٧

في الوظيفة لا تضع ماريانا كاب الممرضات بل تضع وشاحًا للرأس، كأي ربة بيت طيبة من البلقان. يستحسن الوشاح، كما يستحسن كل علامة من العالم القديم لا تتخلى عنها لصالح العالم الجديد.

باستثناء مجرمي الحرب ولاعب التنس الطويل صاحب ضربة البداية القوية والذي يفرُّ اسمُه منه (إيليا؟ إيلتش؟ رومان إيلتش؟) يبقى الكروات جماعة مجهولة بالنسبة له. اليوغسلاف قضية أخرى، لا بد أنه التقى بعدد كبير من اليوغسلاف حين كان هناك يوغسلاف؛ لكن لم يسألْ بالطبع أحدهم عن الجماعة التي ينتمي إليها.

أين تقع ماريانا في صورة اليوغسلاف، ماريانا وزوجها الذي يعمل في تجميع السيارات؟ مِمَّ كانَا يفرَّان حين فرَّا من وطنها القديم؟ أم إن المسألة لا تعدو أنهما اعتَلَّا وتَعِبَا من النزاعات فحزَمَا حقائبهما وعبَرَا الحدود بحثًا عن حياة أفضل وأسلم؟ وإن لم توجد الحياة الأفضل والأسلم في أستراليا، فأين توجد؟

تُحدِّثه ماريانا عن ابنها، اسمه دراجو، ويُعرَف بين رفاقه باسم ياج، بلغ السادسة عشرة للتو، واشترى زوجها لدراجو موتوسيكلًا، وترى ماريانا أنه خطأ كبير، الآن يبقى دراجو خارج البيت كل مساء، ويهمل واجباته، وينسى وجباته. ينطلق هو ورفاقه على الطرق الخلفية، يتسابقون، وينزلقون، ويعلم الرب أي شيء آخر يأتون. تخشى أن ينكسر أحد أطرافه، وتخشى الأسوأ.

يقول لماريانا: ابنك شاب. يختبر نفسه، لا يمكن أن تمنعي الشباب من اكتشاف حدودهم، يريدون أن يكونوا الأسرع، يريدون أن يكونوا الأقوى، يريدون أن يحظوا بالإعجاب.

لم يقابلْ دراجو أبدًا، وقد لا يقابله، لكنه ينعم بأداء ماريانا، ينعم بشفافيتها؛ تحسن التصرف حتى إنها لا تتباهى بابنها، بل تشكو من عناده واستهتاره، انغماسه في مباهج الحياة،١ ومن أنه سيكون وراء انهيارها.

يقترح عليها بصورة تخلو من الجدية: إذا أردْتِ أن ترعبي دراجو، أحضريه إلى هنا ذات يوم. وسأريه ساقي.

– تعتقد أنه سيسمع الكلام، مستر ريمنت؟ سيقول لا شيء، مجرد حادث دراجة.

– سأريه ما حدث للدراجة أيضًا.

ما زال يحتفظ بالدراجة في مخزن أسفل السلم، طُبِّقت العجلة الخلفية على بعضها، والتصقت المساند بالفرامل، لم يهتم أحد بسرقتها، ذاك اليوم على طريق مَجيل، مع أنها ظَلَّت مُلقاة على جانب الطريق حتى المساء. ثم أخذها رجال البوليس إلى القسم. أنقذوا أيضًا الصندوق البلاستيك الذي حُزِم مع موزع الصحف بالإضافة إلى بعض أشياء الدعاية الصباحية: علبة من الحمص بها انبعاجة، وربع كيلو من جبن البري التي ذُوِّبت في الشمس ثم تخثرت. احتفظ بالعلبة على سبيل التذكار، تذكار الموت. احتفظ بها على رَفٍّ في المطبخ. يخبر ماريانا بأنه سيُري العلبة لدراجو. سيقول له: تَخَيَّل لو أن هذه كانت جمجمتك. ثم: تخلَّ عن الفكرة من أجل أمك؛ إنها قلقة عليك. إنها امرأة طيبة. تتمنى لك حياة طويلة وسعيدة. أو ربما لا يقول له إنها امرأة طيبة؛ إذا كان ابنها لا يعرف، فمن يكون هو، ذاك الغريب، ليخبره بذلك؟

في اليوم التالي تحضر ماريانا صورة: دراجو يقف بجوار الموتوسيكل، ينتعل بوتًا ويرتدي الجينز الضيق، وفي يده خوذة مزيَّنة بسهم برَّاق، طويل وضخم بالنسبة لفتًى في السادسة عشرة، ابتسامته فاتنة. قارب أحلام، كما اعتادت الفتيات أن يقلن في الأيام الغابرة، بالضبط مثلما فَهِم من أمِّه. لا شك أنه سيحطم الكثير من القلوب.

