الفصل الثاني

المفهوم الديني للتاريخ

إنَّ ثنائية الفكر الديني والفكر العلماني١ هي ثنائية حديثة نسبيًّا، ولا تعود في أصولها إلى ما قبل عصر النهضة الأوروبية، ولعل أفضل طريقة لتعريف أحدهما وفهمه هي مقابلته بالآخر وتوصيف الفروق الجذرية بينهما.

ينظر الفكر الديني إلى الوجود، كونًا وطبيعة وحياة، على أنَّه مؤلَّف من مستويين: الأول مادي متبدٍّ في كل ما حولنا من مظاهر حية وجامدة، والثاني غيبي يقع وراء المادة وتبدياتها المتنوِّعة. الأول حادث ومتغيِّر وقابل للفناء، والثاني قديم وثابت وأزلي. الأول واقع في إسار الزمن والتاريخ، والثاني يقع وراء الزمن والتاريخ ولكنَّه يتدخَّل فيهما ويُحقِّق مقاصده من خلالهما. ويستتبع ذلك أنَّ معنى تاريخ الكون والإنسان يكمن خارج هذا التاريخ لا في جدليته الداخلية الخاصة، لأنَّ هذا التاريخ مُسيَّر من قبل قدرة عُلوية تُوجِّهه وَفْق غايات خبيئة على الأفهام آنًا وبادية لها آنًا آخَر.

أمَّا الفكر العلماني فينظر إلى الوجود، كونًا وطبيعة وحياة، في مستوى واحد هو المستوى المادي المتبدي، فالمادة قائمة بذاتها، أزلية بطبيعتها، وتعمل وَفْق قوانينها الخاصة، وهذه القوانين كانت قادرة منذ البدء على تشكيل الكون والوصول به إلى صورته الحالية، وعلى توليد الحياة التي تُوِّجت بالإنسان وبالوعي الإنساني صانع الحضارة. أي إنَّ الفكر العلماني قد أحلَّ قوانين التطوُّر وأفعال الإنسان، باعتبارها مُحرِّكًا للتاريخ، محل مشيئة وأفعال الألوهة، مستبعدًا بذلك وجود غائية أو معنى خارج جدلية التاريخ نفسه.

ينطلق الفكر الديني في تصوُّره للبدايات من اللحظة التي خرجت عندها الألوهة من كمونها وتجلَّت في الزمان وفي المكان الدنيويَّين، مبتدئة فعالياتها في الأزمنة الميثولوجية الأولى، أزمنة الخلق والتكوين، عندما أطلقت الزمان ومدَّت المكان وتواشجت مع تاريخ الكون وتاريخ الإنسان. فهنا تتحوَّل الألوهة من مفهوم نظري إلى مفهوم عملي، وتتجلَّى في شخصية ذات إرادة وقصد وفعل، وفي إله يُعلن عن نفسه في سياق زمني تاريخي، مبتدئًا تاريخًا مقدسًا يشتمل على فعاليات الألوهة ومنعكساتها في العالم وفي المجتمع الإنساني. وهنالك ثلاثة أنماط لصيرورة هذا التاريخ المقدس في الفكر الديني للثقافات العليا: النمط الأول هو التاريخ المفتوح، حيث يسير الزمان من لحظة البدايات نحو مستقبل مفتوح بلا نهاية. والنمط الثاني هو التاريخ الدوري المتناوب حيث يسير الزمان في دارات مغلقة يتبع بعضٌ بعضًا إلى ما لا نهاية، ومع اكتمال كل دارة ينهار الكون القديم ليبتدئ كون جديد مع انطلاق الدارة الثانية. والنمط الثالث هو التاريخ الدينامي الذي يتطوَّر بشكل خطِّي منذ لحظة الخَلْق، عبر عدد من المراحل إلى لحظة النهاية حيث ينتهي التاريخ وتنفتح الأبدية، ويتم تحويل العالم القديم، بعد عملية تطهير شاملة إلى حالة من الكمال تليق بخلق الله. هنا تنتهي ثنائيات المُقدَّس والدنيوي، والله والعالم، والروح والمادة، والغيبي والمنظور، والخير والشر، وتذوب أطرافها في وحدة لا ازدواجية فيها إلى الأبد.

يتصل بهذه المفاهيم الثلاثة للتاريخ الديني في الثقافات العليا، ثلاثة أشكال اعتقادية في طبيعة الألوهة وعلاقتها بالعالم وهي: المعتقد الربوبي، والمعتقد الحلولي «وحدة الوجود»، والمعتقد الألوهي. سوف نتوقَّف قليلًا عند هذه الأشكال الاعتقادية الرئيسية قبل الانتقال إلى شرح المفاهيم الثلاثة للتاريخ.

(١) المعتقد الربوبي

يقوم المعتقد الربوبي في طبيعة الألوهة وعلاقتها بالعالم على الفصل التام بين الألوهة وخلقها، واعتبارهما من طبيعتَين مختلفتَين لا اتصال بينهما رغم أنَّ واحدهما هو نتاج الآخَر. رغم أنَّ الإله (أو الآلهة) قد خلق العالم بجميع مظاهره المادية والحيوية والروحية، إلَّا أنَّه مستقلٌّ عنه ومفارق له على كل صعيد. ورغم أنَّه قد أسَّس، في الزمان الأولي، لجميع أسباب الحضارة الإنسانية ولجميع المؤسسات الاجتماعية الكفيلة بوضع الإنسان على سكة التاريخ، إلَّا أنَّه لا يتدخَّل في مسار هذا التاريخ بشكل منهجي، وليس لديه خطة تُوجِّهه وَفْق مقاصد معينة ونحو أهداف بعيدة مرسومة. كما أنَّه لا يؤسِّس لصلة وحي دائم بينه وبين خلقه. قد تتدخَّل القدرة الإلهية في بعض الأحداث الجسام، أو تعلن عن حضورها في العالم من خلال الكوارث الطبيعانية كالطوفان المدمر أو الأعاصير التي تُخرِّب ما بناه الإنسان، إلَّا أنَّ مثل هذا التدخُّل عرضي ولا يسير على خطة محكمة مسبقة. يُضاف إلى ذلك أنَّ سلسلة التدخُّلات لا تنتظم في تتابع يُفصح عن رابطة بينها، ولا تنمُّ عن تكشُّف تدريجي لمقاصد محددة.

وينجم عن مفارقة الألوهة واستقلالها عن خلقها عدم اتصافها بالعدالة، وبالتالي عدم ممارسة هذه العدالة على الأرض وبين الناس، من هنا فإنَّ أعمال الفرد في الحياة الدنيا لا تلقى مكافأة أو عقابًا في الحياة الثانية، ولا وجود لبعث أو حساب أو لعالم آخر أفضل من الأول، فالآلهة وحدها هي الخالدة، أمَّا مصير البشر فإلى موتٍ يتبعه وجود شبحي في العالم الأسفل المظلم، الذي تئول إليه كل الأرواح بعد مفارقة أجسادها. إنَّ الخط الصارم الحاد الذي يفصله عن عالم الألوهة يجعل الإنسان أسير شرطه الأرضي، ولا يُعطيه أي أمل بتدخُّل الآلهة من أجل خلاصه وتحويل وجوده إلى مستوى أعلى قريب من وجودها، ناهيك عن انعدام أي فكرة عن تحويل العالم المادي بأكمله إلى حالة أسمى وأرقى من الوجود، من هنا تقوم العلاقة الطقسية بين الإنسان والألوهة باعتبارها الوسيلة الوحيدة للاتصال بين العالمين المتمايزين، فمن خلال الطقس، وخصوصًا طقس الذبائح والقرابين، يعمل الإنسان على استرضاء القوى العلوية وحثَّها على تحقيق أغراضه الدنيوية، واتقاء غضبها غير المفهوم أو المسوَّغ من وجهة نظره. أمَّا الأخلاق فشأن دنيوي تُنظِّمه الجماعة ولا علاقة له بالآلهة التي لا تتصف بالخير ولا تأبه لتحقيقه بين الناس.

(٢) المعتقد الحلولي٢

يقف المعتقد الحلولي، أو معتقد وحدة الوجود، على الطرف النقيض من المعتقد الربوبي، ويتميَّز عنه بتقديمه إرضاءً أكثر للنزوع الديني في النفس الإنسانية، لأنَّه مفهوم صوفي عن العلاقة بين الإله والإنسان يُذيب الفوارق بينهما ويجمعها في واحد، فهما من طبيعة واحدة، وما الروح الفردية إلَّا قبس من روح الله الكلية رغم حجاب الجهل الذي يستر عنها هذه الحقيقة في الحياة الدنيا. وبالمقابل فإنَّ الله ليس شخصية محدَّدة مفارقة للعالم وتمارس تأثيرها عليه عن بُعد، بل هو الحقيقة الكلية التي تتمظهر في العالم وتختفي وراءه في آنٍ معًا، فكما يظهر الماء تحت أشكال وأسماء متعددة، منها البخار والغيم والجليد والثلج والبرد بينما هو في حقيقة الأمر واحد، كذلك تتحول الألوهة إلى ما لا يُحصى من الظواهر المادية والنفوس الحية، مع بقائها في جوهرها واحدة غير مجزأة، وكما صدرت هذه الأجزاء عن الحقيقة الواحدة فإنَّها تعود إليها وتذوب فيها كما تذوب الأنهار في لجة الغمر العظيم.

إنَّ عدم اتخاذ الألوهة في المعتقد الحلولي قناع إله مشخص يدخل الإنسان معه في علاقة ثنائية من أي نوع، يقود إلى إحلال العرفان الداخلي محل الطقوس والعبادات، حيث العبادة معرفة والطقس انكفاءٌ نحو الداخل في محاولة لتلمس الألوهة في أعماق الذات الفردية، وعندما تفلح النفس، التي تُعاين نفسها كذرة مستقلة، في إدراك وهم استقلالها وحقيقة تطابقها مع النفس الكلية، تكون قد حققت الانعتاق وتهيَّأت للالتحاق بالمطلق العظيم الذي منه قد نشأت. فالخلاص والحالة هذه لا يتم بتدخُّل قوة علوية مفارقة ولا بنعمة ومنَّة منها، بل بالكدح الداخلي الذي يؤدي إلى استنارة النفس الغافية.

كما ينجم عن لا شخصانية الألوهة ارتفاعها فوق الخير والشر بمفهومهما الاجتماعي، فالإله ليس الخير المحض ولا يتسم سلوكه بالخير ولا بالشر، من هنا فإنَّ مفهوم العدالة الإلهية غائب عن معتقد الحلول ويجري العقاب والثواب بشكل أوتوماتيكي في الحياة من خلال مبدأ كوني يُدعى بمبدأ الكارما، أي: الفعل وجزاؤه، في أبسط أشكاله، ينطوي مبدأ الكارما على أنَّ الوضع الحالي للفرد محكوم بأعماله التي بذلها في حياته السابقة، كما أنَّ أعماله في حياته الراهنة سوف تُقرِّر وضعه في التناسخات المقبلة التي سوف تتتالى إلى ما لا نهاية إذا لم تُحقِّق النفس عرفانها الداخلي وتصل إلى الاستنارة التي تُحرِّرها من دورة الميلاد والموت، ورغم أنَّ الأعمال الصالحة هي التي تؤهِّل صاحبها لتجسُّد أفضل وأرقى في الحياة التالية، إلَّا أنَّ هذه الأعمال لا توصِّل في حد ذاتها إلى التحرُّر، بل تُهيِّئ النفس لمراحل أعلى وأعلى من العرفان، حتى يحين موعد الإفلات من العالم والالتحاق بالأبدية.

وكما أنَّ الأرواح الفردية أسيرة لدورة التناسخ الحيوية، فإنَّ الكون بكامله أسيرٌ أيضًا لدورة تناسخ عظمى، كلما وُلِد كون شاخ وآل إلى الفناء في مياه المطلق العظيم، ليعقبه كونٌ جديد آخر وهكذا إلى ما لا نهاية، وبذلك ينعدم التاريخ ويدور الزمن على نفسه دونما هدف أو غاية.

(٣) المعتقد الألوهي

يقع المعتقد الألوهي في نقطة الوسط بين المعتقد الربوبي والمعتقد الحلولي، الإله مُفارق للعالم من جهة ومتصل به كل الاتصال من جهة ثانية، ذلك أنَّ الحاجات الروحية الدفينة عند الإنسان تتطلَّب الإحساس بألوهة مشخصة يُمكن الدخول معها في علاقة ثنائية، سواء أكانت علاقة الأب بالابن، أو علاقة المُحب بالمحبوب أو علاقة السيد بالعبد، وهذه الألوهة رغم مفارقتها واختلافها من حيث الطبيعة مع العالم، إلَّا أنَّها حاضرة فيه على الدوام، في كل هبة ريح وفي تفتح كل زهرة وفي تنفس كل كائن حي. يقول محي الدين بن عربي: «وأمَّا أهل الكشف فإنَّهم يرون أنَّ الله يتجلَّى في كل نفس ولا يُكرِّر التجلي، ويرون أيضًا أنَّ كل تجلٍّ يُعطي خلقًا جديدًا ويذهب بخلق.»٣ وأيضًا: «فالحق خلَّاق على الدوام، والعالم مفتقر إليه على الدوام افتقارًا ذاتيًّا.»٤ إنَّ الله في حالة انغماس دائم بمسائل العالم ويبذل عناية لا تَني من أجل تطويره في الزمن، وفي التاريخ، نحو غاية منظورة ومشتركة بينه وبين خلقه، رغم كونه خارج التاريخ، فمن خلال فعاليات الآلهة في الزمن وفي التاريخ تتخذ الألوهة وجه الإله المشخص، ومن خلال محافظتها على موقعها المفارق خارج التاريخ تُحافظ الألوهة على طبيعتها الغفلة غير المشخصة ممَّا تؤمن به عقيدة الحلول.

يستدعي اتصال الله بالعالم تحويل مفهوم العدالة الأوتوماتيكي الذي يعمل من خلال مبدأ الكارما في المعتقد الحلولي، إلى صفة من صفات الله، فالله عادل، وكما تتجلَّى عدالته على المستوى الكوني في النظام المتوازن الدقيق الذي يحكم عالم المادة والطبيعة، كذلك تتجلَّى في النظام الأخلاقي الذي يحكم علاقات الأفراد والجماعات، هذه العدالة هي أهم التجليات العملية لصفة الخير عند الله، فالله خيِّر، بل هو الخير المطلق على ما تنص عليه الآية الكريمة من القرآن: فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وتؤدِّي عدالة الله وخيره إلى مطلبه الأساسي من الناس الالتزام بحياة أخلاقية قوامها المحبة والعمل الصالح يبذله الإنسان تجاه أخيه. قال يسوع: «قد سمعتم أنَّه قيل للقدماء لا تقتل، ومن قتل يكون مستوجبًا الحكم. وأمَّا أنا فأقول لكم إنَّ كل من يَغْضب على أخيه باطلًا يكون مستوجبًا الحكم … إنْ قدَّمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أنَّ لأخيك شيئًا عليك، فاترك قربانك قدام المذبح واذهب أولًا اصطلح مع أخيك … سمعتم أنَّه قيل تُحب قريبك وتبغض عدوك، وأمَّا أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم … لأنَّه إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجرٍ لكم؟ أليس العشارون يفعلون ذلك أيضًا.» (متَّى: ٥) كما أنَّ مطلب الحياة الأخلاقية الناشئ عن خير الله وعدله، يستدعي بدوره الثواب والعقاب سواء عند نهاية حياة الفرد أم مع نهاية الزمن والبعث العام والحساب الأخير.

