الفصل العاشر

أمير هذا العالم

الشيطان في اللاهوت المسيحي

لم يُبشِّر يسوع بإلهٍ جديد، بل كان ظاهر تعاليمه يُشير على الدوام إلى إله العهد القديم. ومع ذلك فقد أحدث انقلابًا داخل المؤسسة الدينية اليهودية أعظم أثرًا من كل ما فعله الفكر المنحول، والفكر الغنوصي اليهودي على حد سواء. لقد أسَّس لعهد جديد بين الله الحقيقي وبني الإنسان جميعهم، وألغى العهد القديم عهد يهوه مع بني إسرائيل. فإله يسوع هو الألوهة السرمدية فيما وراء الزمن، وهو الواحد خالق العالم وصانع التاريخ، هو المتعالي ولكنَّه مرتبط مع العالم والإنسان برابطة الحب، وملتزمٌ بخلاص العالم والإنسان منذ اللحظة التي داخل الشر فيها نسيج العالم الحسن والطيب. هو الحق والعدل، الخير ومنبع الخير، وهو فوق كل شيء إله أخلاق يأمر بها ويُكافئ عليها، ولا يطلب من الإنسان سوى الإيمان والعمل الطيب، وهما المرتكزان الرئيسيان للعقيدة المسيحية.

لمَّا كانت أهم صفات الله في علاقته بالعالم هي الحق والخير والعدل، وجميعها تنفي مسئولية الآب السماوي عن وجود الشر في العالم، فقد لجأ المعتقد المسيحي إلى حل هذه المعضلة عن طريق تبنيه لجواب قديم في صيغة جديدة، وذلك بابتكاره لأول مرة مفهوم الثنوية الأخلاقية التي تجعل للشيطان سلطانًا على الحياة النفسية والمجتمعية للإنسان من دون بقية مظاهر الكون. هذه السلطة التي اكتسبها الشيطان منذ غوايته الأولى للإنسان، قد أطلقت تاريخًا ديناميًّا يسير عبر ثلاث مراحل إلى نهاية محددة، ينتهي عندها الزمن والتاريخ وتدخل البشرية في الأبدية، كل ذلك يجري وفق خطة خلاصية أعدها الآب من البدء، وهو يسير بها الآن حتى نهايتها، لأنَّه: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكيلا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (إنجيل يوحنَّا، ٣: ١٦).

قبل أن نعمد إلى شرح مفهوم التاريخ ومراحله في اللاهوت المسيحي، سوف نتوقَّف عند المعلومات المتفرقة في أسفار العهد الجديد عن منشأ الشيطان وتأسيسه لمملكة الظلام والشر وعن مصيره المرتقب.

(١) الشيطان في الأناجيل

لا تُقدِّم لنا أسفار العهد الجديد روايةً متسقة ومطَّردة عن منشأ الشيطان، لأنَّها اعتمدت على لاهوت للشيطان كان الفكر المنحول قد نسجه ببطء، حتى صار جزءًا من العقيدة الشعبية والرسمية في فلسطين. من هنا فإنَّ معظم الإشارات التي أوردها مؤلفو هذه الأسفار تلمِّح إلى ما كان السامع أو القارئ يعرفه ويألفه، مع إضافتها لظلالٍ وألوان جديدة على تلك الصورة المألوفة.

فالشيطان ليس كائنًا شريرًا فحسب، وإنَّما هو صاحب مملكةٍ للشر تسود في هذا العالم. وقد قارن إنجيل متَّى بين مملكة الشيطان هذه ومملكة الله التي ستُبنى على أنقاضها بظهور يسوع المُخلِّص. فعندما رأى الفريسيون أنَّ يسوع يُخرج الشياطين من أجسام المجانين قالوا: «هذا لا يُخرج الشياطين إلَّا ببعل زبوب رئيس الشياطين. فعلم يسوع أفكارهم وقال لهم: كل مملكة تنقسم على نفسها تخرب، فإن كان الشيطان يُخرج الشيطان فقد انقسم على ذاته، فكيف تثبت مملكته؟ ولكن إن كنت أنا بروح الله أُخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله» (متَّى، ١٢: ٢٤–٢٨). وللشيطان سلطانٌ على هذا العالم قد دُفع إليه مؤقتًا وهو يتصرف به كما يشاء. فعندما أخذ الشيطان يسوع إلى البرية ليجربه أربعين يومًا، ثم يئس من الإيقاع به، أخذه إلى جبل عالٍ وأراه جميع ممالك الدنيا وقال له إنَّ سلطان هذه الممالك ومجدها قد دُفع إليه يتصرف بها ويعطيها من يشاء، فإن سجد له وهبه سلطةً على العالم. نقرأ في إنجيل لوقا: «ثم أصعده إبليس إلى جبلٍ عالٍ وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان، وقال له إبليس: لك أعطي هذا السلطان كله ومجده، لأنَّه إليَّ قد دُفع وأنا أعطيه من أريد، فإن سجدت أمامي يكون لك الجميع. فأجابه يسوع وقال: اذهب يا شيطان إنَّه مكتوبٌ للرب تسجد وإياه وحده تعبد» (لوقا، ٤: ٥–٨).

بسبب هذا السلطان الذي لإبليس على العالم، فقد دعاه إنجيل يوحنا برئيس هذا العالم، ولكن رئاسته تتضعضع مع مجيء يسوع وستنتهي في يوم الدينونة: «الآن دينونة هذا العالم. الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجًا. وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب الجميع إليَّ» (يوحنَّا، ١٢: ٣١). ودعاه بولس الرسول بإله هذا الدهر، لِمَا له من سلطان على المرحلة الثانية من مراحل التاريخ: «ولكن إن كان إنجيلنا مكتومًا، فهو مكتوم في الهالكين، الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تُضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح» (٢ كورنثة، ٤: ٣–٤). وأطلق عليه بولس أيضًا وعلى زبانيته لقب سلاطين وحُكَّام الظلام: «البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس، لأنَّ مُصارعتنا ليست مع كائنات من لحم ودم بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر» (إفسوس، ٦: ١١–١٣).

أمَّا عن الاسم «الشيطان» فهو من الجذر العبري «شَطَن» الذي يتضمَّن معنى المقاومة والمعاندة، وعن الاسم الآخر «إبليس»، فهو من الأصل اليوناني «ديابولوس» الذي يعني المشتكي زورًا، ومن هذا الأصل اليوناني أيضًا جاءت كلمة Devil أي الشيطان، في اللغة الإنكليزية ولغات أوروبية أخرى. ويُدعى أيضًا بالتنين وبالحية القديمة (رؤيا يوحنا، ١٢: ٩)، وبالأسد الزائر (بطرس، ٥: ٨)، وبالكذاب وأبو الكذاب (يوحنَّا، ٨: ٤٤)، وببعل زبوب رئيس الشياطين (متَّى، ١٢: ٢٤). ويستخدم بولس في بعض رسائله الاسم المعروف لدينا من الأسفار التوراتية المنحولة، وهو بَليعال: «لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين لأنَّه أيَّة خلطة للبر والإثم، وأيَّة شركةٍ للنور مع الظلمة، وأي اتفاق للمسيح مع بَليعال» (٢ كورنثه، ٦: ١٥).

يتخذ الشيطان من النفس الإنسانية والمجتمع الإنساني مجالًا رئيسيًّا لنشاطه. يُشبِّهُه بولس الرسول بأسد يزأر على الدوام باحثا عن فريسته: «اصحوا واسهروا، إبليس خصمكم، كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه، فقاوموه راسخين بالإيمان» (١ بطرس، ٥: ٨–٩). وهو يُرسل زبانيته لتسكن في أجساد الناس وتُسبِّب لهم أعراض الصرع والجنون (متَّى، ٩: ٣٤ و١٢: ٢٤؛ مرقس، ٩: ١٧–٢٧). وهو يُجرِّب الناس ليوقعهم في الخطيئة، سواء بشخصه أم من خلال زبانيته (١ تسالونيكي، ٣: ٥؛ ١ كورنثة، ٧: ٥) جاعلًا منهم مقاومين الله ذاته (أعمال، ٥: ٣). وهو روح رهيب بحيله ووساوسه وخدعه (٢ كورنثة، ٢: ١١؛ إفسوس، ٦: ١١؛ تیماوس، ٣: ٧ و٦: ٩)، يتخذ زي ملاك النور (٢ كورنثة، ١١: ٤). وهو وراء الخطيئة الأصلية (روما، ٥: ١٢ و٧: ٧). ومنذ أن أخضع آدم وحواء لسلطته فقد أخضع الجنس البشري لصولته الظالمة (إفسوس، ٢: ١–٣). في ظل هذا الوضع على الإنسان أن يختار بين الله وإبليس، بين المسيح وبَليعال (٢ كورنثة، ٦: ١٥)، بين الحق والشرير (١ رسالة يوحنا، ٥: ١٨). لأنَّ الإنسان في اليوم الأخير سيرتبط مصيره إلى الأبد هذا أو ذاك، فالمؤمن يهزم إبليس باتحاده بالمسيح بالإيمان (إفسوس، ٦: ١٠)، وكذلك بالصلاة: «أبانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض. خبزنا كفافنا أعطنا كل يوم، واغفر لنا خطايانا لأنَّنا نحن أيضًا نغفر لكل من يذنب إلينا، ولا تدخلنا في التجربة، لكن نجنا من الشرير» (إنجيل متَّى، ٦: ٩–١٣).

إنَّ من يختار الله ومسيحه يكون واثقًا من الانتصار، ولن ينهزم إلَّا من يقبل الهزيمة (رسالة يعقوب، ٤: ٧؛ إفسوس، ٤: ٢٧). فلقد حقَّقت قيامة المسيح هزيمة إبليس بالفعل، ولكن المعركة لن تنتهي تمامًا إلَّا عند آخر مشهد من مشاهد تاريخ الخلاص، وذلك في يوم الرب عندما يُبيد المسيح في قدومه الثاني كل قوة ورئاسة وسلطان لإبليس، ويُسلِّم المُلك للآب (١ كورنثة، ١٥: ٢٤–٢٨). وهُنا يُقدِّم لنا سفر الرؤيا، آخر أسفار العهد الجديد، صورة شديدة الحيوية والتأثير عن حرب نهاية الزمن بين الملائكة والشياطين: «وحدثت حربٌ في السماء. میخائيل وملائكته حاربوا التنين، وحارب التنين وملائكته ولم يقووا، فلم يوجد مكانهم بعد ذلك في السماء. فطُرح التنين العظيم، الحيةُ القديمة المدعو إبليس والشيطان الذي يُضل العالم كله، طُرح إلى الأرض وطُرحت معه ملائكته، وسمعت صوتًا عظيمًا قائلًا في السماء: الآن صار خلاص إلهنا وقدرته وملكه … ورأيت ملاكًا نازلًا من السماء معه مفاتيح الهاوية وسلسلة عظيمة على يده، فقبض على التنين الحية القديمة، الذي هو إبليس والشيطان، قيَّده ألف سنة وطرحه في الهاوية وأغلق عليه، وختم عليه لكيلا يُضل في الأمم فيما بعد» سفر الرؤيا مقاطع من الإصحاحين ١٢ و٢٠.

أمَّا عن أصل الشيطان ونشأته، فإنَّ الإشارات المقتضبة في الأسفار تنسج على منوال الفكر المنحول. فالشياطين هم ملائكة عصوا وأخطئوا، على ما نفهمه من رسالة بطرس الثانية: «لأنَّه إن كان الله لم يشفق على ملائكة قد أخطأوا، بل في سلاسل الظلام طرحهم في جهنم وسلَّمهم محروسين للقضاء، ولم يشفق على العالم القديم … إلخ» (٢ بطرس، ٢: ٤–٥). وفي رسالة يهوذا نقرأ: «والملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم بل تركوا مسكنهم، حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام» ٦. هؤلاء الملائكة الساقطون هم أتباع إبليس الذين تبعوه بعد عصيانه وصاروا ملائكة له بعد أن كانوا ملائكة العلي: «ومتى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه، فحينئذٍ يجلس على كرسي مجده … ثم يقول للذين عن يمينه تعالوا يا مباركي أبي لترثوا الملكوت المُعد لكم … ثم يقول أيضًا للذين عن اليسار اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المُعدة لإبليس وملائكته» (متَّى، ٢٥: ٣١–٤١).

هذه هي أهم المعلومات التي يمكن استخلاصها من العهد الجديد عن الشيطان ومملكته ودوره ونهايته، وهي غير كافية من أجل إعادة بناء لاهوت واضح عن هذه الشخصية، رغم كل الأهمية التي أُسبغت عليه باعتباره رئيس أو إله هذا العالم، والشخصية الثانية في دراما الخلق والحياة الإنسانية وصيرورة التاريخ. ذلك أنَّ مؤلفي أسفار العهد الجديد كانوا يتوجَّهون إلى مؤمنين نشئوا في بيئة مطَّلعة تمام الاطلاع على أسفار التوراة وعلى الأسفار المنحولة، ولديهم فكرة عن لاهوت الشيطان الذي أُسَّست له أدبيات ما بين العهدين. غير أنَّه مع انتشار المسيحية خارج بيئتها الأولى وبين جماعات ذات خلفيات دينية وثقافية مغايرة ومتباينة، صار لزامًا على العقيدة المسيحية أن تتقدَّم بلاهوت متسق ومتكامل عن الشيطان، وذلك في السياق العام لعقيدة التكوين ومراحل التاريخ ونهاية الزمن. وهذا ما ابتدأت به المسيحية منذ أيام القديس أوغسطين، وساهم به تدريجيًّا عدد من كبار المُفكِّرين المسيحيين، إلى أن صار للمسيحية معتقدها الناجز والمستقل عن لاهوت التوراة واللاهوت المنحول على حد سواء، رغم انطلاقها من هذين المصدرين. وهذا ما سنُخصص له ما تبقى من هذا الفصل.

