٢٨

يقول مخاطبًا كُسْتِلُّو المرأة: ألا تعتقدين أنك في حاجة للعرض على طبيب؟

تهز رأسها: لا شيء، مجرد قشعريرة. ستمر.

لا تبدو قشعريرة إطلاقًا. كحة رطبة، وكأن الرئتين تحاولان دفع طبقة من البلغم المستقر في الأعماق، حفنة في كل دفعة.

يقول: لا بد أنه نتيجة النوم تحت الآجام. تنظر خلفها غير مُستوعِبة.

– ألم تقولي إنك كنتِ تنامين تحت الآجام في المنتزه؟

– آه نعم.

يقول: أَنصحُكِ بزيت الأوكاليتوس. ملعقة من زيت الأوكاليتوس في إناء به ماء مغلي، تستنشقين البخار، يفعل العجب في الشُّعب الهوائية.

تقول: زيت الأوكاليتوس! لم أسمع بزيت الأوكاليتوس في هذه العصور، يستخدم الناس بخاخات في هذه الأيام. في حقيبتي واحدة بلا أهمية. اعتدْتُ استخدام بلسم الراهب، لكني لم أَعُد أعثر عليه في المحلات.

– يمكنكِ الحصول عليه من مخازن الدولة. يمكنكِ الحصول عليه في أدليد.

– يمكنكِ، كما يقول أصدقاؤنا الأمريكان، إنها بلاغة.

سيحصل على زيت الأوكاليتوس من أَجْلِها. سيغلي الماء في إناء، سيفتش حتى في خزانة الأدوية بحثًا عن بلسم الراهب، لو طلبتْ فقط، لكنها لا تطلب.

يجلسان في البلكونة وبينهما قارورة من النبيذ. عتمة، يهب النسيم بقوة. لو أنها مريضة حقًّا لكان من الأفضل لها أن تدخل، لكنها لا تفعل شيئا لتواري نفورها من الشقة. قاعتك الجنائزية البافارية، هكذا وصفتها بالأمس، وهو ليس مسئولًا عنها.

تستفهم: لا كلمة من دراجو؟ لا أخبار من آل يوكتش؟

– لا كلمة. كتبتُ خطابًا، لم أضعه بعد في صندوق البريد.

– خطاب! خطاب آخر! ما هذا، مباراة شطرنج عبر البريد؟ تصل كلماتك إلى ماريانا في يومين، يصل ردها في يومين، سنلفظ أنفاسنا جميعًا من الضجر قبل أن نصل إلى حل. بول، ليس هذا عصر رواية الخطابات. اذهبْ وقابلْها! واجهْها! ليكن مشهدًا حقيقيًّا! الصق طابع بريد على قدمك (أتكلم بالاستعارة)! اصرخْ! تكلمْ، «لن أُعامَل بهذه الطريقة!» هكذا يتصرف الناس العاديون، أمثال ماريانا وميروسلاف، ليست الحياة تبادلًا للمذكِّرات الدبلوماسية. بالعكس،١ الحياة دراما، الحياة إثارة، إثارة وعاطفة! من المؤكَّد أنكَ، بخلفيتكَ الفرنسية، تعرف ذلك. كنْ مؤدَّبًا إن شئْتَ، لا ضرر من الأدب، لكن على ألا يكون ذلك على حساب العواطف. فكِّرْ في المسرح الفرنسي. فكِّرْ في راسين. لا يكتب راسين عن ناس يجلسون على مُؤخِّراتهم في الزوايا يخططون ويحسبون، يكتب راسين عن المواجَهة، خطبة مُسهَبة عنيفة ضد أخرى.

هل هي محمومة؟ ما سبب كل هذا الثوران؟

يقول: إذا كان هناك مكان في العالم لبلسم الراهب، فهناك مكان لخطابات عفَا عليها الزمن. على الأقل إذا بدَا الخطاب غير مناسب، فيمكنك أن تمزقيه وتبدئي من جديد. بخلاف الكلام المنطوق، بخلاف ثوران العاطفة، التي تصدر بصورة نهائية ولا يمكن إلغاؤها. أنتِ من بين كل الناس عليكِ أن تستوعبي ذلك.

