٢

يُقْلَب من جنب إلى جنب ويُنقل. تصله أصوات من بعيد، يعلو الصخب ويهبط في إيقاع خاص. ماذا يحدث؟ لو يستطيع أن يفتح عينيه لعرف. لكنه لا يستطيع. يصله شيء ما. في كل مرة حرف، طقطقة طقطقة طقطقة، رسالة تُكتَب على شاشة وردية تترجرج كالماء كلما رمش، تبدو أنها جفنه من الداخل. ح–خ–ﻫ–ع، تقول الحروف، ثم م–س–ت–ﻫ–ت، ثم رجفة، ثم ر، ثم د–ج–ح–خ–ﻫ–ع … إلخ.

مستهتر.١ يجتاحه ما يشبه الهلع. يتضور؛ يتدفق أنين من كهف أعماقه وينطلق من حنجرته.

يقول صوت: ألمٌ شديد؟ اهدأْ. وخز إبرة. بعد لحظة يتلاشى الألم، ثم الهلع، ثم الوعي ذاته.

يستيقظ في شرنقة من الهواء الساكن. يحاول الجلوس فلا يستطيع؛ وكأنه في حقيبة من الأسمنت. لم يخفف عنه البياض من حوله: السقف الأبيض، الملاءات البيضاء، الضوء الأبيض؛ وأيضًا البياض المجزَّع كمعجون الأسنان القديم الذي يبدو كأن عقله يكتسي به، فلا يستطيع أن يفكر تفكيرًا سويًّا ويسيطر عليه يأس تام. يغمغم وربما يصرخ: ما هذا؟ ويقصد ما هذا الذي يحدث لي؟ أو ما هذا المكان الذي أنا فيه؟ أو حتى ما هذا المصير الذي حاق بي؟

تظهر من حيث لا يعلم امرأة في ثياب بيضاء، تتوقف، تتفحصه بدقة. بذهن مشوش يحاول أن يستفهم. فات الأوان! بابتسامة ولمسة مشجِّعة على الذراع، من الغريب أنه يسمعها ولا يشعر بها، تواصل الحركة.

هل الأمر خطير؟ إذا كان هناك وقت لطرح سؤال، فهذا هو السؤال الذي يجب طرحه، مع أن كلمة خطير ربما تعني أنه يفضِّل ألا يقيم هنا فترة. لكن الأكثر إلحاحًا من السؤال عن الخطورة، الأكثر إلحاحًا من السؤال عما جرى بالضبط على طريق مَجيل ليعصف به إلى هذا المكان الميت، هي حاجته ليشق طريقه إلى البيت، ويغلق الباب خلفه، ويجلس في جوٍّ أليف، ويستعيد نفسه.

يحاول لمس ساقه اليمنى، الساق التي لا تكف عن إرسال إشارات مبهمة تعلن أنها الآن الساق المصابة، لكن يده لا تتزحزح، لا شيء يتزحزح.

ملابسي: ربما هذا هو السؤال التمهيدي البريء. أين ملابسي؟ أين ملابسي؟ وما خطورة وضعي؟

تطفو الشابَّة في مجال رؤيته مرة أخرى. يقول بمشقة هائلة: «ملابس»، ويرفع حاجبيه بأقصى ما يستطيع لِيعبِّر عن أهمية ما يقول.

تقول الشابَّة: «لا تنزعج.» وتبتسم له ابتسامات أخرى من ابتساماتها الملائكية المؤثرة. «كل شيء في أمان، كل شيء يحظى بالاهتمام. سيكون الطبيب معك خلال دقيقة.» وقبل دقيقة مرَّ بالفعل شاب هو بالضرورة الطبيب الذي أشارت إليه وتجسد بجانبها يغمغم في أذنها.

يقول الطبيب الشاب: «بول؟ هل تسمعني؟ هل الاسم الذي معي صحيح، بول ريمنت؟»

– يرد باهتمام: «نعم.»

– يوم طيب، بول. ستشعر ببعض التشوش الآن؛ لأنك حُقِنْتَ بجرعة من المورفين. سنبدأ الجراحة بعد برهة قصيرة. تعرَّضْتَ لصدمة شديدة، لا أعرف إلى أي حدٍّ تتذكر، تركتْ إصابة بسيطة في ساقك. سنلقي عليها نظرة ونرى ما نستطيع إنقاذه منها.

