الفصل الثالث

فكرة الشيطان في الديانة المصرية وبذور الثنوية الكونية

يسود الاعتقاد لدى الباحثين في الديانة المصرية القديمة بأنَّ الإله سيت هو أقدم الآلهة المصرية المعروفة لنا من الفترات التاريخية، فلقد كان هذا الإله هو معبود الرئيسي للسكان الأصليين قبل استهلال عصر الأسرات الأولى عند أعتاب الألف الثالث قبل الميلاد، وهو العصر الذي ترافق مع حلول أقوام جديدة وفدت إلى مصر من سوريا حاملة معها معتقدات دينية جديدة، ومهَّدت لتشكيل أُسس أول مملكة موحَّدة لمصر القديمة، ولقد تسرَّبت هذه الأقوام إلى منطقة الدلتا في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد، وأخذت تبسط سلطتها تدريجيًّا باتجاه مصر العُليا، مُخضعة السكان الأصليين وصولًا إلى شلال النيل الأول في أقصى الجنوب، ويبدو أنَّ هذا التوسُّع قد تم في البداية تحت قيادات قبلية متفرِّقة، ثم انتهى بتشكيل مملكتين واحدة جنوبية في مصر السفلى وأخرى شمالية في مصر العليا. ومع مطلع الألف الثالث قبل الميلاد قام ملك مصر العُليا المدعو نارمر (أو مينا، وَفْق المؤرخ المصري المتأخِّر مانيتو)، بتوحيد الإقليمَين وأسَّس أول أسرة حاكمة في التاريخ المصري.

وقد ترافق بسط السلطة السياسية للجماعات الجديدة مع نشر معتقداتها الدينية، وراح إلههم الأعلى المدعو حوروس١ ينافس إله السكان الأصليين المدعو سيت في كل مكان. وبذلك تمَّ التأسيس لثنائية سيت-حوروس التي استمرَّت فاعلة في الديانة المصرية حتى نهايات التاريخ المصري. لا نستطيع رسم معالم واضحة لشخصية الإله سيت في طوره القديم السابق لعصر السلالات قبل انتشار عبادة الإله حوروس، ولكن نصوص الأهرام «وهي أقدم النصوص الدينية المصرية، وترجع بتاريخها إلى أواسط الألف الثالث قبل الميلاد» تُقِّدم لنا الصورة اللاحقة له بعد أن تمَّ إنزاله إلى المرتبة الثانية، فصار مُجسِّدًا لكل القوى السالبة في الكون وفي حياة الطبيعة، في مقابل حوروس الذي صار مُجسِّدًا لكل القوى الموجبة، وتتجلَّى هذه الصورة البدئية للسلب والإيجاب في ثنائية النور والظلام، والنظام والفوضى، وما ينضوي تحتهما من ثنائيات. فالإله حوروس هو سيد السماء، والشمس التي تهب الحياة وتعكس بحركتها الثابتة نظام الكون الدقيق، أمَّا الإله سيت فهو العدو الأول للشمس وللضوء بجميع أشكاله؛ فهو الذي يحرف مسار الشمس باتجاه الجنوب عقب الانقلاب الصيفي، ويسرق من نور القرص فتقصر ساعات النهار لحساب ساعات الليل، وهو الذي يسرق من نور القمر عقب اكتماله بدرًا فيتناقص ليلة بعد ليلة حتى ينطفئ في آخر الشهر القمري، ولكن الإله ثوث يعمل على إشعاله مجددًا في أول أيام الشهر التالي، وفي هيئة الوحش الخرافي آبيب، ينقضُّ سيت على قرص الشمس في نهاية رحلته الليلية عَبْر المسار السفلي، ليطفئه ويمنعه من الشروق مجددًا، مستخدمًا أسلحة الظلام والمطر والغيوم والضباب، ولكن حوروس «أو رع في الأساطير اللاحقة» يتصدَّى له متسلِّحًا بالحَر اللاهب وبسهام الضوء النافذة، وبعد صراع مرير يقع آبيب صريعًا وتتبعثر أشلاؤه، ولكنَّه بعد إفلات الشمس من قبضته إلى يوم آخر، يعود إلى جمع أعضائه بقواه الذاتية، ويُجدِّد نفسه استعدادًا للصراع التالي.

