبو إليه.

– ليس من الضروري أن تجري الأمور على هذا النحو، بول. أقولها مرة أخرى: إنها قصتك، وليست قصتي، سأختفي حين تقرر تَحمُّل المهمة، لن تسمع صوتي بعد ذلك؛ يكون الأمر وكأني لم أوجد أبدًا. أَعتزِل، وتكونان، أنت وهي، حُرَّيْن في تحقيق خلاصكما الشخصي.

– فكِّرْ كيف بدأْتَ بداية طيبة. لشد انتباه المرء، ماذا يمكن أن يكون في الحسبان أكثر من الحادث على طريق مَجيل، حين صدمك واين الشاب وطَيَّرَك في الهواء كَقِط. يا له من انحدار مؤسف منذ ذلك الوقت! أبطأ وأبطأ، حتى توقفت الآن، حبيس شقة فاسدة الهواء مع راعيتك التي ترعاك رعاية كاملة. لكن كن طيب القلب. ثمة احتمالات أمام مارينَّا، بوجهها المدمر وشهوتها المتسمة بالندم، شهوتها التي تسيطر عليها. مارينَّا امرأة بمعنى الكلمة. السؤال هو، هل أنت رجل كافٍ بالنسبة لها؟

– رد، بول. قل شيئًا.

كأن البحر يضرب جمجمته. يمكن، بكل معنى الكلمة، أن يسقط في البحر، تسحبه تيارات الأعماق. ستجرد ضربات الماء عظامه، بمرور الوقت، من آخِر شريحة من اللحم. من لؤلؤتي عينيه؛ ومن مرجان عظامه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