مرة أخرى يقوِّس حاجبيه. يحاول أن يقول: «إنقاذ؟»

يكرر الطبيب: إنقاذ ساقك، سيكون علينا بَتْرُها، لكن سننقذ ما يمكن إنقاذه.

يحدث شيء ما لوجهه بالضرورة عند هذه النقطة؛ لأن الشاب يأتي بشيء مدهش. يبسط يده ليلمس وجنته ويريح يده عليها، ويهدهد رأس العجوز. عمل قد تقوم به امرأة، امرأة مع حبيبها. تحيره الإماءة لكنه لا يستطيع تلاشيها بلطف.

يقول الطبيب: هل تثق بي في هذا الأمر؟

ترمش عيناه في صمت.

– «طيب.» يتوقف. يقول: بول، ليس أمامك اختيار. ليس هذا من المواقف التي يكون أمامنا فرصة للاختيار فيها. هل تفهم ذلك؟ هل توافق؟ لن أطلب منك التوقيع على نموذج، لكن هل لنا أن نأخذ موافقتك لنبدأ؟ سننقذ ما يمكن إنقاذه، تعرضْتَ لصدمة أدت إلى إصابات كثيرة، لا أعرف الآن، مثلًا، إن كنا نستطيع إنقاذ الركبة أم لا. تهشمت الركبة تمامًا، وتهشم أيضًا جزء من عظام الساق.

وكأن الساق اليمنى تعرف أن الحديث يدور حولها، كأن هذه الكلمات الرهيبة أيقظتها من نومها المضطرب، فترميه بسهمٍ من الألم الأبيض الممض. يسمع لهاثه، ثم تدَفُّق الدماء في أذنيه.

يقول الشاب، ويربِّتُ برقة على وجنته: طيب. حان أن نتحرك.

•••

يستيقظ أكثر هدوءًا بكثير. صافي الذهن، إنها ذاته القديمة (يفكِّر، في أحسن حال!) مع أنه دائخ بعض الشيء أيضًا، ويمكن أن يستغرق في غفوة في أية لحظة. يشعر أن الساق التي تعرضت للإصابة متضخمة، كأنها رجل فيل، لكنها لا تؤلمه.

يُفتَح الباب وتظهر ممرضة، وجه جديد ناضر. تسأل: هل تشعر بتحسن؟ ثم وبسرعة: لا تحاول أن تتكلم. يأتي الدكتور هَنْسِنْ بعد برهة ليتحدث معك. أثناء ذلك هناك شيء نريد أن نفعله. هل يمكن أن أطلب منك أن تهدأ أثناء …

يتضح أن وضع قسطرة هو ما تريد أن تفعله وهو هادئ. إنه لأمر قبيح أن تفعل ذلك لشخص؛ إنه سعيد؛ لأن التي تضعها غريبة. يوبِّخ نفسه: هذه هي النتيجة! هذه هي النتيجة حين تَسْرَح لحظة! والدراجة: ماذا جرى للدراجة؟ كيف أَتسوَّق الآن. كل غلطتي أني أخذتُ طريق مَجيل! مع أنه قاد دراجته لسنوات في طريق مَجيل بدون حوادث تُذكَر.

على الدكتور هَنْسِن الشاب أن يُقدِّم له عرضًا سريعًا عن حالته، ليوقفه على النجاح الذي تحقق، ثم يخبره بشكل أكثر خصوصية عن حالة ساقه، أخبارًا بعضها طيب، وبعضها ليس طيبًا تمامًا.

أولًا، فيما يتعلق بحالته العامة، إذا وضعنا في الاعتبار ما يمكن أن يحدث لجسم الإنسان وما يحدث له حين تصدمه سيارة مسرعة، يمكن أن يهنئ نفسه لأن الأمر ليس خطيرًا. ما حدث هو إلى حدٍّ كبير عكس الخطورة حتى إنه يمكن أن يعتبر نفسه سعيدًا ومحظوظًا وموفَّقًا. أصابتْه الصدمةُ بارتجاج، نعم، لكن الخوذة التي كانت على رأسه أنقذتْه. ستستمر المُتابَعة، لكن لا يوجد دليل على حدوث نزيف في المخ. وبالنسبة للوظائف الحركية، تشير الدلائل الأولية إلى عدم تعرضها للإعاقة. فقدَ بعض الدماء، وتمَّ تعويضها. إذا تحيَّرَ بشأن تَيبُّس فكِّه، فالفكُّ ليس مكسورًا، لكن به كدمات. تبدو الخدوش على ظهره وذراعه أسوأ مما هي عليه، ستندمل خلال أسبوع أو أسبوعين.