(١-١) السرمدية، أو ما قبل التاريخ

«في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله، كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان» (إنجيل يوحنا، ١: ١–٢).

منذ الأزل لم يكن سوى الله. وجودٌ مكتملٌ قيومٌ بذاته غير مخلوق، جوهره النور، نورٌ غیر مخلوق مختلف عن النور المخلوق الذي ظهر فيما بعد، إنَّه نور المجد. وكان هذا الوجود بطريقة غامضة وسرية ثلاثة في واحد وواحد في ثلاثة، هم الآب والابن-الكلمة والروح القدس. منذ الأزل كان الابن يصدر عن الآب والروح القدس يصدر عنهما معًا، فهم ثالوث مجيد وإله واحد. عندما يتأمَّل العقل هذه السرمدية السابقة للخليقة، يصعب عليه تكوين صورة صادقة عن الحقيقة الواحدة المثلثة، لأنَّ الابن-الكلمة لم يكن قد تجسَّد في يسوع، ولم يكن الروح القدس قد هبط على شكل حمامة نارية معلنًا بنوة يسوع للآب، ثم تابع حضوره الفعَّال في توجيه البشرية نحو الخلاص. ولأنَّ الكلمة قبل تجليه على الأرض في لحظة معينة في التاريخ، كان اللوغوس أو صوفيا التي هي حكمة الله والتي بواسطتها سيتم خلق العالم فيما بعد. وكان له شبه إنسان، وعلى هذه الصورة المُثلى للإنسان الكامل السماوي سيتم خلق الإنسان الأرضي.

منذ عصورٍ لا بداية لها كان الابن موضع حب الآب ومسرته، وكان الروح القدس بمثابة الحب الذي يغلق الدارة بينهما، دارة حبٍ مكتملة لم ينقصها شيء ولم تكن بحاجة لأن يصدر عنها شيء، لأنَّ أي خلق آخر لن يرقى إلى حالة تمامها واكتمالها وغناها عمَّا عداها. فهي وجود يملأ كل مكان قبل أن يظهر المكان، وتُغطِّي الدهر قبل أن ينطلق الزمان، غير أنَّ دارة الحب الإلهي قد فاضت حتى جاء وقت أراد الله فيه، بحريةٍ مطلقة ودونما سبب ملزم، أن يخلق ما سواه، فكان أول ما صدر عنه، وبأمر من كلمته الخالقة، عالمٌ من الأرواح الصرفة هم الملائكة.

(١-٢) الزمن الكوزموغوني

أول خلق الله

كان الملائكة أول ما خلق الله، وقد صدروا عن مركز النور الأسمى، وتوضعوا في تسعة أفلاك نورانية تُحيط بالمركز، وفي كل فلك طبقة مراتبية كان أقربها إلى الله طبقة الكروبيم، يليها السيرافيم، فحملة العرش، فالسيادات، فالسلاطين، فالقوى، فالأمراء، فالرؤساء، فجمع الملائكة. وجميعهم أرواحٌ لا أبدان لها ومن جوهر النار، خالدون منذ لحظة الميلاد، ينعمون بمجد الله ويُسبِّحُونه منذ أن استيقظ وعيهم على مرأى النور العظيم. فأمَّا الكروبيم فهم أرواح المعرفة، لهم رأس فقط عليه جناحان، وهي صورة مناسبة لتلك الأرواح المشغولة على الدوام بمعرفة الله. وأمَّا السيرافيم، فهم أرواح الحب، لهم جسد وستة أجنحة، اثنان على الرأس واثنان على الجذع واثنان على القدمين، وهذه الصورة مستمدة من رؤيا إشعيا: «ورأيت السيد جالسًا على كرسي عالٍ ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل. السيرافيم واقفون فوقه لكل واحد ستة أجنحة، باثنين يُغطي وجهه وباثنين يُغطي رجليه وباثنين يطير» ٦: ١–٢. وأمَّا حملة العرش فهم عجلات عرش الرب، لهم أربعة أجنحة وأربعة وجوه، والصورة هنا مُستمدَّة من رؤيا حزقيال: «فنظرت وإذا بريحٍ عاصفة جاءت من الشمال، سحابة عظيمة ونار متوالية … ومن وسطها شبه أربعة حيوانات لها شبه إنسان، ولكل واحدٍ أربعة وجوه، ولكل واحد أربعة أجنحة، وأرجلها أرجلٌ قائمة وأقدام أرجلها كقدم العجل، وبارقة كالنحاس المصقول، وأيدي إنسان تحت أجنحتها على جوانبها الأربعة» ١: ٤–٨.

المراتب الثلاث التي تلي هذه، وهي السيادات والسلاطين والقوى، تتوسَّط بين المراتب الثلاث الأولى القريبة إلى الخالق والمراتب الثلاث الأخيرة الموكلة بشئون العالم. وبينما لا يتوفَّر لدينا الكثير من المعلومات حول هذه الفئة الوسيطة، فإن المعلومات غزيرة نسبيًّا حول الفئة الدنيا وهي الأمراء والرؤساء وجمع الملائكة، وجميعها تُشكِّل حلقة الوصل العملية بين الله والعالم. فالأمراء هم الأبعد عن الشئون التفصيلية وموكلون بحفظ النظام الكوني والطبيعاني وإدارة المجالات العليا منه. وأمَّا الرؤساء فهم القيِّمون على شئون الشريحة الدنيا من الملائكة، والأقرب إلى الأرض والناس، ولهم شكل مُحاربين متزودين بحربات وسيوف وفئوس، إضافة إلى عدد من أدوات الحرف والفنون. فهم الموكلون بتصريف شئون العالم اليومية وحفظ الحياة والمجتمع الإنساني، ومرتبة هؤلاء الرؤساء هي الأكثر ظهورًا وحضورًا في أسفار العهد الجديد التي تذكر أربعة من أسمائهم؛ وهم: ميخائيل ورفائيل وأوريئيل وجبرائيل، رغم وجود عدد آخر من هؤلاء الرؤساء لا نعرفهم بالاسم. وكل منهم يرأس شريحة من فئة الملائكة التي تُعدُّ بآلاف الآلاف، ولكن الملاك ميخائيل هو رئيس جمع الملائكة طُرًا، أو الطبقة الأوسع منها والأكثر فعالية وتدخلًا في شئون الناس. وإلى جانب ذلك فميخائيل هو رسول قضاء الله وأحكامه، وله مهمات حاسمة في يوم الدينونة، فهو الذي سيقهر الشيطان ثم يقيده ويرميه في هاوية الجحيم، وهو الذي يُمسك بيده ميزان الحساب الأخير. أمَّا جبرائيل فرسول الرحمة الإلهية والبشارة الطيبة، وهو الذي حمل بشارة الحَبَل المقدس إلى مريم العذراء. ورفائيل هو ملاك الصحة وحامل الشفاء للمرضى. وأوريئيل هو نار الله ورسول النبوءات ومفسر مشيئة الله في عقول المختارين من أنبيائه وملهميه. ولقد منَّ الله على كل فرد من أفراد البشر بملاك حارس من ملائكة الفئة الواسعة الدنيا، مُخصَّص لحراسته وحمايته من قوى الشر والظلام، وذلك منذ يوم مولده، وهو يمده بحكمة وحب الآب الأعلى، كما يحمل إلى السماء صلواته.

إنَّ الأجنحة التي يحملها الملائكة بفئاتهم وطبقاتهم جميعها، هي رمز لطبيعتهم العلوية الروحانية، ودلالة على مقدرتهم على الانتقال بشكل آني من مكان إلى آخر لأداء المهام. فالملاك ينتقل إلى حيث يُفكِّر في الانتقال دون فاصل زمني، ولذا يُمكن لعددٍ غير مُحدَّد من الملائكة الوقوف على رأس دبوس طالما أنَّ الجميع يفكر برأس الدبوس، فهم ينتقلون بسرعة الفكر ويقطعون الكون من أقصاه إلى أقصاه، وفيما بين السماء والأرض دون زمن.

تمرُّد في السماء

لقد جاء خلق الله هذا كاملًا، وكأفضل ما يكون الكمال الذي يلي كمال الله نفسه، ثمَّ إنَّ الله لم يضنَّ على الملائكة بإحدى خصائصه العليا، ألا وهي الحرية. والحرية تعني الاستقلال والتسيير الذاتي دونما جبر أو إكراه، لأنَّه بدون الحرية لن يكون للملائكة القدرة على الحُب الذي لا يمكن منحه إلا عن رغبة وطواعية، والحُب هو جوهر وجود الله، وينبغي أن يكون أيضًا جوهر وجود خلقه الكامل. ولكن الحرية ليست بدون محاذير، لأنَّ من هو حر في أن يحب، حر أيضًا في أن يكره، وما إن تُمنح الحرية لا يُمكن التحكم في كيفية استخدامها إلا بإلغائها. ولقد عرف الله محاذير هبته للملائكة، وعرف أيضًا أنَّ هبة الحرية سوف يُساء استخدامها إلى أبعد حد ممكن، ومع ذلك فقد قبل المخاطرة، لأنَّ ما كان يُخطط له من خلقٍ عظيم يجعل من مثل هذه المخاطرة أمرًا مسوغًا.

والآن، فمن بين الملائكة جميعًا كان المدعو لوسيفر، أي حامل الضياء، أجملهم وأروعهم خَلْقًا، وكان من ملائكة الفلك الأول المقربين الذين يعكسون مجد الخالق وضياءه الأخَّاذ، وكان أفضل ما يُمكن لصنعة الله البديعة أن تخلقه. فظنَّ لإعجابه بنفسه وزهوه، أنَّه يستحيل على الله أن يخلق من هو أكمل منه وأعلى شأنًا. منذ صحوته من العدم بُهر لوسيفر بنور مجد الله فغطَّى وجهه بجناحيه، ثم راح مأخوذًا يُحدِّق إلى مركز النور العظيم، يُسبح بحمد الله ويُنشد مع بقية الملائكة المقربين مجده وعظمته، وكلَّما حدَّق لوسيفر أعمق فأعمق إلى لُجَّة الضياء ومركز الثالوث الأقدس، صار يُشارك العلي رؤى المستقبل، ويتوحَّد بعلمه للماضي وللمستقبل، فشعر بالسعادة الغامرة والروعة البالغة لمثل هذه المشاركة، إلى أن جاء وقت عرف فيه أنَّ الله يُعِدُّ خطة لخلق جديد، ويُعِدُّ فيه مكانًا أعلى وأسمى من مكان الكروبيم والسيرافيم، لكائن مختلف عنهم مصنوع من مادة كثيفة لا تُقارن بماهيتهم النورانية، ثم تبصَّر أكثر فأكثر وعرف أنَّ الابن-الكلمة سوف يحل في جسد من طينة ذلك الكائن ويعيش بين الناس على الأرض ردحًا من الزمن.

رأى لوسيفر كل ذلك بعين بصيرته، فتملَّكته الضغينة وملأت الأذية روحه ووجدانه، وفضَّل مجده الملائكي على القصد الإلهي والمشيئة العلوية، ونوى التمرد والعصيان بحريةٍ تامة ومطلقة، رغم علمه الأكيد بما سيجره عليه عصيانه من عواقب وبما ينتظره من لعنة أبدية، ولكنَّه فضل السقوط واللعنة على فقدان عزته ومجده الملائكي، وإظهار الخضوع لكائن أقل منه نورانية وروحانية. أدار لوسيفر وجهه عن نور الله رافضًا المشاركة في خطة الخلق المقبل ونتائجها، وفرَّ نحو الشفق الخافت حيث الوجود يلامس العدم، وتبعه عدد كبيرٌ جدًّا من الملائكة الذين وقفوا في صفه وارتأوا رأيه، فقادهم بعيدًا عن دائرة الرحمة حيث وضعوا أنفسهم في خدمة العدم بدلًا من خدمة الوجود، وراحوا يتحفزون من أجل تخريب خطة الخلق، وإفساد الإنسان الذي كرَّمه الله وفضَّله عليهم. وهكذا تحوَّل لوسيفر إلى إبليس، الملاك المظلم، وتحوَّل ملائكته إلى شياطين، فنظمهم في مراتبية سُفلية من تسع طبقات تُناظر الطبقات التسع العلوية التي نفروا منها. لقد ظهر الشر على المستوى الروحاني، ولكنَّه ما زال شرا مشلولًا عاجزًا يتولَّد ويتلاشى في عالم الظلمة الخارجية، غير قادر على التحقُّق واقتحام عالم الأنوار، ينتظر خلق العالم المادي، وسيد ذلك العالم، لينقضَّ عليه ويثأر منه.

