٢٤

حين دعا دراجو للإقامة معه، لم يكن، وراء الدعوة، ما يمكن أن يعتبره يلتقط كلمة اليوم، الكلمة المتكلَّفة المستهجَنة، يزنها ويختبرها، غير مناسب. كان قلبه — بقدر ما يرى ما في قلبه — نقيًّا وما زال نقيًّا، ودوافعه بريئة. إنه مُعجَب بدراجو بشكل معقول ومناسب، كما يعجب رجل بابن يتبناه أو ابن حقيقي.

التعايش الذي تصوره بينهما كان معقولًا، يقضيان معًا بعض الأمسيات، ينهمك دراجو في واجباته على طاولة الطعام، وهو يجلس في كرسي في يده كتاب، في انتظار أن تهدأ الأحوال في بيت يوكتش.

لكن الأمور تسير على نحو آخر. يأتي دراجو بأصدقائه؛ بسرعة امتلأتِ الشقة بالصخب والضوضاء وكأنها محطة قطار، المطبخ فوضى مليء بكراتين الوجبات السريعة والأطباق القذرة؛ الحمَّام مشغول باستمرار، لا شيء من التطور الهادئ في الألفة التي تَطلَّع إليها، يشعر أن دراجو يبعده عن طريقه، بعد أمسية الرستو بعيش الغراب لم يأكُلا معًا.

يعلن بأقصى ما يستطيع من تلقائية: سأعد لنفسي طبق بيض للعشاء. هل أعد لك طبقًا أيضًا؟ فخذ خنزير بالطماطم؟

يقول دراجو: لا تعد لي؛ سأخرج، أحد أصدقائي ينتظرني، سنشتري ما نأكله.

– معك فلوس؟

– إيوه، شكرًا، ماما أعطتني فلوسًا.

الرفيق المقصود اسمه شون، رأسه أحمر مليء بالبثور، كرهه من أول نظرة. يكثر شون من التردد على الشقة، وهو طبقًا لكلام دراجو لا يذهب إلى المدرسة؛ لأنه يعزف في فرقة. يخرج مع دراجو بعد أن يحل الظلام، ويبقيان في الخارج حتى وقت متأخر، ثم يعودان ويغلقان الباب عليهما في الغرفة التي كانت مكتبًا، وهي الآن غرفة دراجو. الموسيقى وهمهمة صوتيهما تجعله مستيقظًا حتى الساعات الأولى من الصباح، يستلقي في الظلام، في نكد وبؤس، يستمع إلى البي بي سي.

يشتكي إلى إليزابيث كُسْتِلُّو. ليست مجرد ضوضاء. دراجو متعود على أسرة كبيرة. لا أتوقع منه صمت الرهبان. لا، ما يزعجني طريقة رد فعله حين أتجرأ وأسأل عن أبسط الأمور.

– كيف يكون رد فعله؟

– يخيم الصمت. لا يراني بعدها، قد أكون مثل قطعة من الأثاث. تقول ماريانا: إنه على خلاف دائم مع أبيه.

اعتقد أنه قد لا يرى إليزابيث كُسْتِلُّو مرة أخرى، بعد كلماتها الباردة على شاطئ النهر، لكن لا، تعود؛ ربما لأنها لا تستطيع أن تتخلى عنه، وربما أيضًا لأنها ليست على ما يرام. فقدَت وزنها؛ تبدو في حالة وهن شديد، تعاني من كحة مستمرة.

تقول: بول المسكين! وقت متأخر جدًّا من الحياة، رهباني جدًّا، كما تقول، كثير من التمسك بأساليبك، والآن كثير من النكد أيضًا! يا لها من مُغامَرة طائشة في عقل طفل! بصورة مجردة أنا متأكِّدة من أنك توَد أن تحب دراجو الشاب، لكن حقائق الحياة تستمر في طريقها. لا يمكن، بول، أن نحب بالإرادة، علينا أن نتعلم. لهذا تولد الأرواح مرة أخرى، وهكذا، وهم يكبرون في صُحبتنا، يمكن أن يقودونا عَبْر وعورة طريق الحب. لمحْتَ من البداية شيئًا ملائكيًّا في دراجو، وأنا واثقة من أنك مُحق، دراجو بقي على اتصال بأصوله الدنيوية الأخرى أكثر من معظم الأطفال. تغلَّبْ على غضبِك، وانزعاجك، تعلَّمْ من دراجو كلما استطعْتَ. ذات يوم ستتلاشى في الهواء خصلات الأُبَّهة التي يجرها وراءه ويصبح ببساطة واحدًا منا.