نعود الآن إلى الساق، الساق التي تعرضت للصدمة، لم يستطع «دكتور هَنْسنْ» وزملاؤه، كما اتضح في النهاية، إنقاذ الركبة. جرت بينهم مناقشات عميقة، واتفقوا جميعًا على القرار. جاءت الضربة — كما سيراها في أشعة إكس بعد ذلك — في الركبة مباشرة، وحدث بالإضافة إلى ذلك التفاف، فتمزق المفصل والْتَوَى. ربما تتم محاولة لإصلاح ما حدث، لكن الإصلاح المطلوب قد يستغرق عامًا، وربما عامين، بمعدل نجاح أقل من خمسين في المئة، وبالتالي، وبوضع عمره في الاعتبار، رُؤِيَ أن الأفضل بتر الساق من فوق الركبة بنظافة، وترك جزء من العظام لتثبيت الساق الصناعية. يَأْمل «دكتور هَنْسِن» أن يتقبل «بول ريمنت» حكمة ذلك القرار.

يقول مستنتجًا: أثق أن لديك كثيرًا من الأسئلة، ويسعدني أن أرد عليها، ليس الآن، الأفضل في الصباح، بعد أن تحصل على قسط من النوم.

يقول: «ساق صناعية.» كلمة أخرى صعبة،٢ مع أنه يفهم الآن أن الفك ليس مكسورًا، مجرد كدمات، إلا أنه أقل ارتباكًا فيما يتعلق بالكلمات الصعبة.

– ساق صناعية. طرف صناعي. بمجرد أن تلتئم العملية، سنُزَوِّدك بساقٍ صناعية. ربما بعد أربعة أسابيع أو أقل. ستكون قادرًا على المشي مرة أخرى في لمح البصر. وتقود دراجتك أيضًا إذا أحببْتَ. ببعض التمرينات. أسئلة أخرى؟

يهز رأسه. يريد أن يقول: لماذا لم تسألني في البداية؟ لكنه إذا تَفوَّه بكلمة فسيفقد السيطرة على نفسه، ويبدأ الصياح.

يقول الدكتور هَنْسِن: «سأتحدث إليك في الصباح. ابسطْ!»

إلا أن هذا ليس كل شيء. ليست النهاية. الانتهاك أولًا، ثم الموافقة على الانتهاك. ثَمَّة أوراق عليه أن يوقِّع عليها قبل السماح له بالمغادَرة، وهي أوراق صعبة بصورة مدهشة.

الأُسرة، على سبيل المثال. من هم أفراد أسرته؟ وأين يعيشون؟ وكيف يمكن إخبارهم؟ والتأمين. ما الجهة المؤمَّن عليه فيها؟ ماذا تغطي وثيقة التأمين؟

التأمين ليس مشكلة. مؤمَّن عليه تأمينًا شاملًا. في محفظته كارت يثبت ذلك، إنه شديد الحذر (لكن أين محفظته؟ أين ملابسه؟) الأسرة مسألة أقل وضوحًا. مَنْ هم أفراد أسرته؟ ما الرد الصحيح؟ له أختٌ. رحلت منذ اثني عشر عامًا، لكنها ما زالت تحيا بداخله أو معه، بالضبط كما أن له أمًّا ينتظر، أحيانًا حين لا تكون بداخله أو معه، بوق الملائكة من قبرها في مقبرة بلَّرات. الأب أيضًا، انتظاره أبعد بكثير، في مقبرة بو، من هناك نادرًا ما يزوره. هل هؤلاء الأشخاص الثلاثة هم أسرته؟ يود أن يرد على كل من طرح السؤال: أولئك الذين تولد في حياتهم لا يرحلون. تحملهم معك، وتأمل أن يحملهم من يأتي بعدك. لكن لا توجد مساحة في النموذج تكفي إجابات مسهبة.

ما يمكن أن يقدمه عمومًا بصورة أدق عن أسرته أنه بدون زوجة أو أبناء. كان متزوجًا في يوم من الأيام، بالتأكيد؛ لكن رفيقته في تلك المغامرة لم تعدْ جزءًا منه. هربتْ منه، هربتْ تمامًا. ما زال يتذكر حتى الآن كيف نفَّذت الخدعة، ولكن هذا ما حدث: هربتْ إلى حياتها الخاصة. لكل الأغراض العملية، وبالتأكيد لكتابة النموذج، إنه غير متزوج، أعزب، مفرد، وحيد.