والإله سيت هو سيد العماء والشواش الذي يُعارض نظام الطبيعة ويعمل على نشر الفوضى، ومملكته تقع في الجهة الشمالية من السماء، وهناك يُقيم في كوكبة الدب الأكبر. وكانت جهة الشمال عند المصريين، وخصوصًا سكان مصر العليا، هي إقليم الظلام والبرد والمطر والضباب والبروق والرعود، ومنه تأتي العواصف والأعاصير، وجميع هذه الظواهر الطبيعية «التي لم تكُن تتصل بالخصب نظرًا لاعتماد الزراعة في وادي النيل على الفيض السنوي للنهر» كانت تحت سيطرة الإله سيت، وبها يهدَّد استقرار الطبيعة. ولكن الإلهة ريريت، التي تُمثِّلها الرسوم المصرية على هيئة خرتيت بذراعي امرأة، كانت مُوكَّلة بتقييد هذه القوى الظلامية بالسلاسل ومنعها من السيادة على الأرض والسماء، كما كانت تُفسح طريقًا في الأعالي لمسار الشمس التي قرنتها النصوص المبكرة بالإله حوروس. وإلى جانب ريريت هنالك أولاد حوروس الأربعة الموكَّلون أيضًا بكف أذى سيت ولجم قواه المؤذية، وهم يرافقونه على الدوام ويظهرون على شكل أربعة نجوم تبدو خلف نجم الزاوية في كوكبه الدب الأكبر، وهو النجم المدعو بركبة الإله سيت.

لا يوجد اتفاق بين الباحثين حول المعنى الدقيق للاسم سيت ولكن البعض يرى — اعتمادًا على المقارنة مع اللغة القبطية — أنَّ الكلمة تتضمَّن معنى الأسفل، مثلما تتضمَّن كلمة حوروس معنى الأعالي، فحوروس هو ساكن الأعالي وسيت هو ساكن الأسافل. كما تُساعدنا الإشارة التي تسبق كلمة سيت في الكتابة الهيروغليفية،٢ على تبيُّن خصائص وصلاحيات أخرى للإله، فالإشارة هنا هي نفس الإشارة التي تُكتب بها كلمة الصخرة، وفي هذا دلالة غير مباشرة على ارتباط سيت بالأراضي الصخرية الجرداء وبالصحاري القاحلة وبالبوار والجفاف. وهنا يُخبرنا المؤرخ المصري مانيتو بأنَّ أيَّة حمولة حجرية كانت تُدعى عظام الإله سيت. ورغم أنَّ النصوص المصرية تطلِق على سيت لقب القدير والمزدوج القوة والمحارب الجليل، إلَّا أنَّ المؤرخ الإغريقي بلوتارخ يُخبرنا في نصه المعروف عن إيزيس وأوزوريس أنَّ الأسماء التي يُطلقها المصريون على هذا الإله تنطوي جميعها على معاني القوة السالبة والمعطلة والكابحة والمخربة.

فنحن هنا أمام قطبية كونية لا تحمل أيَّة دلالة قيمية. لقد تأمَّل المصريون الكون وحياة الطبيعة من حولهم، ورأوا فيها قوتين ساريتين متعارضتين ومتعاونتين في الوقت نفسه، ورأوا في الظواهر جميعها نتاجًا لتداخل هاتين القوتين وفعلهما المشترك. من هنا لا عجب إذا رأينا أنَّ الأعمال الفنية في مطلع عصر الأسرات تُمثِّل الإلهين سيت وحوروس في جسد واحد يحمل رأسين: واحدًا لحوروس وواحدًا لسيت، أو واحدًا لصقر وهو رمز حوروس وواحدًا لحمار وهو رمز الإله سيت. ولا عجب أيضًا إذا قرأنا في نصوص الأهرام أنَّهما يُدعيان بالأخوين وبالتوءمين أيضًا، رغم العداء الأبدي بينهما والصراع الدائم الذي لا يصل إلى نتيجة حاسمة، مثلما لا يصل التناقض بين القوتين الكونيتين إلى إلغاء واحدة وسيادة الأخرى، لأنَّه لا غِنى عن صراعهما وعن تعاونهما من أجل صيرورة العمليات الجارية على مستوى الكون ومستوى الحياة الطبيعانية.