وبذلك تقوم الصلة بين الله والناس في المعتقد الألوهي، على ثلاثة عناصر هي الإيمان والأخلاق والعبادات. كما أنَّ العبادات وما يتَّصل بها من طقوس ليست وسيلة لاتقاء غضب السماء أو نيل مكاسب دنيوية منها، أو لحاجة الألوهة إليها، كما هو الحال في المعتقد الربوبي، لأنَّ «الله غنيٌّ عن العالمين» وعدالته الثابتة لا تحرفها عن مسارها طقوس شكلية، بل إنَّ العبادات والشعائر هي وسيلة اتصال دائم، وتلمُّس للحضور الإلهي في العالم، ورغم أهمية هذه العناصر الثلاثة مجتمعة على طبيعة الصلة بين الله وخلقه، وأثرها على خلاص الإنسان، إلَّا أنَّ الخلاص في النهاية يبقى رهنًا بالنعمة الإلهية والمنَّة العلوية، فالله يمنُّ على العالم بالخلاص وهو ملتزم به.

ننتقل الآن إلى معالجة الرؤية الدينية للتاريخ في صلتها بالأنماط الاعتقادية للثقافات العليا، من خلال ثلاثة نماذج رئيسية.

(٤) المعتقد الربوبي والتاريخ المفتوح

(٤-١) بلاد الرافدين نموذجًا

تُقدِّم لنا ديانة بلاد الرافدين النموذج الأمثل عن مفهوم التاريخ المفتوح، حيث تستطيع تمييز أربع مراحل للتاريخ المقدس تكشف عنها الأسطورة: المرحلة الأولى هي السرمدية الساكنة عندما كانت الألوهة منكفئة على نفسها مكتفية بذاتها. المرحلة الثانية هي الزمن الكوزموغوني، أو زمن الخلق والتكوين، عندما خرجت الألوهة من كمونها فأطلقت الزمان ومدَّت المكان وحرَّكت دارة الوجود. المرحلة الثالثة هي زمن الأصول والتنظيم، عندما عمد الآلهة إلى تنظيم شئون العالم والمجتمع الإنساني، من خلال عدد من الفعاليَّات المبدعة التي نشطت عند جذور التاريخ الإنساني. المرحلة الرابعة هي زمن البشر المفتوح على اللانهاية.

يرسم لنا مطلع أسطورة التكوين البابلية صورة شديدة التأثير عن مرحلة السرمدية الساكنة. قبل ظهور المكان وانطلاق الزمان، كانت دارة الألوهة المنغلقة على نفسها تنطوي على ثلاثة جواهر مائية غير متمايزة هي: تعامة الأم وآبسو الأب وممو الابن، وعلى حد تعبير النص:

عندما في الأعالي لم يكن هنالك سماء،
وفي الأسفل لم يكن هنالك أرض،
لم يكن سوى آبسو وممو وتعامة
يمزجون أمواههم معًا.

وهنا يقول الكاهن البابلي برغوشا الذي ألَّف كتابًا باليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد عن تاريخ البابلين ومعتقداتهم، إنَّ تعامة هي الماء المالح وآبسو هو الماء الحلو، ولكنَّه يصمت عن ممو، الذي نُرجِّح مع بعض الباحثين الآخرين أن يكون الضباب المنتشر فوقهما. ونلاحظ هنا أنَّ في اختيار النص للماء كجوهر لهذه الآلهة البدئية، توكيدًا على الحالة العمائية والشواشية السابقة على الكون المنظم، فالماء هو أكثر العناصر تمثيلًا لما لا شكل له ولا نظام، إنَّه اللاشكل واللانظام بكل امتياز، والهيولى السابقة على ظهور التحديدات والتقسيمات والأبعاد التي تُميِّز الكون. وهكذا تقوم ثنائية: كون-عماء، أو كوزموس-كايوس بالمصطلح الإغريقي عند جذور الزمن، وتستمر عبر تاريخ الكون اللاحق في الفكر الميثولوجي الذي يتصوَّر قوى العماء والفوضى في حالة تأهُّب دائم للانقضاض على الكون والعودة به إلى المحيط المائي الشواشي الذي نشأ عنه.

بعد ذلك تبدأ إرهاصات الزمن عندما أنجب الآلهة الثلاثة الجيل الأول من الآلهة، وأنجب هذا الجيل بدوره الجيل الثاني، الذي خرج منه الإله مردوخ فقاد الصراع ضد الآلهة البدئية وقهرها، ومن جسد الأم الأولى تعامة صنع السماء والأرض وبقية مظاهر الكون، ثم التفت بعد ذلك إلى تنظيم العالم والحياة الطبيعية، فخلق الغيوم وحمَّلها بالمطر، وفجَّر عيون الماء وملأ الآبار، وأنبت من الأرض عشبًا وشجرًا، وأوكل إله الشمس بالأيام ففصل بين تخوم الليل وتخوم النهار، وأخرج القمر فسطع بنوره وأوكله بالليل وجعله حِلية له وزينة، ثم توَّج فعاليَّاته المبدعة هذه بخلق الإنسان.

تتابع بقية أساطير التكوين والأصول البابلية إعطاءنا مزيدًا من التفاصيل عن مرحلة الأصول، فلقد ابتدر الآلهة في هذه المرحلة كل أصول التحضر على الأرض، فصنعوا القنوات والسدود، وأجروا المياه في السواقي والأنهار، ورووا الأرض وحوَّلوها إلى مراعٍ وحقول للقمح ومساكب للبستنة، وعمدوا إلى تربية الماشية وحلبوها فصنعوا اللبن والزبدة والجبن، وابتكروا الفأس والمعول وقوالب الآجر فاستخدموها في بناء المدن والمعابد الأولى، وعندما أسلموا ذلك كله للإنسان فيما بعد، عملوا على تأصيل مؤسَّساته الاجتماعية مثل الأسرة والكهنوت والملوكية، وباختصار فإنَّ الإله لا الإنسان هو صانع الحضارة على الأرض.

وكان الآلهة في زمن الأصول هذا يكدِّون ويعملون من أجل تحصيل قوتهم، حتى بلغ بهم التعب والإرهاق حدًّا لا يُحتمل، فتنادوا إلى خلق الإنسان ليحمل عنهم عبء العمل ويركنوا هم للراحة. ولدينا عدة نصوص تروي عن خلق الإنسان من أجل خدمة الآلهة. نقرأ في نص سومري أنَّ الآلهة في بداية عهدهم لم يعرفوا أكل الخبز ولا لبس الثياب، بل كانوا يأكلون النباتات بأفواههم مثل الحيوانات، ويشربون الماء من الينابيع والجداول، ثم أوكلوا بعد ذلك مهمة تأمين الغذاء لهم إلى الإله لَهار وأخته أشنان، فكان لَهار يكثِّر المواشي ومنتجاتها على الأرض، وأشنان تزيد في غلال الأرض ومحاصيلها، ولكن منتجات هذين الإلهين لم تسد جوع الآلهة، فعمدوا إلى خلق الإنسان ليكفيهم غائلة الجوع والعطش.٥
ولدينا نص بابلي يحكي باختصار شديد عن قصة التكوين وزمن الأصول وخلق الإنسان وهذه قراءته: «بعد أن أُخرجت الأرض وشُكِّلت، وحُدِّدت مصائر الأرض والسماء، واستقرَّت شطآن دجلة والفرات، عندها جلس الآلهة الكبار آنو وإنليل وإيا وبقية الآلهة المبجَّلين، جلسوا جميعًا في مجمعهم المقدَّس واستعادوا ما قاموا به من أعمال، فقال إنليل: أما وقد حدَّدنا مصائر الأرض والسماء، وجرت القنوات في مجاريها وتوضعت الخنادق، واستقرَّت شطآن دجلة والفرات. ماذا بقي علينا أن نفعل؟ ماذا نستطيع بعدُ أن نخلق؟ فأجاب الحضور من الآلهة المبجلَّين، بقسميهما الأنوناكي والإيجيجي، أجابوا إنليل قائلين: لنذبح بعض آلهة اللامجا، ومن دمائهم فلنخلق الإنسان ونوكِّله بخدمة الآلهة على مرِّ الأزمان، سنضع في يده السلة والمعول، فيبني للآلهة العظام هياكل مقدَّسة تليق بهم، سيسقي الأرض بأقاليمها الأربعة ويخرج من جوفها الخيرات، جاعلًا حقول الأنوناكي تنتج غلالًا وفيرة، سينضح الماء العذب ويحتفل بأعياد الآلهة … إلخ.»٦
وفي ملحمة أتراحاسيس البابلية يتخذ تذمر الآلهة من العمل شكل تمرد وعصيان على الآلهة الكبرى السبعة التي كانت تفرض الكدح على البقية، وتلزم مساكنها في دعةٍ وراحة بالٍ، نقرأ في مطلع النص: «حملوا العبء، عانوا المشقَّة. تعبُ الآلهة عظيم، العمل ثقيل، الشقاء شديد. آلهة الأنوناكي العظيمة السبعة، كانت تُحمِّل آلهة الإيجيجي العمل، القنوات حفروا، لاستمرار حياة الأرض، الأنهار حفروا، لاستمرار حياة الأرض، حفروا نهر دجلة، ثم حفروا نهر الفرات، فجَّروا الينابيع من العمق، لاستمرار حياة البلاد، تحمَّلوا العمل ليل نهار، أحصوا سنوات التعب فزادت عن أربعين عامًا، صاحوا من الحفرة: الآن أعلنوا الحرب. لنمزج الحقد بالمعركة … صَبُّوا على أدواتهم نارًا وعلى رفوشهم، سلالهم رموها إلى إله النار، وساروا نحو باب البطل إنليل، حاصروا البيت والإله لم يعلم.»٧

عندما وصل الخبر إلى إنليل، أمر بإغلاق الأبواب والاستعداد للدفاع عن قصره، ثم عقد اجتماعًا للآلهة العليا تدارسوا خلاله الأمر، وأوفدوا الإله نُسكو لمعرفة دوافع المتمردين وتحديد المسئول عن الشغب، فخاطبهم نُسكو قائلًا: «أرسلني أبوكم آنو، ومشيركم البطل إنليل، وحاجبكم ننورتا وكبيركم إنوجي. من الذي يُحرِّض على المعركة؟ مَن يثير العدوان؟ ومَن أشعل الحرب؟ أجابوه: جميعنا أعلن الحرب، كل الآلهة أعلنت الحرب؛ لبثنا طويلًا في الحفرة، العناء الشديد قتلنا، شاقٌّ عملنا وعظيم كربنا، والكل، كل الآلهة أيَّدتنا»، نقل نُسكو إلى إنليل ما دار بينه وبين المتمردين، فتأثَّر إنليل حتى دمعت عيناه، ثم تداول مع بقية الآلهة العظمى في كيفية إنصاف الآلهة المكدودة، وقرَّروا في النهاية خلق الإنسان ليُحرِّر الآلهة من العمل ويخدمهم، فخُلِق الإنسان من طين معجون بدم إله قتيل قُدِّم لهذه الغاية، وقامت بهذه المهمة الإلهة مامي، ربة الولادة المُلقَّبة بسيدة الآلهة، بالتعاون مع إنكي إله الماء.