الأسرة: يكتب بحروف منفصلة: ل ا ي و ج د، تراقبه الممرضة، ويرسم خطوطًا على الأسئلة الأخرى، ويُوقِّع كل منهما النماذج. يسأل الممرضة: «التاريخ؟» فترد: «الثاني من يوليو.» الوظائف الحركية سليمة.

يتناول الأقراص لتخفيف الألم ومساعدته على النوم، لكنه لا ينام. هذا، هذا السرير الغريب، هذه الغرفة، هذه الرائحة، رائحة المُطهِّرات ورائحة البول التي تصيب المرء بالدوار، من الواضح أنه ليس حلمًا، يشبه الأشياء الحقيقية، حقيقي بقدر ما هو محيِّر. إلا أن اليوم بكامله، إذا كان هذا هو اليوم ذاته، إذا كان للوقت معنى، له نكهة الحلم. من المؤكَّد أن هذا الشيء، الذي يراه للمرة الأولى تحت الملاءة، هذا الشيء البشع الملتف في الأبيض والمتصل «بوركه»، يأتي مباشرة من أرض الأحلام. وماذا عن الشيء الآخر، الشيء الذي تحدَّث عنه الشاب ذو النظارة التي تبرق بحماس جنوني، متى يظهر؟ طوال حياته لم يَرَ ساقًا صناعية عارية. الصورة التي تَرِد إلى ذهنه صورة سهم خشبي في رأسه شوكة كالرمح وماصات مطاطية على أقدامه الثلاث الصغيرة. صورة مستوحاة من السيريالية. مستوحاة من دالي.

يفرد يده (الأصابع الثلاث الوسطى مربوطة معًا، يلاحظ ذلك للمرة الأولى)، ويضغط على الشيء الملفوف في الأبيض. لا إحساس على الإطلاق. يشبه كتلة من الخشب. مجرد حلم، يحدث نفسه، ويستغرق في أعمق نوم.

•••

يقول الدكتور هَنْسِن: «علينا اليوم أن نجعلك تجرب المشي. بعد الظهيرة. لن تمشي مسافة طويلة، بضع خطوات فقط لتجرب الإحساس بها. سأكون أنا وإيلين معك لنقدم لك يد العون.» يومئ للممرضة. الممرضة إيلين. «إيلين هل يمكن أن تُنَسِّقي الأمر مع قسم جراحة العظام؟»

يرد: لا أريد أن أمشي اليوم. يتعلم النطق من بين الأسنان المطبقة. المسألة ليست مجرد كدمات في الفك، تخلخلت الضروس في ذلك الجانب أيضًا، لا يستطيع المضغ. «لا أريد أن أُرغَم على شيء. لا أريد ساقًا صناعية.»

يرد الدكتور هَنْسِن: رائع، نحن لا نتحدث عن الساق الصناعية من قريب أو بعيد، مجرد إعادة تأهيل، الخطوة الأولى في إعادة التأهيل. يمكن أن نبدأ غدًا أو بعد غد. لتعرف فقط أن فَقْد ساقٍ ليس نهاية العالم.

– أعلن مرة أخرى: لا أريد ساقًا صناعية.

يتبادل الدكتور هَنْسِن والممرضة إيلين النظرات.

– إذا كنت لا تريد ساقًا صناعية، ماذا تفضِّل؟

– أفضل أن أعتني بنفسي.

– مُوافِق، انتهى الموضوع، أعدك بألا نرغمك على شيء. والآن هل يمكن أن أحدثك عن ساقك؟ هل يمكن أن أكلمك عن العناية بالساق؟

– العناية بساقي؟ — يزمجر في غضب — ألا يستطيعان رؤيتها؟ قُمْتُما بتخديري وبَتَرتُما ساقي وأَلقيتُما بها في القمامة ليجمعها شخص ما ويلقي بها في النار. كيف تقفان هناك وتتحدثان عن العناية بساقي؟

يقول الدكتور هَنْسِن، موضحًا، بيدين على شكل كوب، ما فعلوه: وضعنا بقية العضلة على العظام، وخيطناها هناك. بمجرد التئام الجرح نأمل أن تشكل العضلة وسادة على العظام. في الأيام القليلة التالية، نتيجة الجرح والراحة في السرير، سيكون هناك استعداد لظهور استسقاء وتَورُّم. نحتاج إلى عمل شيء من أجل ذلك. هناك أيضًا استعداد لانكماش العضلة باتجاه «الورك»، هكذا. يقف مائلًا، ويضرب ظهره بقبضة يده. نمنع ذلك بالشدِّ. الشدُّ بالغ الأهمية. ستشرح لك إيلين بعض تمرينات الشد وتساعدك إذا احتجْتَ إلى المساعدة.

