١٥

تتصل ماريانا. يعرف، حتى قبل أن تتكلم، ما ستقوله: إنها آسفة، ولا تستطيع أن تأتي اليوم. ثمة مسألة تخص ابنتها. لا، ليست ليوبيكا؛ بلنكا.

يسأل: هل يمكن أن أقدم أية مساعدة؟

تتنهد: لا، لا أحد يمكن أن يقدم أي مساعدة. آتي غدًا بالتأكيد، طيب؟

تقول إليزابيث كُستِلُّو متأملة: مشكلة تخص ابنتها. أتعجب أية مشكلة. إلا أن الشر كثيرًا ما ينطوي على شيء من الخير. المرأة التي ذكرْتُها، مارينَّا، المرأة الضريرة؛ لا تستطيع أن تكف عن التفكير فيها، أليس كذلك؟ لا تنكرْ، بول، أنت بالنسبة لي كتاب مفتوح. مارينَّا اليوم، بالصدفة، ليس لديها ما تفعله. لا تعرف ماذا تفعل. آتي بها إليك في المقهى التي في الركن، مقهى الفريدو، أظن أن هذا اسمها، في الخامسة بعد ظهر اليوم. آتي بها، وأنصرف. لا تسألني كيف أقوم بهذه الأشياء، ليس سحرًا، لكنني أقوم بها ليس إلا.

تختفي كُسْتِلُّو وقت ما بعد الظهيرة بطوله، تظهر من جديد في الرابعة والنصف، وهو على وشك أن يغادر الشقة، تلهث. تقول: ثمة تعديل في الخطة. مارينَّا تنتظر أسفل السلم. لا توافق على فكرة مقهى الفريدو؛ لأنها — تطلق صوتًا يعبر عن السخط — لأنها عنيدة، هل يمكن أن أستخدم مطبخك؟

تعود من المطبخ بسلطانية صغيرة بها ما يبدو أنه كريمة. مجرد عجينة من الدقيق والماء. توضع على عينيك. لا تخف، لن تؤذيك. لماذا يجب أن تضعها؟ لأن مارينَّا لا تريدك أن تراها. وتلح في ذلك. هنا، انحنِ. اسكنْ. لا ترمشْ. ولتبقى في موضعها، ورقة ليمون على كل عين. ولتبقى الورقتان في موضعهما، جورب من النايلون، مغسول جيدًا، أعدُكَ، يُربَط من خلف رأسك. يمكن أن تنزعه وقتما تشاء. لكني لا أوصي بذلك، لا أوصي حقًّا.

– هكذا. تم كل شيء. آسفة، مسألة معقدة للغاية، ولكن هكذا نحن البشر، مُعَقَّدون، كل منا بطريقته الخاصة. الآن، إذا سكنْتَ وانتظرْت، أصطحب مارينَّا وآتي بها إليك، هل تشعر بأنك مستعد؟ هل تشعر بأنك كفؤ؟ نعم؟ حسن. تذكرْ، يجب أن تدفع لها. ذاك هو الترتيب، لتحتفظ بتقديرها لنفسها. عالَم مقلوب رأسًا على عقب، أليس كذلك؟ لكن ليس لنا غيره.

– سأنسحب بمجرد أن آتي بها وأترككما معًا ليتعرف كل منكما على الآخر بصورة أفضل، لن أعود إلا غدًا وربما بعد غد. بالسلامة. لا تقلق بشأني. أنا طائر عجوز قوي.

تمضي. يقف في مواجهة الباب مستندًا على الإطار. تأتي همهمة من بئر السلم. صوت مزلاج الباب مرة أخرى.

يقول في الظلام: أنا هنا. ويدق قلبه بعنف مع أنه لا يصدق.

انزلاق، اندفاع. أريج الورقتين الرطبتين على عينيه يغطي على كل الروائح الأخرى. ضغطة على الإطار، يشعر بها عبر يديه. يقول: عيناي مغلقتان، مغماتان. لم أعتد على عدم الرؤية، أصغي إليَّ.

تلمس وجهه يد صغيرة خفيفة، تستريح عليه. يفكر، يا له من جحيم: يتجه إلى اليد ويقبِّلُها. لنلعبْ هذه اللعبة حتى النهاية.

تتحسس الأصابع شفتيه، الأظافر مقصوصة. عبر حجاب الليمون يشم رائحة صوف بالكاد. تتتبع الأصابع خط الذقن؛ تعبر الغمامة، وتتوغل في الشَّعْر.