والآن، فوق مياه العمر العظيم، المادة البدئية التي تنطوي على مُمكنات الكون المقبل، كان العالم الروحاني يتماوج في اتساقه وكماله، حيث الثالوث المقدس في المركز وحوله تسعة أفلاك تتوضع فيها آلاف مؤلفة من الأرواح الملائكية، ثم عمد الآب إلى خلق العالم بواسطة كلمته الابن-اللوغوس. في اليوم الأول خلق النور المادي، وهو مختلف عن النور العلوي غير المخلوق، نور الثالوث ونور الملائكة، وميَّز الله النور عن الظلمة فدعا النور نهارًا ودعا الظلمة ليلًا. في اليوم الثاني خلق قبة السماء الدنيوية وبها فصل مياه الغمر بين مياه تحتية ومياه فوقية. في اليوم الثالث خلق الأرض تحت نقطة المركز من القبة السماوية، وجمع المياه التحتية إلى مكان واحد فشكَّلت بحار الأرض، وفي مركز الأرض صنع حفرة الجحيم التي تُحيطها تسعة أودية، كما أنبت من الأرض كل عُشبٍ وبقلٍ وشجرٍ ذي ثمر. في اليوم الرابع خلق الشمس والقمر والنجوم ووزعها في سبعة أفلاك، ووراء الفلك السابع صنع كويكبات خط السمت أبراج القبة. وكانت الشمس وقتها في برج الحمل، في الموضع نفسه الذي ستكون فيه يوم الفصح عند خلاص العالم بدم حَمَل الله. في اليوم الخامس خلق طيور الجو وكائنات البحر. في اليوم السادس خلق حيوانات البر، كما خلق الإنسان آخر أعماله المبدعة. جبل الله آدم من تراب الأرض ثم نفخ فيه من روحه فصار آدم نفسًا حية، وبذلك تمَّ التجسُّد الأول للحق في الخلق. أمَّا التجسُّد الثاني فسيكون في يسوع الذي حملت به مريم من الروح القدس، فهو آدم الثاني. نصَّب الله آدم سيدًا على الأرض وجعله متسلطًا على جميع كائناتها وسخَّر له زرعها ونباتها طعامًا له، ثم عرض عليه حيوانات البرية كلها وطيور السماء كلها ليرى ماذا يدعوها، فدعا آدم بأسماء جميع البهائم وطيور السماء وحيوانات البرية جميعها، وكل ما دعا به آدم ذات نفسٍ حيةٍ فهو اسمها. في اليوم السابع استراح الخالق من عمله الذي عمل جميعه.

عصيان على الأرض

كان آدم تجسيدًا للكمال الإنساني الذي أراده الله، ورغم جبلته المادية فقد وُلِد خالدًا مثل الملائكة لا يطاله الفناء، وكان مثلهم أيضًا حرًّا مستقل الإرادة. ثم غرس الله في عدن في وسط الأرض جنة تُماثل الجنة السماوية وأسكن فيها آدم، وخلق من ضلعه امرأته حواء، ثم أمرهما أن يأكلا من شجر الجنة كلها إلَّا شجرة معرفة الخير والشر، فعاشا في انسجام تام مع الطبيعة التي تُمِدَّهما بما يحتاجان إليه دون عمل أو عناء، إلى أن تدخل إبليس. تسلَّل إبليس إلى الجنة في هيئة الأفعوان والتفَّ على جذع شجرة المعرفة، وكانت حواء قريبة من المكان فنظرت إلى الشجرة بثمارها البراقة وإلى الأفعوان يطوق جذعها فراقها المنظر ودنت، فقال لها إبليس هامسًا كما تفح الأفعى: أحقًا قال الله لا تأكلا من شجر الجنة كلها؟ فقالت حواء: بل نأكل من شجر الجنة كلها، وأمَّا ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا. فقال الحنش: لن تموتا، ولكن الله عارف أنَّه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان مثله عارفين الخير والشر، فرأت حواء أن الشجرة بهجة للنظر وجيدة للأكل، فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت زوجها أيضًا فأكل. عندما وصل عِلْمُ معصية الإنسان إلى الخالق، نطق باللعنة الكبرى على الأفعوان إبليس، وعلى الإنسان وعلى عالم الطبيعة برمَّته، لأنَّ الإنسان كان رأس هذا العالم وسيده، فأخرجه من الجنة إلى الأرض التي جُبل منها ليعمل فيها ويكد ويشقى، لأنَّه من تراب وإلى تراب يعود، وبسقوط الإنسان سقط معه العالم بأكمله وانفصل عن مجد الله.١

هذه هي الخطوط العامة لِما جرى في الزمن الكوزموغوني، أو المرحلة الأولى من تاريخ الكون والإنسان. فلقد خلق الله العالم كاملًا ونقيًّا وخلق الإنسان في أحسن تكوين، ولكن الإنسان استخدم حُرِّيته في معصية خالقه مثلما فعل لوسيفر والملائكة الساقطون معه، وكما طُرد إبليس وملائكته من السماء النورانية العليا، فقد طُرد آدم من مثال الجنة السماوية على الأرض وخرج إلى العراء والغربة. وأكثر من ذلك فقد انتقل الوجود الأرضي بأكمله من عالم المجد إلى عالم اللعنة المقيمة، وأُسلم إلى يد الشيطان في انتظار قدوم المُخلِّص.

هذه القصة التي أوردناها أعلاه سواء بتسلسلها أم بمضامينها، لا تُشكِّل نصًّا مقدسًا وليست جزءًا من أسفار العهد الجديد، ولكنَّها كما أشرت في البداية من نسج آباء الكنيسة الذين فسَّروا إشارات الكتاب المقدس في عهديه، وربطوها بتفاصيل من الأسفار التوراتية المنحولة. من هنا يأتي اختلاف المصادر المسيحية في بعض النقاط المفصلية من هذه القصة، وخصوصًا مسألة خلق الملائكة وهل تمَّ هذا الخلق قبل خلق العالم أم خلال مراحل الخلق الستة، ومسألة عصيان لوسيفر ودوافعه. فالقديس توما الإكويني يرى أنَّ الملائكة قد ظهرت إلى الوجود مع العالم المادي وليس قبله، لأنَّ وجودهم مرتبط بوجود العالم المادي، لا مستقلًّا ولا قائمًا بذاته. بينما تُرجِّح غالبية الآراء الأخرى أسبقية خلق الملائكة على خلق العالم. وبخصوص عصيان إبليس فإنَّ وجهة نظر بعض المفكرين المسيحيين تنسج على منوال أسفار منحولة معينة، فتقول بأنَّ لوسيفر لم يتمرد لِما رآه من مستقبل الإنسان ومكانته العالية، بل لأنَّ غروره دفعه إلى الاعتقاد بقدرته على الارتقاء إلى مقام يُعادل مقام العلي. فلقد نظر إلى ألقه الذي لا يعادله ألقٌ آخر، ولم ينظر إلى مصدر هذا الألق ومنشئه، فقال في نفسه: أرغب في أن أكون سيدًا أعلى ولا أريد أحدًا فوقي. فأيَّده أتباعه قائلين: بلى، نرغب في رفع عرش مولانا ليبلغ عرش العلي. عند ذلك طوَّح به العلي خارج دائرة النور، وتبعه من والاه مديرين وجوههم عن بؤرة النور، فانطفأ بريقهم وصاروا كفحمٍ خامد.٢

ويُقدِّم القديس ديونيسيوس وجهة نظر حول طبيعة الملائكة جديرة بالتوقُّف عندها. فهو يُفسِّر بعض فقرات العهد القديم التي يرد فيها تعبير «أبناء الله»، أو التي نفهم منها وجود آلهة أخرى حول يهوه، بأنَّها تشير إلى الملائكة. فالملائكة هم أبناء الله، وهم في الوقت ذاته آلهة لأنَّهم في حالة حُبٍ وتوحُّدٍ مع خالقهم. من هذه الفقرات: «أبناء الله رأوا بنات الناس أنهنَّ حسنات فاتخذوا لأنفسهم نساءً من كل ما اختاروا» التكوين ٦. «لأنَّه من يعادل الرب في السماء؟ من يشبه الرب بين أبناء الله؟» المزمور ٨٩. «يا رب، إله الجنود، من مثلك ربٌ قوي، وحقك، من حولك؟» المزمور ٨٦. «أي إلهٍ عظيم مثل الله؟» المزمور ٧٧. «الله قائمٌ في مجتمع الله. في وسط الآلهة يقضي» المزمور ٨٨. «لقد قلت إنَّكم آلهةٌ، وبنو العلي كلكم» المزمور ٨٨.

وهنا يحق لنا أن نتساءل عن ماهية الفرق بين ديانة وثنية تؤمن بإله واحد أعلى خالق للكون وخالق أو أب للآلهة الأخرى الثانوية، وبين معتقد توحيدي يؤمن بإله واحد خالق للكون وخالق للملائكة من أبنائه. نقرأ في نص مصري قديم يُسبِّح بحمد الإله الأعلى ما يأتي: «أبو البدايات. أزليٌ أبديٌ دائمٌ قائم. خفيٌ لا يُعرف له شكل وليس له من شبيه. لا تدركه العقول، خفي عن الناس وعن الآلهة. يلد ولم يولد. يُنجب ولم ينجبه أحد، خالقٌ ولم يخلقه أحد. خالق الكون، صانع ما كان والذي يكون وما سيكون. أبو الآلهة، رحيم بعباده … إلخ.» ونقرأ في نص أكادي رافديني: «أنت المولود الذي أنجب نفسه بنفسه، أنت الرحم الذي أنجب كل شيء. الأب الذي أنجب البشر وأنجب الآلهة … وليس لك بين الآلهة من شبيه … إلخ.»٣

إنَّ الخط الفاصل بين الوثنية والتوحيد مسألة فيها نظر. والديانات الوثنية تنتظر قراءة عصرية لها باعتبارها «عهدًا قديمًا»، إن جاز التعبير، للديانات التوحيدية.

(١-٣) عصور الظلام أو مرحلة التمازج

لقد عرف الله الذي يطال علمه البدايات والنهايات، أنَّ الحرية التي أعطاها للوسيفر ولآدم سوف يُساء استخدامها، وأنَّ العالم سيقع فريسة للموت والفساد نتيجة عصيان الكائنات العاقلة، ولكنه كان يُضْمِر خطة لتخليص الإنسان في الوقت المناسب، دون الإخلال بمبدأ الحرية الذي ارتضاه للوعي المستقل عنه. سوف يهبط الأقنوم الثاني في الثالوث ليغدو إنسانًا لأمدٍ معلوم، فيدخل في زمن الناس وفي دورة الحياة والموت، ليخلص خلقه من اللعنة القديمة، وهكذا كان. وُلد الكلمة من رحم العذراء، وتجلَّى في هيئة يسوع الناصري فعاش على الأرض وشارك الناس الألم والمعاناة، ثم مات على الصليب من أجل خلاصهم، وبذلك افتدت الذبيحة الإلهية، وهي القربان الكامل، الإنسان فخلَّصته من الموت الذي جلبته خطيئة آدم، وفتحت أمامه بوابة الأبدية. فالمسيح هو معنى التاريخ وليس نتاجًا له، ولهذا السبب فقد جاء تجسُّده في منتصف الزمن لا في بدايته ولا في نهايته، ليكون بمثابة محور التاريخ الذي يضفي على البداية والنهاية معناهما.

انطلاقًا من هذه الرؤية إلى التاريخ، لم يكن اللاهوت المسيحي ينظر إلى الأحداث السابقة على الميلاد إلَّا باعتبارها فترة مظلمة، لم يعرف الناس خلالها الله إلَّا من خلال ظلالٍ قائمة لا تعكس مجده الحقيقي، بما في ذلك كامل الفترة التي تغطيها أحداث العهد القديم (= التوراة). فالتاريخ يبدأ بآدم، ثم يبدأ بداية جديدة بيسوع المسيح الذي هو آدم الثاني. وما الزمن الفاصل بين هاتين البدايتين إلَّا شكلا من أشكال الجاهلية الإنسانية، كان العالم خلاله ينتظر قدوم المُخلِّص. وهكذا فقد عكس ميلاد يسوع مبدأ السبب والنتيجة في الصيرورة التاريخية، فبدلًا من أن يُقرأ الحاضر على ضوء الماضي باعتباره نتيجة منطقية له، صار الحاضر الذي هو تجسُد المسيح، ونتائجه، مُفسرًا للأحداث الماضية كلها التي صارت تُفهم على ضوء هذا الحدث. وصار التاريخ يُقرأ ويفسر من ميلاد المسيح صعودًا نحو البدايات، ومنه هبوطًا نحو نهاية الزمن. أمَّا أحداث أسفار العهد القديم فقد تحوَّلت من تاريخٍ يقص أحداثًا متتابعة ذات معنى وقيمة في حد ذاتها، إلى سلسلةٍ من الرموز والإشارات التي تُبشِّر بالمسيح وكنيسته، وتمَّ تبني القصص التوراتية في حدود صلاحياتها كأنماطٍ ونماذج أولى لدورة حياة المسيح المقبلة.