وفي المقطع الخاص بخلق الإنسان في الإينوما إيليش، يزف مردوخ للآلهة خبر بنائه لمدينة بابل ولمعبدها الكبير الذي سيكون معدًّا لهم: «سيكون مفتوحًا لاستقبالكم وبه تبيتون، أو تهبطون من السماء للاجتماع، سأدعو اسمه بابل، أي بيت الآلهة الكبرى، وسينهض لبنائه أمهر البنائين … لمَّا انتهى آباؤه من سماع كلامه، توجَّهوا بالسؤال لبكرهم مردوخ: بعد كل ما صنعت يداك، لمَن ستوكِّل سلطانك؟ فوق الأرض التي ابتكرتها يداك لمَن ستوكِّل حكمك؟ لسماعه حديث الآلهة حفزه قلبه لخلق مبدعٍ، فأسرَّ للآلهة بما يعتمل في نفسه وأطلعهم على ما عقد عليه العزم: سأخلق دماءً وعظامًا، منها سأُشكل الإنسان لالو. نعم، سوف أخلق لالو الإنسان وسنفرض عليه خدمة الآلهة فيخلدون إلى الراحة، قال إيا مُبديًا رأيه: ليقوموا بتسليم أحدهم فيُقتل ومنه تصنع الإنسان، ليجتمع كبار الآلهة هنا ويسلموا إلينا الإله المذنب من أجل راحة الباقين. قام مردوخ بدعوة الآلهة الكبار وقال لهم: أريد منكم قول الصدق وقسمي لكم ضمان، مَن الذي خلق النزاع؟ مَن دفع تعامة وحرَّض على القتال؟ سلِّموا لي مَن خلق النزاع ليلقى جزاه وتخلدون إلى الراحة. فأجابه الآلهة: إنَّه كينغو الذي خلق النزاع ودفع تعامة وحرَّض على القتال، ثم قيَّدوه ووضعوه أمام إيا، أنزلوا به العقاب، قطعوا شرايين دمائه، ومن دمائه جرى خلق البشر، ففرض إيا عليهم العمل وحرر الآلهة.»٨
على هذا النحو ينتهي زمن الأصول ويبدأ زمن الإنسان، وعلى هذا النحو ترسم الأسطورة الرافدينية أصل الإنسان وتُحدِّد علاقته بعالم الآلهة ودوره في الحياة، لقد خُلق منذ البداية لغرض واحد هو خدمة الآلهة ورفع عبء العمل عنها، والعلاقة بين الطرفين كانت وتبقى أبدًا علاقة السيد بالعبد، الآلهة خالدة، وأمَّا الإنسان ففانٍ، والخط الفاصل بين العالمين حادٌّ وحاسم، لا يُعطي أملًا للإنسان حتى بمجرَّد التفكير بالخلاص من شرطه الأرضي، والالتحاق بالعوالم القدسية بعد فناء جسده وانتهاء كدحه على الأرض، أو بتبديل عالمه وتحويله إلى عالم أفضل، ولذا فإنَّ أفضل ما يصبو إليه هو اللذائذ الحياتية الصغيرة، خلال عُمر قصير ينتهي به إلى العالم الأسفل. وهذا ما عبَّر عنه نص ملحمة جلجامش من خلال حديث فتاة الحان التي قالت لجلجامش الباحث عن الخلود: «إلى أين تمضي يا جلجامش؟ وإلى أين تسعى بك القدم؟ الحياة التي تبحث عنها لن تجدها، لأنَّ الآلهة لمَّا خلقت البشر، جعلت الموت لهم نصيبًا وحبست في أيديها الحياة. وأمَّا أنت يا جلجامش فاملأ بطنك، وافرح ليلك ونهارك، اجعل من كل يوم عيدًا، وارقص لاهيًا في الليل والنهار، اخطر بثياب نظيفة زاهية، اغسل رأسك واستحم بالمياه، دلِّل صغيرك الذي يمسك بيدك، أسعد زوجك بين أحضانك، هذا هو نصيب البشر.»٩
في ظلِّ مثل هذه العلاقة، تبقى الرابطة الوحيدة بين الأرض والسماء هي رابطة الشعائر والطقوس، فالآلهة لا تتصف بالعدالة ولا بالخير، وكل ما تسعى إليه هو عبادة الإنسان وقرابينه التي يقدمها إليها، ومن خلال الشعائر والقرابين يستطيع استمالتها وحثَّها على اتخاذ مواقف إيجابية منه. نقرأ في ملحمة أتراحاسيس البابلية أنَّ القحط قد حلَّ في البلاد حتى عمَّ الجوع وهلك الناس، فالتمس الحكيم أتراحاسيس وجه ربه إيا، الذي نصحه بتقديم القرابين وفروض العبادة لأداد إله المطر وحده، من دون بقية الآلهة، علَّه يخجل من هدية الإنسان: «لا تخشوا آلهتكم، لا تصلوا لعشتاركم، فقط التمسوا باب أداد، أحضِروا الخبز أمامه، عسى أن يُمطر الندى خلسة في المساء ليحمل الحقل الحبوب.» نقل أتراحاسيس نصيحة إيا إلى قومه فعملوا بها: «بنوا بيتًا للإله إيا، أحضَروا الخبز أمامه، أسعده قربان الدقيق، خجل من الهدية فكفَّ يده، في الصباح أرسل ضبابًا وخِلسةً في المساء أمطر الندى، خِلسةً حمل الحقل الحبوب، غادرهم القحط وعادوا إلى أعمالهم.»١٠
ومع ذلك فإنَّ خدمة الآلهة والضراعة إليها في كل حين وتقديم القرابين لا تؤدِّي بالضرورة إلى حصول الإنسان على بغيته منها، لأنَّ مشيئتها خافية على البشر، قد ترفع بواحد من الناس إلى أرفع مقام وتهوي بالآخر إلى الحضيض دونما سبب واضح. نقرأ في نص بابلي معروف بعنوان «صلاة إلى جميع الآلهة» ضراعة لإنسان متألِّم غضبت عليه الآلهة وتسببت في مرضه بغير جريرة أو ذنب، ولذا فإنَّه يعترف هنا بذنوب لم يرتكبها: «ليهدأ قلب إلهي الغاضب عليَّ، وليرضَ عني الإله الذي أعرف والإله الذي لا أعرف. بجهل مني أكلت طعامًا حرَّمه إلهي، بجهل منِّي وطئت مكانًا حرَّمته إلهتي. يا ربي إنَّ آثامي عديدة وخطاياي عظيمة، ويا ربتي إنَّ آثامي عديدة وخطاياي عظيمة. إني جاهل حقًّا بما اقترفته من ذنوب وإني جاهل حقًّا بما ارتكبته من معاصٍ، ولكن الإله نظر إليَّ بقلبٍ غاضب، وإلهتي في غضبها تسببت في مرضي. الإنسان مخلوق قاصر التفكير، لا يدري متى يجني حسنة ولا متى يصنع إثمًا.»١١ ومن نص بابلي طويل معروف بعنوان «سأثني على درب الحكمة» أقتطف هذه السطور: «رفعت دعائي إلى إلهي فأشاح بوجهه عني، صليت إلى إلهتي فلم تلتفت بوجهها إليَّ. لقد صرت كمَن لم يُقدِّم لإلهه قربانًا، وصرت كمَن لم يشكر إلهته عند كل طعام، صرت كمَن فقد صوابه ونسي ربه، وكمَن حلف قسمًا عظمًا بإلهه كاذبًا. ولكنَّ ما يبدو للإنسان حسنًا قد يكون في عين إلهه رديئًا، وهل يعرف أحد مشيئة الآلهة في السماء؟ هل يعرف أحد خطط الآلهة على الأرض؟»١٢
والآلهة الرافدينية تصنع الخير مثلما تصنع الشر، وليس بمقدور الإنسان التنبؤ بردود أفعالها لأنَّها لا تلتزم القواعد الأخلاقية ولا تجعل من سلوكها قدوةً في هذا المجال لبني البشر، وغالبًا ما اتسمت مواقفها بالفطرية ورد الفعل الآني والبُعد عن الإحساس بالمسئولية، ففي أسطورة الطوفان البابلية يُقرِّر مجمع الآلهة تدمير شوريباك وبقية المدن الإنسانية الأولى بغير سبب أو جريرة. نقرأ في مطلع القصة كما وردت في ملحمة جلجامش: «قال أوتنابشتيم لجلجامش: سأكشف لك أمرًا كان مخبوءًا، وأبوح لك بسرٍّ من أسرار الآلهة، شوريباك مدينة أنت تعرفها، لقد شاخت المدينة والآلهة في وسطها، فحدثتهم نفوسهم أن يرسلوا طوفانًا، كان بينهم آنو أبوهم، وإنليل مستشارهم، وننورتا ممثلهم، وإينوجي وزيرهم، وننجيكو الذي هو إيا كان حاضرًا أيضًا.» وفي النص السومري المعروف بعنوان «هلاك مدينة أور» يتَّخذ مجمع الآلهة برئاسة إنليل قرارًا بتدمير مدينة أور وإهلاك أهلها، قدرًا من السماء وأمرًا مقضيًّا، يبتدئ النص ببكائية للإلهة ننجال إلهة مدينة أور تندب فيها مدينتها، ثم نجد الإلهة تسعى يائسة لدفع الكارثة عن أور وتستعطف مجمع الآلهة الذي انعقد لاتخاذ القرار الحاسم «… ثم توجهتُ بتصميم إلى المجمع قبل انفضاضه، بينما كان آلهة الأنوناكي جلوسًا يتعاهدون. جرجرتُ قدمي، فتحتُ ذراعي، ذرفت الدموع أمام الإله آن، بكيت بحرقة أمام الإله إنليل، قلت لهما: عسى أور لا تُدمر، عسى مدينتي أور لا تُدمر قلت لهما. ولكن آن لم يعطِ دعائي أذنًا، وإنليل لم يثلج صدري بكلمة، بل أصدرا الأمر بهلاك المدينة، أصدرا الأمر بهلاك أور، وسيفنى أهلها وَفْق القضاء النافذ.»١٣
ويتضح موقف الألوهة المتناقض والمتناوس بين الخير والشر، بشكلٍ خاص في شخصية وأفعال الإله إنليل رئيس البانثيون الرافديني، ففي ملحمة أتراحاسيس، وبعد خلق الإنسان لخدمة الآلهة، يتكاثر البشر وتكثر ضوضاؤهم التي تقض مضجع إنليل وتحرمه الرقاد، فيضع خطة شريرة لإنقاص عددهم حتى يخلد إلى الراحة: «لم يمضِ ألف ومئتا عام، توسَّعت الأرض كثر الناس، الأرض تخور كثور هائج، اضطرب الآلهة من ضجيجهم. إنليل سمع ضوضاءهم، قال للآلهة الكبرى: ضجة البشر ثقُلت عليَّ، من ضجتهم أفتقد الرقاد، اقطعوا المئونة عن الناس، لجوعهم ليقل الزرع، ليكف الإله أداد مطره عنهم، عسى ألَّا يخرج فيض من الأعماق. لتعصف الرياح، ولتجف الأرض، ليقلل الحقل غلته، لتحجب نيسابا إلهة الغلال والمحاصيل صدرها الخصب، عسى ألَّا يصل الفرح إليهم. يا ليتني أخرِّب الأرض.» قام الآلهة بتنفيذ أوامر إنكي، لم ينزل المطر من الأعلى ولم يفض ماء الينابيع من الأسفل، أُغلق رحم الأرض، يبس الزرع والحقول السود ابيضَّت، الأرض الواسعة مُلئت ملحًا ومرض الطاعون تفشَّى، ثم يتابع النص: «سنة واحدة أكلوا العشب، سنة ثانية علتهم الحكة، في السنة الثالثة تغيَّرت هيئاتهم من الجوع، عاشوا الحياة في عذاب، خضراء بدت وجوههم، بانحناء يمشون في الشار، أكتافهم العريضة ضاقت، أرجلهم الطويلة قصُرت.»١٤ وعندما لم تنفع كل هذه الأساليب في إنقاص عدد الناس قرَّر إنليل إرسال طوفان عظيم يُفنيهم عن آخِرهم، وأقنع مجمع الآلهة بالموافقة على القرار، عدا الإله إنكي الذي نقل الخبر إلى حكيم القوم أتراحاسيس وأمره ببناء سفينة وَفْق مخطط معيَّن، ليحمل عليها أهله وما يستطيع إنقاذه من حيوان البر وطير السماء، من أجل استمرار الحياة الجديدة بعد الطوفان.
ومع ذلك فإنَّ الجانب الخيِّر في شخصية إنليل يطغى على جوانبه الغضوبة المدمرة، في أحيان كثيرة، نقرأ هذه المنتخبات من ترتيلة سومرية طويلة في مدح الإله: «لولا إنليل الجبل العظيم، لم تُبنَ المدن ولا القرى، ولم يفِض البحر بكنوزه الوفيرة، ولم يضع السمك بيوضه بين أجمات القصب، ولم تصنع طيور الجو أعشاشها. لولاه لم تفتح الغيوم الماطرة في السماء أفواهها، ولم تمتلئ الحقول والمروج بخيرات الحبوب، ولم تطلع الحشائش والأعشاب بهية في الوادي، ولم تحمل الأشجار في البساتين ثمرها. لولا إنليل الجبل العظيم لم يكُن لبقرةٍ أن تضع عجلها في الإسطبل، ولم يكُن لغنمةٍ أن تنجب حملها في الحظيرة. إنَّ أعمالك البارعة تثير الروع، ومراميها عصية كخيط متشابك لا يمكن فكه.»١٥

إنَّ عدم توصُّل الألوهة إلى حسم مسألة الخير والشر في شخصيتها وسلوكها، ينعكس على علاقتها بعالم الإنسان والمجتمعات البشرية، فالآلهة الرافدينية لم تكُن أخلاقية من جهة ولم تستن لعبادها شرائع أخلاقية يتبعونها، بل لقد تُرك المجتمع الرافديني يُسيِّر شئونه الاجتماعية بنفسه، ويتعامل أفراده وَفْق اللوائح الأخلاقية المُتعارف عليها والمؤسسة منذ القدم، وقد كان حكماء المجتمع يُعيدون صقل هذه اللوائح والتذكير بها في كل مناسبة، وهذا ما تُطلعنا عليه نصوص الحِكم والوصايا التي وصلنا منها العديد، وأهم ما يُميِّز نصوص الحكمة الرافدينية أنَّها لم تكُن تجري على لسان كُهَّان مرسومين ينطقونها وحيًا من السماء، بل على لسان حكماء صالحين خبروا الحياة وأفادوا من عبرها، وعرفوا مسالك الحق والباطل، ولم يكُن لينتقص من قيمة لوائح الأخلاق الاجتماعية ووصايا حكماء الحياة الدنيا كون هذه اللوائح والوصايا ذات طبيعة دنيوية لا سماوية، وأنَّ مؤيداتها تأتي من ضمير الجماعة لا من مشيئة الآلهة. لا أدل على ذلك مما نلمسه من الحساسية الخُلقية العالية للإنسان الرافديني وسيادة القانون الأخلاقي الوضعي على علاقات الأفراد والجماعات، يُضاف إلى ذلك ما نشأ من تشريعات زمنية رافدينية راقية منذ أواخر العصر السومري، بُنيت على القانون الأخلاقي القديم وزادت في تشعيبه ووسَّعت من مجالاته. ولقد استمر الفصل بين الدين والأخلاق منذ البدايات الأولى للحضارة الرافدينية وحتى نهايتها، وبقي السلوك الديني للأفراد وسلوكهم الأخلاقي بمثابة خطين متوازيين لا يتداخلان ولا يلتقيان. تشترك الحضارة الرافدينية في هذه النظرة إلى الأخلاق مع الحضارة الإغريقية، وبقية الحضارات التي تقوم معتقداتها الدينية على المفهوم الربوبي، وتنظر إلى التاريخ باعتباره سيَّالة مفتوحة على اللانهاية، وذلك على عكس حضارات أخرى طوَّرت تدريجيًّا مفهومًا دينيًّا للأخلاق، مثل الحضارة المصرية التي سنقف مطولًا عند معتقداتها الدينية في فصل قادم.