– تعتقد أني مجنونة، أليس كذلك، أو مخرِّفة؟ لكن تذكَّرْ: ربَّيْتُ ابنين، حياة حقيقية، ابنين ليسا روحيين؛ لم تربِّ أحدًا. أعرف لماذا ننجب أبناء؛ ما زلْتَ جاهلًا. ومن ثم انتبِهْ إليَّ حين أتكلم، حتى لو كنتُ أتكلم بالمجاز. ننجب أطفالًا لنتعلم، ربما، أن نحب ونخدم، مِن خلال أبنائنا نصبح خدمًا للزمن. تطلَّعْ في قلبك. اسألْ نفسك إن كان لديك مخزون من الجَلَد والقدرة على الاحتمال للقيام برحلة. انسحب إن كانت الإجابة بالنفي. الوقت ليس متأخرًا.

حديث مَجازي. ملائكة من أعلى. حديثها الأكثر إلغازًا منذ الهراء الخادع عن المرأة ذات النظارة القاتمة. هل أصابها دوار نتيجة الجوع؟ هل تحاول خداعه مرة أخرى؟ هل عليه أن يقدم لها أكثر من كوب الشاي؟ ينظر إليها بقسوة، بقدر ما يستطيع من قسوة، لكنها لا تهتز، يبدو أنها تؤمن بما تقول.

•••

يبدو أن العقد القانوني، المبرَم بينه وبين ماريانا، تبخر في الهواء. تبقى بعيدة يومًا بعد يوم بدون كلمة تبرر غيابها. وعلى الجانب الآخر، ينعم ابنها بمكالمات تليفونية عديدة. مع انتهاء دراجو من المحادَثات بينهما، التي تدور بالكرواتية، لا يسمع سوى مقطع من حين إلى آخر.

وذات يوم، بعد الظهيرة، تهبط ماريانا فجأة، وعلى غير توقُّع. لم يعد دراجو من المدرسة؛ وهو في غفوة.

– مستر ريمنت، أيقظْتُكَ؟ آسفة طرقْتُ الباب ولم يأتِ أحد. تريد شايًا؟

– لا، شكرًا. كان مستاءً؛ لأن النوم ما زال مسيطرًا عليه.

– كيف حال ساقك؟

– ساقي؟ ساقي بخير.

سؤال غبي وإجابة غبية. كيف تكون ساقه بخير؟ لا ساق. الساق المقصودة قُطِعتْ منذ فترة طويلة وأُحْرِقتْ. كيف حال غياب ساقك؟ هكذا كان يجب أن يُطرَح السؤال. غياب ساقي ليس بخير، إن أردْتِ الحقيقة، غياب ساقي ترك فجوة في حياتي، كما يرى كل من له في رأسه عينان.

أحضرتْ ماريانا ليوبا معها. يحاول أن يخفي انزعاجه من أجل الطفلة.

تشق ماريانا طريقها عبر الفوضى الموجودة على الأرض، وتجلس في آخر سريره. تقول: تحيَا حياة لطيفة، ثم هب! تصدمك سيارة، ثم هب! تصدمك عائلة يوكتش؛ لم تَعُد لطيفة بعد ذلك، إيه؟ آسفة! لا تريد شايًا؟ أنت متأكد؟ كيف حال دراجو معك؟

– لا شيء يستدعي الشكوى، العلاقة بيننا طيبة، أنا متأكد من أنه شيء رائع بالنسبة لي أن أكون مع شُبَّان. ينعشونني.

– أنتَ وهو صِرتُما صديقين، إيه؟ حسن! بلنكا تشكرك.

– لا شيء.

– ذات يوم تأتي بلنكا تشكرك بنفسها، لكن ليس اليوم؛ ما زالتْ — تعرف — بنت أبيها. ما يتعود أن يفهمه، ثمة معسكَران في عائلة يوكتش، معسكر الأب ومعسكر الأم، وكله على حسابك، بول ريمنت. بسبب عاطفة أطلقْتَ لها العنان، بسبب عاطفة وليدة تجاه سيدتك الشريفة، كنْتَ أحمق لدرجة أن تعلنها.

– هكذا! لديك زائرة جديدة!

للحظة لا يفهم ما ترمي إليه، ثم يعرف ما تنشدُّ إليه لتفحصه، الجورب النايلون الذي استخدمتْه مسز كُسْتِلُّو لتغميه، الجورب الذي ربطه لسبب ما حول قاعدة لمبة بجوار السرير ونسيه.