تومئ الممرضة إيلين.

يسأل: «مَنْ فعل بي هذا؟» لا يستطيع الصياح؛ لأنه لا يستطيع فتح فكيه، لكن ذلك يناسبه، يناسب غضبه بالكزِّ على الأسنان. «من أذاني؟» ثمة دموع في عينيه.

•••

ليالٍ بلا نهاية. يسخن بشدة ويبرد بشدة، يرغب في هرش الساق، الملتفة في الأربطة، ولا يستطيع الوصول إليها. حين يحبس أنفاسه يمكن أن يسمع الدبيب الشبحي للحمه وهو يحاول الالتئام مع بعضه من جديد. حين يأتي النوم يكون فجائيًّا وقصيرًا، وكأن نفثات من المخدر تنبعث من رئتيه لتغمره.

الوقت مملٌّ ليلًا ونهارًا. أمام السرير جهاز تلفزيون، لكنه لا يهتم بالتلفزيون أو المجلات التي زَوَّدَته بها إحدى الهيئات الخيرية (ما هي. دار الغرور. البيوت والحدائق الأسترالية). يُحدِّق في ساعته غارسًا وضع العقارب في ذهنه. يغلق عينيه، يحاول التفكير في أشياء أخرى: تنفسه، جدَّتَه، جدَّتَه وهي جالسة على طاولة المطبخ تنظف دجاجة، النحل بين الزهور، أي شيء. يفتح عينيه. لم تتحرك العقارب. وكأنها تشق طريقها في غراء.

تتوقف الساعة ولا يتوقف الزمن. حتى وهو يستلقي هنا يحس بالزمن يؤثر فيه كمرض مدمِّر، كالجير الحي الذي يُلْقَى على الجثث. ينخر الزمن فيه، يلتهم خلاياه خلية خلية. تتلاشى خلاياه كالشرار.

تخفف الأقراص التي يتناولها كل ست ساعات أسوأ الآلام، وهو أمر طيب، وتساعده على النوم أحيانًا، وهو أفضل؛ لكنها تشوش ذهنه أيضًا وتجلب الهلع والفزع إلى أحلامه مما يجعله يتوقف عن تناولها. يحدث نفسه: الألم ليس شيئًا، مجرد إشارة تحذيرية من الجسم إلى المخ. الألم ليس شيئًا حقيقيًّا إلا إذا كانت صورة أشعة إكس شيئًا حقيقيًّا. لكنه بالطبع مخطئ. الألم هو الشيء الحقيقي، لا يتطلب الأمر جهدًا كبيرًا لإقناعه بذلك، لا يتطلب أي جهد، مجرد إرسال ومضة أو اثنتين؛ يتلاشى وعيه بعدها بسرعة، ويغرق في أحلام رديئة.

نُقِل شخصٌ آخر إلى غرفته، رجل أكبر منه أُجْرِيَت له عملية جراحية في «الورك». يرقد الرجل طوال اليوم وعيناه مغلقتان. من وقت لآخر تظهر ممرضتان قرب الستائر حول سريره وتعتنيان، تحت غطاء، باحتياجات جسمه.

عجوزان؛ رفيقان عجوزان في قارب واحد، الممرضتان طيبتان، عطوفتان ومنشرحتان، لكن تحت كفاءتهما الواضحة يستطيع أن يحدد — ليس مخطئًا، غالبًا ما رأى ذلك في الماضي أيضًا — لا مبالاة تامة بمصيرهما، مصيره ومصير رفيقه. ينقل له الدكتور هَنْسِن الشاب، تحت الاهتمام العطوف، شعورًا باللامبالاة ذاتها. وكأن هؤلاء الشبان الذين عُيِّنوا للاعتناء بهما يعرفون، على مُستوًى من مستويات اللاشعور، أنه لم يَعُد لديهما ما يقدمانه للقبيلة فلا يضعونهما في الحسبان. يصرخ لنفسه: مع أنهما شبان إلا أنهم بالِغُو القسوة! كيف وقعتُ في أيديهم؟ الأفضل أن يعتني العجوز بالعجوز والمحتضر بالمحتضر! ويا لها من حماقة أن تكون وحيدًا في العالم إلى هذا الحد!