يقول: أسمعيني صوتك.

تسلِّكُ حنجرتها، وبنبرة عالية واضحة يعرف أنه ليس صوت ماريانا يوكتش: أخف، كائن أثيري إلى حد بعيد.

يقول: لو كان لك أن تغني لكان أجمل الأصوات. نحن على مسرح، بمعنى ما، ولو لم يشاهدنا أحد.

ولو لم يشاهدنا أحد. لكن، بمعنى ما، ثمة من يشاهدهم، إنه متأكد من ذلك، خلف عنقه، يمكن أن يشعر به.

يقول الصوت الخفيف: ما هذا؟ ويشعر بالإطار يتأرجح برقة شديدة. اللهجة ليست أسترالية، ولا حتى إنجليزية. كرواتية؟ كرواتية أخرى؟ بالتأكيد لا؛ الكرواتيات لسن بهذه الوفرة على الأرض. إضافة إلى ذلك، ما معنى هذه القافلة من الكرواتيات، الواحدة بعد الأخرى؟

– إطار من الألومنيوم، اسمها بالعامية مشاية. فقدْتُ ساقًا. أجد الإطار أقل إرهاقًا من العكازين. ثم يخطر بباله أن الإطار قد يكون حاجزًا. ننحيه جانبًا. ينحيه جانبًا ويجلس على الكنبة. تجلسين بجانبي؟ هذه كنبة، خطوة أو اثنتان أمامك. أخشى ألا أستطيع مساعدتك، بسبب غمامة وضعتها لي صديقتنا المشتركة مسز كُسْتِلُّو. لديها، مسز كُسْتِلُّو، حلول لكثير من الأمور.

يلوم مسز كُسْتِلُّو على الغمامة مثلما يلومها على أمور أخرى كثيرة، لكن لن يخلعها، ليس بعد، لن يكشف بصره.

بخشخشة ماذا ترتدي المرأة ليصدر كل هذه الضوضاء؟ تجلس المرأة بجانبه — تجلس، في الحقيقة، على يده. تجلس عليها لحظة بأكثر الطرق سوقية، ثم تقوم من على يده ويسحبها. المرأة ليست ضخمة لكن مؤخرتها ضخمة، ضخمة وطرية؛ ولأن الضرير لا يمارس نشاطًا، لا يمشي، لا يجري، لا يركب دراجة، تُكبَت كل هذه الطاقة في مكان مجهول حتى تجد متنفسًا. لا غرابة في أن تكون متوترة. لا غرابة في أن تكون على استعداد لزيارة رجل غريب على انفراد.

يداه حرتان الآن، يمكن أن يلمسها كما تلمسه. لكن هل هذا ما يريد أن يفعله؟ ألا يريد أن يتحسس تلكما العينين أو أي مكان بالقرب منهما؟ هل يريد أن — ما الكلمة المناسبة؟ — يروَّع؟ الترويع: هو ما يقلب معدة المرء، يشله، يترك المرء شاحبًا ومرتجفًا. هل يمكن أن يُروَّع المرءُ بما لا يستطيع أن يراه، بما تحدده الأنامل، ولو كانت أنامل مبتدئ مثله في دنيا العَمَى؟

يمد يده بتوجس. يلتقي بعنقود جامد من شيء لا يستطيع تحديده، فقاعات، حُلِي رخيصة، بذور يابسة معقودة في خيط. لا بد أنه عنقها أو صدر ثوبها. ذقنها على ارتفاع بوصة، الذقن متينة ومحددة؛ ثم فك صغير؛ ثم بداية الوزال أو الشعر الذي يشعر أنه داكن، مثلما يشعر بأن جلدها داكن؛ ثم شيء ما جامد، حلية أذن. تلبس نظارة، نظارة تتقوس للخلف عبر عظام وجنتيها، ربما نفس النظارة التي كانت تلبسها في المصعد.

– تخبرني مسز كُسْتِلُّو أن اسمك مارينَّا.

– مارينَّا.