وبما أنَّ سيادة إحدى القوتين الكونيتين على الأخرى سوف يؤدِّي إلى اختلال نظام الكون، فإنَّ الآلهة كانت تتدخَّل في صراع سيت وحوروس كلما علا أحدهما على خصمه وأوشك أن يجهز عليه، ففي أكثر من نص نجد أنَّ الإله ثوث يهبُّ للفصل بين الخصمَين عند وقوع أحدهما تحت وطأة الآخر، وهذا ما أعطاه لقب قاضي الإلهين المتخاصمين، وفي نصوص أخرى نجد الإلهة إيزيس تهرع لنجدة سيت الذي كبَّله حوروس بالأصفاد وهمَّ بالإجهاز عليه، فتفك قيوده وتُطلق سراحه. كما أنَّ الرسوم الجدارية المصرية ورسوم البرديات مَلْأى بمشاهد الصراع ومشاهد تدخُّل الآلهة الأخرى للفصل بين الخصمين أو لعون الخاسر فيهما، وإلى جانب تمثيلها لجانب التناقض في علاقة الإلهين التوءمين، فإنَّ الرسوم والمنحوتات المصرية تعمد إلى إظهار الوجه التحتي الآخر للعلاقة وهو وجه التعاون. ففي نحت بارز من مدينة طيبة نجد سيت وحوروس يقفان عن يمين ويسار الفرعون سيتي الأول ويصُبَّان على رأسه قربان ماء الحياة، وفي عمل فني آخَر نجدهما يضعان معًا تاج المملكة الموحدة على رأس الفرعون رمسيس الثاني، وتحت الشكل نقشٌ هيروغليفي يقول على لسان سيت: «إني أُثبِّت التاج على رأسك … وإني أهبك الحياة والقوة والصحة …» ونقشٌ آخَر يقول على لسان حوروس: «إني أهبك حياة تُعادل حياة الإله رع، وسنوات بعدد سنوات الإله طيم»، وفي عمل فني ثالث نجد الإلهين بصحبة الفرعون تحوتمس الثالث، وكل منهما يعلمه كيفية استخدام أحد الأسلحة.

اختصَّ الإله حوروس في الأعمال الفنية برمز حيواني واحد هو الصقر، بينما تعدَّدت رموز الإله سيت، فمن رموز سيت الحمار، ومنها الأفعى التي تُشير إلى سيت في شكل الوحش الكوني آبيب، ومنها الخنزير البري، والعديد من المفترسات المائية مثل التمساح. كما ساد الاعتقاد لدى المصريين بأنَّ قوة الإله المدمرة تحلُّ في بعض الحيوانات الشرسة مثل الكلاب والقطط البرية والنمور وما إليها، وجرت العادة على تقديم القرابين من هذه الحيوانات، وذلك في الأوقات التي تبلغ فيها قوة الإله سيت ذروتها، مثل نهاية الشهر القمري عندما يكون الإله قد ابتلع نور القمر بأكمله، ومثل الانقلاب الشتوي عندما يكون قد ابتلع ما استطاع من نور الشمس وقصَّر الأيام المضيئة لصالح الليالي المظلمة. في مثل هذه المناسبات، وعند ذبح الحيوانات الممثلة لقوى سيت يُخاطبها القائمون على الطقس بقولهم: سوف نعمل على تقطيعكم وتمزيق أعضائكم. بهذه الطريقة انتصر الإله رع على أعدائه جميعهم، بهذه الطريقة انتصر حيرو (= حوروس) الإله العظيم وسيد السماء على أعدائه جميعهم.