ويتصل بمفهوم الخير عند الآلهة مفهوم العدالة، فإذا كانت الآلهة لا تقيم وزنًا للخير في سلوكها مع الإنسان، ولا تطلب منه بذل الخير كعنصر لازم في العلاقة بينهما، فإنَّها بالتالي ليست معنية بالخير يبذله الفرد تجاه أخيه ومجتمعه أو بالشر يفعله بهم، طالما أنَّه ملتزم بالصيغة الطقسية الشعائرية التي من خلالها وحدها يتم الجمع بين الإنسان وإلهه، كما أنها ليست معنية بثواب الإنسان وعقابه على أعماله، وَفْق مرجعية أخلاقية سماوية، ناهيك عن عنايتها بخلاصه إلى عالم آخَر يعوِّضه عن بؤس التاريخ وشقائه، وبما أنَّه لا يوجد إلَّا هذا العالم، وما من خطة هناك لإصلاحه أو تطهيره أو تحويله إلى عالَم أسمى وأرقى، فإنَّ تاريخ الإنسان مفتوح ودونما نهاية منظورة، أمَّا تاريخ الفرد فمغلق حيث ينتقل بعد الموت وشقاء الحياة إلى عالم الظلمات السفلي حيث تعيش الأرواح وجودًا شبحيًّا ظليًّا لا معنى له ولا نكهة، لا فرق في ذلك بين أمير وفقير وبين من قدَّم حسنة ومن قدَّم سيئة، رغم أنَّ اتباع طقوس الدفن الصحيحة وتقديم القرابين الدورية عند القبور لراحة أرواح الموتى قد تُخفِّف من معاناتها هناك. نقرأ في أكثر من نص بابلي عن أحوال العالم الأسفل وأهله، ومنها ما تنقله لنا ملحمة جلجامش على لسان إنكيدو الذي يحتضر على فراش الموت ويرى أحوال ذلك العالم بأحلامه، لقد جاءه قابض الأرواح واقتاده إلى هناك: «ظهر أمامي رجل معتم الوجه، وجهه كوجه طائر الزو ومخالبه كمخالب العقاب، أمسك بخصلات شعري فتمكَّن مني، قام بتحويل شكلي فغدت ذراعاي مكسوتين بالريش كما الطيور، غاص بي وقادني إلى بيت الظلام مسكن الإلهة إرجالًا، إلى دار لا يرجع منها داخل إليها، إلى درب لا يرجع بصاحبه من حيث أتي، إلى مكان لا يرى أهله نورًا وفي الظلمة يعمهون، التراب طعام لهم والطين معاش، لباسهم كالطير أجنحة من ريش، وفي بيت التراب حيث دخلت رأيت الملوك وقد نُزعت تيجانها، تلك التيجان التي حكمت البلاد ومنذ القدم …»١٦

وهنا أريد التوقف قليلًا عند مقطع من ملحمة جلجامش جرى تفسيره أحيانًا على أنَّه يُقدِّم دليلًا على وجود مفهوم كوني للشر في الدين الرافديني، أو على الأقل وجود بذور لمثل هذه الفكرة بشكلها الجنيني، فعندما كان جلجامش يتشاور مع صديقه إنكيدو في موضوع رحلة غابة الأرز يقول له: «في الغابة هناك يعيش حواوا الرهيب. هيا أنا وأنت نقتله، هيا نمسح الشر كله عن وجه الأرض.» وقبل أن يشرع في رحلته يزور أمه ننسون راجيًا بركتها: «إلى اليوم الذي به أعود، إلى أن أصل غابة الأرز، إلى أن أقتل حواوا الرهيب فأمحو عن الأرض كل شر يكرهه الإله شَمَشْ، صلِّي من أجلي إلى شَمَشْ.»

استنادًا إلى هذين المقطعين، وما تلاهما من مشاهد مغامرة غابة الأرز التي انتهت بقتل حواوا الوحش الرهيب حارس الغابة، يرى بعض المفسِّرين في حواوا رمزًا لمبدأ الشر المجرد وفي الإله شَمَشْ رمزًا لمبدأ الخير المجرد، وهذا في واقع الأمر بعيد كل البُعد عن العقلية الدينية والفلسفية البابلية التي لم تتوصَّل إلى مثل هذا التجريد قط، ودليلنا على ذلك هو المدلول الحرفي الدقيق لكلمة «الشر» الواردة هنا وهي بالأكادية «ميما-ليمنو». فالكلمة تُشير إلى كل ما هو مؤلم ومؤذٍ وغير مُواتٍ لحياة وسعادة الإنسان، ولا يوجد ما يدل على استخدامها للدلالة على الشر الأخلاقي.١٧ نقرأ على سبيل المثال في نص تعويذة بابلية مخصصة لاستنهاض أرواح الأسلاف من أجل شفاء المريض: «أقف اليوم في حضرة جلجامش وشَمَشْ: احكما في قضيتي، أصدرا قرارًا بحقي، انزعا ما في لحمي وعظمي من ميما – ليمنو.»١٨ وفي تعويذة أخرى تستنهض روح جلجامش باعتباره أحد الأسلاف العظام الصالحين: «لقد تمكَّن فيَّ المرض، فاحكم في قضيتي، إني أركع أمامك، فأصدر قرارًا بحقي، انزع المرض من جسدي خذ عني الميما-ليمنو الذي يُهدِّد حياتي، خُذ عني المرض الذي يعشعش في لحمي وعظمي وأوصالي.»١٩ إنَّ الشر المقصود في هاتين التعويذتين هو الألم والمرض، ومُرتِّل التعويذة يستنهض روح جلجامش الذي أجهز على واحد من ممثلي هذا النوع من الشر الذي يكرهه شَمَشْ على حد تعبير نص الملحمة، وهو النوع الذي وصفناه في موضع سابق بالشر الطبيعاني تمييزًا له عن الشر بالمعنى الأخلاقي الاجتماعي.

وكان لمثل هذا الشر الطبيعاني ممثلون يجسدونه في مجمع الآلهة الرافدينية، فإلى جانب آلهة البانثيون الرئيسية التي تميز سلوكها بالتناقض حيال الخير والشر، فإنَّنا نجد آلهة أخرى موكَّلة بشئون الشر الطبيعاني وخصوصًا ما تعلق منه بحياة الإنسان من ألم ومرض وموت، وهذه الآلهة تنتمي إلى قوى الظلام والعالم الأسفل، فهناك إريشكيجال ربة العالم الأسفل التي تعمل على ملء مملكتها من الناس أجمعين، وزوجها نرجال الذي كان يرسل عفاريت الظلام لتجوس في الأرض وتؤذي الناس خلال الليل، ونرجال هذا هو مظهر من مظاهر الإله شَمَشْ، الذي يغيب في باطن الأرض جهة المغرب ليسير في العالم الأسفل نحو المشرق فيطلع في اليوم الثاني. إنَّه الشمس السوداء في مقابل الشمس المنيرة البيضاء، ويُمثِّل الجانب الأشأم من فعاليَّات إله الشمس حيث يتسبَّب بالحروب والخراب والطوفانات والأوبئة، وهناك نمتار رسول إريشكيجال وصلة الوصل بينها وبين آلهة العالم الأعلى، وكان يلعب دور ملاك الموت قابض الأرواح، يعاونه في ذلك سبعة عفاريت تحف به في غدوه ورواحه. وهناك إيرا إله الطاعون والأوبئة الفتَّاكة التي تحصد الناس بالآلاف، يَصعد من العالم الأسفل وهو يجر وراءه ستين مرضًا وعلة يطلقها على مَن يشاء من الناس. وهناك ليليث شيطانة القفار الجميلة التي تُمثِّلها الأعمال الفنية على هيئة امرأة عارية لها جناحان ومخالب الطير الكاسر، وكانت تخطف الأطفال الرضع عن صدر أمهاتهم. إنَّ هذه الكائنات الما ورائية المرعبة ليست كائنات أخلاقية انحازت إلى جانب الشر عن خيار ووعي، بل هي تجسيد على المستوى الميثولوجي لوجود الشرور الطبيعانية في معزل عن الحكم القيمي الأخلاقي، وضمن عقيدة دينية لم تتوصَّل إلى مفهوم للخير والشر باعتبارهما مبدأين كونِیَّين مُجرَّدين.

خلاصة

لقد قاد هذا التصوُّر الديني للعلاقة بين أركان الثالوث الأساسي في الوجود وهي: الإله – الكون – الإنسان، إلى تصوُّر للزمن على أنَّه سيالة متدفِّقة أبدًا من لحظ الخلق وحتى آفاق غير منظورة في الأبدية، وإلى تصوُّر لتاريخ الإنسان على أنَّه سلسلة من الأحداث المتكررة المتشابهة التي تتتابع في حركة خطية، لا تنبئ عن معنى ولا تهدف إلى غاية. سيبقى هنالك بشر طالما بقي هنالك آلهة، وسيبقى هؤلاء البشر أسرى الشرط الأولي الذي أحاط بخلقهم. جيل يمضي وجيل يأتي، والشمس تشرق كل يوم وتسرع إلى مغربها، على حد قول كاتب سفر الجامعة في التوراة، والذي يُعبِّر أبلغ تعبير عن مفهوم الربوبية والتاريخ المفتوح: «الريح تذهب إلى الجنوب وتدور إلى الشمال، تذهب دائرة دورانًا، وإلى مداراتها ترجع الريح. كل الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن، إلى المكان الذي جرت منه الأنهار إلى هناك تذهب راجعة … من كان فهو ما يكون، والذي صُنع فهو الذي يُصنع، ليس تحت الشمس من جديد. إن وُجِد شيء جديد يُقال عندها: انظر هذا جديد، ولكنه منذ زمان كان، في الدهور التي كانت قبلنا. ليس ذكرٌ للأولين، والآخرون أيضًا الذين سيكونون لا يكون لهم ذكر عند الذين من بعدهم … وجَّهتُ قلبي للسؤال والتفتيش بالحكمة عن كل ما عُمل تحت السماوات، هو عناء رديء جعلها لبني البشر ليُعنوا فيه. رأيت كل الأعمال التي عُملت تحت الشمس، فإذا الكل باطل وقبض الريح» (سفر الجامعة: ١).

روح البشرية خالدة، على ما يفيدنا به نص ملحمة أتراحاسيس، لأنَّ البشر والآلهة طرفان في معادلة واحدة. نقرأ في مشهد خلق الإنسان: «لتمزج الإلهة ننتو الطين، ليجتمع الإله والإنسان معًا في الطين، لنسمع الطبل إلى آخِر الأيام، ولتكن الروح البشرية من جسد الإله، ولتعلِّمه أنَّ الحياة أضحت رمزه، ولتكُن الروح البشرية خالدة في الاجتماع، آلهة الأنوناكي مقرِّرو المصائر، أجابوا نعم. في اليوم السابع، وفي اليوم الخامس عشر من الشهر، جهِّزوا مكانًا طهورًا، ذبحوا الإله دي-إبلا في اجتماعهم، وبلحمه ودمائه عجنت ننتو الطين، لآخر الأيام سمعوا الطبل، وُجِدت الروح البشرية من جسد الإله، وعلَّمته أنَّ الحياة أضحت رمزه، وُجِدت الروح البشرية إلى الأبد.»٢٠ ولكن الخلود المعني هنا ليس خلود النفس الفردية بل خلود الجنس البشري مما يقتضيه مفهوم التاريخ المفتوح. أما الأفراد فيسيرون نحو نهاية محتومة في العالم الأسفل، بعد حياة قصيرة يُجزون خلالها على خدمتهم للآلهة، ثوابًا أم عقابًا، بطريقة مادية بحتة، فتطول بهم الأيام ويجنون الثروة ونعمة الصحة والبنين وما إلى ذلك، أو يبلون بالآلام والأمراض والموت المبكِّر، فلا بعث ولا نشور وما من حياة ثانية ترتقي بالفرد إلى وجود يسمو على وجوده السابق، وحتى العدالة الأرضية مشكوك بتحقيقها، فقد ترى من خدم الآلهة بكل إخلاص تقصر به الأيام بعد مرض وألم وفقر، ومَن أدار ظهره للآلهة يمتد به العمر ويزداد صحة ووفرةً وغِنًى. وعلى حدِّ قول كاتب سفر الجامعة: «وأيضًا رأيت تحت الشمس موضع الحق هناك الظلم، وموضع العدل هناك الجور، قلت في قلبي: الله يمتحن البشر ليريهم أنَّه كما البهيمة هكذا هم؛ لأنَّ ما يحدث للبهيمة يحدث لبني البشر، وحادثة واحدة لهم، موت هذا كموت ذاك، ونسمة واحدة للكل. ليس للإنسان مزية على البهيمة لأنَّ كليهما باطل، يذهب كلاهما إلى مكان واحد. كان كلاهما من التراب وإلى التراب يعود كلاهما. مَن يعلم، روح البشر هل تصعد إلى فوق؟ وروح البهيمة هل تنزل إلى أسفل الأرض؟ حادثة واحدة للصديق وللشرير، للصالح وللطاهر وللنجس، للذابح وللذي لا يذبح، الخاطئ كالصالح، الحالف كالذي يخاف الحلف … الكلب الحي خير من الأسد الميت، لأنَّ الأحياء يعلمون أنَّهم سيموتون، أمَّا الموتى لا يعلمون شيئًا وليس لهم أجر بعد، لأنَّ ذكرهم قد نُسي، ومحبتهم وبُغضتهم وحسدهم هلكت منذ زمان، ولا نصيب لهم بعدُ إلى الأبد في كل ما عُمل تحت الشمس … كلُّ ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوَّتك؛ لأنه ليس من عمل ولا اختراع ولا معرفة ولا حكمة في الهاوية التي أنت ذاهب إليها» (الجامعة، ٣: ١٦–٢٢، و٩: ٢–٩).

وأخيرًا، فإنَّ افتقاد المعنى في المفهوم الرافديني للتاريخ، قد جعله بعيدًا عن تلمُّس مفهوم عام عن «الإنسانية» و«المجتمع الإنساني»، وعن فهم قوانين تطوُّر هذا المجتمع وارتقائه نحو تحقيق غاية ما، وحتى في العبادات التموزية التي طوَّرت تدريجيًّا مفهومًا للخلاص الروحي نحو عالم أفضل، فإنَّ المخلِّص الإلهي بقيَ مخلِّصًا فرديًّا، وبقيت عملية التحرُّر والخلاص مرتبطة بالطقس السحري الذي يوحِّد العابد بإلهه، أكثر من ارتباطها بمفهوم مُجرَّد عن الخير والشر، ودور الإنسانية الإيجابي في تاريخها الخاص وتاريخ العالم. كما أنَّ غياب المعنى عن مفهوم التاريخ المفتوح، وغياب فكرة العدالة الإلهية، وفكرة النعمة الإلهية التي تُحرِّر الإنسان من شرطه الأرضي دون قيد أو شرط، من شأنها مجتمعةً أن تجعل التساؤل حول الحرية والجبرية أمرًا لا معنى له، لأنَّ كل عمل للإنسان، سواء بُذل عن حرية أم عن جبرية، لن تكون له أية قيمة خلاصية، لا على مستوى الفرد ولا على مستوى الكون.

(٥) الحلولية والمفهوم الدوري للتاريخ

(٥-١) الهندوسية نموذجًا

تُطالع الهندوسية دارسها لأول وهلة بمزيج من المعتقدات التي لا يربطها رابط ولا تجمعها جامعة، كما يبدو العدد الهائل من آلهتها التي تملأ أرض الهند وسماءها، عصيًّا عن الانتظام في مجمع واحد يضم شتاتها، ولعل السبب كامنٌ وراء ذلك التاريخ الطويل من التطوُّر البطيء الذي تجره وراءها هذه الديانة التي تعود بأصولها إلى ما وراء الألف الثاني قبل الميلاد، ولكن هذه المعتقدات ما تلبث حتى تنتظم أمام الدارس الصبور تحت عدد قليل من الأفكار والمفاهيم الدينية، وعدد أقل من التصورات الما ورائية. أمَّا حشد الآلهة فلا يلبث حتى تظهر حقيقته النسبية عندما تبدو نصيات الإلهية بلا قوام أو جوهر حقيقيين، وتُسفر عن وجهها ككائنات تشارك البشر بؤس الحياة والموت في عالم السمسارا، عالم تناسخ الأرواح والدورة الكونية الأزلية.