يقول مارينَّا، تقول مارينَّا، لكنه ليس نفس الاسم. مارينَّا كما ينطقها لها لون ماريانا، أثقل من التي تنطقها، أكثر صلابة. ولا يمكن أن يصف مارينَّا كما تنطقها إلا بأنها سائلة، فضية، ليست في سرعة الزئبق، لكنها أشبه بالماء الجاري، تيار ملتف. هل هذا ما تشبهه؛ لأنه لا يرى: هل عليه أن يزن كل كلمة بيده، يزن كل نبرة، يتحسس المترادفات التي تبدو أشبه ما تكون بشِعْرٍ رديء (تيار ملتف)؟

– ليست ماريان الفرنسية؟

– لا.

لا. ليست فرنسية. شيء مؤسف. قد تكون فرنسا شيئًا مشتركًا مثل بطانية تنشر عليهما.

تقوم قطعة العجين المصنوعة من الدقيق والماء بعملها بصورة مدهشة. حتى مع اتساع حدقتي عينيه على آخرهما، يبقى في عالم أسود تمامًا. من أين استوحتْ كُسْتِلُّو الفكرة؟ من كتاب؟ وصفة تعود إلى عصور سحيقة؟

يجذبها إليه، وأصابعه ما زالت في شعر مجعد إلى حد ما، فتطاوعه. وجهها مضغوط على وجهه، والنظارة أيضًا، ومع أن قبضتيها ترتفعان، إلا أن عقدتين تحفظان ثديها بعيدًا عنه.

يقول: شكرًا على الزيارة. ذكرتْ مسز كُسْتِلُّو مشاكلك الحالية. آسف.

لا تنطق بكلمة. يشعر برجفة خفيفة تسري في جسدها.

يواصل: لا حاجة إلى ذلك، ولا يعرف ما يأتي بعد ذلك. ما الذي يحتاج إليه، وما الذي لا يحتاج إليه؟ يجب أن يحدث شيء؛ لأنهما رجل وامرأة؛ شيء ما يخضع، يلوذ بمصطلح كُسْتِلُّو المرأة، للشهوة. لكن تنشق بينهما، رجل وامرأة، وبين تدريب الشهوة هوة سحيقة. يبدأ مرة أخرى: لا نحتاج إلى الالتزام بأي اتفاق. لا نحتاج إلى عمل شيء لا نريده. نحن عميلان حران.

ما زالت ترتجف، ترتجف أو ترتعد كطائر. يقول: تعالي إليَّ، فتقترب منه مطيعة. الأمر صعب عليها بالضرورة، عليه أن يساعدها؛ فَهُما في قارب واحد.

يتبين في النهاية أن الخيط والبذور اليابسة والفقاعات التي في عنقها مجرد زينة. ينفتح الفستان بسوستة من الخلف، ومن حسن الحظ أنها تمتد إلى الخصر. أصابعه بطيئة ومبتدئة. ربما تسخن أصابعه لو وافقت على الجلوس على يده لحظة أخرى. حرارة حيوانية. أما حمالة الصدر فهي محكمة جيدًا وثابتة، من النوع الذي يتخيل أن الراهبات الكرمليات يلبسنه. الثديان كبيران، المؤخرة كبيرة، وكل ما عداهما صغير. مارينَّا. التي هي هنا، كما تقول كُسْتِلُّو المرأة، ليس قلقًا عليه، بل لمصلحتها الخاصة؛ لأن فيها عطشًا لا يُروى. بسبب طلعتها، بسبب وجهها المدمَّر الذي حُذِّر لا من النظر إليه فقط بل وحتى من لمسه، ونتيجة لذلك صار لوحًا من الثلج.

يقول: أقترح ألا نكثر من الكلام. إلا أن ثمة مسألة واحدة يجب ذكرها لأسباب عملية. لم أجرب هذه الأمور منذ الحادثة. ربما أحتاج إلى بعض المساعدة.

– أعرف. أخبرتني مسز كُسْتِلُّو.

– لا تعرف مسز كُسْتِلُّو كل شيء. لا يمكن أن تعرف ما لا أعرف.

– نعم.

