٢٩

يقول: ليست زيارة بلا استئذان، لا أحب من يزورني بلا استئذان، وأنا نفسي لا أزور أحدًا بلا استئذان.

تقول إليزابيث كُسْتِلُّو: ومع ذلك، اكسر القاعدة مرة؛ إنها أكثر تلقائية بكثير من كتابة الخِطابات، وأكثر ودًّا بكثير. بأية طريقة أخرى يمكن أن ترى عَروسك الروحية على أرض الوطن، عندها؟١

يعود بذاكرته إلى الطفولة، إلى بلَّرات قبل انتشار التليفونات، حين كانوا، الأربعة، يركبون شاحنة الهولندي الرينو الزرقاء عصر الأحد وينطلقون في زيارات بلا استئذان. يا لها من فترة مملة! الزيارات الوحيدة التي يتذكرها بكثير من المتعة كانت إلى مزرعة صغيرة لصديق زوج أمه، صديقه البستاني أندريه متيجا، في مزرعة آل متيجا، بين خيوط العناكب في الفراغ الضيق وراء تَنْك الماء الضخم، مع برنِّي متيجا قام بأول استكشافاته اللاهثة للاختلاف بين الذَّكر والأنثى.

– تعال الأحد القادم، وعدٌ، تَهمِس برني متيجا وقد انتهَت الزيارة، وشربوا عصير التوت وتناولوا الكعك باللَّوز، وهم عائدون إلى الشاحنة مُحمَّلِين بالطماطم أو البرقوق أو البرتقال من حديقة آل متيجا، لينطلقوا عائدين إلى طريق وِرَّامُنْدا. وكان يهز كتفيه (مش عارف) يقول، ووجهه جامد، مع أنه كان يَتحرَّق شوقًا لمواصلة الدروس.

أعلنَت أخته من مقعدهما المؤقت على ظهر الشاحنة: كان بولي وبرني يلعبان لعبة الدكتور مرة أخرى

اعترض ووكزها في ضلوعها: لم نكن!

قالت أمه مُحذِّرة: اهدءُوا يا أطفال.٢ أما الهولندي، وقد جلس خلْف عجلة القيادة محاولًا تفادي النتوءات والحُفر في طرق آل متيجا، فلا يسمع أبدًا.
كان الهولندي يقود الشاحنة على الرابع بأقل سرعة. هذه نظريته في القيادة، تَعلَّمها في هولندا، حين يَصلون إلى الهضاب، يُزمجِر محرِّك الشاحنة ثم يتوقف؛ فتَصطَف السيارات الأخرى خَلْفهم ويَصدُر منها صياح، لم يكن الصياح يؤثِّر فيه، كان يقول بصوته الهولندي المزعج: اضغط باستمرار، اضغط! إنهم مجانين! إنهم يُبدِّدون البنزين، جميعًا!٣ لم يكن ليبدد البنزين من أجل أي شخص، وهكذا كانوا يزحفون في الظلام بلا أضواء للحفاظ على البطارية.
– أوه لا لا، إنهم يبددون البنزين!٤ كان يتهامس هو وأخته على ظهر الشاحنة التي تفوح منها رائحة زهرة الدهلية العفنة. ناطقًا الحروف الساكنة بطريقة الهولندي البربرية، شخيرًا وضحكًا، حابسًا الشخير، والسيارات الحقيقية، هولدن وشيفورليه واستدبيكر، تسرع وتتخطَّاهم. «خره، خره، خره!».٥

اعتاد الهولندي ارتداء شورت، لا شيء يحير أكثر من الهولندي في الشورت الواسع بساقيه الشاحبتين وجوربه المربعات الواصل إلى الكاحل بين الأستراليين الحقيقيين. لماذا تزوجته أمهما؟ هل تتركه يفعل بها فِعلته في غرفة النوم في الظلام؟ حين يفكران في الهولندي بشيئه يفعل فِعلته مع أمهما يغمرهما إحساس بالعار والغضب.

كانت شاحنة الهولندي الرينو الوحيدة في بلَّرات. اشتراها مستخدَمة من هولندي آخر. رينو، السيارة الاقتصادية أكثر من غيرها، قد ينطلق بها، مع أنه كان هناك باستمرار عطل في الشاحنة، وكانت دائمًا عند الميكانيكي في انتظار وصول قطعة غيار من ملبورن.