إنَّ ما يُميز المعتقد الهندوسي «أو المعتقدات الهندوسية» عن المعتقد الشرقي الأوسطي، هو بالدرجة الأولى لا مركزية فكرة الله؛ فالهندوسية تُبدي تحرُّرًا واضحًا من أيَّة دوغمائية تتعلَّق بطبيعة الإله، وجوهر الدين لديها لا يقوم على الاعتقاد بوجود الإله أو عدمه، أو على تعدُّد الآلهة أو التقائها في واحد. فمن الممكن للهندوسي أن يُعدَّ مؤمنًا وملتزمًا بدينه، سواء آمنَ بإله واحد أم بآلهة متعدِّدة، أم لم يؤمن بالآلهة طُرًّا، لأنَّ هذه المسألة لم تكُن أبدًا بمثابة حجر زاوية للديانة الهندوسية. وفي المقابل، فإنَّ الطوائف الهندوسية تشترك بعدد من الأفكار والمعتقدات الأساسية التي لا يصح دين الهندوسي بغيرها، أول هذه المعتقدات ورأسها هو الإيمان بتناسخ الأرواح، يليه معتقد الكارما الذي يرتبط به أشد الارتباط، والكارما تعني في الأصل الفعل، ولكنها في السياق الأيديولوجي المعني هنا، تعني الفعل وجزاؤه ثوابًا كان أم عقابًا، على أنَّ ما يُميِّز فكرة الثواب والعقاب في الهندوسية عن نظيرتها في الديانات الشرقية الأوسطية، هو أنَّ الجزاء غير مفروض من قبل شخصية إلهية تتصف بالعدل، بل يتم بشكل أوتوماتيكي من خلال قانون الكارما الكوني، وهو قانون غفلٌ غير مشخص وغير متصل بواحد من الشخصيات الإلهية. فما تراكمه الروح من كارما في تجسُّدها الحالي سوف يؤثِّر على سلسلة تناسخاتها التالية، مثلما أنَّ وضعها الحالي محكوم بكارما التناسخات الماضيات، وهكذا تُتَابع الروح الفردية تجسُّداتها في دورة سبية أزلية لا تنتهي تُدعى بالسنسكريتية سمسارا، وهي دورة لا بداية لها ولا نهاية، تتجاوز عالم الإنسان لتطال عالم الظواهر المادية بأكمله، كل شيء واقع في إسار الزمن وفي إسار الرغبة في إتيان الفعل «كارما»، والزمن نفسه عبارة عن عجلة تدور على نفسها، كلما بلغت دورة منتهاها عادت إلى نقطة البداية، دون أن تنشد غاية أو تسعى إلى هدف، ومع ذلك فإن الانعتاق (= موكشا) من هذه الدورة مُمكن التحقيق، وهو بؤرة الحياة الدينية للهندوسي، والنهاية التي يطمح إليها من كدحه الروحي، إلَّا أنَّ الطوائف الهندية تختلف في كيفية تحقيق هذا الانعتاق، وفي الحالة التي تصير إليها الروح المتحرِّرة بعد انعتاقها.

من هنا يدعو الهنود دينهم بالدهارما الخالدة، أي سُنَّة الكون الأبدية، والكلمة تُستخدم بمعنيين، فهي تدل من جهة على مُجمل الكتابات المقدسة وشروحاتها، ومن جهة أخرى على القانون الأبدي الثابت الذي يحكم الكون برمته. وبالمعنى الثاني فإنَّ سُنَّة الكون تتطابق مع ما نفهمه اليوم من مصطلح القانون الطبيعي الذي تجعل منه العلوم حقلًا لدراستها، ولكن مع فارق هام، وهو أنَّ هذا القانون الطبيعي بالنسبة للهندوسي لا يقوم بذاته، وإنَّما يستند إلى مستوى أعمق للوجود، هو الأرضية غير المتغيرة لكل عَرَضٍ متغيِّر، ويدعى براهمن: القاع التحتي غير المشخص للوجود، الذي صدر عنه الناس والآلهة ومظاهر الوجود طرًّا. ولبراهمن نفسٌ تدعى أتمان وهي منبثة في جميع الكائنات الحية من آلهة وبشر، وفي كل ما يدب على الأرض أو يطير في الهواء أو يسبح في الماء. فالنفوس رغم تجزئتها الظاهرية وتباينها هي في حقيقة الأمر نفسٌ واحدة، وإلى هذه النفس الواحدة ترجع النفوس المتحرِّرة المنعتقة لتذوب فيها.

وبهذا يتحصَّل لدينا سبعة مفاهيم أساسية تشكل أساس العقيدة الهندوسية وهي:
  • (١)
    سمسارا: الدورة السببية الكبرى، والعالم الذي تتناسخ فيه أرواح الكائنات الحية وأرواح الآلهة.
  • (٢)
    كارما: الفعل وتبعاته الأخلاقية.
  • (٣)
    دهارما: السنة الكونية.
  • (٤)
    موكشا: الانعتاق من الدورة السببية.
  • (٥)
    براهمان: الثابت الأبدي والقاع الكلي للوجود.
  • (٦)
    أتمان: النفس الكلية في تجزئها ووحدتها.
  • (٧)
    مايا: والكلمة في الأصل تعني الوهم أو الظواهر الخادعة.

تقوم فكرة المايا أساسًا من أجل الربط بين الواحد غير المتجزِّئ والكثرة التي صدرت عنه، لأنَّ الواحد لا يمكن أن يكون سبب الكثرة، ولابد أنَّ هذه الكثرة من عناصر الطبيعة هي وهمٌ يمت إلى عالم الظواهر والخداع، وما دامت الروح تعيش في إسار دورة السببية «سمسارا» فإنها واقعة تحت سلطة المايا، تعاين الكثرة والتنوع، كثرة الموضوعات الطبيعية وتنوع النفوس البشرية. أمَّا عندما تفلح في الانعتاق، فإنَّ الوهم الكبير ينجلي، ويبدو لها كل شيء متوحدًا في المطلق العظيم، فتنمحي الحدود بين الظواهر وتذوب الفروق بين الأرواح التي كانت تعيش وهم التفرُّد والاستقلال. وأمَّا الإله المشخص الذي عرفته النفوس خلال دهور دوراتها في السمسارا، فيبدو لها على حقيقته: براهمان الأزلي الحق، بعد أن كان براهمان + مايا، مثلما كانت النفوس الحية أيضًا نفسًا + مايا، وهنا يتحقَّق التطابق في الهوية بين النفس أتمان والمطلق براهمان. إنَّ ما يُحقِّق للنفس هذا النوع من الانعتاق النهائي هو انكشاف بصيرتها الداخلية على حقيقة أنَّ هذا العالم المتكثر هو واحد في جوهره، وإنَّ كل ما في الوجود هو براهمان.

على أنَّ الفهم الواضح للمعتقدات الهندوسية لن يتحصَّل لنا إلَّا إذا تابعنا الكيفية التي تطوَّرت بها هذه المعتقدات خلال تاريخ الهندوسية الطويل، والذي يبتدئ مع دخول الأقوام المدعوة بالهندو-آرية إلى شبه القارة الهندية.

(٥-٢) التطور التاريخي

ديانة الفيدا

حوالي منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، غزت شبه القارة الهندية جماعات محاربة من الشعوب المعروفة تاريخيًّا باسم الهندو-آرية، والتي كانت تنساح من مواطنها الأصلية في السهوب الأوراسية نحو مناطق غرب آسيا وأوروبا منذ مطالع الألف الثاني قبل الميلاد. احتلَّ الآريون أولًا وادي نهر الأندوز «السند» في شمال غرب الهند، حيث دمَّروا حضارة عريقة تشبه حضارة وادي الرافدين، ثم تابعوا بعد ذلك تقدمهم ببطء إلى حوض الغانج، ولم يصلوا إلى الجنوب إلَّا بعد منقلب الألف الأول قبل الميلاد، وقد حمل هؤلاء الآريون إلى الهند الديانة المعروفة بالفيدية، نسبة إلى الفيدا، وهي مجموعة أشعار تحتوي على أناشيد دينية تم تأليفها بعد استقرار الآريين، وعلى امتداد فترة لا بأس بها من الزمن، باللغة السنسكريتية، وهي لغة قريبة من اللغة التي تكلمها وكتب بها الفرع الآخَر من الهندو-آريين الذين دخلوا إيران في الوقت نفسه تقريبًا.

والفيدية هي ديانة طقسية تقوم على معتقد ربوبي شبيه بمعتقد وادي الرافدين. ففي الأناشيد الفيدية التي كانت تُتْلَى في الاحتفالات الدينية، كان الشعراء في ذلك العصر يسألون الآلهة أن تمنح عبادها قطعانًا كثيرة من الماشية، وثروة وحياة مديدة مقابل ما يقدِّمونه إليها من قرابين، وكانت خدمة الآلهة وتقديم القرابين إليها هي العنصر الحاسم في تقرير مصير الروح وحياة ما بعد الموت. أمَّا الأخلاق فكانت شأنًا دنيويًّا تُنظِّمه الأعراف والعادات القبلية المؤسَّسة منذ القدم، ولم يكُن لأولئك الآريين في بداية عهدهم معابد ولا بُقع مقدَّسة معيَّنة لأداء الطقوس، بل كانوا يقيمون شعائرهم في الهواء الطلق وعلى أرض يمهدونها لهذه الغاية، ويجهِّزونها بمذبح وبموقد نار لإحراق الأضاحي، وكان القربان يتألَّف في العادة من منتجات حيوانية مثل الزبدة والجبن، ومن الحبوب، ومن عدد من الحيوانات تُذبح تباعًا هي التيس والخروف والثور والحصان، وفي نهاية الطقس الذي غالبًا ما يدوم يومًا كاملًا، يؤتى بشراب السوما المخدر فيسكب منه أمام الآلهة ويتم تناوله من قبل المشتركين بالطقس ليحملهم إلى السماء في زيارة خاطفة.

وقد اتسعت أسفار الفيدا حتى شملت أربع مجموعات ضخمة من الأناشيد والتراتيل والصيغ السحرية، التي كانت تُتَدَاول شفاهة حتى وقت متأخِّر من الألف الأول قبل الميلاد، وهذه المجموعات هي: رج فيدا، ساما فيدا، ياجور فيدا، أثار فيدا. وكلمة الفيدا هنا تعني المعرفة المقدَّسة، وهي من نفس الجذر الإنكليزي Wise, Wisdom واللاتيني Video، والألماني Wissen. وجميعها تؤدِّي معنى المعرفة أو الحكمة، ورغم كل التطوُّرات التي طرأت على الهندوسية وأشكالها اللاحقة، فقد بقيت قداسة هذه الأسفار فوق كل مُساءلة، وبقي الاعتراف بها كمصدر للعقيدة هو الفاصل بين المذاهب القويمة والمذاهب الهرطقية.

على أنَّ معتقد الفيدا ما لبث حتى أفسح المجال لمعتقد جديد هو المعتقد البراهماني، الذي حوَّل معه معتقد الربوبية تدريجيًّا إلى معتقد حلولي صوفي، وذلك بتأثير طبقة البراهمانيين «أو البراهمة»، وهم فئة من الكهان كانت تُشرف في الماضي على طقوس القرابين، ثم أخذت تدريجيًّا بتكوين مفهوم عن الألوهة مختلف تمامًا، والنظر إلى الآلهة الفيدية، التي كانت آلهة لمظاهر الطبيعة المختلفة، باعتبارها وجوهًا لحقيقة كلانية واحدة هي براهمن: المطلق غير المشخص، والقدرة الشمولية التي تسند مظاهر الكون المتبدية. وقد تطوَّر الفكر البراهماني عبر الأسفار المعروفة بالبراهمانات، وهي تعليقات وشروح على الفيدا، بلغت ذروة نضجها في مجموعة الأوبانيشاد التي شكَّلت قمة من قِمم التأمل الحكموي العالمي، وقد تمَّ تأليف البراهمانات والأوبانيشادات خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد.

البراهمانية

من خلال تفرغهم الشامل للشئون الدينية، وإشرافهم على أداء الطقوس المعقدة المصحوبة بأناشيد الفيدا، طوَّر البراهمانيون مفاهيمهم النظرية الفلسفية عن معنى الطقس وغايته، والقوة الخافية التي تمنحه الفعل والتأثير. فالتضحية ليست قُربانًا يُقدَّم للآلهة مع الصلاة والشكر، بمقدار ما هي عمل سحري يضع تحت تصرفهم القوة فوق الطبيعانية السارية في الكون برمته، والتي ينبغي على الآلهة أنفسهم أن يقدموا لها فروض الطاعة، هذه القوة فوق الطبيعانية التي تجعل السحر فعَّالًا وممكنًا هي براهمن، وكلمة براهمن في الأصل تُشير إلى الصيغة السحرية المستخدمة لاستنهاض «القوة» ودفعها إلى تفعيل الأداء السحري، ثمَّ تحوَّلت لتصبح دلالة على القوة الخافية نفسها، وشيئًا شيئًا أخذت الآلهة الفيدية القديمة تفقد شخصيتها لتغدو رموزًا طقسية لا أكثر، فبدلًا من التأثير على «القوة» من خلال الصيغ السحرية، صار سعي البراهماني يتجه نحو التوحُّد مع تلك القوة القدسية الشمولية السارية في الكون، وذلك عن طريق رياضات روحية معيَّنة واحتساء شراب السوما، مما يوصل إلى الوجد والإحساس بالتماهي مع «القوة» واكتساب قوى فوق طبيعانية، وهم في سعيهم هذا لم يُظهروا أي اهتمام بتطوير الديانة الشعبية، ولم يهتموا قط بالأخلاق، لأنَّ التفكير بالكون عندهم لا يُمكن أن يقود إلى استخلاص أخلاقيات معيَّنة، والاتحاد بالسرمدي هو عمل روحاني بحت لا علاقة له بالسلوك اليومي. من هنا كان كهنوتهم وقدرتهم الكهنوتية، لا الدين بمعناه الأوسع والأشمل، هما اللذان يُشكِّلان موضوع تأملاتهم، فقد كان جهدهم موجهًا لأن ينفُذوا أكثر فأكثر إلى سر الطبيعة عن طريق الممارسات الطقسية، ويتحدون به في الوجد، وهذا الاتحاد الذي يعيشه البراهماني في نوبات الوجد هو مقدمة للاتحاد النهائي مع عالم الألوهة بعد الممات، وهو بشكلٍ ما وقف على طبقة البراهمانيين دون غيرهم من الطبقات.