– أنا؟

– نعم أنتِ. أنتِ، بالتأكيد، لا تكتبين على عجل أول ما يخطر على بالكِ وترسلينه إلى الناشر. من المؤكَّد أنك تراجعين أفكاركِ. من المؤكَّد أنكِ تُنقِّحِين. أليستِ الكتابة كلها أفكارًا نُقِّحتْ مرة؛ أفكارًا نُقِّحتْ مرة وأفكارًا نُقِّحتْ مرتين وأفكارًا نُقِّحتْ أكثر من ذلك؟

– ما تقوله حق. هكذا هي الكتابة. أفكار تُنقَّح بصورة لا تنتهي. لكن من أنت لتُنقِّح أفكاري؟ لو كنتَ جديرًا بشخصيتك التي تشبه السلحفاة، لو نَقحتَ أفكارك، لو لم تعلن بحماقة وبطريقة لا يمكن التراجع عنها عن عاطفتك تجاه خادمتك، ما كنا وقعنا في الورطة الحالية، أنا وأنت. لاستطعتَ الجلوس سعيدًا في شقتك الرائعة، في انتظار زيارات السيدة ذات النظارة القاتمة، واستطعتُ العودة إلى ملبورن، لكن الوقت متأخر جدًّا على ذلك الآن. لم يَعد أمامنا إلا أن نُقيَّد ونرى إلى أين يأخذنا الحصان الأسود.

– لماذا تصفينني بالسلحفاة؟

– لأنك تتَنشَّق الهواء سنوات قبل أن تتخذ قرارًا. لأن كل خطوة مباركة تكلِّف كل هذا الجهد. لا أطلب منك أن تصير أرنبًا بريًّا بول! أناشدك فقط أن تتطلع إلى قلبك وترى إن كنْتَ لا تستطيع أن تجد معانيَ في شخصيتك الشبيهة بالسلحفاة، في عاطفتك الشبيهة بالسلحفاة، بتسرعك في التودد إلى ماريانا، إن كانت نيَّتُك حقًّا أن تتودَّد إليها.

– تذكَّرْ بول! العاطفة هي ما يسيِّر العالم. لسْتَ أُمِّيًّا، تعرف ذلك بالضرورة. في غياب العاطفة يصبح العالم بلا معنًى وبلا الشكل. فكِّرْ في «دُون كيخوت» ليست «دُون كيخوت» عن رجل يجلس في مقعد هزَّاز يتحسَّر على لامنشا، بل عن رجل يضع وعاء على رأسه ويتسلق ظهر حصان محراثه، الحصان العجوز الوفي وينطلق ليحقق مآثر عظيمة، تخرج إيما روو، إيما بوفاري، وتشتري ملابس فخمة وهي لا تعرف كيف ستدفع ثمنها. يقول ألُنْسو، تقول إمَّا، لا نعيش إلا مرة واحدة، فلندفعها بقوة إذن! ادفعها بقوة بول، تَبيَّنْ ما يمكن إدراكه.

– أتبينُ ما يمكن إدراكه لتكتبي عني في كتاب.

– ربما يكتب عنك شخص ما في مكان ما في كتاب، ربما يريد شخص ما الكتابة عنك في كتاب، ربما تصبح جديرًا بالكتابة عنك في كتاب، بجوار ألنسو وإمَّا، تصبح عظيمًا بول، عشْ كبطل، هذا ما نتعلمه من الكلاسيكيات، كن شخصية رئيسية، وإلا ما معنى الحياة؟

– هيا! افعل شيئًا ما، افعل أي شيء، أدهِشْني، هل خطر على بالك أن حياتك إن بدت مكرَّرة وضيِّقة وأكثر كسلًا كل يوم، فقد يكون ذلك؛ لأنك لا تبرح هذه الشقة الملعونة؟ تأمَّلْ: في مكان ما في دَغَل من أدغال ولاية ماهاراشترا نَمِر في هذه اللحظة نفسها يفتح عينيه الكهرمانيتين، ولا يفكر فيك إطلاقًا! لا يمكن أن يكون أقل اهتمامًا بك من أي شخص آخر من سكان ممر كنستون. متى خرجْتَ آخر مرة لتمشي تحت السماء المرصَّعة بالنجوم؟ فقدْتَ ساقًا، أعرف، والتجول ليس لهوًا؛ لكنا جميعًا نكون بعد عمر معين قد فقدنا ساقًا، تقريبًا. ساقك المفقودة مجرد علامة أو رمز أو عَرَض، لا يمكن أتذكر أيها أصح، للشيخوخة، الشيخوخة وعدم الاهتمام. مم تشكو إذن؟ أصغِ!