لا توجد في أدليد شاحنات رينو. لا توجد برني متيجا، ولا لعبة الدكتور. الشيء الحقيقي فقط. هل يقومان بآخِر زيارة بلا استئذان لاستعادة الأيام القديمة؟ كيف يتعامل آل يوكتش مع الزيارة؟ هل يَصفعان الباب في وجه الزائرِين المدهشين، أمْ أنهم، وقد أتوا عمومًا من العالم نفسه، الذي أتي منه آل متجيا، عالم انتهى أو ينتهي، سيُرحِّبون بهما ويُقدِّمون لهما الشاي والكعك ويُودِّعونهما إلى بيتيهما مُحمَّلين بالهدايا؟

تقول إليزابيث كُسْتِلُّو: بعثة حقيقية. قارَّة منو بارا المظلمة، أنا متأكدة من أنها ستنتزعك من نفسك.

يقول: إذا قمنا بزيارة منو بارا فلن يكون ذلك لِكَي تنتزعني من نفسي. لا شيء في داخلي أودُّ الهروب منه.

تواصل إليزابيث كُسْتِلُّو: وسيكون رائعًا أن تدعوني للذهاب معك. هل تفضل أن تذهب وحدك؟

يفكر، اجتماعية باستمرار. يا لَه من أمر مرهق أن يعيش مع واحدة اجتماعية بكل هذا الإصرار.

يقول: لا أحلم أن أذهب بدونك.

•••

اعتاد في سنوات مضت قيادة الدراجة عبر منو بارا في الطريق إلى جولر. لم يكن هناك إلا بضعة بيوت موزعة حول محطة بنزين، وراءها أرض بها أشجار قصيرة. تمتد الآن مجموعات من البيوت الجديدة على امتداد البصر.

سبعة ممر نَرَّابِنجا، هذا هو العنوان المكتوب على النماذج التي يوقعها لماريانا، يصل بهما التاكسي أمام بيت على طراز المستعمَرات بسياج أخضر حول حديقة يابانية صغيرة مستطيلة غاية في البساطة: لوح من الرخام الأسود تتقاطر عليه المياه، سمار، حصى رمادي (تحثه إليزابيث كُسْتِلُّو، وهي تنزل من السيارة: واقعي إلى هذه الدرجة! حقيقي إلى هذه الدرجة! هل تَودُّ أن أعطيك يدًا؟)

يمرر له السائق عكازيه؛ يدفع له الأجرة.

يُفْتَح الباب بعرض اليد؛ تنظر إليهما بشك فتاة مُتبلِّدة شاحبة الوجه في مِنخارها حَلَق، يَفترِضُ أنها بلنكا، الطفلة الوسطى، لِصَّة المحلات، مَحميته بالصدفة. كان يأمل أن تكون جميلة كأختها. لكن لا، ليست جميلة.

يقول: أهلًا. أنا بول ريمنت. هذه مسز كُسْتِلُّو. كنا نأمل في رؤية أمك.

تختفي الفتاة ولا تتفوه بكلمة. ينتظران وينتظران على عتبة الباب، لا يحدث شيء.

تقول إليزابيث كُسْتِلُّو في النهاية: أحسب أن علينا أن ندخل.

يدخلان غرفة للمعيشة مَفروشة بجلد أبيض، في أحد جوانبها شاشة تليفزيون كبير وفي جانب آخر لوحة تجريدية كبيرة، دوَّامة من البرتقالي والليموني الأخضر والأصفر أمام حقل أبيض، تدور مروحة أعلى الرأس، لا دُمى في زيٍّ شعبي، لا مَشاهد لغروب الشمس على الأدرياتيكي. لا شيء يذكِّرُ المرء بالبلاد القديمة.

تقول إليزابيث كُسْتِلُّو مرة أخرى: حقيقي إلى هذه الدرجة! مَن كان يظن ذلك!

يَفترِضُ أن هذه الإشارات إلى الحقيقي مُوجَّهة إليه بمعنًى ما؛ يفترض أنها تحمل سخرية، لا يمكن أن يُخمِّن الهدف من ورائها.