مع نشوء البراهمانية بدأ أيضًا نظام الطبقات الهندوسي بالترسُّخ في حياة الهند الدينية والاجتماعية، فقد انقسم المجتمع إلى أربع شرائح متمايزة ومستقلة، الأولى شريحة الكشاتريا وهم النبلاء، والثانية البراهمانيون من رجال الدين، والثالثة الفايسيا وهم عامة الآريين من مزارعين وحرفيين، والرابعة الشودرا أو الخدم وهم السكان الأصليون من ذوي البشرة الداكنة، ورغم أنَّ اختلاط الطبقات الثلاثة الأولى كان يخضع لعدد من القواعد الصارمة، إلَّا أنَّ الحد الفاصل بين طبقات الآريين هذه والطبقة الرابعة المؤلَّفة من السكان الأصليين كان صارمًا جدًّا، ومع الزمن نشأت طبقة خامسة هي طبقة المنبوذين التي اعتُبرت نجسة وخارج إطار الحياة الاجتماعية كلية. ورغم أنَّ نظام الطبقات الاجتماعية هذا قد صُمِّم في البداية للحفاظ على نقاء عرق الشريحة الحاكمة، إلَّا أنَّه قد أُعطِيَ بُعدًا دينيًّا فيما بعد، عندما تبنَّت البراهمانية معتقد التناسخ ومعتقد الكارما، مما سنتعرض له في حينه بعد قليل.

كانت أسفار الأوبانيشاد قمة إنجاز البراهمانية، ورغم أنَّ الأوبانيشاد جاء نتيجة طبيعية لجدلية الفكر البراهماني وممارساته الطقسية، إلَّا أنَّه قد عمل على إحداث تغييرات عميقة في البراهمانية، تجلَّت في انقلابين رئيسيين على صعيد الفكر والممارسة، الأول عزوف البراهمانيين عن الطقوس الشكلانية الخارجية واستبدال الطقوس الداخلية بها، والثاني اعتراف البراهمانيين لبقية الطبقات بإمكانية الانعتاق من العالم والاتحاد ببراهمن، تنطوي الطقوس الداخلية على عدد من الممارسات الجسدية والرياضات الذهنية، فإلى جانب النسك والتقشُّف وإنكار متع الدنيا والعزوف عن أي نشاط عملي سيئًا كان أم صالحًا، هنالك عدد من الرياضات الذهنية التي تقوم على التأمل الباطني الهادف إلى التواصل مع منبع الحقيقة والتطابق معه.

رغم أنَّ الأوبانيشادات «فصول أو أسفار الأوبانيشاد» تختلف في تصوُّرها للحقيقة المطلقة التي يدعونها براهمن، إلَّا أن الاختلافات هي من قبيل تنوُّع أساليب التعبير، والميل أحيانًا إلى استخدام المجازات اللغوية. فبعض الأوبانيشادات تنظر إلى براهمن على أنَّ الحقيقة الكلانية الخافية غير المشخصة، والتي لا يُمكن تصوُّرها تحت أي شكل أو صفة وخصيصة، فهو المطلق بكل امتياز، عنه نشأت الأكوان والحيوات وإليه تعود. وبعض الأوبانيشادات ينظر إلى براهمن كإله مشخص كلي القدرة والمعرفة والحضور، وكحاكم للعالم ومدبر لشئونه. هذا التناقض المتبدِّي على مستوى التعبير بين الألوهة غير المشخصة والألوهة المشخصة، يجد تفسيره في أوبانيشادات أخرى توحِّد بين وجهي الألوهة المختلفين ظاهرًا والمتحدين ضمنًا، فتتحدَّث عن براهمن في حالين، حال الخفاء وحال التجلِّي. فلقد أطلق براهمن الخافي نحو الخارج قوته الخلَّاقة الكامنة فتشكَّلت منها بيضة ذهبية طفت على سطح مياه السرمدية عند فجر الخليفة، ومن هذه البيضة خرج الإله الخالق برَهْما (لاحظ الفرق بين الاسمين: برهما وبراهمان) الذي خلق كل شيء بواسطة المايا، أي القوة الخلَّاقة للإله براهمان. هذا الوجه الخالق للمطلق هو الرب الذي يتوجَّه إليه الناس بالعبادة والصلوات، وهو بوابة عبور الوعي الإنساني نحو المطلق السرمدي الساكن.

وكما أنَّ براهمان الخافي هو القاع التحتي لكل مظاهر العالم الموضوعي، فإنَّه في الوقت ذاته القاع التحتي لكل ما يجري على النطاق الذاتي من وعي وإحساس وتفكير، إنَّه أتمان، جوهر النفس في تمايزها عن الجسد. نقرأ في مقطع أحد الأوبانيشادات: «هو الذي يُقيم في الأرض وفي المياه وفي النار وفي الجو وفي الرياح وفي السماء وفي الجهات الأربع … هو الذي يُقيم في كل الأشياء ومع ذلك هو غيرها، هو الذي يدبر كل شيء من الداخل، هو النفس، يقيم في الأنفاس وفي الكلام وفي العين وفي الأذن … هو الرائي الذي لا يُرى، والسامع لا يُسمع، والمفكر الذي لا يُفكَّر به، والفاهم الذي لا يُفهم، هو نفسك: أتمان.» في هذا المقطع وأمثاله، يؤكد الأوبانيشاد على أنَّ جوهر الفرد وروح العالم هما شيء واحد، وهذا ما تُعبِّر عنه الجملة الشهيرة الواردة في شاندوجيا أوبانيشاد: «هو أنت.» أي أنَّ النفس الفردية هي من ذات طبيعة النفس الكلية، وأنَّ الحقيقة العليا هي براهمن-أتمان، الذاتي والموضوعي في واحد، وعندما تعرف النفس الفردية من خلال حدسها الخلَّاق تطابقها مع براهمن تصل حالة السعادة الأرضية الكاملة، وتفلح في الانعتاق والاتحاد مع براهمان بعد الممات.

لم يُعلَّم البراهمانيون في البداية سوى أنَّ النفوس التي هي من طبيعة واحدة، ترجع إلى مصدرها بعد حياة واحدة في الجسد وفي العالم المادي، ولكن مذهب التناسخ بدأ يفرض نفسه على البراهمانية بقوة منذ عصر الأوبانيشاد، وذلك بتأثير معتقدات سكان الهند الأصليين التي بقيت حية رغم تأثرها بديانة الفاتحين. يقول مذهب التناسخ بوجود جواهر فردية مستقلة هي الأرواح، وهذه الأرواح تحلُّ في أجساد حية لتعيش دورة في عالم السمسارا، وتُراكم سلسلة من الكارما التي من شأنها تحديد طبيعة تناسخها أو تناسخاتها المقبلة، والكارما هي كل الأعمال والأفكار والأقوال، منظورًا إليها بمعيار أخلاقي، والتي ستجد ثوابها وعقابها في التجسد المقبل، فالكارما الحسنة سوف تقود الروح إلى تجسدٍ أعلى، أمَّا الكارما السيئة فسوف تقود إلى تجسدٍ أدنى، قد يصل حد التجسد في حيوانات أو حشرات. وتدوم دورة التناسخ هذه إلى ما لا نهاية، إذا لم تستطع الروح شق طريقها بثبات في طريق صاعد أبدًا نحو تجسدات أفضل فأفضل، حتى تفلح أخيرًا في الانعتاق من الدورة السببية. وهنا قام الفكر الديني الهندوسي بعقد الصلة بين نظام الطبقات الاجتماعي وقانون الكارما، ووجد التفاوت الاجتماعي واللامساواة في النظام الطبقي تفسيره البسيط. فإذا كان البراهماني يتمتَّع بكل ما تُقدِّمه له طبقته من مزايا، والشودرا يُعاني من كل الشروط الحياتية البائسة المحيطة بطبقة الخدم، فلأنَّ كلًّا منهما قد قدَّم في حياته الماضية ما أهَّله لهذه الحياة الحالية. وبالطبع فإنَّ أية محاولة لإزالة الفوارق بين الطبقات هو عمل يرقى إلى مستوى الهرطقة لأنَّه يُعاكس القانون الكوني للسبب والنتيجة.

على أنَّ البراهمانية بقيت أمينة لموقفها السابق من الأخلاق رغم تبنِّيها لعقيدة التناسخ، فالسلوك الأخلاقي في حدِّ ذاته لا يوصِّل إلى الانعتاق، بل يؤهِّل صاحبه إلى تجسُّد أفضل. لقد كان على البراهماني الصالح أن يلتزم بالقواعد الأخلاقية الخاصة بطبقته، ولكن سلوكه الأخلاقي هذا وقفٌ على الشطر الأول من حياته، وهي الفترة التي يمارس خلالها حياته الاجتماعية كاملة فيتزوَّج وينجب الأولاد ويُساهم في كل نشاط إيجابي تتطلَّبه حياة الجماعة. أمَّا في الشطر الثاني من حياته، فإنَّ البراهماني ينسحب من العالم ويهجر أسرته التي لم تعُد بحاجة إليه، فيذهب إلى الغابة ليعيش حياة الزهد والتنسُّك والتأمل، تاركًا العالم بخيره وشرِّه معًا، مبتدئًا رحلته الداخلية العرفانية التي يأمل منها أن تقوده إلى الانعتاق. نقرأ في أحد الأوبانيشادات: «إنَّ الخالد ليس لديه خوفٌ مما ارتكبه من شر ولا أمل فيما فعله من خير، لا الخير ولا الشر يتحكَّمان به، وإنَّما هو الذي يسيطر عليهما كليهما، لا شيء ممَّا فعله ولا شيء ممَّا أهمل فعله يمكن أن يكون له أهمية عنده.» وفي أوبانيشاد آخر نجد أنَّ الأرواح بعد مغادرتها أجسادها تصعد إلى القمر وتُقيم فيه ردحًا قصيرًا، ثم يُتابع بعضها سيره نحو السماء، وبعضها الآخَر يعود إلى الأرض مع الأمطار. يمتلئ القمر بحلول هذه الأرواح فيتزايد وعند مغادرتها يتناقص، ولكل قادمٍ جديد يتقدَّم القمر بالسؤال: مَن أنتَ؟ فإذا أجابه أنا أنت «وهي الصيغة التي تدل على وصوله إلى العرفان الداخلي الحقيقي بالتوحُّد مع براهمان» تركه يمرُّ، ومَن لم يحرْ جوابًا عاد إلى الأرض ليولد من جديد في جسدٍ ما بحسب ما قدَّمته يداه وما حقَّق من معرفة، أي إنَّ كل ما يُمكن للعمل الصالح أن يفيد به صاحبه هو إتاحة الفرصة أمامه للتجسد في صورة إنسانية تعطيه فرصة جديدة لمعرفة نفسه ومعرفة ربه.

ولقد أدَّى تلاؤم البراهمانية مع عقيدة التناسخ والكارما إلى تشكيل المذهب البراهماني المتأخر، الذي حاول التوفيق بين جوهر البراهمانية وعقيدة التناسخ القائمة على الأخلاق، وتجد هذه الصياغة التوفيقية شكلها الأكثر وضوحًا في مذهب الفيدانتا. يقول مذهب الفيدانتا بوجود حقيقتين، الأولى ظاهرية وهي ذات رتبة دنيا، والثانية باطنية وهي ذات رتبة عُليا. بموجب الحقيقة ذات الرتبة العليا يستطيع الفرد تحقيق الاتحاد مع النفس الكلية عن طريق العرفان الداخلي، وبموجب الحقيقة ذات الرتبة الدنيا يستطيع أولئك الذين لا يعرفون براهمان تحقيق الخلاص عن طريق التعبد للإله المشخص الخالق، وإنجاز واجباتهم على أتمها. لقد أدرك أصحاب هذه البراهمانية المتأخرة أنَّ صوفية الاتحاد مع براهمان هي أمر مختلف تمامًا عن مذهب التناسخ ذي القاعدة الأخلاقية، ففضَّلوا تركهما متعايشين جنبًا إلى جنب من خلال مذهب الحقيقتين. ولقد قاوم المعلم شنكارا، وهو أهم معلمي الفيدانتا، بعناد فكرة أن الانعتاق مرتبط بالموقف الأخلاقي للإنسان، وكان يُردِّد بإلحاح أنَّ الأخلاق ليست إلَّا محركًا للحقيقة الظاهرية، ولم يجِد لها إلَّا مكانة ثانوية في السعي الحقيقي إلى الاتحاد المباشر ببراهمان.

إلى جانب معتقد التناسخ والكارما فقد تبنَّت البراهمانية معتقد الدمار الدوري للعالم وإعادة خلقه مجددًا، ففي الزمن الخطي الذي يتقدَّم دومًا نحو الأمام منطويًا على تاريخ للكون وللإنسان مفتوحًا على اللانهاية، مما آمنت به الديانة الفيدية والبراهمانية المبكرة، صار لدى البراهمانية في عصر الأوبانيشاد تصوُّر دائري للزمن وللتاريخ، فالزمن يدور على نفسه دورة كاملة لينتهي إلى حيث ابتدأ، وبعد هدأة في حضن مياه السرمدية ينطلق إلى دورة تالية، وهكذا إلى ما لا نهاية. الزمن لا بداية له ولا نهاية، والعالم لم يُخلق مرَّة واحدة في زمن معيَّن، ولن يئول إلى فناءٍ تام، وبذلك تتسع دورة السمسارا التي تتناسخ فيها الأرواح لتشمل العالم بأسره، حيث كل شيء آيلٌ إلى الدمار وكل شيء معد للميلاد الجديد. وللزمن في دورانه على نفسه دورتان، الأولى تدعى ماها-يوغا وهي الدورة الصغرى، والثانية تُدعى كالبا وهي الدورة الكبرى، تسير الدورة الصغرى ماها-يوغا عَبْر أربعة عصور تتدرَّج من الكمال التام في العصر الذهبي إلى الفساد التام في العصر المظلم، وعدد سنواتها ٤٣٢٠٠٠٠ سنة. أمَّا الدورة الكبرى كالبا فتتألَّف من ألف دورة صغرى، وتُشكِّل يومًا واحدًا من أيام برَهْما. في نهاية كل كالبا، وفي آخِر لحظة من غسق يوم برَهْما، تنشطر الأكوان وتتهاوى عائدة إلى الماهية القدسية التي نشأت عنها، ويهدأ إيقاع الزمن في ليل برَهْما الطويل. وفي أول لحظة من فجر اليوم التالي، يولد الإله الخالق برَهْما مرة أخرى من أعماق المطلق براهمان ليقوم بخلق كون آخَر يدخل في كالبا جديدة. وهنا تعود الأرواح التي بقيت غافلة عن نفسها ناسية أعمالها الماضيات في الليل، فتنتبه من غفلتها وتحمل كل واحدة منها أعمالها لتدخل في دورة تناسخ جديدة تمتد مليارات السنين قبل أن تهجع مع هجعة الكون في آخِر الكالبا … وهكذا إلى ما لا نهاية. وقد استمرَّ هذا المعتقد في جميع أشكال الهندوسية اللاحقة.