يسأل: ماذا عن خطط ابنك؟

– يريد الالتحاق بأكاديمية قوات الدفاع. يريد الانضمام إلى الأسطول. يمكن أن يحصل على منحة.

– وابنتكِ، ابنتك الكبرى؟

– آه، إنها أصغر من تخطط، رأسها محلق في السماء.

الآن جاء دورها لتطرح عليه سؤالًا، سؤالًا تأخر كثيرًا بصورة تدعو للدهشة: أليس لك أبناء، مستر ريمنت؟

– لا، للأسف لا. لم نُبالِ بذلك، أنا وزوجتي. كانت هناك أشياء أخرى في عقولنا، طموحات أخرى. وقبل أن ندرك الأمر وقع الطلاق.

– ولم يقلقك أبدًا بعد ذلك؟

– على العكس. أقلقني أكثر وأكثر، خاصة كلما مر بي العمر.

– وزوجتك؟ ألم يقلقها ذلك؟

– زوجتي تزوجت مرة أخرى. تزوجتْ من مطلِّق له أطفال. رُزقا بطفل وأصبحت عائلتهما من تلك العائلات الحديثة المُعقَّدة التي ينادي فيها كل منهم الآخر بالاسم الأول. وبالتالي، لا تقلق زوجتي لأننا بلا أبناء، لأني بلا أبناء. زوجتي السابقة، لم يَعُد لي أي اتصال بها؛ لم تكن زيجة سعيدة.

هذا كله، كل ما يدور بينهما، في نطاق المباح، في نطاق الشخصي العام. محادثة بين رجل وامرأة، امرأة تصادف أنها ممرضة لرجل وتساعده في التسوق والتنظيف وتعاونه في الأمور العامة، يتعارفان بصورة أفضل في بلاد يتساوى فيها كل الأشخاص وكل المعتقدات، ماريانا كاثوليكية. وهو لم يَعُد أي شيء. لكن في هذه البلاد يتساوى المرء بالآخر، الكاثوليكية واللا شيء. قد تزدري ماريانا أناسًا مُتزوِّجِين أو غير مُتزوِّجِين لكنها لم تقترب أبدًا ممن لهم أطفال، وتعرف بما يكفي كيف تحفظ شعورها بالازدراء داخلها.

– إذن مَنْ سيتولى رِعايَتَك؟

سؤال غريب. الرد الواضح هو: أنتِ، ستتولين رعايتي، في المستقبل القريب، أنتِ أو أي واحدة أخرى أستخدمها لهذه الغاية. ولكن من المفترض أن هناك طريقة ألطف لتفسير السؤال من قبيل مَنْ سيكون عونًا لك وسندًا؟ على سبيل المثال.

يرد: أوه، سأرعى نفسي، لا أتوقع شيخوخة طويلة.

– لك أسرة في أدليد؟

– لا، ليس في أدليد. لي أسرة في أوروبا، على ما أظن، لكني فقدتُ الاتصال بأفرادها منذ فترة طويلة. ولِدْتُ في فرنسا. ألم أخبركِ؟ جئتُ إلى أستراليا مع أبي وأمي وأنا طفل. أنا وأختي. كنتُ في السادسة. وكانت أختي في التاسعة. ماتتْ. ماتتْ مبكرًا بالسرطان، وهكذا لا، ليس لي أسرة ترعاني.

يتركان، هو وماريانا، عند هذه النقطة، تَبادُل الخصوصيات. لكن صدى سؤالها يتردد في ذهنه. من سيتولى رعايتك؟ كلما أمعن النظر في جملة يتولى رعايتك، كلما بدت أكثر إبهامًا. يتذكر كلبًا كان لهما، وهو طفل في لُرْدِز، يستلقي في سلته في أقصى درجات اعتلال المزاج الكلبي، يعوي بلا توقف، خطمه ساخن وجاف، وأطرافه تنتفض. قال أبوه عند نقطة معينة: حسن، أنا مشغول،٢ والتقط الكلب والسلة معًا، وخرج من البيت. بعد خمس دقائق سمع، من الغابة، صوت طلق ناري مكتومًا، وكان هذا كل شيء، لم ير الكلب بعد ذلك أبدًا. أنا مشغول:٣ سأتولى أمره؛ سأتولى رعايته؛ سأفعل ما يجب. ذلك النوع من الرعاية، بطلق ناري، ليس هو بالتأكيد ما كان في ذهن ماريانا. إلا أنه يبقى متجسدًا في العبارة، في انتظار أن يتسرب. وإذا كان الأمر كذلك، فماذا عن ردِّه: سأتولى رعاية نفسي؟ ماذا تعني كلماته بشكل موضوعي؟ هل كان تولي الرعاية، العناية التي تحدث عنها، يمتد إلى ارتداء أفضل الثياب وابتلاع مخبأ الأقراص، اثنين في كل مرة، بكوب لبن ساخن، والاستلقاء في السرير ويداه مطويتان على صدره؟