تضع بلنكا المفترَضة رأسها قرب الباب. تترنم: إنها قادمة، وتنسحب.

لم تبذل ماريانا أي جهد لتُجمِّل نفسها. ترتدي جينزًا أزرق وبلوزة بيضاء من القطن لا تفعل شيئًا لخصرها الممتلئ. تتحدث بلا مُقدِّمات: هكذا تأتي بسكرتيرتك. ما تريد؟

يقول: ليس القصد منها أن تكون مُواجَهة. عندنا مشكلة بسيطة، وظننْتُ أن أفضل وسيلة لحلها قد تكون إجراء حديث هادئ. إليزابيث ليست سكرتيرتي ولن تكون أبدًا. مجرد صديقة. أتت معي لأنه يوم رائع، واعتقدنا أن علينا القيام بجولة.

تقول إليزابيث: جولة في البلد، كيف حالك ماريانا؟

– حسن. هكذا، اجلسا. تريدان بعض الشاي؟

– أتوق إلى كوب شاي، وكذلك بول. إذا كان هناك ما يَفتقِده بول من طريقة الحياة القديمة فهو الهبوط على الأصدقاء لتناوُل كوب شاي.

– نعم، تعرفني إليزابيث أفضل مما أعرف نفسي. لا أحتاج إلى فتح فمي.

تقول ماريانا: هذا رائع. أعمل الشاي.

الستائر في مواجهة الشمس الحارقة، لكنهما يريان من خلال الفتحات شجرَتَي صمغ طويلتين في الفناء، بينهما أرجوحة معلقة وخالية.

تقول إليزابيث كُسْتِلُّو: أسلوب حياة. أليس هذا ما يقولونه في هذه الأيام؟ لأصدقائنا من آل يوكتش أسلوب حياة يتحمسون له.

يقول: لا أعرف لماذا تهزئين؛ من المؤكَّد أن المرء مؤهَّل لأسلوب حياة في منو بارا كما هو مؤهَّل له في ملبورن. وإلا لماذا غادروا كرواتيا إن لم يكن من أجل أسلوب حياة يختارونه؟

– لا أهزأ، بالعكس، أنا مُعجَبة تمامًا.

تعود ماريانا بالشاي. شاي، بدون كيك.

تقول: إذن، لماذا تأتي؟

– هل يمكن أن أتحدث مع دراجو على انفراد؟

تهز رأسها: ليس في البيت.

يقول: حسن. عندي اقتراح أقدمه. مع دراجو مفتاح لشقتي. سأخرج صباح الثلاثاء، سأكون بعيدًا عن البيت معظم اليوم. أخرج في التاسعة ولن أعود قبل الثالثة. يمكن أن تُخبِري دراجو بأنه سيكون رائعًا أن أجد، حين أعود إلى البيت، كل شيء كما كان من قبل.

صمت طويل. تنتعل ماريانا صندلًا أزرق من البلاستيك. الصندل أزرق وأظافر القدمين أرجوانية: قد يكون مصورًا فوتوغرافيًّا سابقًا، وقد تكون ماريانا مُرمِّمة صور سابقة، لكن الجماليات عندهما تنتمي لعالَمَين متباعِدَين. وأشياؤهما الأخرى، بالمثل، من عوالم متباعِدة أيضًا. موقفُهما تجاه ما يَخصُّني وما يَخصُّك، مثلًا. امرأة حَلَم باغتنامها من زوجها، أريد أن أرعاكِ، أريد أن أمد جناح الحماية عليكِ، ماذا يمكن أن يكون حقًّا، رعايتها ورعاية ابنتيها العدوانِيَّتَين وابنها المخادِع؟ كم يبقى، هو وجناح الحماية؟ من ناحية الأخرى … من ناحية أخرى، كم أنَّ ثدييها رائعان، كم هما جميلان!

تقول ماريانا: لا أعرف شيئًا عن هذا المفتاح. تعطي دراجو مفاتيح؟

– كان مفتاح الباب الخارجي مع دراجو أثناء إقامته معي. حين كان يستخدم شقتي. مَعك مفتاح ومع دراجو مفتاح آخر؛ يستطيع أخْذ أشياء من الشقة ويستطيع إعادة أشياء، سواء كنتُ في البيت أو لم أكن، مستخدمًا مفتاحه، لا أستطيع أن أفصح بصورة أوضح.