نعم؟ ماذا تعني، نعم؟

يشك أنه التقط صورة لهذه المرأة بمفردها. ما كان لينسى أبدًا لو أنه فعل ذلك. ربما كانت ضمن مجموعة، حين كان يزور المدارس لالتقاط صور جماعية، هذا محتمل؛ لكن ليس بمفردها. الصورة التي في ذهنه لها لا تأتي إلا من المصعد ومما تخبره به أصابعه الآن. وهو بالنسبة لها مجموعة من المعطيات الحسية المشوَّشة: برودة يديه؛ خشونة جلده؛ خشونة صوته؛ ورائحة قد تكون كريهة بالنسبة لمنخريها الحساسين. هل يكفي هذا لتكوِّن صورة عن رجل؟ هل هذه هي الصورة التي أُعِدَّتْ لتمنح نفسها لها؟ لماذا وافقت على الحضور، بدون تَبصُّر؟ هل ما يحدث شبيه بالتجارب الأولية في البيولوجيا؟ شبيه بجلب أنواع مختلفة معًا لنرى إن كانت ستتزاوج ثعلب وحوت، جُدْجد وقرد؟

يقول: فلوسك، أضعها على هذه الطاولة الجانبية، في ظرف. أربعمائة وخمسون دولارًا. هل هذا مبلغ معقول؟

يشعر بإيماءتها.

تمر دقيقة. لا يحدث شيء. ماذا ينتظر رجل بساقٍ واحدة وامرأة شبه عارية؟ هل ينتظران طقطقة الكاميرا؟ مشهد قوطي أسترالي. ماتيلدا وفتاها، وقد قهرتهما ضغوط عصر الفالس تدريجيًّا، تضمحل أو تتساقط أجزاء من جسميهما، أمام المصوِّر لآخر مرة.

لا تتوقف رجفة المرأة. يمكن أن يُقْسِم بأن العدوى انتقلت إليه أيضًا، رعشة خفيفة في اليد يمكن أن تُعْزَى للسنِّ لكنها في الحقيقة لسبب آخر، خوف أو توقُّع (لكن ماذا؟)

إذا كان لهما أن يُواصِلا ما دفع لها من أجله، ومن أجله قبلتْ ما دفعه، فعليها التغلب على ارتباكها الحالي والانتقال إلى الخطوة التالية. حُذِّرَتْ مقدَّمًا من ساقه الفاسدة، ومن الثقة بقدرته على التحمل عمومًا؛ ولأنه يجد صعوبة في امتطاء المرأة، فقد يكون من الأفضل أن تمتطيه. ستكون لديه، وهي تحاول عبور هذا الممر، مشاكل تخصه وعليه أن يتغلب عليها، مشاكل مختلفة تمامًا. ربما، في العمى، ينمو حدس بالجمال يتأسس على اللمس أساسًا. إلا أنه ما زال يتحسس طريقه في عالم غير المُبصِرِين. لم يَحِن بعد أن يتخيل الجمال بدون رؤية الجمال. لم تخلف حكاية المصعد، حين لفتت المرأة العجوز انتباهه بقدر ما لفتته هي، في ذاكرته إلا خطوطًا عامة بالغة الوهن. حين يحاول أن يضيف للقبعة ذات الإطار العريض، والنظارة القاتمة، وانحناءة الوجه المتجه إلى الناحية الأخرى، حين يحاول أن يضيف إلى كل ذلك الثديين الثقيلين والكبيرين، والفخذين الطريين بصورة غير طبيعية، مثل كميات من سائل في بالونات من الحرير، لا يمكن أن يكون صورة متجانسة للأجزاء. كيف له حتى أن يتأكد من أنها المرأة ذاتها؟

يحاول جذب المرأة برقة. لا تقاوم، إلا أنها تشيح بوجهها بعيدًا؛ لأنها ترفض أن تسلِّم شفتيها أو لأنها لا تريد أن تمنحه فرصة ليخلع نظارتها، ويتحسس ما يقع تحتها، لا تريد ذلك؛ لأن الرجال ينزعجون انزعاجًا شديدًا حين يتعلق الأمر بالتشوه.

منذ متى فقدتْ بصرها؟ هل يمكن أن يسأل بأدب؟ وهل يمكن أن يواصل بأدب بعد ذلك ويطرح السؤال التالي: هل مارستِ الحب منذ ذلك؟ هل الخبرة هي التي علمتها أن عينيها المدمَّرتين تقتلان رغبة الرجل؟

إيروس. لماذا تستدعي رؤيةُ الجمال إيروسَ إلى الحياة؟ لماذا تخنق مشاهدة القُبح الرغبة؟ هل تسمو بنا ممارسة الجنس مع الجمال، تجعلنا أناسًا أفضل، أم نهذب أنفسنا بعناق المرضى والمشوَّهين والمنفِّرين؟ يا لها من أسئلة! أمِنْ أجل هذا أحضرَتْهُما كُسْتِلُّو المرأة معًا، ليس من أجل ملهاة سوقية عن رجل وامرأة فَقدَا بعض أجزاء من جسميهما يبذلان قصارى الجهد ليندمجا، لكن لأنه يمكنهما، بمجرد انتهاء العملية الجنسية، أن يلتحقا بفصل من فصول الفلسفة، وفي يدي كل منهما محاضرات عن الجمال والحب والفضيلة؟