تُقرِّب ماريانا الجورب برقة من أنفها، تقول: نكهة الليمون، رائع جدًّا! صديقتك تحب الليمون، إيه؟ في كرواتيا، تعرف، نلقي بزهور الليمون على المرأة والرجل أثناء زواجهما في الكنيسة؛ عادة قديمة، ليس الأرز، زهور الليمون، ليرزقا بعدد وافر من الأطفال.

دعابة ماريانا، لا خبث فيها. كان عليه أن يتكيف، إذا طمح أن يكون ذات يوم عريسها الروحي، مع تساقط زهرات الليمون عليه.

يقول: الأمر ليس كما يبدو، لن أقدم تفسيرًا، تَقبَّلي فقط ما أقوله لكِ، الأمر ليس كما تظنين.

تُمسِك ماريانا الجورب بطول الذراع وتتركه بتباهٍ يسقط على الأرض: هل تريد أن تعرف ماذا أظن؟ لا أظن شيئًا، لا شيء.

يسود الصمت. يقول لنفسه: الآن يعرف كل منا، ماريانا وأنا، الآخَر معرفة جيدة حقًّا، بما يسمح بأن يكون لنا نزوة صغيرة.

تقول ماريانا: حسن! الآن أفحَص ساقَك وأغسلك ثم نقوم بتدريبنا كالمعتاد، نتَخلَّف عن تدريبنا، إيه؟ ربما لا تتدرب بصورة جيدة وأنت وحدك، هل أنت متأكد من أنك لا تريد برسثيز؟

– لا أريد ساقًا صناعية، لا الآن ولا في أي وقت آخر، الموضوع مغلق، لا تَتحدَّثي عنه من فضلكِ.

تغادر ماريانا الغرفة. تواصل ليوبا التحديق فيه بنظرة هائلة من عين داكنة يزداد شعوره أكثر وأكثر بأنها مخيفة. يقول: أهلًا ليوبا. ليوبكا.

يبدو التحبب غريبًا في فمه، وقاحة. الطفلة لا ترد.

تعود ماريانا ومعها إناء كبير للغسيل. تقول: وقت خاص من أجل مستر ريمنت. اذهبي وارسمي صورة ماما. تخرج الطفلة، تغلق الباب. تخلع صندلها. يلاحظ، لأول مرة، أن قدميها عريضتان ومفلطحتان؛ أصابع قدميها مصبوغة بأحمر غامق مدهش، أرجواني تقريبًا، لون كَدْمة ملتهبة.

تقول: تحتاج إلى مساعَدة؟

يهز رأسه، يخلع بنطلونه. تقول: استلقِ. تَفرِد فوطة على وسطه، ترفع البَتْر على طرف ثوبها، تفك الضمادة برشاقة، تربِّتُ على الشيء العاري تربيت قبول. ولا برسثيز، إيه؟ هل تعتقد أن ساقك تكبر مرة أخرى، مستر ريمنت؟ هذا ما يعتقده الأطفال فقط. ما تقطعه يكبر مرة أخرى.

– ماريانا، تَوقَّفي من فضلكِ. تكلمنا في هذا من قبل. لا أريد أن أتكلم.

– نعم، نعم، لن أتحدث ثانية عن البرسثيز. تمكث في البيت، تزورك صديقاتك، هذا أفضل. تتحسس الندبة بإبهامها. أَبْسَط. لا ألم؟ لا رغبة في الحك؟

يهز رأسه.

تقول: حَسن؛ وتبدأ في غسل البتر بالصابون.

يتبخر مزاجه السيِّئ كنَدَى الصباح. يفكر بينه وبين نفسه، أي شيء؛ يجب أن أعطي؟ أي شيء ﻟ… يعتقد وهو يفكر بهذا الحماس باستحالة ألا يتصل بماريانا. لكن وجه ماريانا لا تبدو عليه انفعالات. يفكر مع نفسه: مُتيَّم، أنا مُتيَّم بهذه المرأة! رغم كل شيء! وأيضًا: تضعني في قبضة يدها!

تنتهي من غسل البتر، تجففه، تبدأ التدليك الأول، بعد التدليك الأول تأتي تمرينات المد. بعد تمرينات المد يأتي التدليك الثاني والأخير.

ليستمرَّ هذا إلى الأبد!

لا بد أنها تعودت على ذلك، لا بد أن كل الممرضات تَعوَّدْن على ذلك، يُستثار الرجال الذين في رعايتهن جسديًّا. ولا بد أن ذلك هو السبب في أنها سريعة، عملية، وتتجنب مواجهة عينه. ربما تعلَّمْن أن يَتصرَّفْن مع استثارة الذكور بهذه الطريقة. يحدث أحيانًا أن … من المهم أن تَفهمْن أن … مثل هذه النزعات لا إرادية وهي تُربِك المريض بقدر ما تُربِك الممرضة … من الأفضل أن … لحظات حيَّة في محاضرة مُملَّة.