يشعر بالكثير من الحسرات، إنه مفعم بالحسرات، تعود ليلًا كالطيور الجاثمة. أهمها حسرته لأنه بدون ابن. قد يكون جميلًا أن تكون له ابنة، للبنات رونق خاص، لكن الابن الذي لم يرزق به هو ما يفتقده حقًّا. لو أنه رزق هو وأنْريت بابن في الحال، وكل منهما يحب الآخر، أو وكل منهما مفتون بالآخر، أو وكل منهما يرعى الآخر، لكان ذلك الابن في الثلاثين الآن، رجلًا حقًّا. ربما يستحيل تخيل ذلك، لكن ما يستحيل تخيله يوجد لنتخيله. تخيل الاثنين، الأب والابن، يتمشيان، ويتحدثان في شتى المواضيع، حديث رجال، لا شيء يهم. في سياق ذلك الحديث قد يبدي ملاحظة، واحدة من الملاحظات الملتوية التي قد يلجأ إليها الناس حين تستعصي عليهم الكلمات الصادقة، من بينها حين يحين الرحيل. كان ابنه، ابنه الخيالي والمتخيَّل، سيفهم في الحال: لا تنشغل بالأعباء، لا تنشغل بالتعاقب، يا له من يوم. كان ابنه، سواء اسمه وليم أو روبرت أو أي اسم آخر، سيقول: آه، يعني نعم، أوافق. قمْتَ بمهمتكَ، اعتنيْتَ بي، الآن حان دوري. سأتولى رعايتك.

ليس خارج نطاق الممكن أن يكون له ابن، حتى في هذه اللحظة المتأخرة. يمكن، مثلًا، أن يعثر (ولكن كيف؟) على يتيم مشاكس، من قبيل واين بلايت جنينًا ويقدم عرضًا لتَبَنِّيهِ، على أمل أن يحصل على الموافَقة؛ مع أن احتمال أن يسلِّم نظام الرفاهية، ممثَّلًا في مسز بوتس، طفلًا ليرعاه عجوز وحيد مُقعَد؛ صفر، أقل من الصفر. أو يمكن أن يعثر (كيف؟) على شابَّة خصبة، ويتزوجها أو يدفع لها أو يغريها ليكون له، أو يحاول أن يكون له ولد من رحمها.

لكنه لا يريد طفلًا. يريد ابنًا، ابنًا حقيقيًّا، ابنًا وريثًا، نسخةً منه أصغر وأقوى وأفضل.

حمامته. قالت شينا في وقتها الخاص معه: إن كنتَ تريد أن أغسل حمامتك، فعليك أن تطلب. هل لحمامته وعوراته المستنزَفة القدرة التي تجعله أبًا لطفل؟ هل لديه البذرة، والشهوة الحيوانية الكافية لدفع البذرة إلى المكان المناسب؟ يبدو أن السِّجِل لا يشير إلى ذلك. يبدو أن السِّجِل يشير إلى أن التدفقات الشهوانية ليست جزءًا من طبيعته، رقة صافية، حسِّيَّةٌ معتدلة وإن تكن مُرْضيةً. ذاك ما سوف تتذكره عنه مارجريت مكُّورد، هي ونساء الأخريات، ليس من بينهن زوجته. كعاشق فهو كَلْبِي إلى حدٍّ ما في الحقيقة: ليست الكلمة التي يعجب بها لكنها كلمة معبِّرة. رجل يجيد العناق في أمسية باردة؛ صديق تنسين نفسك حين تذهبين معه إلى السرير، وتحتارين بعد ذلك متسائلة إن كان ذلك قد حدث حقًّا.

الخلاصة، ليس رجلًا شهوانيًّا. ليس متأكدًا من أنه أحبَّ الشهوانية ذات يوم، أو استساغها. الشهوانية: منطقة غريبة؛ بَلْوَى هزلية لا يمكن تفاديها كالتهاب الغُدَّة النكفية، يتمنى المرء أن يصاب بها وهو صغير، بصورة معتدِلة وأقل خطورة، حتى لا تصيبه بعد ذلك بصورة أخطر. يكشِّر سوء الطالع على وجوه الكلاب وهي في قبضة التزاوج الشهواني، وتتدلى ألسنتهم.

١  بالفرنسية في الأصل.
٢  بالفرنسية في الأصل.
٣  بالفرنسية في الأصل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