يتحدثون عن مستقبله، يزعجونه ليمارس تمرينات تؤهله لذلك المستقبل، باب المستقبل مُغْلَقٌ بالضبة والمفتاح. لو أن هناك وسيلة ينهي بها حياته بحيلة ذهنية نقية لَأَنهى حياته في الحال، بلا صخب. يحتشد ذهنه بقصص أناس أنهوا حيواتهم بأنفسهم، يحصلون على الأقراص بشكل مُنظَّم، يكتبون كلمات الوداع، يحرقون رسائل الحب القديمة، يصنِّفون المفاتيح، وبمجرد الانتهاء من ترتيب كل شيء، يرتدون أفضل الثياب ويبتلعون الأقراص التي بحوزتهم ويستلقون على أسرَّتهم الرائعة ويتهيئون للغفران. كلهم أبطال، لا تذكرهم الأغاني، ولا يثني عليهم أحد. أنا مُصمم على ألا أمثل مشكلة. الشيء الوحيد الذي لا يمكنهم العناية به هو الجسد الذي يخلفونه وراءهم، كومة اللحم التي تتعفن بعد يوم أو اثنين. إذا كان ممكنًا، إذا كان مسموحًا بذلك، لاستقَلُّوا «تاكسي» إلى المحرقة، حيث يجلسون أمام الباب المميت، يتناولون جرعتهم، وقبل أن يتلاشى الوعي يضغطون زرًّا يقذف بهم إلى اللهب ليخرجوا من الناحية الأخرى حفنة من الرماد، بلا وزن غالبًا.

يقتنع بأنه سينهي حياته إن استطاع، في الحال. لكنه وهو مستغرِق في هذه الفكرة يعرف أنه لن يُقْدِم على هذا الفعل. لكن الألم، والعجز، والليالي التي لا يذوق فيها طعم النوم في هذا المستشفى، وهذا الإذلال الصريح في النظرة القاسية في عيون الشبان، هذا فقط ما يجعله يتمنى الموت.

المعاني الضِّمنِيَّة لكونه أعزب، مفردًا، ووحيدًا تجعله يرى البيت أكثر وضوحًا في نهاية الأسبوع الثاني من إقامته في أرض البياض.

تسأله ممرضة الليل، جانيت، التي تسمح لنفسها بالمزاح معه: ليس لك أسرة. ليس لك أصدقاء؟ تلوي أنفها إلى أعلى وهي تتكلم وكأنه نكتة تسليهم جميعًا.

يرد: لي من الأصدقاء كل ما يمكن أن أتطلع إلى صداقتهم. لستُ روبنسن كروزو. فقط، لا أود أن أرى أحدًا منهم.

تقول: قد تجعلك رؤية الأصدقاء أفضل. تساعدك. أنا متأكدة.

يقول: سأستقبل زوارًا عندما أحب، شكرًا.

ليس غضوبًا بطبعه، لكنه في هذا المكان يتذمر وينفعل ويغضب بسرعة ليسهل على من يتولون رعايته أن يتركوه وحده. يتخيل جانيت تعترض على زملائها: ليس سيئًا في أعماقه إلى هذا الحد. يتخيل زملاءها يردُّون سَاخرِين بصوت كالشخير: هذا العجوز الهلفوت!

يعرف أن من المُتوقَّع منه حين يتحسن أن يشعر برغبات هائلة تجاه هؤلاء الشابات، رغبات ستظهر؛ لأنهم مَرْضَى من الذكور وبصرف النظر عن أعمارهم، في أوقات غير مناسبة، ولا يمكن كبحها ويجب أن تتوارى بأسرع ما يمكن وبحزم.

الحقيقة أنه لا يشعر بأي من هذه الرغبات. قلبه نقي كقلب طفل. نقاوة القلب لا تُكسبه أي رصيد بين الممرضات، بالطبع، ولا يُتوقَّع منها ذلك. جزء من اللعبة أن يكون كبشًا داعرًا، لعبة يتجنب لعبها.