أكون، ما أكون لا أحد يهتم أو يعرف.

يتخلَّى عنِّي أصدقائي مثل ذاكرة مفقودة.

أستهلِكُ مِحَني بنفسي.

– هل تعرف هذه الأبيات؟ جون كلير. احذرْ بول. هكذا تنتهي، كجون كلير، المستهلِك الوحيد لمِحَنك؛ لأن لا أحد غيرك، تأكدْ من ذلك، سَيُلعَن.

لا يعرف أبدًا متى تعامله كُسْتِلُّو المرأة بجدية ومتى تستدرجه إلى خدعة. يمكن أن يتعامل مع الإنجليز، لنَقُل الأنجلو-أستراليين. الأيرلنديون يُسبِّبون له المشاكل دائمًا، السلالة الأيرلندية في أستراليا. يرى شخصية تسعى إلى تحويله هو وماريانا — الرجل المبتور والسيدة البلقانية النشيطة — إلى مَلهاة. وبرغم ذلك كله لا يبدو ما تدبره كُسْتِلُّو له مَلهاة ساخرة، وهذا ما يُحيِّره، وهذا ما يصفه بالعنصر الأيرلندي.

يقول: يجب أن ننتقل إلى الداخل.

– ليس بَعد. يا لها من سماء مرصعة بالنجوم! … كيف تستمر؟

– لا أعرف!

– يا لها من سماء مرصعة بالنجوم! يا له من شيء مثير! كيف؟ في رأيك، ألتصق برجل غير مبالٍ وغير مغامر إلى هذا الحد، مثلك؟ هل يمكن أن تقدم تفسيرًا؟ هل يعود كل ذلك إلى اللغة الإنجليزية، إلى أنك لا تستريح بما فيه الكفاية لاستخدام لغة ليستْ لغتك؟

– منذ ذكرْتَ لي ماضيك الفرنسي — تعرف — وأنا أستمع إليك بانتباه شديد. نعم أنت على حق، تتكلم الإنجليزية، ربما تُفكِّر بالإنجليزية، وربما حتى تَحلُم بالإنجليزية، إلا أن الإنجليزية ليست لغتَكَ الحقيقية. يمكن حتى القول إن الإنجليزية تخفيك وراءها، أو أنها قناع لك، جزء من درعك المصنوع من عظام السلحفاة. أقسمُ أني أستطيع، وأنت تتكلم، أن أسمع الكلمات وأنت تختارها، واحدة بعد الأخرى، من صندوق كلمات تحمله معك، مثقوب في موضع. لا يتكلم المواطن الأصلي الحقيقي بهذه الطريقة، مَن ولد في اللغة.

– كيف يتكلم المواطن الأصلي؟

– من القلب. تنبثق الكلمات من الأعماق ويغنِّيها، يغني معها. هكذا يتكلم.

– أفهمُ. هل تقترحين أن أعود إلى فرنسا؟ هل تقترحين أن أغنِّي الأخ الفلاح؟٢

– لا تسخرْ مني بول! لم آتِ على ذِكْر العودة إلى فرنسا؛ فقدْتَ الاتصال مع فرنسا منذ زمن طويل، كل ما قلتُه، إنك تتكلم الإنجليزية كغريب.

– أتكلم الإنجليزية كغريب؛ لأني غريب، أنا غريب بالطبيعة وكنْتُ غريبًا طوال حياتي، ولا أعرف لماذا أعتذر؟ لو لم يكن هناك غرباء لما كان هناك سكان أصليون.

– غريب بالطبيعة؟ لا، ليست المسألة كذلك، لا تُلقِ باللائمة على طبيعتك؛ طبيعتك جيدة، ولو كانت مُتخلِّفة قليلًا. لا، كلما استمعتُ إليك أكثر ازداد يقيني بأن مفتاح شخصيتك يكمُن في كلامك. تتكلم ككتاب. كنْتَ ذات يوم ولدًا صغيرًا شاحبًا مهذبًا — يمكن أن أراك — يولي الكتب الكثير من الاهتمام. وما زلتَ.