وسط كل هذا التضاؤل والارتباك والتحاشي والتفلسف، وبصرف النظر عن محاولة قام بها لحل ربطة عنقه وقد بدأت تخنقه (لماذا يلبس ربطة عنق على هذه الأرض؟) لم يعد التصرف الأخرق، بطريقة أو أخرى، كما كان، لم يَعودَا خَجُولَين يشلُّهما الخجل، يحاولان الانزلاق إليه، إلى الفعل الجسدي الذي تَعاقَدَا عليه طوعًا أو كرهًا، فعل مع أنه ليس الفعل الجنسي كما يُفهَم عمومًا إلا أنه فعل جنسي، وهو، برغم «الورك» المقطوع من ناحية والعينين المدمَّرتين من ناحية أخرى، يتقدم ببعض السرعة من البداية إلى الوسط إلى النهاية، أي في كل أجزائه الطبيعية.

أكثر ما أزعجه فيما قالته كُسْتِلُّو عن مارينَّا كلامها عن الجوع أو العطش الذي يثور في جسدها. لم يغرم أبدًا بالإفراط والبذاءة والعواطف المتوحشة والنخر والصياح والصراخ. تعرف مارينَّا كيف تكبح نفسها. تتمالك نفسها بصرف النظر عما يعتمل في داخلها، وبمجرد أن انتهيا، تجعل كل شيء، تقريبًا، مهذَّبا مرة أخرى وبسرعة. تأتي له العلامة الوحيدة عن العطش الجامح أو الجوع الجامح على هيئة حرارة غير عادية، وإن لم تكن غير مستحبة، من أعماق جسدها، وكأن النيران تتقد في رحمها، أو ربما قلبها.

ومع أن الكنبة لم تُعَدَّ للعلاقات الجنسية أو ما يليها من دعة فلسفية، وبرغم أنهما يرتجفان بدون غطاء، إلا أنهما لم يَجِدَا حاجة بعد ليشقا الطريق إلى سرير حقيقي في غرفة نوم حقيقية.

يقول: مارينَّا، مختبرًا الاسم على لسانه، متذوقًا النون المشددة: أعرف أن هذا هو اسمك، ولكن هل يناديك الناس به؟ أليس لك اسم آخر؟

– مارينَّا، هذا هو، هذا كل شيء.

يقول: رائع جدًّا. مارينَّا، تقول مسز كُسْتِلُّو إننا التقينا من قبل. متى كان ذلك؟

– منذ زمن بعيد. التقطْتَ لي صورة. بمناسبة عيد ميلادي. ألا تتذكر؟

– لا أتذكر ولا أستطيع؛ لأني لا أعرف شكلَكِ. ولا يمكن أن تتذكريني لأنك لا تعرفين شكلي. أين كان ذلك، التقاط تلك الصورة؟

– في الاستوديو الخاص بك.

– وأين كان الاستوديو؟

تصمتُ. تقول في النهاية: حدث ذلك منذ زمن بعيد. لا أتذكر.

– من ناحية أخرى، تَقاطَع طريقانا في وقت قريب جدًّا. ركبنا المصعد معًا في المستشفى الملكي. هل ذكرتْ مسز كُسْتِلُّو ذلك؟

– نعم.

– ماذا قالت أيضًا؟

– إنك وحيد فقط.

– وحيد. يا له من أمر مثير. هل مسز كُسْتِلُّو صديقة مقربة منك؟

– لا، ليست مقربة.

– ماذا إذن؟

صمت طويل. يداعبها من تحت ملابسها، فوق وتحت، الفخذ، الجانب، الثدي. يا لها من لذة، لذة غير متوقَّعة، أن تتعامل بحرية مع جسد امرأة مرة أخرى، حتى لو كنت لا تراها!

يقول: هل أقحمتْ نفسها عليك؟ أقحمتْ نفسها عليَّ.

يشعر بها تهز رأسها ببطء يمينًا ويسارًا.