الهندوسية الكلاسيكية

تقوم الهندوسية الكلاسيكية، التي بدأت بالتشكل منذ القرون الأولى للميلاد، على معتقد الألوهية ولكن دون تخلٍّ تام عن معتقد وحدة الوجود، لأنَّها نشأت وتطوَّرت تحت نفوذ الفكر البراهماني المتأخر. فخلال الفترة ما بين ٢٠٠ و٧٠٠ ميلادية، عندما دخلت الحضارة الهندية عصرها الذهبي برعاية الإمبراطور غوبتا وخلفائه، ظهر معلمون روحيون ينتمون إلى الفكر البراهماني، ولكنَّهم في الوقت نفسه راغبون في سد حاجة السواد الأعظم من الناس إلى إله مشخص قريب يمكن محبته وعبادته والدخول في علاقة شخصية معه. وقد حصلت النقلة الحاسمة بين البراهمانية المتأخرة والهندوسية الكلاسيكية، عندما صاغ أولئك المعلمون الروحيون عقيدة تقول بأنَّ المطلق غير المشخص براهمان يتجلَّى في العالم من خلال ثلاث ألوهات تمثل الوظائف الإلهية الثلاثة، وهي: برَهْما الخالق، وفيشنو الحافظ، وشيفا المدمر. وبذلك نشأت عبادات محلية تدور حول واحد أو أكثر من هذه الآلهة الثلاثة.

إنَّ براهمان حاضر في العالم من خلال إله مشخص يُدبِّره ويُسيِّره ويهتم بشئون خلقه، ويؤمِّن لهم سُبل الانعتاق والخلاص. وهنا تحل محبة الإنسان للإله والإخلاص له محل الكدح الروحي الذي يقوم على العرفان، وتحل الأعمال وتأدية الواجبات على أتمها محل الممارسات الزهدية والتقشفية. إنَّ محبة الإله والاستسلام الكامل له، تقود إلى اتحاد محبة معه لا إلى اتحاد عرفان، وبذلك تستطيع الشرائح الشعبية الواسعة التي ليس بمقدورها الدخول في اتحاد عرفان مع المطلق أن تتخذ إلى الله طريقًا أقل مشقة وأقرب إلى مقدرتها الذهنية وطاقتها على الكدح الروحي، وهذا الطريق لا يُنكر طريق العرفان بل يعتبره طريقًا أعلى وأنبل لمَن يستطيع السير فيه.

في عبادة الإله شيفا، يتبدَّى المعتقد الهندوسي في أوضح أشكاله الألوهية، فالعلاقة بین الله وخلقه هي علاقة محبة، وكل عمل من أعماله يصدر عن اهتمام بمخلوقاته. الوجود كله مؤلَّف من الله ورعيته (= الأرواح) والأصفاد، وهذه الأصفاد ثلاثة: (١) عالم الظواهر (= مايا) وهو عالم أزلي أبدي لا بداية له ولا نهاية. (٢) الكارما وهي الفعل وثماره مما تراكمه الأرواح خلال تجسداتها في عالم الظواهر. (٣) التجزئة وهي التي تجعل الروح منغلقة على نفسها ومنفصلة عن الله. في حالتها الدنيا تكون الروح جوهرًا فرديًّا بلا شكل ولا وعي ولا حركة، وغير قابلة للفناء في الوقت ذاته، ثمَّ تصير الروح إلى المرحلة الوسيطة عندما تحل في جسد وتتحوَّل إلى ذاتٍ واعية نشطة تتحرَّك في عالم الظواهر المادية وتراكم الكارما الخاصة بها، وبذلك تصير أسيرة الأصفاد الثلاثة. وهذه الحالة الواعية في الأصفاد الثلاثة هي التي تهيئها للانعتاق وتجمعها إلى الله، وهي المرحلة الثالثة. غير أنَّ الروح المنعتقة لا تذوب في الله، كما هو الحال في التصوف البراهماني، وإنَّما تنضم إليه مع بقائها واعية لوجودها ووجوده رغم أنَّها صارت إلى طبيعة أقرب إلى طبيعته.

ولقد شابه موقف الهندوسية الكلاسيكية من الأخلاق، في بداية عهدها، موقف البراهمانية. فمحبة الله هي محبة شخصية موجهة من الفرد إلى الخالق، ولا تتَّسع بالضرورة لتشمل محبة الآخرين. والأعمال التي يتوجَّب على المؤمن إتيانها لم تكُن تتجاوز الواجبات التي يُحدِّدها انتماؤه لطبقة معيَّنة والالتزام بأخلاقياتها الرسمية، ولم يكُن هذا الموقف من الأخلاق ليعني بأيَّة حال من الأحوال أنَّ الهندوسي ليس معنيًّا بمحبة جاره والسلوك بشكل أخلاقي كامل، بل إنَّ السلوك الأخلاقي يجب ألَّا يُبذل استجلابًا لمكافأة ما إلهية كانت أم اجتماعية، وأن يكون حرًّا من أي قيد أو شرط. على أنَّ الهندوسية الكلاسيكية ما لبثت حتى سارت بمعتقدها إلى نتيجته المنطقية، وتحول الإله من كائن فوق الخير والشر إلى كائن أخلاقي، ودخلت الأخلاق في صلب السلوك الديني. فإذا كان الإله أخلاقيًّا فإنَّه يحض على مكارم الأخلاق ثم يجزي بها.

على أنَّ الأخلاق الهندوسية بقيت أسيرة معتقد جبري يحرمها من جوهرها كسلوك حُر ومسئول. فلقد طوَّرت الهندوسية الكلاسيكية اعتقادًا بجبرية شمولية تطال الكائنات الحية مثلما تطال الكون بأكمله. إنَّ الفعل الذي يقوم به الفرد، وما ينجم عنه من كارما، ليس إلا جزءًا من كارما الكون بأسره، وكارما الكون هي جزء من كارما الله، فالله في حالة فعل دائم مثلما هو في حالة سكونٍ دائم أيضًا، وكارما الله تتم في الزمن، فالزمن يتطابق مع القدر، والله يتحكَّم بالقدر، والإنسان في حالة عجز تام أمام القدر، ويستتبع ذلك أنَّ الإنسان ليس هو فاعل الخير والشر لأنَّه ليس كائنًا مستقلًّا، بل الله هو الذي ينجز الخير والشر على يديه، ومع ذلك فإنَّ على الإنسان أن يفعل دومًا ما هو صالحٌ في عينيه ثم لا يلتفت إلى نتيجةٍ أو منفعةٍ منه، وأن يُمارس كل نشاط بدافع من حبه الله واستسلام كامل لما يتمه الله على يدَيه. هذا هو مضمون الحرية الإنسانية.

تظهر هذه الأفكار بكل قوة ووضوح في ملحمة الماهبهارتا، التي تعادل مكانتها في الهندوسية الكلاسيكية مكانة الأوبانيشاد في البراهمانية. ففي مشهد تجلي الإله كريشنا للبطل أرجونا قبل المعركة الحاسمة، يطلب الإله من أرجونا ألَّا يتردَّد في قتال أبناء عمومته في الفريق الخصم، لأنَّ على البطل أن يفهم أنَّه ليس هو الذي يقتل وإنَّما يُنجز عملًا أراده الله. ومن خطاب كريشنا لأرجونا نقرأ هذه المقتطفات: «إنَّ على الإنسان ألَّا يتهرَّب من عمل فرضه عليه منبته الطبقي، حتى لو كان فيه ما يسوء؛ فكل المشروعات مصحوبة بأمور سيئة مثلما هي النار مصحوبة بالدخان» … «حتى المجرم الكبير إذا بجَّلني من كل قلبه ولم يفكِّر إلا بي وحدي، يجب أن يُعتبر على صواب فيما فعل لأنَّه قام بعمله بروح طيبة» … «حتى لو كنت من بين الخاطئين أكبرهم، فإنَّك على زورق المعرفة الحقيقية سوف تجتاز محيط الشر» … «مهما فعلت يا أرجونا، فإنَّ أولئك المحاربين المصطفين للمعركة سيموتون. والحقيقة أنَّهم قد هلكوا على يدي. أمَّا أنت فكُن الأداة فقط. ذلك أنَّ مَن يولد صائرٌ إلى الموت، ومَن يموت صائرٌ إلى الولادة، وأمام ما لا مفر منه لا يُجدي التذمُّر.»

خلاصة

من هذا العرض الموجز والمكثف، نستطيع استخلاص أهم النتائج ذات الصلة بموضوعنا:
  • (١)

    رغم تسرُّب بعض أساطير الخلق والتكوين من الديانة الفيدية القديمة إلى الهندوسية، إلَّا أنَّ الهندوسية، وعبر جميع أطوارها، لم تأخذ مسألة الأصول والبدايات بشكل جدِّي. فالعالم لم يُخلق مرَّة واحدة ابتداءً، وليس له نهاية منظورة، أو منقلبٌ يرتفع به من مستوًى أدنى من الوجود إلى مستوى أعلى. فالزمن يدور على نفسه، ومع كل دورة يفنى الكون القديم ويُخلَق كون جديد ليسير في الحلقة المفرغة نفسها، فلا بداية ولا نهاية، بل عودٌ أبدي بلا هدف ولا غاية. هذه الرؤية للزمن الدوري المتناوب عند الهندوسية تنطوي على إصرار شديد على رفض التاريخ باعتباره حركة دائبة تهدف إلى تطوير الكون وتطوير الجنس البشري، ولا ترى فيه إلا نُسخًا يكرِّر بعضها بعضًا إلى ما لا نهاية، وبالتالي لا وجود لخطة إلهية تتجلَّى في هذا التاريخ بشكل تدريجي، وتهدف إلى تخليص الكون وتخليص الإنسانية.

  • (٢)

    لم تتوصَّل الهندوسية إلى مفهوم واضح عن «الإنسانية» ولم تجِد لها دورًا فاعلًا في دفع حركة التاريخ. وما الإنسانية إلَّا تجمع من الذوات العابرة التي يسعى كل منها بشكل فردي إلى الانعتاق من دورة الحياة والموت.

  • (٣)

    ترتفع الألوهة فوق الخير والشر، ولا تلعب الأخلاق دورًا مهمًّا في علاقة الإنسان بالله. وفي المذاهب التي مزجت بين السلوك الأخلاقي والسلوك الديني، بقي الاعتقاد بالجبرية الكونية حائلًا دون تكوين مفهوم ناضج عن حرية الفرد ومسئوليته.

  • (٤)

    يعمل مبدأ الكارما على تقديم حلٍّ بدهي لمسألة وجود الشر في العالم؛ فكل ما يُصيب الفرد من نوائب وكوارث وحظ عاثر في حياته، وكل ما يلقاه من نعمة وثروة ورغد عيش، هو نتيجة لكارما سابقة راكمتها روحه في تجسداتها الماضيات. أمَّا ما يُراكمه هو من كارما حسنة أو سيئة فإنَّه لا يُجزى بها لا في حياته ولا في حياة أخرى، بل إنَّه يجيرها للتجسُّد التالي. وبما أنَّ مبدأ الكارما يعمل بشكل آلي، فإنَّ مفهوم الشر المجرد والخير المجرد هو مفهوم غريب على الفكر الهندوسي، وليست العدالة صفة لكائن إلهي، بها يعاقب ويثيب.

  • (٥)

    تتصل دورة الحياة والموت في عالم السمسارا بدورة الكون الكبرى؛ فكما يفنى الكون عن نفسه ليعيش في كون آخَر جديد، كذلك يفنى الجسد عن نفسه ليعيش في جسد آخَر جديد، وعندما تنتهي الدورة الكونية الكبرى إلى الفناء وتعود إلى مياه السرمدية الساكنة، تغفو الأرواح في ليل برَهْما الطويل. ومع بداية الدورة الجديدة تصحو لتحمل كارماها مجددًا إلى ملايين التجسدات المقبلة وملايين الدورات الكونية المقبلة، فلا بعث ونشور، ولا دينونة ولا حساب ولا عقاب.

  • (٦)

    أمام هذه الأرقام الفلكية لعدد الدورات الكونية والتناسخات الفردية، مما يُدير الرأس، لا يوجد أمام الفرد إلَّا طريق واحد: الإفلات. ولكن من الذي سيفلت ويحقِّق الانعتاق أخيرًا؟ هل هو التجسد الأول للروح في البدايات الضاربة في الأزلية، أم هو هذا التجسُّد الذي يفكِّر بالإفلات، أم هو ذلك التجسُّد الأخير بعد بضعة مليارات من السنين؟ سؤال لا معنى له يلقي على الأيديولوجيا الهندوسية ظلالًا من العدمية.

(٦) الألوهية والتاريخ الدينامي

(٦-١) الزرادشتية نموذجًا

في الديانة الزرادشتية يبلغ المعتقد الألوهي كمال رؤياه للعلاقة بين الله والعالم، ويظهر مفهوم التاريخ الدينامي لأول مرة في تاريخ الدين مكتملًا وناجزًا. فهنا يقوم الوجود بأسره، وجود الله ووجود ما سواه والعلاقة بينهما، على ثلاثة مفاهيم أساسية مترابطة هي: الأخلاق والحرية والمسئولية. ولأول مرة في تاريخ الدين يظهر مفهومٌ متسق ومتكامل عن «الإنسانية»، وعن دورها الإيجابي والفعَّال في خطة الخلق وصيرورة التاريخ ومصير الكون والحياة. فالإنسان لم يعد عبدًا للآلهة ولا أداة في يد القدر، بل كائنٌ حرٌّ ومسئول، وهذه الحرية والمسئولية لا تنسحب على مصيره الفردي أو الجمعي فقط، بل تتسع لتشمل الكون بأسره وتتحكَّم بمآل التاريخ.

في البدء، لم يكُن سوى الله، الذي يدعوه زرادشت أهورا مزدا، وجود كامل وتام، وألوهة قائمة بذاتها مكتفية بنفسها غنية عمَّا عداها، ثم إنَّ هذه الألوهة اختارت الخروج من كمونها والظهور فيما سواها، فصدر عنها روحان توءمان هما سبينتا ماينو وأنجرا ماينو، وقد وهبهما الله منذ البداية أهم خصيصة تميزهما عن مصدرهما وتجعل منهما كيانين مستقلين عنه، وهي خصيصة الحرية الكاملة. ومنذ البداية أيضًا استخدم هذان الروحان حريتهما في الاختيار، فاختار الأول الخير، ومن هنا جاء اسمه سبينتا ماينو أي الروح المقدس، واختار الثاني الشر، ومن هنا جاء اسمه أنجرا ماينو أي الروح الخبيث، وبذلك تحدَّدت القوتان الكونيتان اللتان سيدور حولهما الوجود المادي والروحاني المقبل، وجرى زرع المبدأ الخُلقي في أصل الوجود ومبتدئه. فكل ما في الوجود الجديد حرٌّ وأخلاقي في آنٍ معًا.