من هذا المنظور، تغدو قصة التكوين والخطيئة، وسلسلة أنساب آدم، وتاريخ شعب يهوه المختار من إبراهيم والآباء الأولين إلى الخروج من مصر ودخول كنعان إلى سقوط أورشليم والسبي فالعودة وبناء الهيكل، تغدو كلها بمثابة دراما شبحية تستبق ظهور المسيح وتُعلِمُ عنه. إنَّ قصة قايين وهابيل غير المسوغة منطقيًّا، تغدو في التفسير المسيحي استباقًا لما جرى بين اليهود وجماعة المسيح. قايين الذي قتل أخاه هو الشعب اليهودي وهابيل هو المسيح وكنيسته. لقد رفض الرب قربان قايين الذي هو تقدمات اليهود وقرابينهم عبر تاريخهم، وقَبِل قربان هابيل الذي هو نموذجٌ مسبق عن موت المسيح على الصليب. وصعود أخنوخ إلى السماء في الإصحاح الخامس من سفر التكوين هو استباقٌ لصعود المسيح بعد قيامته. وملكي صادق كاهن الله العلي هو استباقٌ ليسوع كاهن السماوات الأعلى. وقبول إبراهيم التضحية بابنه إسحاق هو استباقٌ لتضحية الرب بابنه الوحيد. والأسباط الاثنا عشر من أبناء يعقوب الذين انحدرت منهم كنيسة المسيح هم استباقٌ للحواريين الاثني عشر الذين انحدرت منهم الكنيسة. ونزول يعقوب وأبناؤه إلى مصر هو استباق لفرار العائلة المقدسة من بطش الملك هيرود. وخروج موسى بشعبه من مصر وتحريرهم من العبودية هو استباقٌ لتحرير المسيح للإنسانية من ربقة الشيطان وسلطان الموت. والفترة التي قضاها بنو إسرائيل في الصحراء هي استباقٌ لفترة كفاح المسيحية، بين واقعة التجسد والقدوم الثاني للمسيح الذي يُعلن نهاية الزمن ودخول المؤمنين إلى الجنة الموعودة.

ووفق هذه الطريقة في النظر إلى أحداث العهد القديم باعتبارها نماذج سابقة وشبحية للأحداث الحقيقية التي ستلي، فإنَّ اللاهوت المسيحي نظر إلى أهم عناصر لاهوت العهد القديم، وهي مؤسسة القربان ومؤسسة الشريعة، باعتبارهما وعدًا بالخلاص ولكنَّها لا تُقدِّم في حد ذاتها خلاصًا. فالقربان اليهودي وقوامه نحر الماشية على مذبح الهيكل لا يكفي لعقد الصلة المقطوعة مع الخالق، لأن الإرادة الإنسانية التي حرَّفتها الخطيئة، ليس بمقدورها تحقيق استسلام خالص وفعلي للإرادة الإلهية، ولا بد من انتظار القربان الوحيد الحقيقي القادر على إرجاع العالم إلى رحمة الله، عندما يتجسَّد الكلمة في إنسان ويقوم ذلك الإنسان-الإله بأعظم فعل طاعةٍ ومحبة يمكن تصوُّرها، فيُقدِّم نفسه طواعيةً إلى الموت ويُتمم على هذا النحو عمل الفداء، وذلك بعبوره هو أولًا من عالم المادة والموت إلى عالم الروح والخلود. إنَّ الله لم يسمح بخطيئة آدم ونتائجها إلَّا لأنَّ يسوع المسيح كان قمينًا بالانتصار عليها.

أمَّا عن مؤسسة الشريعة، فإنَّ المسيحية ترى أنَّ ما فرضه يهوه على موسى من شرائع هو أثقل من طاقة الإرادة الإنسانية على الالتزام بها، وأنَّها قد فرضت لكي تدين الخطأة، وذلك بوضع معيار للسلوك لا يُمكن تحقيقه، وبذلك تعمل الشريعة على إكثار الخطيئة لا على قمعها. يقول بولس في رسالته إلى أهل رومية: «وأمَّا الناموس فقد دخل لكي تكثر الخطيَّة، ولكن حيث كثرت الخطيَّة ازدادت النعمة جدًّا، حتى كما ملكت الخطيَّة في الموت، هكذا تملك النعمة بالبر، بالحياة الأبدية بيسوع المسيح» (رومية، ٥: ٢٠–٢١). من هنا فقد أبطل تجسُّد المسيح الشريعة واستبدل سر النعمة بها، التي هي مدد من عند الله يجعل الإرادة المؤمنة بالمسيح قادرة على إتيان ما هو فوق طاقتها البشرية. الإنسان لا يتبرر إلَّا عن طريق الإيمان بالمسيح لا بقوة الأعمال بحسب الشريعة، كما يقول بولس: «وأما الآن فقد ظهر بر الله بدون الناموس مشهودًا له من الناموس والأنبياء، بر الله بالإيمان بيسوع المسيح» (رومية، ٣: ٢١). لهذا فقد أُعتق الذين هم في المسيح من الشريعة: «لأنَّ ناموس روح الحياة في يسوع المسيح قد أعتقني من ناموس الخطيئة والموت» (رومية، ٨: ٢). إنَّ اليهود الذين يحوزون الشريعة ويطلبون بواسطتها البرارة هم خطأةٌ كالوثنيين سواء بسواء (رومية، ٢: ١٧–٢٤). وحتى إذا نظرنا إليها من وجهتها الأخلاقية، فإنَّ الشريعة تُعطي معرفة الخير، ولكن ليس القدرة اللازمة على صنعه (رومية، ٩: ٣٠–٣١). إنَّها بدلًا من أن تُخلِّص البشر من الشر تكاد تغمسهم فيه، وتُعدَّهم للعنةٍ لا يستطيع إنقاذهم منها سوى المسيح بحملها على عاتقه (رسالة بولس إلى أهالي غلاطية، ٣: ١٠–١٤). وإنَّ المسيح الذي حرَّر الإنسان من الخطيئة (رومية، ٦: ١–١٩) يُحرِّره أيضًا من وصايا الشريعة (رومية، ٧: ١–٦). وبذلك يكون قد أنهى النظام المؤقت، لأنَّ المسيح نهاية الشريعة (رومية، ١٠: ٤). وهو الذي يجعل المؤمنين يبلغون البر بالإيمان (رومية، ١٠: ٥–١٣).

ويُلخِّص المقطع البليغ الآتي لبولس، كل موقف المسيحية من مسألة الشريعة والإيمان: «لأني متُّ بالناموس لأحيا لله. مع المسيح صُلبت فأحيا، لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ. فما أحياه الآن في الجسد إنَّما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي. لست أبطل نعمة الله، لأنَّه إن كان بالناموس برٌ فالمسيح إذًا مات بلا سبب» غلاطية ٢: ٢٠–٢١.

إنَّ الفترة الفاصلة بين السقوط وميلاد يسوع، هي إذن فترة انتظار وترقُّب للمُخلِّص الذي سيُحرِّر العالم والإنسان من الظلام ومن اللعنة. وهي بشكل ما فترة سيادة الشيطان على العالم. فهو رئيس هذا العالم بحسب إنجيل يوحنا، ١٢: ٣١، وهو إله هذا الدهر بحسب بولس، ومع زبانيته هم رؤساء وسلاطين وولاة هذا العالم وعلى ظلمة هذا الدهر. وينجم عن هذا الوضع أنَّ كل مولود إنساني من أبناء هذه الفترة الوسيطة السابقة على ظهور المسيح، واقعٌ تحت سلطان أمير الظلام وراح تحت لعنة الخطيئة الأصلية التي جلبها آدم على ذريته. ولكن ظهور المسيح قد قسَّم البشر إلى أبناء هذا العالم، أو هذا الدهر، وأبناء النور (لوقا، ١٦: ٨). لأنَّ الله بيسوع قد: «دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب» (رسالة بطرس الأولى، ٢: ٩). «ولأنَّه نجانا من سلطان الظلمات ونقلنا إلى ملكوت ابنه لكي نُشاطر القديسين ميراثهم في النور» (رسالة بولس إلى كولوسي، ١: ١٢–١٣).

في الفترة الوسيطة من التاريخ، العالم مُدان والإنسان مُدان، لأنَّهما شريكان في سر الشر الذي يعمله الشيطان خلال هذا الدهر: «فقال لهم يسوع: إنَّ وقتي لم يحضر بعد، أمَّا وقتكم ففي كل حينٍ حاضر. لا يقدر العالم أن يبغضكم ولكنه يبغضني أنا لأني أشهد عليه أنَّ أعماله شريرة» (يوحنا، ٧: ٦–٧). «العالم كله قد وُضِع في الشرير (= الشيطان)» (رسالة يوحنا الأولى، ٧: ١٩). ولذلك إنَّه عالم خداع تُثقل عناصره على الإنسان وتستعبده. فالإنسان قبل ظهور المسيح كان مثل الوارث القاصر الذي وضع تحت وصاية وكلاء إلى الوقت المؤجل من أبيه، وكما أنَّ هذا الوارث القاصر هو بمثابة العبد مع كونه صاحب الأرض، كذلك الإنسان المستعبَد من قبل قوى الشر رغم أنَّه وارثٌ هذا العالم (غلاطية، ٤: ١–٣). وهو في كل خطوة مدعوٌ من قبل الشيطان إلى الخطيئة، وهذه الدعوة إلى الخطيئة هي ما يُطلِق عليه العهد الجديد اسم التجربة. فلقد سمح الله للشيطان بالتجربة ولكنَّه ترك للإنسان منفذًا منها: «لم تصبكم تجربة إلَّا بشرية، ولكن الله أمينٌ. الذي لا يدعكم تُجربون فوق ما تستطيعون بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا» (١ كورنثة، ١٠: ١٣). ولهذا يدعو المؤمن ربه عند كل صلاة أن ينجيه من الشيطان ولا يوقعه في التجربة: «لا تدخلنا في تجربة ولكن نجِّنا من الشرير.»

(١-٤) ملكوت الرب أو مرحلة الفصل

ميلاد المخلص وافتتاح الملكوت

«في الشهر السادس، أرسل جبرائيل، الملاك من الله، إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة، إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف، واسم العذراء مريم، فدخل إليها الملاك وقال: سلامٌ لكِ أيتها المنعم عليها، الرب معك. مباركةُ أنتِ في النساء. فلمَّا رأته اضطربت من كلامه وفكَّرت ما عسى أن تكون هذه التحية. فقال لها الملاك: لا تخافي لأنَّكِ قد وجدت نعمة عند الله، وها أنتِ ستحبلين وتلدين ابنًا وتُسمينه يسوع. هذا يكون عظيما وابن العلي يُدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لمُلكه نهاية. قالت مريم للملاك: كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلًا؟ فأجاب: الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك، فلذلك أيضًا القدوس المولود منك يُدعى ابن الله … قالت مريم: هو ذا أنا أَمَة الرب، ليكن لي كقولك. فمضى من عندها الملاك» (لوقا، ١: ٢٦–٣٣).

«أمَّا ولادة يسوع فكانت هكذا: لمَّا كانت مريم مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا، وُجدت حبلى من الروح القدس. فيوسف رجلها إذ كان بارًا ولم يشأ أن يشهرها أراد تخليتها سرًا، ولكن فيما هو متفكِّرٌ في هذه الأمور إذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلا: يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأنَّ الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس، فستلد ابنًا وتدعو اسمه يسوع لأنَّه يُخلِّص شعبه من خطاياهم. وهذا كله لكي يتم ما قيل من النبي القائل: هي ذي العذراء تحبل وتلد ابنًا ويدعون اسمه عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا» (متَّى، ١: ١٨–٢٣).

«وفي تلك الأيام صدر أمر من أغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة، فذهب الجميع ليكتتبوا كل واحد إلى مدينته. فصعد يوسف أيضًا من الجليل من مدينة الناصرة إلى (مقاطعة) اليهودية، إلى مدينة داود التي تُدعى بيت لحم، لكونه من بيت داود وعشيرته، ليكتتب مع مريم امرأته … وبينما هما هناك تمَّت أيامها لتلد، فولدت ابنها البكر وقمطته وأضجعته في المذود إذ لم يكن لهما موضع في المنزل (خان المسافرين)» (لوقا، ٢: ١–٧).

وهكذا عند منتصف الليل، وعند أول الانقلاب الشتوي، حيث تصل الشمس أدنى مدى لها في الانخفاض مستعدة لصعود ذروة السمت مرة أخرى، وقع الحدث الذي هو بؤرة الزمن. لقد ولدت العذراء ابنًا فالتقت عنده السرمدية بالزمن، لأنَّه إلهٌ حقيقي وإنسانٌ حقيقي. وهنا تتابع الأدبيات غير الرسمية وصف الحدث بالطريقة الملحمية المعتادة في الأدبيات الدينية الأخرى. فعند ولادة يسوع هدأت الطبيعة وكأنَّما سكن نبضها لوهلة، وسرى في أرجائها وحي ينبئ كل عناصرها بأنَّ الكلمة قد تجسَّد في الزمن وفي التاريخ. لقد أوحي إلى كل فصائل الخلق من الأحجار والصخور عند أسفل سُلَّم الموجودات، وإلى الملائكة في أعلاه، وتضعضعت أساسات معبد روما الكبير، وذلك وفقًا لنبوءة عرَّافة دلفي بأنَّ المعبد سيبقى قائمًا حتى تلد العذراء ابنًا. وأوحي إلى المياه وينابيع الأنهار التي فاضت زيتًا بدل الماء، وإلى النباتات حتى أنَّ الكرمة أورقت في الشتاء وحملت عناقيدها. وأوحي إلى الحيوانات والطيور فصاح الديك عند منتصف الليل. وأوحي إلى الملائكة فهبطت من عليائها وأحاطت بمكان الميلاد حتى حوَّل ألقها الليل إلى نهار. وما أن عَبَرت فترة الصمت الشامل في الطبيعة حتى اندفع الملائكة في السماوات وعلى الأرض ينشدون: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة.٤

فيما عدا الإشارات القليلة التي أوردها إنجيل لوقا عن طفولة يسوع، فإنَّ الأناجيل الرسمية تصمت صمتًا تامًّا عن نشأة يسوع الأولى ويفاعته، وتفتتح قصتها بالمشهد الأول الذي نرى فيه يسوع وهو رجلٌ مكتملٌ في الثلاثين يأتي إلى يوحنا المعمدان، نبي ذلك الوقت، ليتعمَّد على يديه بماء الأردن، وعند خروجه من الماء يهبط عليه الروح القدس معلنًا عن هوية يسوع ومفتتحًا رسالته. نقرأ في إنجيل لوقا: «وإذ كان الشعب ينتظر، والجميع يُفكِّرون في قلوبهم عن يوحنا لعله المسيح، أجاب يوحنا الجميع قائلًا: أنا أُعمِّدكم بماء ولكن يأتي من هو أقوى، الذي لست أهلًا لأن أحُل سيور حذائه، هو سوف يعمدكم بالروح القدس، ونار» (لوقا، ٣: ١٥–١٦). وبينما يسوع خارجٌ من الماء: «وإذا السماوات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلًا مثل حمامة وآتيًا عليه، وصوت من السماوات قائلًا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت» (متَّى، ٣: ١٦–١٧).