– هل في نيتها، على ما تظنين، أن نصبح أنا وأنت زوجين؟ ربما لتتسلى بنا؟ الأعرج يقود الضريرة؟

الملاحظة مقصودة بخفة، لكنه يشعر بها تتصلب. يسمع تشقق شفتيها، يسمع صوت بلعها، تنتحب فجأة.

يقول: آسف. يمد يده ويلمس وجنتها. تغرق في الدموع. يفكر، على الأقل بقيت لها القنوات الدمعية. آسف، حقًّا. لكننا ناضجان، لماذا نترك شخصية أخرى لا نكاد نعرفها تملي علينا حياتنا؟ هذا هو السؤال الذي أطرحه على نفسي.

تلهث لهاثًا يفترض أنه ضحك، والضحك يسبب النحيب. تجلس منتصبة بجانبه، نصف عارية، تنتحب بشدة، هازَّة رأسها يمينًا ويسارًا. حان بالتأكيد وقت نزع الغمامة، وتنظيف القذارة التي على عينيه ورؤيتها على حقيقتها، لكنه لا يقدم على ذلك، ينتظر، يتلكأ، يؤجل.

تنظف أنفها بمنديل ورقي يبدو أنها أحضرته معها، تسلِّكُ حنجرتها. تقول: أظن أن هذا ما كنْتَ تريده.

– إنه هو، بدون شك، إنه هو. إلا أن صديقتنا إليزابيث هي مصدر الفكرة. تصدر التعليمات فنتبعها. حتى حين لا يوجد من يرى ما نطيعه.

يرى. ليست الكلمة المناسبة، لكنه يُبقِي عليها. يجب أن تعتاد عليها من الآن، على من يقولون «يرى» ويقصدون شيئًا آخر.

يواصل: إلا إذا كانت ما تزال في الغرفة، تشاهد، وتتفحص.

تقول مارينَّا: لا، لا أحد هنا.

لا أحد هنا؛ لأنها ضريرة، تستطيع التقاط أقل ما يصدر عن الكائنات الحية، لا بد أنها مُحقَّة. ومع ذلك، لم يفارقه الشعور بأنه لا يحتاج إلا أن يصل إلى أسفل لتواجه أصابعه إليزابيث كُسْتِلُّو، ممدة على السجادة ككلبة، تراقب وتنتظر.

يحرك يده بشكل غامض: أيَّدت صديقتنا هذا؛ لأنه في رأيها يمثل تخطي العتبة؛ ترى أني سأظل أسير الأعراف وعاجزًا عن التقدم حتى أتخطى عتبة معينة. تلك هي الفرضية التي تختبرها في حالتي. ربما لديها فرضية أخرى بشأنك.

يعرف، حتى وهو يتحدث، أنها كذْبةٌ. لم تستخدم إليزابيث كُسْتِلُّو في وجوده كلمة تَقدُّم أبدًا. تأتي كلمة تَقدُّم من كتيبات كيف تساعد نفسك. يعرف الرب حقًّا ما تريده إليزابيث كُسْتِلُّو، له أو لنفسها أو لمارينَّا هذه، يعرف الرب أي نظرية تعتنق في الحياة أو الحب، يعرف الرب ما يحدث بعد ذلك.

– على أية حال، وقد تخطينا عتبتها، نحن الآن حُرَّان في الانتقال إلى ما هو أسمى وأفضل.