إذا كان لا يريد الاتصال بأحد من الأصدقاء، فذلك ببساطة لأنه لا يرغب في أن يراه أحد في حالته الجديدة، البتر والذل والخزي. لكن الناس، بالطبع، يسمعون بما حدث، بطريقة ما. يرسلون بأطيب الأماني، وربما يُتَلْفِنُون له. في التليفون يكون اختراع قصة أمرًا بالغ السهولة. يقول بمرارة يأمل ألا تنتقل عبر الخط: ساق فقط. سأستخدم عكازًا لبعض الوقت، ثم ساقًا صناعية. من الصعب أن ينفذ ذلك على المستوى الشخصي؛ لأن مَقْتَه لهذا الشيء المقرف الذي سيكون عليه من الآن أن يجره معه، مكتوب على وجهه بجلاء.

من الفصل الافتتاحي، من لحظة وقوع الحادث في طريق مَجيل إلى الآن، لم يُحْسِن التصرف، ولم يرتفع إلى مستوى الحدث، هذا واضح له. سَنَحَت له فرصة ذهبية ليقدم مثالًا لكيفية تَقبُّل المرء لواحدة من أكثر ضربات القدر مرارة، وقد رفسها. مَن فعل هذا بي؟ حين يتذكر كيف صاح في الدكتور هَنْسِن الشاب وهو بلا شك كفؤ تمامًا مع أنه ما زال شابًّا، يبدو أنه يقصد مَن صدمني؟ وهو يقصد مَن الوقح الذي قطع ساقي؟ يغمره العار. ليس أول من تعرض في العالم لحادث سيئ، وليس أول عجوز يجد نفسه في مستشفى مع شُبَّان يعتنون به، ذوي نوايا حسنة ويَتَّسِمون باللامبالاة. فُقدتْ ساقٌ: ماذا يعني عمومًا فقْدُ ساقٍ؟ عمومًا، فَقدُ ساقٍ ليس إلا تمرينًا على فَقْد كل شيء. فيمن يصيح حين يحل ذلك اليوم؟ مَنْ يلوم؟

تأتي مارجريت مَكُّورد لزيارته. آل مَكُّورد أقدم أصدقائه في أدليد؛ مارجريت منزعجة؛ لأنها لم تسمع بالحدث إلا بعد وقت طويل، وساخطة سخطًا مبررًا على من فعل به ذلك. تقول: «أتمنى أن ترفع قضية.» يرد: لا أنوي رفع قضية، ثمة عدد هائل من الثغرات الكوميدية. أريد استعادة ساقي، العجز الذي … أترك هذه الأشياء لمسئولي التأمين. تقول: غلط، يجب تلقين درس لمن يسوقون باستهتار. أفترضُ أنهم سيضعون لك ساقًا صناعية، يصنعون هذه السيقان الصناعية المدهشة في هذه الأيام، وأنك ستقود دراجتك مرة أخرى قريبًا. يرد: لا أفكر بهذه الطريقة. انتهى ذلك الجزء من حياتي. تهز مارجريت رأسها. تقول: يا للأسف! يا للأسف!

يتأمل ما قالته فيما بعد، من الجميل أن تقول ذلك. ما كانت تعنيه، وتعرف أنه سيفهم ما تعنيه هو: بول المسكين، عزيزي المسكين، يا له من مصير صعب عليك أن تعيشه! يود أن يذكِّرها بأن علينا جميعًا أن نعيش مثل هذا المصير في النهاية.

ما يثير دهشته في كل ما يدور في المستشفى هو كيف ينتقل الاهتمام بسرعة من علاج ساقه «رائع!» يقول دكتور هَنْسِن (ويجس ما تبقى من الساق بإصبع مقلَّم ببراعة): «سيلتئم الجرح بشكل جميل، وستَسترِد عافيتك بسرعة.» إلى مسألة أنه سوف ينجح (كلمتهم) بمجرد أن ينطلق في العالم من جديد.

تظهر في الصورة مبكرًا جدًّا، أو هذا ما يبدو له، أخصائيةٌ اجتماعية، مسز بوتِّس أو بوتز. تخبره بأسلوب مرح لا بد أنها تعلمَت استخدامه مع المُسنِّين: مستر بول ريمنت، ما زلتَ شابًّا. تريد مواصلة الحياة بدون الاعتماد على أحد، وهو أمر رائع بالطبع، لكنك ستحتاج إلى ممرضة لبعض الوقت، ممرضة متخصصة، يمكن أن نساعدك في توفيرها. وعلى المدى البعيد، بمجرد أن تستطيع الحركة، ستحتاج إلى شخص ما بجانبك، يقدم لك يد العون، يتسوق ويطبخ وينظف إلخ. ألا يوجد أحد؟

يظن أن الأمر انتهى، يهز رأسه. يقول: «لا يوجد أحد.» ويقصد بذلك — ويعتقد أن مسز بوتس تفهم — ليس هناك أحد يمكن أن يتصور أن من واجبه الكونفشيوسي أن يكرِّس نفسه للاهتمام بطلباته، طبيخه وغسيله إلخ.