لقد افتتح هبوط الروح القدس على يسوع المرحلة الثالثة من مراحل التاريخ، وهي مرحلة الفصل بين الخير والشر المتمازجين في المرحلة السابقة، وقد شبَّه يوحنا المعمدان عملية الفصل هذه بعملية تنقية بيدر القمح من التبن الذي يخالطه. فالمسيح المقبل هو: «الذي رفشه في يده، وسيُنقَّي بيدره وبجمع القمح إلى مخزنه، وأمَّا التبن فيحرقه بنار لا تُطفأ» (لوقا، ٣: ١٧). ويشبِّه يسوع مهمته بعملية تنقية القمح من الزوان الذي زرعه الشيطان في وسط الحقل لإفساد الزرع: «يشبه ملكوت السماوات إنسانًا زرع زرعًا جيدا في حقل. وفيما الناس نيام جاء عدوه وزرع زوانًا في وسط الحنطة ومضى. فلما طلع النبات وصنع ثمرًا، حينئذٍ ظهر الزوان أيضًا فجاء عبيد رب البيت وقالوا له: أتريد أن نذهب ونجمع الزوان؟ قال: لا، لئلا تقتلعوا الحنطة مع الزوان وأنتم تجمعونه، دعوهما ينميان معًا إلى وقت الحصاد، وفي وقت الحصاد أقول للحصادين اجمعوا أولًا الزوان واحزموه حُزمًا ليحرق، وأمَّا الحنطة فاجمعوها إلى مخزني» (متَّى، ١٣: ٢٤–٣٠). كما يُشبِّه يسوع مهمته أيضًا بعملية تمييز الجداء السود عن الخراف البيض: «ومتى جاء ابن الإنسان … يجتمع أمامه الشعوب، فيُميِّز بعضهم عن بعض كما يُميِّز الراعي الخراف من الجداء، فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن يساره، ثم يقول للذين عن يمينه تعالوا يا مباركي أبي لترثوا الملكوت المُعدَّ لكم منذ تأسيس العالم» (متَّى، ٢٥: ٣١–٣٤).

ولكن الشيطان لم يكن ليسمح لعملية الفصل أن تنطلق بهذه السهولة، فما إن طلع يسوع من نهر الأردن حتى أقبل عليه وكشف له عن هويته كأميرٍ لهذا العالم، ثم عرض عليه أن يدفع إلى يديه ما أعطي من سلطان على العالم، لأنَّه يستطيع التصرف به ووهبه لمن يشاء: «ثم أصعد يسوع إلى البرية من الروح ليُجرب من إبليس. بعد ما صام أربعين نهارًا وأربعين ليلة جاع أخيرًا، فتقدم إليه المُجرِّب وقال له: إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزًا. أجاب وقال: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكلمة تخرج من فم الله. ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل وقال له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل، لأنَّه مكتوب، أنَّه يوصي ملائكته بك … قال له يسوع: مكتوب أيضًا أنْ لا تجرب الرب إلهك» … ثم أصعده إبليس إلى جبلٍ عالٍ وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان، وقال له إبليس لك أعطي كل هذا السلطان ومجدهُنَّ (أي مجد الممالك) فإن سجدت أمامي يكون لك الجميع. فأجابه يسوع وقال: اذهب يا شيطان، لأنَّه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد … ولمَّا أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين» متَّى: ٤، ولوقا: ٤.

ابتدأ يسوع مهمته بأن أعلن عن نفسه باعتباره مسيح الرب، ولكنَّه كان حذرًا على الدوام من أن يُفهم من ذلك أنَّه المسيح السياسي الذي كان اليهود ينتظرونه ليُعيد مجد مملكة داود الضائع. فبعد أن رجع من البرية حيث صام واعتكف أربعين يومًا: «جاء إلى الناصرة حيث كان قد تربَّى، ودخل المجمع حسب عادته السبت وقام ليقرأ. فدُفع إليه سفر إشعيا النبي، ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوبا فيه: «روح الرب عليَّ لأنَّه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي منكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق والعُمي بالبصر، وأُرسل المنسحقين في الحرية، وأكرز بسنة الرب المقبلة.٥ ثم طوى السفر وسلَّمه إلى الخادم وجلس، وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة. فابتدأ يقول لهم إنَّه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم» (لوقا، ٤: ١٦–٢١).

بعد هذا، اتخذ يسوع من قرية كفر ناحوم مركزًا لبثِّ دعوته ونشر رسالته، فكان يُعلِّم في مناطق الجليل ويصنع المعجزات، ويظهر سلطانه على عالم الأرواح فيخرج الشياطين مع أجسام المجانين، ويشفي العاهات والأمراض المستعصية، كما وأظهر سلطانه على الحياة والموت وذلك بإحيائه للموتى. وعندما كان يوحنا المعمدان في السجن بأمرٍ من الملك هيرود أغريبا، المتصرف بمنطقة الجليل، سمع بأعمال يسوع فأرسل اثنين من مريديه لسؤال يسوع أهو حقًا المسيح: «أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟ فأجاب يسوع وقال لهما: اذهبا وأخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران. العُمي يبصرون والعُرج يمشون والبُرص يطهرون والصم يسمعون والموتى يقومون والمساكين يُبشَّرون» (متَّى، ١١: ٢–٥). ثم إنَّه سأل تلامذته الذين تبعوه ومشوا معه في جولاته: «ماذا يقول الناس عني؟» وذلك لكي يكشف لهم هويته ويطلعهم على حقيقة من هو. «فقالوا: قوم (يقولون) يوحنا المعمدان، وآخرون إيليا (النبي) وآخرون إرميا (النبي) أو واحد من الأنبياء. قال لهم: وأنتم من تقولون إني أنا؟ فأجاب سمعان بطرس وقال: أنت هو المسيح ابن الله الحي. فأجاب يسوع وقال له طوبى لك يا سمعان. إن دمًا ولحمًا لم يُعلن لك، لكن أبي الذي في السماوات» (متَّى، ١٦: ١٣–١٦). وفي أكثر من مناسبة ألمح يسوع إلى أنَّه المسيح: «انظروا، لا يضلكم أحد؛ فإنَّ كثيرين سيأتون باسمي قائلين أنا هو المسيح، ويضلون كثيرين» (متَّى، ٢٤: ٤). وفي مشهد محاكمته يسأله رئيس الكهنة: «أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله؟ فقال يسوع: أنت قلت» (متَّى، ٢٦: ٦٣–٦٤). وفي حوار يسوع مع المرأة السامرية عند بئر الماء: «قالت له المرأة: أنا أعلم أن مسيَّا الذي يُقال له المسيح يأتي. فمتى جاء ذاك يُخبرنا بكل شيء. فقال لها يسوع أنا الذي أكلمك هو» (يوحنا، ٤: ٢٥–٢٦).

ويرتبط بلقب «المسيح» اللقب الآخر «ابن الله»، والذي يرد في اتصال معه أو استقلال. فعندما مشى يسوع على الماء ليلحق بتلاميذه في السفينة، سجدوا له قائلين: في الحقيقة أنت ابن الله (متَّى، ١٤: ٣٢–٣٣). وفي مشهد محاكمة يسوع، وقف مرقس «قام رئيس الكهنة في الوسط وسأل يسوع … وقال له: أأنت المسيح ابن المبارك؟ قال يسوع: «أنا هو» (مرقس، ١٤: ٦٣). وكان يسوع يُشير إلى الله بقوله أبي أو أبي الذي أرسلني. فعندما شفى مريضًا في يوم السبت، طلب اليهود قتله لأنَّه مارس عملا في اليوم المقدس. فقال لهم يسوع: «أبي يعمل الآن، وأنا أعمل، فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه، لأنَّه لم ينقض السبت فقط بل قال إنَّ الله أبوه معادلًا نفسه بالله» (يوحنا، ٥: ١٧–١٨). وعندما شفى رجلًا أعمى منذ ولادته بأن وضع طينًا على عينيه قال له: «أتؤمن بابن الله؟ أجاب الرجل وقال: من هو يا سيد حتى أؤمن به؟ قال له يسوع: قد رأيته، والذي يتكلم معك هو هو. فقال: أؤمن يا سيد، وسجد له» (يوحنا، ٩: ٣٥–٣٨).

وتتعدَّد في إنجيل يوحنا الأقوال التي يُطابق فيها يسوع بينه وبين الآب: «أنا والآب واحد» (١٠: ٣٠)، و«إن الآب فيَّ وأنا فيه» (١٠: ٣٨)، و«ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي، لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضًا، ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه. فقال له فيليبس: يا سيد، أرنا الآب وكفانا. قال يسوع: أنا معكم زمانًا هذه مدته ولم تعرفني يا فيليبس؟ الذي رآني فقد رأى الآب، كيف تقول أنت أرنا الآب؟ ألستَ تؤمن إني في الآب والآب فيَّ» (١٤: ١–١٠). «أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي، فرأى وفرح. قال له اليهود: ليس لك خمسون سنة بعد، أرأيت إبراهيم؟ قال لهم يسوع: الحق أقول لكم، قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن» (٨: ٥٤–٥٨).

والمسيح ابن الله يُدعى أيضًا ابن الإنسان. وتعبير «ابن الإنسان»، كما صادفناه في سفر دانيال وفي كتابات ما بين العهدين، يُشير إلى حقيقة قديمة ومثال سماوي يتجلَّى في العالم على هيئة إنسان. وفي العهد الجديد يُشير التعبير إلى الأقنوم الثاني في الثالوث الأقدس متجلِّ في العالم على هيئة إنسان.٦ نقرأ في إنجيل متَّى: «فكما يُجمع الزوان ويُحرق بالنار، هكذا يكون انقضاء العالم. يرسل ابن الإنسان ملائكته فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم ويطرحونهم في أتون من النار. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان» (متَّى، ١٣: ٤١–٤٢). وعندما جاءوا إليه بمشلولٍ ليشفيه قال له: «يا بني مغفورةٌ لك خطاياك. وكان قوم من الكتبة هناك جالسين يُفكرون في قلوبهم لماذا هذا هكذا يتكلم بتجديف؟ من يقدر أن يغفر الخطايا إلَّا الله وحده؟ فقال لهم: لماذا تُفكرون بهذا في قلوبكم؟ أيهما أيسر، أن يُقال للمفلوج مغفورةٌ لك خطاياك أم يُقال له قم احمل سريرك وامش؟ ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطانًا على الأرض أن يغفر الخطايا» (متَّى، ٩: ١–٨). وعندما تقدَّم إليه واحد من الكَتَبة: «وقال له: يا معلم أتبعك أينما تمضي. قال له يسوع: للثعالب أوجرةٌ ولطيور السماء أوكار، وأمَّا ابن الإنسان ليس له أين يسند رأسه» (متَّى، ٨: ١٩–٢٠). ويسوع يُفضِّل لقب ابن الإنسان على لقب المسيح، كما نقرأ عند مرقس: «فقال لتلاميذه وأنتم من تقولون إني أنا؟ فأجاب بطرس وقال له: أنت المسيح، فانتهرهم كي لا يقولوا لأحد عنه، وابتدأ يُعلِّمهم أنَّ ابن الإنسان ينبغي له أن يتألَّم كثيرًا ويُرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة ويُقتل، وبعد ثلاثة أيام يقوم» (مرقس، ٨: ٢٩–٣١).

وترتبط بلقب ابن الإنسان صورة مُخلِّص العالم الذي يفدي الجنس البشري بموته، ويسفك دمه لمغفرة الخطايا، ثم يقوم من الموت ليصعد إلى المكان الذي أتى منه، في انتظار قدومه في نهاية الأزمنة: «فإن رأيتم ابن الإنسان صاعدًا إلى حيث كان أولًا» (يوحنا، ٦: ٦٢). «خرجتُ من عند الآب وقد أتيت إلى العالم. وأيضًا أترك العالم وأذهب إلى الآب» (يوحنا ٦١: ٢٨). «فإنَّ ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذٍ يُجازي كل واحد حسب عمله. الحق أقول لكم، إنَّ من القيام هنا قومًا لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتيًا في ملكوته» (متَّى، ١٦: ٣٧–٣٨). «وأيضًا أقول لكم، من الآن تُبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوة وآتيًا على سحاب السماء» (متَّى، ٢٦: ٦٤). «وحينئذٍ يُبصرون ابن الإنسان آتيًا في سحابة بقوةٍ ومجدٍ كثير» (لوقا، ٢١: ٢٥–٢٧). «وليس أحد يصعد إلى السماء إلَّا الذي نزل من السماء: ابن الإنسان الذي هو في السماء» (يوحنا، ٣: ١٣).

