٢٣

تقول ماريانا: لا يمكنها أن تأخذها، لا، هذا مستحيل.

لم يَعُد يستطيع أن يوافق، هذا مستحيل. واحدة يُقبَض عليها وهي تسرق سلسلة فضية ليست حتى فضية، لا تساوي أكثر من دولار ونصف في السوق الصيني، وماذا يحدث؟ تُكافَأ ببضائع تساوي ستمائة دولار! أين العدل في ذلك؟ ماذا يقول دراجو حين يعرف؟

بلنكا العنزة السوداء في العائلة. دراجو الضوء الساطع، ملاك يحمل سيفًا. القائد دراجو يوكتش، الأسطول الملكي الأسترالي.

يقول مخاطبًا ماريانا: أَغلِقي الخزانة على الملابس. روحه المعنوية مرتفعة. هو وهي على التليفون مرة أخرى، مثل صديقين قديمين، رفيقين قديمين. هذا ما كان عليَّ أن أفعله. أظهريها كحافز، قطعة قطعة، إذا وافقَت أن تذهب إلى المدرسة وهلم جرًّا. لكن بسرعة. ستصبح موضة قديمة بعد شهر.

ماريانا لا تستجيب. لا يتذكر أنها استجابت ذات مرة لدعابته. هل هو طائش بدرجة لا تستسيغها؟ هل تجده خفيفًا جدًّا، تافهًا جدًّا، يشبه مهرِّجًا؟ أم أنها ببساطة لا تثق في لغتها الإنجليزية بدرجة تجعلها لا تبادله الكلمات. يجب أن يقول لها: إنها مجرد مباراة، مزاح كما يقال في بعض الأحياء، عليكِ أن تشاركي، ليست لعبة صعبة، لا تتطلب تغييرًا في الروح.

روح ماريانا صلبةٌ، حقًّا، ميروسلاف أقل رسوخًا، ميروسلاف الذي قضى عامًا من حياته يركِّب بطة من تروس ويايات، وظهر مع بطته المدلَّلة في تليفزيون كرواتيا، من المؤكَّد أنه يتمتع بحس الدعابة. دراجو أيضًا، بضحكته البرية المصطنَعة. يتأرجح دراجو بين أبيه وأمه. تقول ماريانا إنه لاعب تنس جيد في الإرسال والصد، ثلاثة أنماط بلقانية، ثلاث أرواح بلقانية، لكن منذ متى صار خبيرًا في الخفة، أو في البلقانيين؟ تقول شعوب البلقان: ينكر كثير من الكروات انتماءهم إلى البلقانيين، يقولون: كرواتيا جزء من الغرب الكاثوليكي.

تقول ماريانا في التليفون: شجار دائم.

– شجار؟ مَن يتشاجر؟

– دراجو مع أبيه. يقول دراجو إنه يريد أن يأتي ويقيم في مخزنك.

– في مخزني؟

– أقول لا، أقول مستر ريمنت رجل طيب، عانى مشاكل كثيرة بسبب آل يوكتش.

– مستر ريمنت ليس رجلًا طيبًا، يحاول فقط أن يساعد. لا يمكن أن يقيم دراجو في مخزني أو في مخزن شخص آخر، هراء. ولكن إذا كانت علاقته بأبيه متوتِّرة، وإذا وافقْتِ، قولي له أهلًا به ليأتي ويقيم هنا بضعة أيام. ماذا يحب أن يأكل في العشاء؟ بيتزا؟ أخبريه أني سأطلب له بيتزا كبيرة كل مساء، من أجله فقط. اثنتين كبيرتين، إذا أحب؛ إنه ولد يافع.

هكذا تجري الأمور. في لمح، إن كانت هناك غيوم فقد انقشعت.

•••

يخبر دراجو: إنها ما نطلق عليها طبعات الزُّلال. تُغطَّى الورقة ببياض بيض مُخفَّف فيه بلورات معلَّقة من كلوريد الفضة. ثم تعرض للضوء تحت عدسة سالبة. ثم تُعالج كيميائيًّا. كانت هذه طريقة الطبع الوحيدة التي ابتكرت أيام فوشي. انظر، هذه طبعة قبل الزُّلال لتقارن بينهما، على ورقة منقوعة وليست مغطاة، منقوعة في ملح من أملاح الفضة. هل ترى مدى اكتمال صورة فوشي وسطوعها؟ يعود هذا إلى عمق طبقة الزلال. أقل من ملليمتر عمقًا، لكن الملليمتر يُؤدِّي إلى كل هذا الاختلاف. انظر في الميكروسكوب.

يريد أن يبدو شيقًا في عيني دراجو، إذا جاز التعبير، في عيني ممثِّل ذكي للعصر الآتي، لكن الأمر ليس يسيرًا؛ ماذا يقدم؟ دراجة مكسورة، طرفًا مقطوعًا، قد يكون منفِّرًا أكثر منه جذابًا، وخزانة مليئة بصور قديمة؟ باختصار، ليس كثيرًا، ليس كثيرًا ما يجذب به ولدًا إليه كابنٍ روحي.