– ما زلتُ ماذا؟ شاحبًا؟ مهذبًا؟ متخلِّفًا؟

– ولدًا صغيرًا تخشى أن تبدو مضحِكًا حين تفتح فمك. دعني أُقدِّم اقتراحًا لك، بول. أغلقْ هذه الشقة وودِّعْ أدليد؛ أدليد أشبه بجبَّانة. لم تعدْ لك حياة هنا. تعالَ وعشْ معي في كرلتون بدل العيش هنا. أعطيك دروسًا في اللغة، أعلمك كيف تتحدث من القلب، درسًا لساعة أو اثنتين يوميًّا، ستة أيام في الأسبوع؛ يمكن أن نستريح في اليوم السابع. يمكن حتى أن أطبخ لك، ليس بخبرة ماريانا، لكن بشكل مقبول، وبعد العشاء، تحركك الروح، تحكي لي مزيدًا من قصص كنوزك المختزَنة، ثم أحكيها لك بصورة سريعة ومُنقَّحة حتى إنك لن تَتعرَّف عليها. ماذا أيضًا؟ لا لذَّات فظَّة، ستستريح حين تسمع ذلك. سنكون نَقيِّين كالملائكة المبارَكة. سأرعاك في كل النواحي الأخرى؛ وربما تتعلم بدورك أن ترعاني. حين يحل اليوم المحدَّد، يمكن أن تكون الشخص الذي يُغلِق جفوني ويضع قطعة من القطن في مِنخاري، ويتلو لي دعاءً قصيرًا، أو العكس، إن كنتُ سأرحل بَعدَك. ما رأيك؟

– يبدو وكأنه زواج.

– نعم هو كذلك، نوع من الزواج، زواجٌ رفاقيٌّ. بول وإليزابيث، إليزابيث وبول رفيقان على الطريق. وإن كانت كرلتون لا تعجبك، يمكن أن نشتري سيارة مجهزة ونجوب القارة نتفرج على مناظرها. ويمكن حتى أن نستقل الطائرة إلى فرنسا. ما رأيك في ذلك؟ يمكن أن تفرِّجني على أماكنك القديمة: سراديب لافيت، تاراسكون، البرانس. اختيارات بلا نهاية. هيا، ما رأيك؟

قد تكون أيرلندية، لكنها تبدو صادقة، أو شبه صادقة. حان دوره.

ينهض ويقف أمامها مستندًا على الطاولة. هل يمكن، مرة، أن يجعل صوته يغني؟ يغلق عينيه، ويصفِّي ذهنه، وينتظر مجيء الكلمات.

تأتي الكلمات: لماذا أنا، إليزابيث؟ لماذا أنا من بين كل رجال العالم؟

نفس الكلمات القديمة، نفس الأغنية القديمة المحبطة. لا يستطيع تخطيها؛ إلا أنه حتى الآن لم يسمع إجابة عن سؤاله، سيُعاق الغناء بصرف النظر عما في القلب.

إليزابيث كُسْتِلُّو صامتة.

– أنا خبَثٌ، إليزابيث، معدن أساسي، استهلاكي مستحيل. لا جدوى مني لك، لأي شخص، لا قيمة لي؛ شاحب جدًّا، بارد جدًّا، مرتاع جدًّا. لماذا وقع اختيارك عليَّ؟ ما الذي جعلك تظنين أنه يمكن أن تفعلي مني شيئًا؟ لماذا تمكثين معي؟ تكلمي!

تتكلم.

– خُلِقتَ من أجْلِي بول، مثلما خُلِقتُ من أجْلِك. هل هذا يكفي الآن، أم تطلب مني أن أُقدِّم لكَ كل شيء،٣ كل شيء؟

– قولي كل شيء تمامًا ليفهم مغفل بائس مثلي.

تسلِّك حنجرتها: من أجلي وحدي ولِدَ بول ريمنت، وأنا ولدتُ من أجله. قدرتُه قدرةٌ على القيادة، وقدرتي قدرةٌ على التبعية؛ له القدرة على الأداء، ولي القدرة على الكتابة. المزيد؟

– لا، يكفي. الآن أسألك بصراحة، مسز كُسْتِلُّو: هل أنت حقيقية؟

– هل أنا حقيقية؟ آكل، أنام، أعاني، أذهب إلى الحمَّام، أشعر بالبرد. بالطبع أنا حقيقية، حقيقية مثلك.