بعد الخيار الأخلاقي للتوءمَين، كان لا بد من تعارضهما وتصادمهما ودخولهما في صراع، وبما أنَّ التوءمَين يتمتَّعان بالطبيعة الإلهية التي لأهورا مزدا، وبما أنَّه قد وهبها أيضًا ما له من حرية، فقد قرَّر عدم التناقض مع نفسه، والسير بخطته التي تقوم على الحرية إلى آخِرها. هنا عمد الله بمشاركة الروح المقدس سبينتا ماينو إلى إظهار ستة كائنات قدسية إلى الوجود تُدعى بالأميشا سبينتا، أي المقدسون الخالدون، يستعين بها على مقاومة الروح الخبيث أنجرا ماينو، فشكلت بطانته الخاصة التي تحيط به على الدوام وتعكس مجده، وقد شارك هؤلاء الخالق فيما تلا من أعمال الخلق والتكوين، وصاروا حافظين لخلق الله ووسطاء بينه وبين العالم، ثم إنَّ هؤلاء قد أظهروا إلى الوجود عددًا من الكائنات القدسية الطيبة المدعوة بالأهورا، وراح الجميع يكافح الشر كلٌّ في مجاله. وبالمقابل فإنَّ أنجرا ماينو قد استنهض عددًا من القوى الروحانية المدعوة بالديفا ثم عمل على ضلالتهم فانحازوا إلى جانبه وتحفَّز الجميع للانقضاض على خلق الله القادم.

فوق الروحين المتنافسين، وفوق فريق الأهورا وفريق الديفا، يسمو أهورا مزدا في عليائه متجاوزًا ثنائيات الخلق، غير أن سمو أهورا مزدا فوق الثنائيات لم يكُن يعني اتخاذه موقفًا سلبيًّا مما يجري. فبعد أن تأسَّس الشر على المستوى الروحاني، عرف الله بواسطة علمه الذي يطال البدايات والنهايات، أنَّ القضاء على عناصر الشر دون الإخلال بمبدأ الحرية، لن يكون متيسرًا إلا بخلق العالم المادي الذي سيكون المسرح المناسب لصراع طويل ينتهي بمحق الشيطان أنجرا ماينو وأعوانه، فلسوف يعمد الشيطان إلى مهاجمة العالم بكل قواه لأنَّه خلق حسنٌ وطيِّب، ولكن عدوانه سيئول إلى خسران في نهاية الزمن ويحسم الصراع لصالح الخير، ويتم تخليص الكون إلى الأبد من شوائب الشر وإعادته كونًا حسنًا وطيبًا إلى الأبد. وهكذا شرع أهورا مزدا يخلق الكون على ست مراحل، وكان الإنسان آخِر ما خلق الله في اليوم السادس، ومع خلق الإنسان ينطلق التاريخ.

يسير التاريخ عَبْر ثلاث مراحل: المرحلة الأولى هي مرحلة الخلق الطيب الحسن الكامل. المرحلة الثانية هي مرحلة امتزاج الخير والشر في نسيج العالم عقب هجوم أنجرا ماينو عليه وتلويثه. المرحلة الثالثة هي مرحلة الفصل بين الخير والشر ودحر الشيطان ورهطه، والارتقاء بالعالم نحو المستوى الماجد والجليل الذي ينتظره في نهاية التاريخ. خلال المرحلة الثانية الحاسمة من التاريخ، يقف الإنسان على قدم المساواة مع الأميشا سبينتا وبقية الكائنات الروحانية الأخرى في مسئوليته عن مكافحة الشر في العالم، ويكون دوره حاسمًا في الوصول بالتاريخ إلى نهايته المرتقبة. فالإنسان هو أنبل خلق الله والأقدر على مكافحة الشر، لأنَّه يعيش في العالم المادي الذي اتخذه الشيطان مسرحًا لمقاومة خلق الله وإفساده، ولأنَّه صار في بؤرة الصراع الكوني وعُرضةً دائمة للغواية الناجمة عن سلطة الشيطان على العالم ومخلوقاته. وأمَّا سلاح الإنسان في المعركة فوعيه وحريته وخياره الأخلاقي، ويتجلَّى الخيار الأخلاقي من الناحية العملية في عناية الإنسان بأخيه الإنسان وببقية الكائنات الحية لأنَّهم جميعًا صنعة الخالق الواحد، كما أنَّ عليه أن يرعى جسده وروحه في آنٍ معًا، وتأتي رعاية الجسد من اتباع قواعد النظافة والطهارة والصحة العامة، والاعتدال في الطعام والشراب وتجنب الإفراط في كل شيء، وأمَّا رعاية الروح فتأتي من اتباع النظام الأخلاقي الذي اختطه زرادشت، وأداء فروض العبادة الله وحده. من هذا المنظور تتخذ الإنسانية مكان المركز من خلق الله، وهي في سعيها نحو خلاصها إنَّما تُخلِّص العالم بأسره.

في المرحلة الأخيرة من التاريخ، سوف يظهر المخلِّص المنتظر المدعو ساوشنياط، وهو الذي سيقود المعركة الفاصلة الأخيرة ضد الشيطان ويقضي عليه. ومع القضاء على الشيطان يتم تدمير العالم القديم الملوَّث بعناصر الشر وتجديده بطريقة أقرب ما تكون إلى خلق جديد، ثم تُفتح القبور وتلفظ الأرض ما اتُّخمَت به من عظام عَبْر الزمن، فتهبط الأرواح من البرزخ، مكان إقامتها المؤقت، لتتَّحد أجسادها وتأتي إلى يوم الحساب الأخير الذي يفصل بين الأخيار والأشرار. فأمَّا الأشرار فيجرفهم تيار ناري ويمحو عن الأرض أثرهم بعد عذاب أليم، وأمَّا الأخيار فيعبرون الصراط المستقيم إلى العالم الجديد، ويعيشون خالدين في جنةٍ أرضية. هنا يتوقَّف التاريخ وتدخل الإنسانية الجديدة في زمن مفتوح على الأبدية.

(٦-٢) نتيجة ومدخل

لاهوت التاريخ وفكرة الشيطان

لقد واجه الإنسان منذ فجر وعيه نوعَين من الشرور: النوع الأول شرور طبيعانية، والثاني شرور أخلاقية اجتماعية. فالشرور الطبيعانية هي الشرور المتضمِّنة في صلب صيرورة عمليات الكون والطبيعة والبيولوجيا، وذلك مثل البراكين والزلازل والأعاصير والفيضانات والحرائق، ومثل الألم والمرض والشيخوخة والموت. وأمَّا الشرور الأخلاقية فهي الشرور الناجمة عن ممارسة الإرادة الإنسانية لدى الكائنات العاقلة، عندما تخرج عن القواعد المتعارف عليها للتعامل بين أفراد الجماعة الواحدة، وذلك مثل السرقة والاغتصاب والتسلُّط والظلم. ورغم أنَّ الإنسان لم يربط في البداية بين هذَين النوعَين من الشرور، ولم يتصوَّرها ناجمة عن مصدر واحد، إلَّا أنَّه قد عكس معاينته للشر الأخلاقي باعتباره فعلًا إراديًّا على الطبيعة، ورأى في عملياتها فعلًا تمارسه كائنات ما ورائية تمثَّلت في أرواح خبيثة وأرواح خيرة، ثم تحوَّلت هذه الأرواح وارتقت تدريجيًّا لتصير آلهة.٢١ فالنظام المستقر المتوازن على المستوى الطبيعاني والبيولوجي تدعمه آلهة معيَّنة، والخروج على هذا النظام وتهديده تمارسه آلهة أخرى، وهذا ما قاده إلى تطوير نوعين من الطقوس، الأول يهدف إلى طلب عون الآلهة الخيِّرة، والثاني يهدف إلى اتقاء أذى الآلهة الشريرة. أمَّا الشر الأخلاقي فقد بقي شأنًا اجتماعيًّا لا يتصل بتلك القوى الما ورائية، فالذي يسرق أو يظلم أو يعتدي ليس مدفوعًا من قبل إله شرير، والذي يُنصف ويُعين ويرأف ليس أيضًا مدفوعًا من قبل إله خيِّر. وبتعبير آخَر، فإنَّ الثنائية أو القطبية الطبيعانية لم تتسع لتشمل العلاقات الاجتماعية، وبقي الإنسان ينظر إلى السلوك في صفته الخيِّرة أو الشريرة، ويميزه إلى فضائل ورذائل من غير أن يربطه بثنوية أخلاقية ما ورائية، وهكذا تُركت المجتمعات الإنسانية لتدير شئونها الأخلاقية بنفسها دون وصاية من قوة قدسية ما، وهذا ما قامت به على أحسن وجه. ذلك أنَّ إحجام الآلهة عن التدخُّل في المسائل الأخلاقية، لم يكُن مُعادلًا بأيَّة حال من الأحوال للفوضى الأخلاقية في المجتمع، لأنَّ الإنسان كان قادرًا منذ بدايات التجمع الإنساني على سنِّ قوانينه ووضع لوائحه الأخلاقية التي لم يكن بدونها للتجمع الإنساني والحياة المشتركة وجودٌ البتَّة.

وقد تمَّ ربط الأخلاق بالدين تدريجيًّا، عندما أخذ الفكر الإنساني ينظر إلى الكون باعتباره وحدة مترابطة متكاملة، يسودها نظام دقيق يجمع الأجزاء إلى بعضها في توازنٍ محكم، ويرى وراء هذا الكون قدرة إلهية واحدة غير مجزأة، وتجلَّت هذه الرؤية بأوضح أشكالها مع ظهور المعتقد التوحيدي الذي لا يرى في الوجود سوى الله من جهة والعالم من جهة أخرى، ويعزو إلى الله كل الكمالات التي تنتهي جميعًا إلى كمال الخير. فهو الخير المحض الذي يتجلَّى على كل مستوى طبيعاني وبيولوجي واجتماعي، وما إنْ وصل الفكر الديني إلى هذه النقطة، حتى تحوَّل بشكل أوتوماتيكي إلى مفهوم الشيطان الكوني الذي يُمثِّل الشر على جميع المستويات، ويُناط به كل خلل في نظام الطبيعة ونظام المجتمع وبنية النفوس الواعية. ولقد أدَّى ظهور فكرة الشيطان في المعتقد الديني إلى تكوين المفهوم الدينامي للتاريخ، فالشيطان هو الخلل، والخلل ينبغي تصحيحه دون الإخلال بمبدأ الحرية الذي قاد إلى ظهوره، ويتم التصحيح عَبْر جدلية تاريخية تقوم على صراع الخير والشر، وتنتهي بانتصار الأول وهزيمة الثاني، ومع زوال الشيطان ينتهي التاريخ لأنَّه لا وجود لتاريخٍ بلا صراع وبلا تناقض وأضداد.

سوف نُكرِّس ما تبقى من هذا البحث لدراسة نماذج التاريخ الدينامي الرئيسية. وبما أنَّ فكرة الشيطان، كمبدأ شمولي، قد بدأت بشكلها الجنيني في الديانة المصرية القديمة، من دون أن تصل بها إلى غايتها وتضعها في إطار أيديولوجي متسق ومتكامل، فإنَّ أول ما سنبدأ به في فصلنا القادم هو تلمُّس بذور فكرة الشيطان والثنوية الكونية في مصر القديمة.

(٦-٣) مراجع المادة المعلوماتية عن الهندوسية

  • (1)
    R. C. Zaehner, Hinduism, Oxford 1984.
  • (2)
    H. Zimmer, Myths and Symbols in Indian Art and Civilization, Princeton 1974.
  • (3)
    J. B. Noss, Man’s Religions, McMillan, London. 1969, ch. 2.
  • (٤)

    ألبير شويتزر، فكر الهند، ترجمه عن الفرنسية يوسف شلب الشام، دار طلاس ١٩٩٤.

(٦-٤) مراجع الزرادشتية

انظرها في آخِر الفصل المخصَّص للزرادشتية لاحقًا.

١  نسبة إلى العالَم لا إلى العِلم، والعلماني هو الدنيوي.
٢  أستعمل هنا مصطلح الحلول بشكل تبادلي مع مصطلح وحدة الوجود الأكثر دقة، وذلك لأنَّ النسبة إلى الأول أسهل من الثاني، فنقول حلولي وحلولية وما إليها، بدلًا من أن نقول وحد-وجودي وما إلى ذلك.
٣  فصوص الحكم: ١٣.
٤  الفتوحات ٢: ٢٠٨.
٥  انظر النص ومراجعه في مؤلفي: مغامرة العقل الأولى، فصل التكوين السومري.
٦  انظر النص ومراجعه في مؤلفي: مغامرة العقل الأولى، فصل التكوين البابلي.
٧  عن الترجمة الكاملة لنص الملحمة، بقلم الزميل باسم ميخائيل جبور، وهي رسالة لنيل شهادة الدراسات العليا في اللغات السامية محفوظة في جامعة حلب.
٨  عن ترجمتي الكاملة لملحمة التكوين البابلية «إينوما إيليش»، في مؤلفي مغامرة العقل الأولى، فصل التكوين البابلي.
٩  اللوح التاسع من الملحمة، العمود التاسع. انظر ترجمتي الكاملة للنص في مؤلَّفي: «جلجامش: ملحمة الرافدين الخالدة».
١٠  عن ترجمة باسم ميخائيل جبور، انظر المرجع السابق.
١١  عن النص الكامل للصلاة، انظر فصل الصلوات البابلية في موسوعة:
James Pritchard, edt, Ancient Near Easern Texts.
١٢  انظر النص الكامل في المرجع نفسه وهو نص طويل جدًّا يصل عدد سطوره ٤٠٠ سطر.
١٣  عن نص جاكسوبن. انظر:
Th. Jacopsen, The Treasures of Darkness, Yale, New Haven 1976, p. 87 ff.
١٤  عن ترجمة باسم ميخائيل جبور، انظر المرجع السابق.
١٥  عن موسوعة نصوص الشرق الأدنى القديم. انظر المرجع السابق، فصل التراتيل السومرية.
١٦  عن ترجمتي الكاملة للملحمة، انظر اللوح السابع، العمود الثاني.
١٧  J. H. Tigay, The Evolution of the Gilgamesh Epic, University of Pennsylvania, 1982, p. 79.
١٨  Ibid, p. 30.
١٩  Ibid, p. 80.
٢٠  عن ترجمة باسم جبور مع تعديلات طفيفة. انظر المرجع السابق.
يستطيع القارئ المهتم أيضًا الاطلاع على أحدث ترجمة صدرت في الغرب لملحمة أتراحاسيس، وهي ترجمة Stephanie Dally في كتابها الصادر عام ١٩٩١ عن جامعة أوكسفورد.
S. Dally, Myths from Mesopotamia, Oxford, 1991.
٢١  لقد عالجت بالتفصيل كيفية نشوء فكرة الآلهة عن فكرة أرواح الأسلاف في مؤلفي دين الإنسان. راجع فصل: أصل فكرة الآلهة، من الباب الرابع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