على الطاولة ولاعة سجائر من الكروم، على شكل صَدَفة، تشعل ماريانا سيجارة، تقول مخاطِبة إليزابيث: لديك أنتِ الأخرى شكاوى؟ أنتِ أيضًا تعتقدين أن ابني لص؟

تهز إليزابيث كَتِفها بطريقة مسرحية. تقول: لا أعرف ماذا أعتقد، أنا متأكدة. الصغار عُرضة لمثل هذه الإغراءات في هذه الأيام … كلمة لص … كلمة كبيرة جدًّا، ثقيلة جدًّا، قاطعة جدًّا. في أمريكا يستخدمون كلمة سرقة. سرقة كبيرة، سرقة تافهة، وبينهما كل الدرجات. أخمِّنُ أن بول يعتقد أنها سرقة تافهة، من أتفه السرقات، تافهة حتى إنها قد تعتبر استعارة، أليس هذا ما تود قوله بول؟ استعار دراجو أو على الأرجح أحدُ أصدقائه شيئًا أو شيئين وتودُّ استعادتهما؟

يومئ.

تقول ماريانا: من أجل هذا تأتي؟ لا تليفون، تَقرَع الباب مثل البوليس؟ ماذا يأخذ؟ ماذا تقول أنه يأخذ؟

– صورة فوتوغرافية، من المجموعة. من صور فوشي. وضَع نسخة مُزوَّرة مكان الأصلية، نسخة مُعدَّلة لغرض لا أعرفه، ونحن لسنا البوليس، هذا مضحك، البوليس لا يأتي في تاكسي.

تتجه ماريانا إلى التليفون. هل تصرفهما؟ لم ينتهِ حتى من شرب الشاي. تقول: أصلية؟ ما هذا الشيء، صورة فوتوغرافية أصلية؟ تضبط الكاميرا، تضغط الزر، تعمل نسخة. هكذا تعمل الكاميرا. الكاميرا كماكينة التصوير، وهكذا ما الأصلية؟ الأصلية مجرد نسخة. الأمر لا يشبه الرسم.

– هذا هُراء ماريانا، سَفسطة، صورة فوتوغرافية ليست الشيء نفسه، ولا اللوحة، بعمل نسخة من أي منهما، نعمل شيئًا جديدًا، جديدًا حقًّا، جديدًا في العالم، نسخة أصلية جديدة. فَقدتُ الطبعة الأصلية وهي ذات قيمة بالنسبة لي وأريد استردادها.

– أتكلم هراء؟ تصنع صورة فوتوغرافية، أو هذا الرجل، ماذا تقول، فوشي، يصنع صورة فوتوغرافية، ثم تَعمل طبعات، اثنتين ثلاثًا أربعًا خمسًا، وكل هذه الطبعات أصلية، المرات الخمس أصلية، المرات العشر أصلية، المرات المائة أصلية، ليست نسخًا؟ ما الهراء الآن؟ تأتي إلى هنا وتقول على دراجو أن يجد الأصول؟ لماذا؟ لتموت وتعطي الأصول للمكتبة؟ لتكون شهيرًا؟ مستر ريمنت الشهير؟ تتجه إلى إليزابيث كُسْتِلُّو. مستر ريمنت يعرض علينا فلوسًا. تعرفين ذلك؟ يعرض أن يبعدني عن التمريض. يعرض علينا جميعًا حياة جديدة، يعرض على دراجو مدرسة جديدة، مدرسة خيالية في كنْبرا، يعرض أن يدفع، الآن يقول إننا نسرقه.

– هذه نصف الحقيقة فقط، عرضتُ أن أرعاك، عرضتُ أن أرعى أطفالك أيضًا، لكني لم أعرض حياة جديدة، لستُ غبيًّا إلى هذه الدرجة، لا شيء اسمه الحياة الجديدة، لنا حياة واحدة فقط، حياة لكل منا.