التعاليم

بعد أن تعمَّد يسوع على يدي يوحنا المعمدان ونزل عليه الروح القدس ثم خرج من تجربة الشيطان منتصرًا، انطلق إلى الجليل يُعلِّم ويُبشِّر. وهذه أولى كلماته وفقًا لمرقس: «وبعد أن أُسلم يوحنا، جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله ويقول: قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» (مرقس، ١: ١٤–١٥). وبذلك يُعلن يسوع عن جوهر رسالته التي هي رسالة أخروية، ترتكز على فكرة نهاية الزمن والتاريخ، وحلول اليوم الذي فيه ينتزع الله العالم من الشيطان، الذي كان حتى كرازة يسوع سيدًا على الأرض. فبعد أن كان سلطان العالم مدفوعًا إلى إبليس الذي قال ليسوع: «لك أعطي هذا السلطان كله لأنَّه قد دُفع إليَّ وأنا أُعطيه لمن أريد»، فقد آل السلطان الآن إلى يسوع: «دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض» (متَّى، ٢٨: ١٨). «لأجل هذا أُظهر ابن الله، لكي ينقض أعمال إبليس» (رسالة يوحنا الأولى، ٣: ٨). «الآب يحب الابن وقد دفع كل شيء في يده» (يوحنا، ٣: ٣٥). «وإذا كنت بروح الله أطرد الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله» (متَّى، ١٢: ٢٨). فملكوت الله، أو ملكوت السماوات، هو الحقبة الأخيرة من تاريخ العالم، والتي ستشهد تجلي مجد الله هنا والآن، بعد أن كان محجوبًا خلال فترة الظلام التي شهدت سيادة الشيطان. وتعبير «ملكوت الله في داخلكم» الوارد في إنجيل لوقا ١٧: ١٢، يعني ملكوت الله هو بينكم الآن: «ولما سأله الفريسيون متى يأتي ملكوت الله؟ أجابهم لا يأتي ملكوت الله بمراقبةٍ، ولا يقولون هوذا هنا أو هوذا هناك، لأنَّها ملكوت الله في داخلكم» (لوقا، ١٧: ٢١).

ولكن يسوع قدَّم منذ البدء مفهومه الخاص لملكوت الله، وميَّزه بحدة عن المفهوم السائد لدى يهود عصره، الذين كانوا ينتظرون مسيحًا سياسيًّا من سلالة داود، يُعيد مجد إسرائيل ويُخضع جميع الأمم تحت قدميها، ثم يُسلِّم الحكم إلى يهوه. فملكوت يسوع ملكوت روحاني، وكان متحفظًا تجاه لقب المسيح وفضَّل عليه دومًا لقب ابن الإنسان، لِمَا للقب المسيح من تداعيات سياسية، كما أنَّه تحفَّظ تجاه لقب الملك ولم يقبله إلا باعتبار ما سيأتي من صعوده إلى السماء وجلوسه عن يمين الآب، لأنَّ مملكته ليست مملكة أرضية بل مملكة روحانية. وعندما سأله بيلاطس في المحكمة عمَّا إذا كان ملك اليهود، لم يُنْكِر اللقب تمامًا وإنما أعطاه بُعدًا روحانيًّا: «ليست مملكتي من هذا العالم. ولو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكيلا أُسلَّم إلى اليهود، ولكن الآن ليست مملكتي هنا. قال له بيلاطس: أفأنت إذًا ملك. أجاب يسوع: أنت تقول إني ملك. لهذا وُلِدتُ أنا، ولهذا أتيت إلى العالم لأشهد للحق» يوحنا ١٨: ٣٧–٣٦. لقد كان يسوع في إجابته على سؤال بيلاطس واضحًا كل الوضوح ودقيقًا في تحديده لمفهومه عن المُلك، كما كان منسجمًا مع مواقفه السابقة. فعندما تبعته الجموع بعد معجزة تكثير السمك والخبز ونادوا به ملكًا هرب وتوارى عن الأنظار: «وأمَّا يسوع فإذ علم أنَّهم مزمعون أن يأتوا ويخطفوه ليجعلوه ملكًا انصرف أيضًا إلى الجبل وحده» (يوحنا، ٦: ١٥).

إنَّ مفهوم يسوع عن ملكوت الله هو عصر تتم فيه معرفة الناس الآب، ويمد إليهم يده لتخليصهم من الخطيئة الأولى ومن الموت ومن سلطان أمير الظلام. فالملكوت رابطةٌ روحية تجمع المؤمنين إلى بعضهم وتجمعهم إلى خالقهم، بعد عصور الظلام التي باعدت بينهما. وإذا كان الملكوت قد حلَّ بظهور المُخلِّص، وموته الطوعي فداءً للبشرية الخاطئة، فإنَّ هذا الملكوت سوف يستمر ردحًا من الزمن كافٍ لتنقية عناصر الخير من عناصر الشر، وحرمان الشيطان مِمَّا تبقَّى له من سلطة على العالم. عندما سيعود ابن الإنسان على غمام المجد في اليوم الأخير ليختتم الزمن ويفتتح الأبدية.

وعلى عكس ملكوت الرب اليهودي، فإنَّ ملكوت يسوع يشمل جميع الأمم والشعوب. ولقد أكَّد في أكثر من قول له عدم أهلية اليهود لدخول هذا الملكوت، رغم اعتقادهم القديم بأنَّهم أصحابه الشرعيين: «وأقول لكم إنَّ كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السماوات، وأمَّا بنو الملكوت «أي اليهود» فيُطرحون إلى الظلمة الخارجية» (متَّى، ٨: ١٢). وأيضًا: «لذلك أقول لكم إنَّ ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لأمة تعمل أثماره» (متَّى، ٢١: ٤٣). وهو يقول لليهود صراحة بأنَّهم لم يعرفوا الله قط، وإنَّ أباهم الحقيقي هو إبليس: «لستم تعرفونني أنا ولا أبي. لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضًا … أنتم من أسفل، أمَّا أنا فلست من هذا العالم. فقلت إنَّكم تموتون في خطاياكم … أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا … الذي من الله يسمع كلام الله، لذلك أنتم لستم من الله … أبي هو الذي يُمجِّدني الذي تقولون إنَّه إلهكم ولستم تعرفونه، وأمَّا أنا فأعرفه» (يوحنا، ٨: ١٨–٢٤، و٤٤–٤٧، و٥٤–٥٥).

ولكن إذا كان ملكوت الله حاضرًا هنا والآن، فكيف للإنسان أن ينتمي إليه ويخلص من ربقة الشيطان؟ إنَّ ما تبقَّى من تعاليم يسوع تدور حول الإجابة عن هذا السؤال. وهي تدور حول أربعة عناصر هي: (١) الأخلاق. (٢) الإيمان. (٣) المحبة. (٤) الشريعة الجديدة.

بعد أن ابتدأ يسوع يكرز ببشارة الملكوت، كان أول من انضمَّ إليه أربعة هم: سمعان وأندراوس ويعقوب ويوحنا. وكان يطوف كل الجليل يُعلِّم في مجامعهم ويشفي كل مرض، فتبعته جموع كثيرة، ولمَّا رأى الجموع صعد إلى الجبل وجلس، وهناك ألقى أولى مواعظه الأخلاقية، وهي المعروفة بموعظة الجبل، وفيها يُحدِّد الخطوط العامة للأخلاقية المسيحية. الموعظة تشغل في إنجيل متَّى كامل الإصحاحات الخامس والسادس والسابع. وهذه مقتطفات منها:

«طوبى للمساكين بالروح لأنَّ لهم ملكوت السماوات، طوبى للحزانى لأنَّهم يتعزون، طوبى للودعاء لأنَّهم يرثون الأرض، طوبى للرحماء لأنَّهم يُرحمون، طوبى لأنقياء القلب لأنَّهم يعاينون الله … قد سمعتم أنَّه قيل للقدماء لا تقتل، ومن قتل فإنَّه يكون مستوجبًا الحكم. وأمَّا أنا فأقول لكم إنَّ من يغضب على أخيه باطلًا يكون مستوجبًا الحكم … فإذا قدَّمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أنَّ لأخيك عليك شيئًا، فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولًا اصطلح مع أخيك. قد سمعتم أنَّه قيل للقدماء لا تزن. وأمَّا أنا فأقول لكم إنَّ كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زني بها في قلبه. سمعتم أنَّه قيل عينٌ بعين وسنٌ بسن. وأمَّا أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضًا، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضًا. ومن سخَّرك ميلًا واحدًا فامش معه ميلين اثنين، ومن سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا تردُّه. سمعتم أنَّه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك. وأمَّا أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم … احترزوا أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروا إليكم … وأمَّا أنت فمتى صنعت صدقة فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك لكي تكون صدقتك في الخفاء … لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض، بل اكنزوا لكم كنوزًا في السماء … لا تُدينوا كي لا تُدانوا، لأنَّكم بالدينونة التي بها تُدينون تُدانون، وبالكيل الذي تكيلون به يُكال لكم … اسألوا تُعطُوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتح لكم … كل ما تُريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هذا بهم … ادخلوا من الباب الضيق لأنَّه واسعٌ الباب ورحبٌ الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك. ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة، وقليل هم الذين يجدونه.»

ولكن الأخلاق وحدها لا تكفي، بل لا بد من الإيمان بيسوع مسيحًا ومُخلِّصًا: «الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله» (يوحنا، ٣: ٣٦). «الذي يؤمن به لا يُدان، والذي لا يؤمن قد دين لأنَّه لم يؤمن بابن الله الوحيد» (يوحنا، ٣: ١٨). «من آمن بي ولو مات فسيحيا، وكل من كان حيًّا وآمن بي لن يموت إلى الأبد» (يوحنا، ١١: ٢٥–٢٦). «فقالوا له: ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله؟ أجاب وقال لهم: هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي أرسله» (يوحنا، ٦: ٢٨–٢٩). «الحق أقول لكم، إنَّ من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياةٌ أبدية» (يوحنا، ٦: ٤٧). «الحق أقول لكم لو كان لكم إيمانٌ مثل حبة خردل، لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هنالك فينتقل» (متَّی ١٧: ٢٠).

ومع الأخلاق والإيمان هناك المحبة: «وصيةً جديدة أنا أعطيكم. أن تحبوا بعضكم بعضًا. كما أحببتكم أنا تحبون أيضًا بعضكم بعضًا» (يوحنا ١٣: ٣٤). «أيُّها الأحباء، إنَّ كان الله قد أحبنا، هكذا ينبغي لنا أيضًا أن نُحب بعضنا بعضًا … الله محبة. ومن يثبت في المحبة يثبت في الله، والله فيه … إن قال أحدكم إنِّي أحب الله وأبْغَضَ أخاه فهو كاذب، لأنَّ من لا يُحب أخاه الذي أبصره كيف يقدر أن الله الذي لم يبصره» (رسالة يوحنا الأولى، ٤: ١١–٢٠). وعندما سأل يسوع واحدٌ ناموسي ليُجرِّبه قائلًا: «يا مُعلم أيَّة وصية هي العظمى في الناموس؟ قال له يسوع: تحب الله إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. والثانية مثلها، تحب قريبك كحبك لنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء» (متَّى، ٢٢: ٣٥–٤٠).

أمَّا عن شريعة يسوع الجديدة، فإنَّ يسوع، وهو يعلن إنجيل الملكوت، يفتتح نظامًا دينيًّا جديدًا كل الجدة. فالشريعة والأنبياء أمر ينتهي مع يوحنا المعمدان (لوقا، ١٦: ١٦). ورغم أنَّ يسوع قد قال: «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس والأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل»، وهو قول ينبغي عدم أخذه بحرفيته، فقد ألغى يسوع شريعة العهد القديم بجرة قلم عندما قال: «السبت إنَّما جُعل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت» (مرقس، ٢: ٢٧)، وذلك في رده على الفريسيين الذين رأوا تلاميذه يقطفون السنابل وهم سائرون بين الزروع لسد جوعهم. وعندما احتجَّ الفريسيون على يسوع لأنَّ تلاميذه لا يصومون، قال لهم إنَّ خمر الإنجيل، وهي شريعة يسوع، لا يمكن صبَّها في أوعية قديمة هي شريعة العهد القديم: «ليس أحد يخيط رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق، وإلَّا فالملء الجديد يأخذ من العتيق فيصير الخرق أردأ، وليس أحد يجعل خمرًا جديدة في زُقاق عتيقة لئلا تشق الخمر الجديدة الزقاق، فالخمر تنصب والزقاق تتلف» (مرقس، ٢: ٢١–٢٢). وعندما دخل يسوع المجمع «وكان هناك رجل يده يابسة، فصاروا يراقبونه هل يشفيه في السبت. قال للرجل الذي له اليد اليابسة: قم في الوسط، ثم قال لهم: هل يحل في السبت فعل الخير أو فعل الشر؟ تخليص نفس أو قتل؟ فسكتوا، فنظر حوله إليهم بغضب حزينًا على غلاظة قلوبهم، وقال للرجل: مد يدك، فمدها، فعادت صحيحة كالأخرى» (مرقس، ٣: ١–٥). وعندما رأى اليهود أنَّ بعضًا من تلاميذه يأكلون بأيد غير مغسولة، لاموه على عدم تقيدهم بالشرعية. فقال لهم: «ليس شيء من خارج الإنسان إذا دخل فيه يقدر أن ينجسه، لكن الأشياء التي تخرج منه هي التي تُنجِّس الإنسان … لأنَّه من الداخل، من قلوب الناس، تخرج الأفكار الشريرة» (مرقس، ٧: ١٤–٢١)، وفي قوله المشهور: «أريد رحمةٌ لا ذبيحة» (متَّى، ٩: ١٣) يقوِّض مؤسسة القربان اليهودي في شريعة موسى، ويُعلن سدى الطقوس التوراتية مؤسِّسًا لطقوس تقوم على القلب لا على الدم. لقد تجاوز موسى ولم يعد للهيكل اليهودي ما يسوِّغ بقاءه. وهذا ما يُعلن عنه صراحة في خطابه للمرأة السامرية التي ظنَّت أنَّه نبي يهودي: «قالت له المرأة: يا سيد أرى أنَّك نبي. آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون إنَّ في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يُسجد فيه. قال لها: يا امرأة صدقيني إنَّه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب، أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، وأمَّا نحن فنسجد لِما نعلم.» ثمَّ يُتابع فيقول إنَّ الخلاص لا يتم قبل التخلص من اليهود: «… لأنَّ الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتي ساعة وهي الآن، حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق» (يوحنا، ٤: ١٩–٢٣).