يتكلم ليس إلا، وهو أفضل ما يستطيع في موقف صعب، محاولًا أن يدخل البهجة على امرأة تعاني من الكآبة التي تخيم بعد الممارسة الجنسية مع رجل غريب. لا يتخلى بعد، من خلال عتمته، عن الأمل في تكوين صورة لها، يمد يده من جديد ليلمس وجهها؛ ويغرق فعليًّا في خليج عتمته. تخذله كل براعته. لماذا، لماذا وضع ثقة كافية في كُسْتِلُّو المرأة ليتورط في هذه الممارسة، ليس مجرد تهور، غباء؟ ومن تكون هذه المرأة البائسة الضريرة تعيسة الحظ لتفعل ذلك بنفسها في هذه الظروف غير المواتية على أقل تقدير وتنتظر معلمتَها المخلصة أن تعود برحمتها وتخلصها؟ هل تؤمن كُسْتِلُّو بأن بضع دقائق من الاتصال الجسدي الملتهب تتمدد كالغاز لتملأ ليلة كاملة؟ هل تؤمن بأنها تستطيع إلقاء غريبين معًا، لا أحد منهما صغير، أحدهما عجوز حقًّا، عجوز وبارد، وتتوقع منهما أن يتصرفا مثل روميو وجوليت؟ يا لها من ساذجة! وهي أديبة فنانة ذائعة الصيت أيضًا! وهذه العجينة اللعينة التي تزعجه كلما جفت وقد أقسمتْ بأنها غير ضارة، كيف استطاعت أن تتخيل أنه إذا وارى عينيه بدقيق وماء فسيغير ذلك من شخصيته، يخلق منه رجلًا جديدًا؟ العمى إعاقة خالصة وبسيطة. رَجُلٌ بدون بصرٍ رجلٌ ينقصه شيء، كما أن رجلًا بساقٍ واحدةٍ رجلٌ ينقصه شيء، لكنه ليس رجلًا جديدًا. هذه المرأة البائسة التي أرسلتْها إليه امرأة ينقصها شيء أيضًا، شيء تمتعتْ به من قبل. كائنان ينقص كل منهما شيء، معوقان، منقوصان: كيف تخيلت أن شرارة سماوية ستنطلق بينهما، أو أية شرارة أخرى؟

والمرأة ذاتها، ماذا يدور بذهنها وبرودته تزداد دقيقة بعد دقيقة؟ أي هراء قيل لها لتشجيعها على أن تأتي طارقة باب رجل غريب وتقدم له نفسها! بالضبط كما حدث معه كان هناك تمهيد طويل لهذه المواجهة المفجعة، تمهيد يمتد بعيدًا إلى ماضٍ، يكفي ليكون كتابًا في حد ذاته، بداية من واين بلايت وبول ريمنت وقد خرج كل منهما من بيته في هذا الصباح الشتوي القاتل، وكل منهما غافِل عن وجود الآخر، وفي حالتها لا بد من استهلال يبدأ بالفيروس أو بقع الشمس أو الجين الفاسد أو الإبرة أو أي شيء آخر لتلقي عليه باللائمة في عماها، وتنتقل خطوة بعد خطوة لتلتقي بامرأة عجوز تبدو مقبولة (يبدو الكل أكثر قبولًا إن لم تكن تهتدي إلا بالصوت) تخبرك بأن لديها وسائل تطفئ عطشك الملتهب بمجرد أن تَستقِلِّي التاكسي إلى مقهى يُدْعَى مقهى الفريدو في شمال أدليد، هذا هو الحل أضعه في يدك، لا حاجة بك إلى أن تكوني عصبية، الرجل الذي أتحدث عنه ليس مؤذيًا، وحيد فقط، سيعاملك مثل بغي تُطْلَب بالتليفون ويدفع لك مقابل الوقت الذي تقضينه معه، وعلى أية حال سأكون هناك، أحوِّم في الخلفية، وأحرسك، إذا لم يكن لديك سوى الصوت لتهتدي به ولا تستطيعين رؤية الومضة المجنونة في العين.

تجربة، ليست إلا تجربة، تجربة أدبية بيولوجية تافهة. جُدْجُد وقردة. وقعا كلاهما في المطب، هو بطريقته وهي بطريقتها!

تقول المرأة، القردة: يجب أن أرحل. التاكسي في الانتظار.

يقول: حين تقولين ذلك، كيف تعرفين أن التاكسي في الانتظار؟

– طلبتْه مسز كُسْتِلُّو.

– مسز كُسْتِلُّو؟

– نعم مسز كُسْتِلُّو.

– كيف يتأتى لها أن تعرف متى تحتاجين إلى التاكسي؟

تهز كتفيها.

– حسن، توليك مسز كُسْتِلُّو رعاية طيبة. هل أدفع أجرة التاكسي؟

– لا، لا، كله ضمن الحساب.

– حسن إذن، بلغي مسز كُسْتِلُّو تحياتي. واحترسي وأنت تنزلين السلم. قد تكون السلالم مبلولة.

يجلس ساكنًا، يكبح نفسه وهي ترتدي ثيابها. إلا أنه ينزع الغمامة ويهرش عينيه لحظة انغلاق الباب وراءها. لكن قطعة العجين جمدت وتحجرت. إذا نزعها بقوة فسيفقد رموشه. يلعن: عليه أن ينقعها في الماء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