– إذن لماذا تقول إن دراجو يسرق؟

– لا أعتقد أني استخدمتُ أبدًا كلمة يسرق، وإن كنتُ استخدمتها فأنا أسحبها بلا تَحفُّظ. نقلَ دراجو، أو على الأرجح شون صديق دراجو، صورة فوتوغرافية من مجموعتي، استعارها، وَضع نسخة معدَّلة، لا أنوي أن أعرف كيف، تفهمين هذه الأشياء أفضل مني. والآن أريد استعادة النسخة الأصلية، ولن تكون هناك بعد ذلك طلبات أخرى ويعود كل شيء إلى سابِق عهده، يمكن أن يأتي دراجو زائرًا، يمكن أن يأتي أصدقاؤه زائرين، يستطيع أن يمكث طوال الليل إن أحب. ليس جيدًا، ماريانا، أن يعتاد على الاستعارة وعدَم الرَّد، ليس جيدًا بالنسبة لولد يافِع، لن يتحملوا ذلك في مدرسته الجديدة، ولنجتون كولج.

– انتهت ولنجتون. ليس لدينا فلوس لولنجتون.

– عرضتُ أن ادفع لولنجتون، وما زال عرضي قائمًا. لم يتغير شيء. سأدفع لأشياء أخرى أيضًا. الفلوس ليست القضية.

– إن لم تكن الفلوس، إذن لماذا تغضب بهذه الصورة؟ لماذا تأتي وتَقرَع الباب؟ الأحد وتأتي تقرع الباب مثل البوليس، تَقرَع تَقرَع.

لم يكن يجيد المناقَشات أبدًا، النساء خاصة يَخنقنه في مناقَشة. ومن المؤكد أن ذلك كان صحيحًا في حالة زوجته. يعرف الآن السبب الذي قد يكون وراء انتهاء الزواج، ليس لكثرة المناقشات ولكن لأنه خسرها دائمًا. ربما لو كسب مناقشة واحدة لاستمر هو وأنريت معًا. كم هو مُمِل أن ترتبط برجل لا يستطيع حتى أن يقاوِم في معركة!

والحال كما هو مع ماريانا. ربما تريد ماريانا أن يحاول بمزيد من الصلابة. ربما تود من أعماق قلبها أن يكسب، إذا استطاع إعادة التوازن فربما استمر ارتباطه بها.

– لا أحد غاضِب، ماريانا! معي خطاب لتوصيله، واعتقدتُ أن إحضاره بنفسي قد يكون أسرع. أتركه هنا — يضع الخطاب على طاولة القهوة — مُوجَّه إلى مِلْ. يمكن أن يقرأه على مهله. اعتقدتُ أيضًا — يلقي نظرة إلى إليزابيث كُسْتِلُّو — اعتقدْنَا أيضًا أنه قد يكون رائعًا أن نهبط عليكم لتناول كوب شاي والحديث معكم، كما اعتاد المرء أن يفعل في الأيام الخوالي. ممارسة رائعة، اجتماعية، وُدِّية، من المؤسف أن تنتهي.

لكن إليزابيث كُسْتِلُّو لا تساعد. تَميل إليزابيث كُسْتِلُّو إلى الخلف، تُغلِق عينيها، شاردة. حمدًا للرب أن ليوبا ليست قريبة لتصوب له إحدى نظراتها.

تقول ماريانا: مَنْ يأتون يَقرعون الباب هم رجال البوليس فقط، لو تتصل بالتليفون أولًا، تقول إنك آتٍ لتناول الشاي، فلا تثير الفزع، مثل البوليس.

– أثير رعبك؟ نعم، آسف! كان علينا أن نتصل.

تقول إليزابيث كُسْتِلُّو، مستيقظة: أوافق. كان علينا أن نتصل. هذا ما كان علينا أن نفعله. هذه غلطتنا.

صمتٌ. هل هذه نتيجة المباراة؟ واضح أنه خسر؛ لكن هل خسر بشرف، بشرف كافٍ لخوض جولة أخرى، أم خسر خسارة مُذلَّة؟

تقول ماريانا: تريد التاكسي؟ تريد أن تطلب التاكسي؟

يتبادل وكُسْتِلُّو المرأة النظرات. تقول إليزابيث كُسْتِلُّو: نعم. إن لم يعد عند بول ما يقوله هنا.

يقول: لم يعد عند بول ما يقوله هنا، جاء بول على أمل استعادة صورته، وبول يقر من الآن بعجزه.