لقد كان اليهود يحملون نير الشريعة، أمَّا المؤمنون الجدد فيحملون نير المسيح، وهو نيرٌ هين وخفيف. قال يسوع: «تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم وتعلَّموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم، لأنَّ نيري هين وحملي خفيف» (متَّى، ١١: ٢٨–٣٠). ففيما عدا الصلاة اليومية البسيطة التي تؤدَّى كل يومٍ لمرةٍ واحدة بكلماتٍ قليلة، لم يؤسِّس يسوع إلَّا لطقسين اثنين هما العماد والإفخارتسيا (= القربان المقدس).

لم يكن طقس العماد، أو المعمودية، بالطقس الجديد. فقد كان يوحنا المعمدان يُعمِّد بالماء من أجل التوبة وغفران الخطايا، وكان يسوع من بين من تقدَّموا للاعتماد على يديه، جاعلًا نفسه بين الخطأة كأي إنسان آخر، لكي يحمل خطيئة العالم على كاهله ويموت فيما بعد لأجل خلاص هذا العالم. ولكن المعمودية المسيحية التي فرضها يسوع تتخذ معنًى إضافيًّا، فهي علامة الميلاد الجديد وبوابة الدخول إلى كنيسة المسيح. إنَّها بالنسبة للعهد الجديد بمثابة الختان في العهد القديم، كلاهما علامة على العهد. كما أنَّها شرط الخلاص، مثلها مثل الإخلاص والمحبة والإيمان: «الحق أقول لكم، إن كان أحدٌ لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله … وبعد هذا جاء يسوع وتلاميذه إلى أرض «مقاطعة» اليهودية، ومكث معهم هناك، وكان يُعمَّد» يوحنا ٣.

أما طقس الإفخارتسيا فقد أسَّس له يسوع في عشائه الأخير مع تلاميذه. والكلمة يونانية، وتعني من حيث المبدأ العرفان بالجميل وإبداء الشكر. وفي العهد الجديد استخدمها يسوع عند افتتاحه تناول الطعام، فهي نوع من صلاة الشكر لله على نعمه: «وأخذ يسوع الأرغفة وشكر ووزع على التلاميذ» (يوحنا، ٦: ١١)، ثم أخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين ورفع نظره إلى السماء وبارك وكسر وأعطى الأرغفة للتلاميذ» (متَّى، ١٤: ١٩). وفي مشهد العشاء الأخير نقرأ في إنجيل متَّى: «ولمَّا كان المساء اتكأ مع الاثني عشر … وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبر وبارك وكسر وأعطى التلاميذ وقال: خذوا كلوا، هذا هو جسدي. وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلًا اشربوا منَّها كلكم، لأنَّ هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا» (متَّى، ٢٦: ٢٦–٢٨). ونقرأ عند يوحنا: «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير … من يأكل جسدي ويشرب دمي يَثبتُ فيَّ وأنا فيه» (يوحنا، ٦: ٥٤–٥٦). بهذا الطقس يتم اتحاد المؤمنين بالمسيح. ومن خلال آلامه وموته وقيامته يَعْبرون معه من عالم الخطيئة عالم الشيطان إلى عالم الحرية والسعادة، عالم الرحمن، من عبودية الموت إلى رحاب الأبدية.

مراحل الملكوت واليوم الأخير

اكتملت سلسلة الأنبياء عند يوحنا المعمدان، كما اكتملت الأزمنة وافتتح عصر الملكوت. فالملكوت قائمٌ الآن، كما علَّم يسوع في أكثر من قول له: «أما تقولون إنَّه يكون أربعة أشهر ثم يأتي الحصاد؟ ها أنا أقول لكم ارفعوا وانظروا الحقول إنَّها قد ابيضَّت للحصاد، والحاصد يأخذ أجره ويجمع ثمارًا للحياة الأبدية» (يوحنا، ٤: ٣٥–٣٦). ولكن لا يزال هناك وقت يفصل افتتاح الملكوت عن تحققه كاملًا، وهو الوقت الذي يناضل خلاله كل من تحدوا بالمسيح قوى الشيطان، عاملين على تطوير الملكوت والوصول به إلى غايته الأخيرة: «يشبه ملكوت السموات حبة خردلٍ أخذها إنسان وزرعها في حقله، وهي أصغر جميع البذور ولكن متى نمت فهي أكبر البقول، وتصير شجرةً حتى إنَّ طيور السماء تأتي وتتآوى في أغصانها. وقال لهم مثلًا آخر: يشبه ملكوت السموات خميرةً أخذتها امرأة وخبَّأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر الجميع» متَّی ١٣: ٣١–٣٣.

هذه الفترة الوسيطة من تنامي الملكوت، تمتد فترة غير محددة عقب موت وقيامة يسوع، وتنتهي بالمجيء الثاني في اليوم الأخير. لقد ظهر الابن في مجيئه الأول على هيئة إنسان هو يسوع الناصري ابن مريم، وأمَّا في مجيئه الثاني فسيأتي إلهًا ديَّانًا يُنهي العالم القديم ويُقيم على أنقاضه عالمًا جديدًا يرثه المؤمنون: «فإنَّ ابن الإنسان يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذٍ يُجازي كل واحد حسب عمله» (متَّى، ١٦: ٢٧). ولقد ألمح يسوع أكثر من مرة إلى قرب المجيء الثاني: «الحق أقول لكم إنَّ من القائمين هنا قومًا لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتيًا في ملكوته» (متَّى، ١٦: ٢٨). إلَّا أنَّه ترك في أقوال أخرى موعد هذا المجيء مفتوحًا: «وأمَّا ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بها أحد ولا ملائكة السموات، إلَّا أبي وحده»، ولهذا فهو يدعو المؤمنين إلى السهر والترقب والتزود لذلك اليوم: «اسهروا إذًا، لأنَّكم لا تعلمون في أيَّة ساعة يأتي ربكم. واعلموا أنَّه لو عرف رب البيت في أي هزيع يأتي السارق لسهر ولم يدع بيته يُنقب. لذلك كونوا أنتم أيضًا مستعدين، لأنَّه في ساعة لا تظنون، يأتي ابن الإنسان» (متَّى، ٢٤: ٣٦–٤٤).

ومع ذلك، فقد أعطى يسوع بعضًا من علامات الساعة وإشاراتها: «تقدم إليه تلاميذه قائلين: قُل لنا متى يكون هذا، وما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر؟ فأجاب يسوع … سوف تسمعون بحروب وأخبار حروب. انظروا ولا ترتاعوا، لأنَّه لا بد أن تكون هذه كلها، ولكن ليس المنتهى بعد، لأنَّه تقوم أمةٌ على أمة ومملكةٌ على مملكة، وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن، ولكن على هذه كلها مبتدأ الأوجاع … الذي يصير إلى المنتهى فهذا يخلص. ويُكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة، شهادة لجميع الأمم، ثم يأتي المنتهى … فحينئذٍ ليهرب الذين في اليهودية إلى الجبال، والذي على السطح فلا ينزل ليأخذ من بيته شيئًا، والذي في الحقل فلا يرجع إلى ورائه ليأخذ ثيابه. وويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام … بعد ضيق تلك الأيام تُظلم الشمس، والقمر لا يُعطي ضوءه، والنجوم تسقط من السماء، وقوات السماء تتزعزع، وحينئذٍ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء، وحينئذٍ تنوح كل قبائل الأرض ويبصرون ابن الإنسان آتيًا على سحاب السماء بقوةٍ ومجدٍ كثير، فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت فيجمعون مختاريه» (متَّى، ٢٤: ٣–٣٠).

ويتحدَّث يسوع عن مُسحاء كذبة يظهرون قبل اليوم الأخير فيضلون الناس: «لا يضلكم أحد، فإنَّ كثيرين سيأتون باسمي قائلين أنا هو المسيح ويضلون كثیرین» (متَّى، ٢٤: ٤–٥). وفي رسائل الحواريين يجري الحديث عن مسيحٍ مزيف أو دجال يظهر في آخر الزمن ويُدعى نقيض المسيح أو ضد المسيح: «يا أيُّها الأبناء هي الساعة الأخيرة. وكما سمعتم أنَّ ضد المسيح يأتي، قد صار الآن أضدادٌ للمسيح كثيرون. من هنا تعلم أنَّها الساعة الأخيرة» (رسالة يوحنا الأولى، ٢: ١٨). «أيُّها الأحباء لا تصدقوا كل روحٍ، بل امتحنوا الأرواح هل هي من عند الله. كل روح يعترف بيسوع المسيح أنَّه قد جاء في الجسد فهو من الله، وكل روحٍ لا يعترف بيسوع المسيح أنَّه قد جاء في الجسد فليس من الله. وهذا هو روحٌ ضد المسيح الذي سمعتم إنَّه يأتي، والآن هو في العالم» (رسالة يوحنا الأولى، ٤: ١–٣). ويُطوِّر بولس في رسائله شخصية الدجال ويُعدِّد ألقابه، فيدعوه ابن الهلاك والمقاوم والأثيم، وجميعها من ألقاب الشيطان. والدجال يأتي قبل المجيء الثاني للمسيح فيحاكي هيئته في مجيئه، وموعده الخاص المُعيَّن من الله، ويصنع آياتٍ ومعجزات فائقةٍ تدفع ضعفاء الإيمان إلى مواكبته والانصياع إليه. وهو الآن محجوز بقوةٍ مجهولة، ولكنَّه سوف ينطلق من مكان احتجازه لينجز آخر هجومٍ لقوى الشيطان في هذا العالم. وعندما يظهر المسيح سوف يُبيده بنفخة من فمه ويبطله بظهور مجيئه الثاني (٢ تسالونيكي، ٢: ٣–١١). وفي سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي، هنالك مشهد رؤيوي يصف ظهور الدجال على هيئة وحش طالع من البحر، أعطاه إبليس قدرته وعرشه وسلطانًا عظيمًا ولهذا الوحش سبعة رءوس كُتب على كل واحد منها كلمة كافر أو مجدف. فصنع عجائب وأُعطي سلطانًا على الأرض اثنين وأربعين شهرًا، فسجد له ولإبليس كل من ليس منذورًا للخلاص (رؤيا يوحنا ١٣).

واليوم الأخير هو يوم الدينونة الذي يشهد بعث الموتى من قبورهم، ونشورهم إلى الحساب حيث يقفون أمام ديَّان العالم، ابن الإنسان، الذي تُجمع أمامه كل الشعوب فيُميِّز بعضهم عن بعض ويُقيم المباركين عن يمينه، وهؤلاء هم أهل اليمين، ويُقيم الملاعين عن يساره، وهؤلاء هم أهل الشمال: «ثم يقول الملك للذين عن يمينه تعالوا يا مباركي أبي لترثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم … ثم يقول للذين عن يساره اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته … فيمضي هؤلاء إلى عذاب أبدي والأبرار إلى حياة أبدية» (متَّى، ٢٥: ٣١–٤٦). «إنَّ كل كلمة بطَّالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حسابًا يوم الدين، لأنَّك بكلامك تتبرر وبكلامك تُدان» (متَّى، ١٢: ٣٦–٣٧). «هكذا يكون في انقضاء العالم، يخرج الملائكة ويفرزون الأشرار من الأبرار ويطرحونهم في أتون النار، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان» (متَّى، ١٣: ٤٩–٥٠).