لكن دراجو، ابن رائع لأم رائعة وربما — من يعرف؟ — لأب رائع أيضًا، مَؤدَّب بمعنى الكلمة. يُمعِن النظر بأدب في الميكروسكوب، ملاحظًا الملليمتر من بيض الدجاج المجفَّف الذي يُدَّعى أنه وراء كل هذا الاختلاف.

– كنْتَ أنت نفسك مصوِّرًا فوتوغرافيًّا، مستر ريمنت، أليس كذلك؟

– نعم، أدرْتُ استوديو في أَنْلي. قدمتُ في فترة دروسًا مسائية في التصوير الفوتوغرافي، لكني لم أكن أبدًا — كيف أقولها؟ — فنان كاميرا. كنتُ تقنيًّا دائمًا.

هل هذا شيء يجب الاعتذار عنه، ألا يكون فنانًا؟ لماذا يعتذر؟ لماذا يتوقع دراجو الشاب منه أن يكون فنانًا؟ دراجو الشاب، الذي هدفه في الحياة أن يكون تقنيًّا في الحرب.

يقول: فُوشي نفسه لم يكن فنانًا، على الأقل لم يكن فنانًا حتى جاء إلى أستراليا. جاء من باريس أثناء طفرة الذهب في خمسينيات القرن التاسع عشر. وقام ببعض الحفريات كهاوٍ، في فيكتوريا، ليتذوقه، لكنه كان يلتقط الصور أساسًا. يومئ باتجاه مجموعة من النساء عند باب الكوخ الخشبي. تلك حين اكتشف موهبته، أتقن حرفته أيضًا، سيطر بالكامل على أدواته، مثلما يفعل أي مصور فوتوغرافي عظيم.

– ماما كانت تريد أن تكون فنانة، حين كانت في كرواتيا.

– حقًّا!

– إيوه. التحقتْ بمدرسة للفنون، وبعد مدرسة الفنون التحقت بالترميم، تَعرف، وقامت بترميم لوحات جصية قديمة وأشياء من هذا القبيل.

– يا له من أمر مثير! لم أعرف ذلك عنها. الترميم مهنة مهارة، يمكن حتى أن تقول إنه فن، إلا أنه ليس فنًّا أصيلًا. القاعدة الأولى في الترميم: اتبعْ قصد الفنان، لا تحاولْ أبدًا أن تعدِّله. لا بد أن أمك وجدت أن الانقطاع للعمل الفني صعب عليها فانتقلت إلى التمريض، هل ما زالت ترسم؟

– ما زال لديها، تعرف، الفُرَش والأدوات والخامات. لكن لم يَعُد لديها وقت.

– لا، أنا متأكد من أنه لا وقت لديها. إلا أنها ممرضة من الطراز الأول، إنها تشرِّف المهنة. أتمنى أن تعرف أنت ذلك.

يومئ دراجو برأسه: من أين حصلْتَ على هذه الصور، مستر ريمنت؟

– جمعتها في سنوات. ذهبتُ إلى محلات التحف، ذهبتُ إلى المزادات، اشتريتُ الألبومات القديمة، اشتريتُ ما استطعتُ من الصناديق المليئة بصور قديمة، تافهة في معظمها، من حين لآخر كان هناك ما يستحق أن أحتفظ به، وحين تكون الصورة في حالة سيئة، أرمِّمها بنفسي، المسألة ليست في صعوبة ترميم اللوحات الجصية، لكنه، مع ذلك، عمل متخصِّص، كانت هوايتي لسنوات. هكذا كنتُ أقضي وقت الفراغ. إذا كان وقتك غير مُهم في ذاته، فعلى الأقل يمكنك أن تُحسِن استخدامه. هذا ما قلتُه لنفسي. تبرعتُ بالمجموعة بعد موتي، ستصبح ملكية عامة. إنها جزء مُسجَّل من تاريخنا. ويشير بيديه في إشارة غريبة غير متعمدة، ويا للدهشة تكاد الدموع تفر من عينيه. لماذا؟ لأنه يتجرأ ويذكر موته أمام هذا الولد، طليعة الجيل الذي سيتولى أمور عالمه ويسيطر عليه؟ ربما، لكن ربما على الأرجح بسبب الضمير المتصل العائد علينا. تاريخنا، تاريخك وتاريخي، ربما لمجرد وجود هذه الصورة أمامهما، هذا الانتشار لجزيئات الفضة مسجلًا طريقة سقوط ضوء الشمس، ذات يوم في عام ١٨٥٥م، على وجه امرأتين أيرلنديتين ماتتا منذ زمن بعيد، صورة لا علاقة له — الولد الصغير من لُرْدِز — بمن فيها ولا علاقة لدراجو، ابن دبروفنيك، بما فيها هو الآخَر، ربما، مثل التعويذة السحرية — كنتُ هنا، عشْتُ، عانيتُ — صورة لها القدرة على توحيدهما.

يقول: على أية حال، إذا أصابك الملل، إذا لم يَعُد هناك ما تفعله، أنتَ حر في إلقاء نظرة على بقية الصور، لا تُخرجْها من أغلفتها فقط، وتأكد من إعادتها كما كانت.