– من فضلكِ كُونِي جادَّة مَرة. من فضلك أجيبيني: هل أنا حي أم أنا ميت؟ هل حدث لي على طريق مَجيل ما فشلْتُ في استيعابه؟

– وأنا الروح المكلَّفة بالترحيب بك في الآخرة، هل هذا ما تسأل عنه؟ لا أيها المخلوق البائس المتشعِّب، استَرِحْ في ثقة، هذه أنا تمامًا، لا أختلف عنك. امرأة عجوز تكتب على عَجَل، صفحة بعد صفحة، يومًا بعد يوم، ملعونة إن عرفْتُ لماذا. إن كانت هناك روح مُشْرِفة — وأنا لا أظن ذلك — فهي تُشرِف عليَّ أنا، برموشها، لا عليك. تقول، لا تتواني، إليزابيث كُسْتِلُّو الصغيرة! وتجلدني جلدة بالسوط. أدِّي وظيفتك الآن! لا، هذه قصة عادية تمامًا، إنها عادية تمامًا، بثلاثة أبعاد فقط، الطول والعرض والارتفاع، كالحياة العادية، والاقتراح الذي أعرضه عليك اقتراح عادي جدًّا. ارجعْ معي إلى ملبورن، إلى بيتي القديم الرائع في كرلتون. ستحبه، به شقق كثيرة. انسَ مسز يوكتش، لا تحظى معها بفرصة كلب، خذ فرصة معي، سأكون أفضل رفيقة لك، رفيقة٤ آخر أيامك. سنتشارك في خُبزِنا ما دام لنا أسنان. ماذا تقول؟

– ماذا أقول من صندوق الكلمات الذي أحمله معي أو من القلب؟

– آه، وضعْتَني هناك، يا لكَ من رفيق سريع البديهة! من القلب بول، مرة واحدة فقط.

كان يشاهد فَمها وهي تتكلم، إحدى عاداته: يشاهد الآخرون العينين، وهو يشاهد الفم. قالتْ، لا لذَّات فظة. لكنه الآن لا يستطيع تخيل ماذا يشبه تقبيل هذا الفم، بشفتيه الجافتين، وربما حتى الذابلتين ومن فوقهما أثر الانحدار. هل يشمل الزواج الرفاقي التقبيل؟ يخفض عينيه؛ لو كان أقل أدبًا لارتعد.

وترى ذلك. ليست كائنًا أعلى، لكنها ترى ذلك. تقول بهدوء: أراهن أنك وأنت ولد صغير لم تحب ذلك حين قبَّلتْك أمُّكَ. هل أنا محقَّة؟ حنيْتَ رأسك، وتركتها تقبِّل جبهتك، ليس إلا؟ ولم يقبلك زوج أمك الهولندي أبدًا؟ وددْتَ أن تكون رجلًا صغيرًا منذ البداية، رَجُلك الصغير لا يدين بشيء لأحد؛ صناعة ذاتية. هل كانَا، أمك وزوجها الجديد، يثيران اشمئزازك؛ نفَسُهما، رائحتُهما، تودُّدُهما وتدليلُهما؟ كيف يمكن على هذه الأرض أن تتوقع مِن واحدة مثل ماريانا يوكتش أن تحب رجلًا يَنْفُرُ كل هذا النفور من الجسدي؟

يعترض ببرود: لا أنفر من الجسدي. ما كان يريد إضافته، ولم يضفه: أنفر من البشاعة. ما تظنين فيما تكمن الحياة منذ طريق مَجيل سوى أني أحشَر في الجسدي يومًا بعد يوم؟ إنه عهد لإيماني بالجسدي لم تَتملَّص نفسي منه، ما زلتُ هنا.

يتضح حتى وهو يتكلم ما كانت تعنيه المرأة بصندوق الكلمات. يفكر، تتملص نفسي منه؟ يا له من تعبير مُصطَنع! يا له من تعبير مُراءٍ! ككل الاعترافات التي تستدرجني إليها! وفي اللحظة نفسها يفكر: إذا سَنحَت لنا ولو خمس دقائق أخرى، في عصر ذلك اليوم، لو لم تأتِ ليوبا لتجوس كَجَرْو حراسة، لقبَّلتْه ماريانا. كانت القُبلة آتية، أنا متأكِّد، شعرتُ بها في عظامي. لانحنَتْ ومسَّتْ شفتاها كتفي برفق، ويكون كل شيء بعد ذلك على ما يرام، لكنتُ ضممْتُها؛ لعرفتُ أنا وهي معنى أن نستلقي جنبًا إلى جنب، صدرًا إلى صدر، كل منا بين ذراعي الآخر، يتنفس كل منا نفَس الآخر. الوطن البلد.