ولدينا في إنجيل لوقا حوار حول واحد من أهل الجحيم وآخر من أهل الجنة، يُعطينا صورة عن أحوال ساكني هذين العالمين. فقد: «كان إنسانٌ غني وكان يلبس الأرجوان والبز وهو يتنعَّم كل يوم مترفهًا. وكان هناك مسكينٌ اسمه لِعازر طُرح عند بابه مضروبًا بالقروح ويشتهي أن يشبع من الفتات الساقط من مائدة الغني. فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم، ومات الغني أيضًا ودفن. فرفع عينيه وهو في العذاب ورأى إبراهيم من بعيد ولِعازر في حضنه، فنادى وقال: يا أبي إبراهيم، ارحمني وأرسل لِعازر ليبل إصبعه بماء ويبرد طرف لساني لأني معذب في هذا اللهيب. فقال إبراهيم: يا بُني اذكر أنَّك استوفيت خيراتك في حياتك، وكذلك (استوفى) لِعازر البلايا، والآن هو يتعزى وأنت تتعذب» (لوقا، ١٦: ١٩–٢٥).

ويصف يسوع في إنجيل لوقا حياة أهل النعيم بأنَّها أشبه بحياة الملائكة. فعندما جاء قومٌ من الصدوقيين الذين ينكرون القيامة والمعاد، وسألوه عن امرأة تزوَّجت سبعة أخوة على التوالي ماتوا جميعًا، فلمن تكون المرأة من بينهم يوم القيامة؟ فأجاب يسوع: «أبناء هذا الدهر يُزوِّجون ويُزوَّجون. ولكن الذين حُسبوا أهلًا للحصول على ذلك الدهر، والقيامة من الأموات، لا يُزوِّجون ولا يُزوَّجون، لأنَّهم مثل الملائكة، وهم أبناء الله، إذ هم أبناء القيامة» (لوقا، ٢٠: ٢٧ ٣٥). كما أنَّه وعد الأبرار بالجلوس على مائدته السماوية ليأكلوا ويشربوا: «أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي، وأنا أجعل لكم كما جعل أبي ملكوتًا لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي، وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط إسرائيل» (لوقا، ٢٢: ٢٨–٣٠). وهؤلاء يُضيئون كالشمس في ملكوت أبيهم: «حينئذٍ يُضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم» (متَّى، ١٣: ٤٣). وهم يشربون بصحبة المسيح من نتاج الكرمة: «وأقول لكم إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم، حينما أشربه معكم جديدًا في مملكة أبي» (متَّى، ٢٦: ٢٩).

فإذا انتقلنا إلى الكرازة الرسولية وجدناها تُعطي تفاصيل أخرى بخصوص قيامة الموتى ومصيرهم. فعند بولس، فإنَّ الراقدين المؤمنين سيقومون على صوت نفخة الصور ويُخطفون لملاقاة المسيح الهابط على سحب الغمام: «لأنَّنا إن كنَّا نُؤمن أنَّ يسوع مات وقام، فكذلك الراقدون، بيسوع سيحضرهم الله أيضًا معه … لأنَّ الرب بهتافٍ بصوت رئيس ملائكة وبوق الله، سوف ينزل من السماء، والأموات في المسيح سيقومون أولًا، ثم نحن الأحياء الباقين سوف نُخطف جميعًا معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء. هكذا نكون كل حين مع الرب» (١ تسالونيكي، ٤: ١٤–١٧). وهناك يرى المنعم عليهم وجه الله: «أيُّها الأحباء الآن نحن أولاد الله، ولم يُظهر بعد ماذا سنكون، ولكن نعلم أنَّه إذا أُظهر نكون مثله لأنَّنا سنراه كما هو» (رسالة يوحنا الأولى، ٣: ٢).

ورغم توكيد بولس على بعث الأجساد في اليوم الأخير، إلَّا أنَّه يقول لنا إنَّ هذه الأجسام المادية بعد بعثها سوف تلبس حُلة نورانية سماوية: «هكذا أيضًا قيامة الأموات: يُزرع — الجسم — في فساد ويُقام في عدم فساد، يُزرع في هوان ويقام في مجد، يزرع في ضعف ويقام في قوة، يزرع جسمًا حيوانيًّا ويُقام جسمًا روحانيًّا … وكما لبسنا صورة الترابي سنلبس صورة السماوي أيضًا» (١ كورنثة، ١٥: ٤٤–٤٢ و٤٩). وينفخ الملائكة في الصور سبع مرات، وعند الصور السابع يستيقظ الموتى في أجساد لا ينالها الفساد، كما تتغيَّر أجساد من كان حيًّا أيضًا: «في لحظة، في طرفة عين، عند البوق الأخير، فإنَّه سيبوق فيُقام الأموات عديمي فساد، ونحن نتغيَّر، لأنَّ هذا — الجسد — الفاسد لا بد أن يلبس عدم فساد، وهذا المائت يلبس عدم موت.» وبذلك يتم انتصار المسيح على الموت وعلى العالم الأسفل: «فحينئذٍ تصير «تتحقَّق» الكلمة المكتوبة: ابتُلع الموت إلى غلبةٍ. أين شوكتك يا موت؟ أين غَلَبَتُكِ يا هاوية» (١ كورنثة، ١٥: ٤٣–٥٥).

في سفر الرؤيا، ليوحنَّا اللاهوتي، وهو آخر أسفار العهد الجديد، لدينا تفاصيل عن اليوم الأخير مكتوبة بأسلوب رؤيوي رمزي، مِمَّا عهدناه في الأسفار الرؤيوية الأخرى، نقتطف منها المقاطع الآتية: «ونظرتُ، وإذا زلزلةٌ عظيمة حدثت، والشمس صارت سوداء كمسح من الشعر، والقمر صار كالدم، ونجوم السماء سقطت إلى الأرض كما تطرح شجرة التين سُقاطها إذا هزتها ريح عظيمة. والسماء انفلقت كدرْجِ ملتف، وكل جبل وجزيرة تزحزحا عن موضعهما، وملوك الأرض والعظماء والأغنياء والأقوياء وكل عبدٍ وكل حرٍ أخفوا أنفسهم في المغاور وفي صخور الجبال، وهم يقولون للجبال وللصخور اسقطي علينا وأخفينا» ٦: ١٢–١٦. «ثم حدث سكوت في السماء نحو نصف ساعة، ورأيت سبعة الملائكة الذين يقفون أمام الله وقد أُعطوا سبعة أبواق … ثم إنَّ سبعة الملائكة الذين معهم سبعة الأبواق تهيَّأوا لكي يبوِّقوا. فبوَّق الملاك الأول فحدث بَرَد ونار مخلوطان بدم وأُلقيا على الأرض، فاحترق ثلث الأشجار واحترق كل عشب أخضر. ثم بوَّق الملاك الثاني فكأن جبلًا عظيمًا متقدًا بالنار أُلقي إلى البحر، فصار ثلث البحر دمًا ومات ثلث الخلائق التي في البحر وأُهلك ثلث السفن. ثم بوَّق الملاك الثالث فسقط من السماء كوكبٌ عظيمٌ متقدٌ كمصباح، ووقع على ثلث الأنهار وعلى ينابيع المياه، ومات كثيرون من الناس من المياه لأنَّها صارت مرَّة. ثم بوَّق الملاك الرابع فضُرب ثلث الشمس وثلث القمر وثلث النجوم. ثم بوَّق الملاك الخامس فرأيت كوكبًا سقط من السماء وأُعطي مفتاح بئر الهاوية، ففتح بئر الهاوية فصعد دخان من البئر كدخان أتون عظيم، ومن الدخان خرج جراد على الأرض فأُعطي سلطانًا كما للعقارب وعذابه كعذاب عقرب إذا لدغ إنسانًا. وفي تلك الأيام سيطلب الناس الموت ولا يجدونه … ثم بوَّق الملاك السادس فسمعت صوتًا قائلًا للملاك: فك أربعة الملائكة المُقيَّدين عند نهر الفرات العظيم، فانفك أربعة الملائكة المعدون للساعة لكي يقتلوا ثلث الناس … وأمَّا بقية الناس الذين لم يُقتلوا بهذه الضربات فلم يتوبوا عن أعمال أيديهم … ثم بوَّق الملاك السابع فحدثت أصوات عظيمة في السماء قائلة: قد صارت ممالك العالم لربنا ومسيحه، فسيملك إلى أبد الآبدين» ١١: ٩–١٥.

«ثمَّ نظرت، فإذا سحابةٌ بيضاء وعلى السحابة جالسٌ شبه ابن إنسان، على رأسه إكليلٌ من ذهب وفي يده منجلٌ حاد، وخرج ملاك آخر من الهيكل يصرخ بصوت عظيم إلى الجالس على السحابة: أرسل منجلك واحصد لأنَّه قد جاءت ساعة الحصاد إذ يبس حصيد الأرض. فألقى الجالس على السحابة منجله على الأرض فحصدت الأرض. ثم رأيت آية أخرى في السماء، سبعة ملائكةٍ معهم سبع ضربات أخيرة لأنَّ بها أُكمل غضب الله … وسمعت صوتًا عظيمًا من الهيكل قائلًا لسبعة الملائكة: امضوا واسكبوا جامات غضب الله على الأرض … فسكب الملاك الأول جامه على الأرض فحدثت دمامل خبيثة على الناس، وسكب الملاك الثاني جامه على البحر فصار دمًا، ثُمَّ سكب الملاك الثالث جامه على الأنهار والينابيع فصارت دمًا، ثُمَّ سكب الملاك الرابع جامه على الشمس فأحرقت الناس بنارها … ثُمَّ سكب الملاك الخامس جامه على عرش الوحش (= الدجال) فأباد مملكته، ثُمَّ سكب الملاك السادس جامه على النهر الكبير الفرات فنشف ماؤه، ثُمَّ سكب الملاك السابع جامه على الهواء فحدثت رعودٌ وبروق وزلازل عظيمة فزالت لجزر والجبال، ثُمَّ نزل بَرَدٌ ثقيل من السماء على الناس» ١٦: ١–١٧.

«ورأيت ملاكًا نازلًا من السماء معه مفتاح الهاوية وسلسلة عظيمة على يده، فقبض على التنين، الحية القديمة، الذي هو إبليس والشيطان، قيَّده ألف سنة وطرحه الهاوية وأغلق عليه،٧ وختم عليه لكيلا يُضلَّ الأمم فيما بعد، حتى تتم ألف السنة، وبعد ذلك لا بد أن يُحل زمانًا يسيرًا …» بعد ذلك يقيم المسيح مملكته على الأرض ويعيش مع المؤمنين ألف سنة: «ثُمَّ متى تمت ألف السنة، يُحل الشيطان من سجنه ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض (وهم) جوج وماجوج ليجمعهم للحرب، الذين عددهم مثل رمل البحر. فصعدوا على عرض الأرض وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة، فنزلت نارٌ من عند الله من السماء وأكلتهم، وإبليس الذي كان يُضلهم طُرح في بحيرة النار والكبريت … ثم رأيت عرشًا عظيمًا أبيض و(رأيت) الجالس عليه الذي من وجهه هربت الأرض والسماء ولم يوجد لهما موضع، ورأيت الأموات صغارًا وكبارًا واقفين أمام الله … وسلَّم البحر الأموات الذين فيه، وسلَّم الموت والهاوية الأموات الذين فيهما، ودِينوا كل واحد بحسب أعماله. وطُرح الموت والهاوية في بحيرة النار» ٢٠: ١–١٤.

خلاصة

لا تنشأ أيَّة عقيدة دينية في فراغ ثقافي تام، ولا بد للعقيدة الجديدة من أن تستوعب الفكر الديني السائد في الثقافة التي نشأت فيها، فتستفيد منه ومن المفاهيم والصور والنماذج الراسخة في الضمير الشعبي، لتصب أفكارها الجديدة فيها فتعطيها معاني وأبعادًا جديدة، ثم تتجاوزها نحو تركيب مغاير كل المغايرة. فالمسيحية هي نتاج الفكر التوراتي المنحول٨ الذي قصَّرت ثورته الدينية الصامتة «كما دعوناها» عن زعزعة المؤسسة الدينية اليهودية رغم تأثيره البالغ فيها. ولكن الفكر المسيحي كما تبلور في الأناجيل وفي كرازة الرسل، وخصوصًا بولس، قد تجاوز أصوله في ذلك الفكر المنحول مثلما تجاوز أيضًا الفكر التوراتي، فأسَّس لعقيدة أصيلة ذات طابع إنساني كوني قلَّ مثيلها في تاريخ الدين.
١  اعتمدت فيما تقدَّم من هذا السرد على العرض الشيق الذي صاغه آلان واطس ملخصًا فيه نظريات آباء الكنيسة في كتابه:
Allan Watts, Myth and Ritual in Christianity, ch. 1.
٢  حول هذه الآراء المتعارضة استندت إلى كتاب:
M. Fox and R. Sheldrake, The Physics of Angels, Harper, San Francisco 1996.
٣  من أجل النصوص الكاملة التي اقتبست منها هنا، راجع مؤلفي «الأسطورة والمعنى» فصل ديانات الشرق القديم، بين الوثنية والتوحيد.
٤  عن ملحمة الميلاد المعروفة بعنوان: The Golden Legend.
٥  راجع سفر إشعيا، ٦١: ١–٣، ولاحظ الفرق بين النصَّين.
٦  وذلك وفق التفسير الكنسي الذي التزمناه في هذا الفصل.
٧  انظر صورة الغلاف في الطبعات السابقة، وهي بريشة الشاعر الإنكليزي وليم بليك.
٨  وذلك إضافة إلى تأثرها بالبيئة السورية والهلينستية الأوسع. فالعقيدة الجديدة دومًا مثل نهر يجري في واد عميق فتنضم إليه الروافد لتفقد نفسها فيه وتذوب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