بعد ساعة، وهو يستعد للنوم، يطل دراجو برأسه من الباب: عندك كمبيوتر مستر ريمنت؟

– نعم. على الأرض قرب المكتب. لا أستخدمه كثيرًا.

يعود دراجو بسرعة: لا أجد التوصيلة مستر ريمنت. توصيلة المودم.

– آسف، لا أفهم.

– الوصلة. هل لديك كابل في مكان ما يوصلك بالإنترنت؟

– لا، هذا الكمبيوتر ليس من هذا النوع. أستخدمه أحيانًا لكتابة خطابات. ماذا تحاول أن تفعل؟ ماذا تحتاج؟

يبتسم دراجو ابتسامة استغراب: مع ذلك، متى اشتريتَ هذا الكمبيوتر؟

– لا أتذكر، منذ سنوات، ألف وتسعمائة وثمانين تقريبًا. من طراز قديم، يمكن أن أساعدك إذا احتجْتَ شيئًا أكثر تطورًا.

لم يترك دراجو الموضوع عند هذا الحد. في مساء اليوم التالي وهما في المطبخ، يتناولان العشاء، لم يطلب بيتزا، كما قال، بل طبخ رِسُتو بعيش الغراب والسوترنيه.١

يقول دراجو على غير توقُّع: هل تكره الأشياء إن كانت جديدة، مستر ريمنت؟

– لا؛ لماذا تقول ذلك؟

– لستُ، تعرف، ألومكَ، إنه مجرد أسلوب، أسلوب كل شيء. يتراجع في كرسيه، يشير بيده بتلقائية، وهو يقول: كل شيء. ممتاز. أتساءل فقط. ألا تحب شيئًا جديدًا؟

الشقة في ممر كنستون في بناء تم تجديده، يعود إلى ما قبل الحرب. عالية السقف وفسيحة، إلا أنها ليست واسعة جدًّا. اشتراها بعد الطلاق؛ وكانت ما يريده بالضبط كعائد إلى حياة العزوبية، يعيش هنا من وقتها.

وكجزء من الصفقة حين اشترى الشقة اشترط عليه المالك السابق أن يشتري العفش، كان العفش ثقيلًا وقاتمًا ولا يناسب ذوقه؛ كان ينوي استبداله باستمرار، لكنه كان يفتقر إلى الطاقة اللازمة لذلك، وبدلًا من ذلك، وبمرور الوقت، تواءَم مع ما يحيط به، صار هو نفسه بطيئًا وكئيبًا.

– دراجو، أُقدِّم لك إجابة صريحة، لكن لا تسخر منها. سيطر عليَّ الزمن والتاريخ، سيطرَت عليَّ هذه الشقة وكل ما فيها. لا غرابة في ذلك، أن يسيطر عليك الزمن. سيحدث لك ذلك أنتَ الآخَر، إذا طال بك العمر. أخبِرْني الآن: لماذا هذه المحادَثة؟ بسبب كمبيوتر لا يتفق مع المستوى الذي تطلبه؟

يُبحلِق فيه دراجو بارتباك هائل، يندهش من نفسه حقًّا. لماذا هذه الكلمات الحادة؟ ماذا فعل الولد المسكين ليستحقها؟ هل تكره الأشياء إن كانت جديدة؟ السؤال مناسب تمامًا لرجل عجوز. ما الخطأ فيه؟

يقول مشيرًا بيده كما فعل دراجو بالضبط: ذات يوم كان هذا كله جديدًا. ذات يوم كان كل ما في العالم جديدًا، حتى أنا كنتُ جديدًا، في الساعة التي وُلِدتُ فيها كنتُ آخر شيء وأحدث شيء على وجه البسيطة. ثم أثَّرَ الزمن، كما سيؤثر فيك الزمن، سيأكلك الزمن، دراجو! ستجلس ذات يوم في بيتك الجديد الرائع مع زوجتك الجديدة الرائعة، ويحوم ابنكما حولكما ويقول: لماذا أنتما من طراز قديم إلى هذا الحد؟ أتمنى أن تتذكر هذه المحادثة حين يأتي هذا اليوم.

يتناول دراجو آخر شوكة من الرستو، آخر شوكة من السلطة. يقول: ذهبنا إلى كرواتيا في الكريسماس الماضي. أنا وماما وأُختاي. إلى زَدار؛ حيث يعيش والِدا ماما، إنهما الآن عجوزان لطيفان، سيطر عليهما الزمن أيضًا، كما قلتَ، اشترَت ماما لهما كمبيوتر وعلَّمنَاهما طريقة استخدامه، وهما الآن يستطيعان الشراء عن طريق الإنترنت، يستطيعان إرسال رسائل إلكترونية، نستطيع أن نرسل لهما صورًا. وهما يحبان ذلك، وهما عجوزان لطيفان.

– هكذا؟

يقول دراجو: هكذا يمكن أن نختار، هذا كل ما عندي.

١  نوع من النبيذ الأبيض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