– ألن تسلِّم بول (ما زالت المرأة تتكلم)، بأني حافظتُ على روح الدُّعابة بشكل رائع تمامًا، منذ اليوم الذي وقفتُ فيه أمام باب بيتك حتى اليوم؟ لا شتيمة، لا كلمة نابية، بل الكثير من النِّكات، وخميرة من التَّملُّق الأيرلندي. دعني أسألك: ما رأيك في طبيعتي؟

يمسك لسانه؛ ذهنه في مكان آخر، لا تهمه طبيعة إليزابيث كُسْتِلُّو.

– أنا مخلوقة عجوز سريعة الغضب بالطبيعة، بول، أَصِل إلى أسود أشكال الغضب. أفْعَى في الحقيقة، ولكني أخذتُ عهدًا على نفسي أن أكون طيِّبة وأن أكون حِملًا خفيفًا يمكن أن تتحمله. لكنها كانت معركة، صدِّقْني. في مرات كثيرة كَبحتُ ثورة الغضب في داخلي. تظن أن ما تفوهتُ به أسوأ ما يمكن أن يقال لك؛ إنك بطيء كالسلحفاة، شديد الحساسية للخطأ؟ يوجد كثير مما هو أعنف من ذلك، صدِّقْني. ما نقوله حين يعرف شخص أسوأ ما فينا؛ الأسوأ والأكثر جرحًا، ولا يتفوه به بل يكتمه ويستمر في الضحك علينا والسخرية منا، ندعوه تعاطفًا. في أي مكان آخر من هذا العالم، في هذه المرحلة المتأخرة، ستجد تعاطفًا أيها الرجل العجوز البشع؟ نعم، هذه الكلمة تنطبق عليَّ أيضًا، بشعة. نحن الاثنان بشعان، بول، عجوزان بشعان، بقدر ما نود أن نمسك بأيادينا جمال العالم كله. لا يخمد ذلك التَّوق فينا أبدًا، لكن جمال العالَم كله لا يريد أحدًا منا؛ وعلينا أن نكتفي بالأقل، الأقل بكثير. علينا قبول ما يُعرَض علينا وإلا جُعْنا. وهكذا حين تَعرِض أمٌّ روحيةٌ عطوفٌ أن تنأى بنا عن الوسط الكئيب الذي نحيا فيه، عن يأسنا، أحلامنا المثيرة للشفقة، أحلامنا المستحيلة، علينا أن نراجع أفكارنا قبل أن نركلها.

– أمهلك يومًا، بول، أربعًا وعشرين ساعة، لتفكر مرة أخرى. إذا رفضْتَ، إذا صممتَ على السير في طريقك الحالية المسدودة؛ فسأريك ما يمكن أن أفعله، سأريك كيف يمكن أن أبصق.

•••

ساعتُه تشير إلى الثالثة والربع، لم يتبق على الفجر إلا ثلاث ساعات، لكن كيف يمكن أن يقتل ثلاث ساعات على هذه الأرض؟

ثمة ضوء في غرفة المعيشة. تجلس إليزابيث كُسْتِلُّو نائمة على الطاولة التي استولَت عليها، رأسها بين ذراعيها فوق كمية من الورق.

يميل تمامًا إلى تركها وحدها. آخر ما يريده هو أن يوقظها ويتعرَّض للمزيد من تعليقاتها اللاذعة. ضجرَ من تعليقاتها اللاذعة. يشعر نصف الوقت وكأنه دب عجوز مسكين في مُدرَّج روماني قديم، لا يعرف إلى أين يتجه، الموت من ألف جرح.

ومع ذلك.

ومع ذلك، يرفعها بِرقَّة متناهية، ويضع وسادة تحت رأسها.

في قصص الجِنِّيات، تلك لحظة تَحوُّل الساحرة الشريرة إلى أميرة جميلة، لكنها، من المؤكَّد، ليست قصة من قصص الجِنِّيات. منذ المصافحة الاستكشافية حين التقَيَا، لم يَحدُث تَماسٌّ جسدي بينه وبين إليزابيث كُسْتِلُّو، يبدو شعرها بلا حياة، يفتقر إلى الحيوية. والجمجمة، تحت هذا الشعر، تتواصل في داخلها نشاطات يفضِّل ألا يعرفها.