تنهض ماريانا، تُلوِّح بغطرسة، تقول: تعالَ! تريد أن ترى أيَّ لص هو دراجو، أريك.

يحاول النهوض من الكنبة، لا تتحرك لمساعدته مع أنها ترى الجهد الذي يبذله. يلقي نظرة على إليزابيث كُسْتِلُّو. تقول إليزابيث كُسْتِلُّو: واصلْ، سأبقى هنا حابسة أنفاسي قبل أن يبدأ الفصل التالي.

يناضل ليقف. ماريانا على السلم في منتصف الطريق. يتبعها خطوة خطوة، قابضًا على الدرابزين.

خاص، تقول اللوحة المبهرجة على الباب، هذا يعنيك. تقول ماريانا: غرفة دراجو، وتفتح الباب فجأة.

الغرفة مُؤثَّثة بشكل عملي من خشب الصنوبر الأبيض: سرير، مكتب، مكتبة، جهاز كمبيوتر بكل متطلباته، لا يمكن أن تكون أنظف ولا أكثر ترتيبًا.

يقول: رائعة جدًّا. مرتَّبة تمامًا. أنا مندهش. لم يكن دراجو أبدا مرتَّبًا بهذه الصورة وهو يقيم معي.

تهز ماريانا كتفها: أقول له، مستر ريمنت يتركك تخطئ ولهذا ستحبه، لكن هنا لا تخطئْ، ليس ضروريًّا، هنا بيتك. أقول له أيضًا: تريد أن تذهب إلى الأسطول، تريد أن تعيش في البحر، تعلَّمْ أن تكون مرتَّبًا.

– صحيح. إن أردْتِ أن تعيشي في البحر فمن الأفضل أن تكوني مُرتَّبة. هل هذا ما يريد دراجو أن يفعله، يعيش في البحر؟

تهز ماريانا كتفها مرة أخرى: مَن يعرف؟ صغير، مجرد طفل.

رأيه الخاص في موضوع دراجو، وهو رأي لا يبوح به، هو أنه يحافظ على غرفته في شكل سفينة، لأن أمه ربما تراقبه مراقبة شديدة باستمرار. مرعبة تمامًا، ماريانا يوكتش، حين تريد أن تكون مرعبة. حضور تام تحمله معك في المستقبل.

على الحائط فوق سرير دراجو ثلاث صور فوتوغرافية مُكبَّرة في حجم المُلصَق، اثنتان من أعمال فوشي: مجموعة عمال المناجم؛ والنساء والأطفال في مدخل الكوخ الخشبي، والثالثة ملونة، بها ثمانية أجسام لذكور، أجسام رشيقة مُعلَّقة وسط الهواء كأنها تسبح في حوض.

تقول ماريانا: هكذا. ويداها على «وركيها» تنتظر أن يتكلم.

يخطو مقتربًا من الصورة الفوتوغرافية الثانية ويفحصها، مركَّب على جسد الفتاة الصغيرة ذات اليدين القذرتين وجه ليوبا، تقتحمه عيناها القاتمتان. التنفيذ ليس رائعًا: لا يتوافق اتجاه الرأس تمامًا مع وضع الكتفين.

تقول ماريانا: مجرد لعب. ليس شيئًا خطيرًا. مجرد، كيف تقولها؟ زلات.

– أشكال. صور.

– مجرد صور. لعب بالصور على الكمبيوتر، ما اللص في ذلك؟ شيء حديث. صور، لمن تنتمي؟ تريد أن تقول، أوجِّهُ الكاميرا إليكَ — تصوب إصبعًا إلى صدره — أنا لصة، أسرق صورك؟ لا؛ الصور بالمجان، صورتك، صورتي. ما يفعله دراجو ليس سرًّا. هذه الصور الفوتوغرافية — تشير إلى الصور الثلاث المعلَّقة على الحائط — كلها في موقعه على الإنترنت. تريد أن ترى الموقع؟

تشير إلى الكمبيوتر الذي يطن بهدوء.

يقول: لا من فضلكِ. لا أفهم في الكمبيوترات. يستطيع دراجو أن يعمل كل النسخ كما يحب، لا يهمني، كل ما أريده استعادة الأصول، الطبعات الأصلية. الطبعات التي لمستها يد فوشي.