ما يعنيه في السؤال هو الكشف عن حالته كما تراها مسز بوتس، التي تبادلتْ بالضرورة الآراء مع الأطباء والممرضات بصورة أكثر صراحة وأكثر واقعية مما قدَّمتْه له. من هذه الآراء الواقعية التي استنتجتْها بيقين أنه حتى على المدى البعيد لن يستطيع العيش بدون أن تُقدَّم له يد العون.

في رؤيته الخاصة على المدى البعيد، الرؤية التي يخطط لها في لحظاته الأكثر اعتدالًا، ستنطلق ذاته العرجاء (كلمة قاسية، لكن لماذا المراوغة؟) في العالم بطريقة ما، بمساعدة عكاز أو دعامة أخرى، ربما أبطأ من قبل، ولكن ما معنى السرعة والبطء بعد الآن؟ ولا يبدو أن رؤيته تتفق مع رؤيتهم. في رؤيتهم، على ما يبدو، إنه ليس من النوع الذي يُجرَى له بترٌ، ويستطيع السيطرة على ظروفه المتغيرة وينجح عمومًا في ذلك، لكنه من نوع مبهم، نوع سينتهي، في غياب الدعم المهني، في مؤسسة للمسنين والعجزة.

لو كانت مسز بوتس مستعدة لمصارحته لكان صريحًا معها. كان سيقول لها: قدمتُ أفكارًا كثيرة لتجاوز المحنة. اتخذتُ استعداداتي منذ فترة طويلة؛ حتى في أسوأ الظروف، سأستطيع رعاية نفسي. لكن قواعد اللعبة تجعل من الصعب على أيٍّ منهما أن يكون صريحًا. لو أنه تحدث إلى مسز بوتس عن مخبأ السومنكس٣ في خزانة الحمَّام، مثلًا، فقد تشعر مقيدة بقواعد اللعبة بأن عليها أن تقدم له النصيحة لتحميه من نفسه.

يتنهد. ويقول: «مسز دوريان بوتس، من وجهة نظرك، من وجهة نظر مهنية، ما الخطوة التالية التي تقترحينها؟»

ترد مسز بوتس: «ستحتاج إلى الترتيب مع شخص يقوم برعايتك، هذا مؤكد، ومن الأفضل أن تكون ممرضة خاصة، ممرضة لها خبرة في رعاية الضعاف. وهذا لا يعني بالطبع أنك ضعيف. ولكن إلى أن تستطيع الحركة مرة أخرى لا نود أن نخاطر، أليس كذلك؟»

يرد: بلى، علينا ألا نخاطر.

رعاية الضعاف. العناية بالضعاف. لم يعتقد أبدًا أنه ضعيف إلى أن رأى أشعة إكس. وجد من الصعب أن يصدق أن عظام العنكبوت التي ظهرت في صور الأشعة تجعله يصلب عوده، وبدونها يترنح بسهولة. الأطول الأضعف. طويل جدًّا بما يتعارض مع مصلحته. صرح دكتور هَنْسِن: لم أجرِ أبدًا عملية لرجل بهذا الطول، له ساقان بهذا الطول. ثم يخجل من زلته.

تسأل مسز بوتس: بالمناسبة يا بول هل تعرف ما إن كان التأمين يشمل رعاية الضعف؟

ممرضة، إلا أنها ممرضة أخرى. امرأة بكاب أبيض وحذاء رقيق تنطلق في شقته، تعلن بنبرات مرحة، حان وقت تناول الأقراص مستر «ر»!

يرد: لا، لا أظن أن التأمين يشمل ذلك.

تقول مسز بوتس: حسنًا، عليك تخصيص ميزانية لذلك، أليس كذلك؟

١  بالفرنسية في الأصل.
٢  الكلمة بالإنجليزية برَسثيس Prosthesis.
٣  أقراص مهدئة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