إذا كان موضوع اهتمامه طفلًا — ليوبا، مثلًا، أو حتى دراجو البارع مُحطِّم القلوب والغدَّار — فقد يُسمَّى الفعل حنانًا، لكنه في حالة هذه المرأة ليس حنانًا، مجرد فعل قد يقوم به عجوز لعجوز آخَر في وضع سيئ، إنساني.

يُفترَض أن إليزابيث كُسْتِلُّو، كأي شخص آخر، تريد أن تحظى بالحب، ويسيطر عليها، كأي شخص آخر يواجه النهاية، شعور بافتقاد شيء، هل هذا ما تصبو إليه معه، بصرف النظر عَمَّا افتقدَتْه؟ هل هذه إجابة سؤاله المتكرِّر؟ وإذا كان الأمر كذلك، فيا له من أمر مضحك! كيف يمكن أن يكون الجزءَ المفتقَدَ حين تكون حياته هو نفسه مُفتقَدة بالكامل؟ رجل سقط من القارب إلى البحر! ضاع في بحر متلاطم الأمواج بعيدًا على شاطئ غريب.

ابنا كُسْتِلُّو اللذان قرأ عنهما في المكتبة، الابنان اللذان لا تذكرهما، ربما لأنهما لا يحبانها، أو لا يحبانها بشكل كافٍ، هما الآن في مكان ما بعيد. يُفترَض أنهما، مثله، تَعرَّضَا كثيرًا لتعليقات لاذعة من إليزابيث كُسْتِلُّو. لا يلومهما، لو كانت أمه على هذه الشاكلة لابتعد عنها أيضًا.

وحيدة تمامًا في ملبورن في بيت خاوٍ، تدخل أيامها الأخيرة، تَوَّاقة للحب، وتأتي إليه لتنفس عن نفسها وهو ليس إلا رجلًا في ولاية أخرى، مصوِّر معتزِل، غريب بمعنى الكلمة، إضافة إلى أنه عانَى بدوره من صدمة ويحتاج هو الآخر إلى الحب. إن كان هناك تفسير إنساني، إنساني لوضعها، فلا بد أنه هذا. حطَّتْ عليه بشكل عشوائي تقريبًا، كما تحط نَحلَة على زهرة أو دَبُّور على دودة؛ وبشكل ما، بِطرُق مُبهَمة تمامًا، مُلتفَّة يعجز العقل عن اكتشافها، يرتبط الاحتياج إلى الحب وتأليف القصص، أيْ مجموعة الأوراق المُكوَّمة على الطاولة.

يلقي نظرة على ما تكتبه. بحروف ضخمة: (إ. ك. تفكر) روائية أسترالية. يا له من مصير! ماذا يجري في عروق الرجل؟ تحت الكلمات خط بعرض الصفحة يعلِّم بوحشية في الورقة، ثم: بعد تناوُل الطعام يلعبان بالكوتشينة، يستخدمان اللعبة لاكتشاف الاختلافات التي بينهما، تكسب بلنكا. ذكاء حادٌّ ومحدَّد، دراجو لا يجيد لعب الكوتشينة، مُهمِل جدًّا، واثق بنفسه جدًّا. تبتسم ماريانا، مسترخية، مَزهوَّة بابنها. يحاول ب. ر. استخدام اللعبة ليصادق بلنكا، لكنها تتراجع. ترفض ببرود شديد.

وجبة ثم لعب بالكوتشينة. ب. ر. وبلنكا. هل يصبحون أسرة واحدة رغم كل شيء، هو بالماء المثلَّج في عروقه وآل يوكتش بعروقهم التي تَتدفَّق فيها الدماء؟ ماذا أيضًا يشغل ذهن كُسْتِلُّو من تخطيط؟

تنام الكاتبة، تَجوس الشخصية بحثًا عن شيء يشغلها. نكتة، ليس هناك مَن يفهمها.

يرقد رأس الكاتبة المشغول مستريحًا على وسادة. من صدرها، إذا أنصتَ، يسمع أزيزًا ضعيفًا أثناء دخول الهواء وخروجه. يطفئ اللمبة، يبدو أنه يتحول إلى شخص ينام في الصباح الباكر ويستيقظ في ساعات الظلام؛ ويبدو أنها شخصية تستيقظ إلى وقت متأخِّر، تغزل خيالاتها في الليل. كيف يَمكثان معًا في بيت واحد؟

١  بالفرنسية في الأصل.
٢  بالفرنسية في الأصل.
٣  باللاتينية في الأصل.
٤  بالفرنسية في الأصل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