– الأصول. تبتسم فجأة ابتسامة لا تخلو من عطف، وكأن قد تبين لها أنه إن كان لا يفهم في الكمبيوترات أو مفهوم الأصلي أو أي شيء آخر، فذلك ليس لأنه عنيد بل لأنه أحمق. حسن. حين يعود دراجو أسألُه عن الأصول. تتوقف. تقول: إليزابيث، تأتي تعيش معك الآن؟

– لا، ليست لدينا خطة بشأن ذلك.

ما زالتْ تبتسم. لكن قد تكون فكرة طيبة. حتى لا تكون وحيدًا حين تأتي، تعرف، الطوارئ.

تتوقف مرة أخرى، وفي هذه الوقفة ينتابه شعور بأنها ربما لم تصعد به السلالم لمجرد أن تريه صور دراجو.

– أنت رجل طيب مستر ريمنت.

– بول.

– أنت رجل طيب بول. لكنك صرْتَ وحيدًا جدًّا في شقتك تعرف ما أقصد؟ أنا أعاني من الوحدة أيضًا، في كوبر بدي، قبل أن نأتي إلى أدليد، وهكذا أعرف، أعرف. أجلس في البيت طوال اليوم، الأطفال في المدرسة، طفلة صغيرة وأنا فقط — كانت ليوبا صغيرة — أنت، تعرف، تخسر. وهكذا ربما أنت أيضًا تخسر في شقتك. لا أطفال، لا أحد … جدًّا.

– كئيب جدًّا؟

تهز رأسها: لا، لا أعرف كيف تقولها. تنتزع. أي شيء يأتي، تنتزع. بيد واحدة تريه كيف ينتزع المرء.

يقترح: تتعلق بقشَّة. هذا أول إعلان تصرح به بأن الإنجليزية التي تستخدمها، كبديل مُؤقَّت، لا تلبي احتياجاتها. لو يستطيع الحديث بالكرواتية! بالكرواتية، ربما استطاع أن يغني من القلب. الوقت متأخر جدًّا على التعلم؟ هل يمكن أن يجد مدرِّسًا هنا في أدليد؟ الدرس الأول: الفعل يحب، ليوب أو مَهما يكن.

تقول: على أية حال، تأتي إليزابيث تعيش معك وتنسى ماريانا. انسَ الأب الروحي أيضًا. ليست فكرة جيدة، الأب الروحي، لا تبدو واقعية؛ لأنه أين يعيش، هذا الأب الروحي؟ تريد أن يأتي الأب الروحي يعيش في ممر نرابنجا؟ ليست واقعية ترى؟

– لم أطلب أبدًا أن آتي وأعيش معك.

– تأتي تعيش هنا، أين تنام؟ تنام في سرير دراجو، أين ينام دراجو؟ أمْ تريد أن تنام معي أنا ومِلْ، رجلان، امرأة؟ تنفجر بالضحك. تريد ذلك؟

لا يستطيع أن يضحك. حلقه جاف. يهمس: يمكن أن أعيش في الفناء الخلفي. يمكن أن أضع سقيفة. يمكن أن أعيش في سقيفة في الفناء الخلفي وأرعاكم. أرعاكم جميعًا.

تقول برشاقة: حسن، كفى كلامًا. تأتي إليزابيث تعيش معك، تصلح كل شيء. ولا يكون هناك مزيد من الكئيب.٦

– الكآبة.

– لا مزيد من الكآبة. كلمة مضحكة. في كرواتيا نقول أوفج جلومي، لا تعني أنه كئيب، لا، تعني أنه زائف، غير حقيقي. لكنك لسْتَ زائفًا، إيه؟

– لا.

– أيوه، أعرف ذلك. ويا لدهشته، وربما يا لدهشتها أيضًا، تقف على أطراف أصابعها وتعطيه قبلة، قبلتين، واحدة على كل خد.

– تعالَ، ننزل الآن.

١  بالفرنسية في الأصل.
٢  بالفرنسية في الأصل.
٣  بالفرنسية في الأصل.
٤  بالفرنسية في الأصل.
٥  بالفرنسية في الأصل.
٦  الكلمة بالإنجليزية gloomy، ومن هنا تأتي كلمة جلومي في كلام ماريانا عن معنى الكلمة بالكرواتية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