قال أوجستين: قبل الهبوط كانت الروح، التي هي جزء من جوهر الرب، تسيطر على كل نزعات الجسد. وإن وجدنا أنفسنا اليوم تحت رحمة نزعات نزوات أعضاء الجسد، فذلك نتيجة لطبيعة هبطت، هبطت بعيدًا عن الرب. لكن هل كان أوجستين المبارك على صواب؟ هل نزعات أعضاء جسده مجرد نزوات؟ هل تبدو كلها واحدة بالنسبة له؟ حركة واحدة: تورم الروح، تورم القلب، تورم الرغبة، لا يمكن أن يتخيل أنه يحب الرب أكثر مما يحب ماريانا في هذه اللحظة.

لا ترتدي ماريانا زيها الأزرق، مما يعني أنها لا تعتبر اليوم من أيام العمل، أو على الأقل لم تكن تعتبره كذلك حين تركَتِ البيت، ترتدي بدلًا منه فستانًا أخضر زيتونيًّا بحزام أسود وفتحة صغيرة على الجانب الأيسر تكشف الركبة وومضة من الفخذ، ذراعاها البنيتان مكشوفتان، ساقاها البنيتان ناعمتان، يفكر مرة أخرى، أي شيء؟ يجب أن أعطي أي شيء! وبطريقة أخرى هذا أي شيء! وقبوله للثوب الأخضر الزيتوني، الذي يراه فاتنًا فتنة لا تُقاوَم، لا تختلف عن حبه للرب، الذي، إن لم يكن موجودًا، فهو على الأقل يملأ ما كان يمكن أن يكون فجوة واسعة تفترس كل شيء.

تضغط على البتر إلى الخلف؛ يُفترَض أن يضغط إلى الأمام بقدر مساوٍ. باختصار وصلَا معًا إلى الوضع: تقبض على الفخذ المبتور بيديها الاثنتين، وتميل بوزنها في اتجاهه، ويَقبض على حافَّة السرير ويقاوِم. يفكر: يا لها من بعيدة! يا لها من قريبة بعيدة! الصدر على الصدر كما ينبغي، يدفعان نَفْسَيهما الهابطتين في بعضهما. إذا سمع واين بلايت بهذا، فماذا يقول؟! لأنه بدون واين بلايت ما كان ليلتقي أبدًا بماريانا، وبدون واين بلايت ما كان له أن يعرف هذا الضغط، هذا الحب، هذا الإلحاح. فِلِكس، فِلِكس. فِلِكس لَبْسوس. كل شيء إلى الأفضل، رغم كل شيء.

تقول ماريانا: حسن، استرخِ الآن. رائع! الآن إلى الأمام.

ترفع ثوبها وتفرشخ حوله. في الراديو الذي نام على صوته في البداية ولم يغلقه، يتحدث رجل عن صناعة السيارات الكورية، أرقام تصعد، أرقام تهبط.

تنزلق يدَا ماريانا تحت قميصه، يعثر إبهاماها على جزء مؤلم في أعلى «الورك» وتبدأ تدليكه بلطف. يفكر: أحمدك، يا رب، وأحمدك يا رب؛ لأن كُسْتِلُّو المرأة ليست هنا لترى وتعلِّق.

– ستو تو راديس، ماما؟

يفتح عينيه فجأة. ليوبا على بعد ذراع تُحدِّق فيه مباشرة. لا خطأ في حدة البحلقة. هنا هو، عجوز بشع مشعر شبه عارٍ ولا شك أن رائحته كريهة في منخاريها الملائكيين، يصارع أمها، وهُما الاثنان في وضع لا يتسم حتى بالعظمة البغيضة للمضاجَعة الجنسية.

للحظة، حين تكلَّمَت الطفلة، يشعر بماريانا تتجمَّد، تعود الآن إلى إيقاع التدليك مرة أخرى. تقول: مستر ريمنت يتألم. تَذكَّري أن ماما ممرِّضة؟

يقول متعجِّلًا تغطية نفسه: يكفي هذا اليوم، ماريانا. شكرًا.

تقفز ماريانا من فوق السرير، تنتعل صندلها، تأخذ ليوبا من يدها. تقول: لا تمصِّي إصبعك؛ هذا بشع. حسن، مستر ريمنت، أتمنى أن يكون الألم قد تلاشى الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