حتى الآن، لا يبدو لنا أنَّ ثُنائية سيت-حوروس قد اتَّخذت مضمونًا ثنويًّا، سواء بالمعنى الجذري أم بالمعنى الأخلاقي. ولم يضع الإله سيت بعدُ قناع الشيطان الكوني كمجسِّد لمبدأ الشر، بل هو القوة الكونية السالبة مُعبَّرًا عنها بلغة الرمز الأسطوري، وليس ما يعزى إليه من سلوك «شرير» إلَّا ضرورة من ضرورات التعبير الميثولوجي، الذي يترجِم حركة الظواهر الكونية والطبيعانية إلى إرادات ما ورائية فاعلة في العالم المتبدي. فإذا ما جاز لنا التحدُّث عن «شر» متعلِّق بهذه الشخصية الإلهية الكبرى، فإنَّه «الشر» الطبيعاني المقابل «للخير» الطبيعاني، وكلاهما مجرد من أيَّة قيمة أخلاقية، ويتبع ذلك بالطبع انعدام الصلة بين «خیر» و«شر» الإلهين، وبين مسألة الخير والشر على المستوى الاجتماعي. الإله سيت «شرير» ولكنه ليس مبدأً مجرَّدًا للشر، وليس صانعًا له في التاريخ وفي النفس الإنسانية والمجتمع، والإله حوروس «خيِّرٌ» ولكنَّه لا يدخل في التاريخ ولا يحض على فضائل الأعمال أو يستن شرعة أخلاقية. فالأخلاق الاجتماعية عند هذه المرحلة من تطوُّر الفِكر الديني لدى المجتمعات القديمة، لم تكُن (كما أسلفنا سابقًا) شأنًا دينيًّا ناجمًا عن جدلية العلاقة مع عالم الآلهة، بل شأنًا دنيويًّا ناجمًا عن جدلية الحياة الاجتماعية ومتطلباتها. كما يترتَّب على غياب الصلة بين الأخلاق والدين فقدان الصلة بين الآخروية٣ والأخلاق، وخصوصًا التصوُّرات الآخروية المتعلِّقة بمصير الروح وحياة ما بعد الموت. فعند هذه المرحلة، لم يكُن الخلود الفردي إلا وقفًا على الفرعون الذي هو ابن الإله حوروس وممثله على الأرض، كما أنَّ خلود الفرعون نفسه لم يكُن رهنًا بسلوكه الأخلاقي، بل بسلسلة معقَّدة من الطقوس والصلوات والتعاويذ السحرية، وبإعداد مقبرة باهظة التكاليف لمرقده الأخير.

على أنَّ هذه القطبية الطبيعانية قد تحوَّلت تدريجيًّا إلى نوع من الثنوية الأخلاقية، وأخذت فكرة الشيطان الكوني تتضح بشكلها الجنيني مع ارتباط الأخلاق بالدين، وارتباط الآخروية بالأخلاق. ولسوف نتتبع فيما يأتي مسار هذا التحوُّل في تاريخ الديانة المصرية، وبواعثه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

خلال النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد، كانت الحضارة المصرية تنسلخ عن العصر النيوليتي وتدخل العصر المديني،٤ مقتفية بذلك أثر حضارة وادي الرافدين الجنوبي، وهي أول حضارة مدينية في تاريخ الإنسان. فخلال هذه الفترة أخذت القرى النيوليتية التي لم تكُن تخضع لسلطة مركزية، بالتجمع في وحدات سياسية أكبر، وذلك من أجل تعزيز وسائل الدفاع، والإدارة الأفضل لأمور الزراعة والري والأمن، وكان لكل وحدة من هذه الوحدات ما يُشبه العاصمة، كما كان لها حاكمها القبلي وإلهها المحلي، ثم التقت هذه الوحدات السياسية في وحدات أكبر وكوَّنت الأقاليم المصرية الرئيسية المعروفة لنا من الفترات التاريخية، وعددها اثنان وأربعون إقليمًا، وأخيرًا أدَّت المركزية المتنامية إلى تكوين مملكتين مستقلتين واحدة في الجنوب وهي مملكة مصر العليا وأخرى في الشمال وهي مملكة مصر السفلى.

حوالي عام ٣١٠٠ق.م. قام ملك مصر العليا المدعو نارمر بضم مصر السفلى بقوة السلاح، مؤسسًا بذلك لأول مملكة كبرى موحَّدة في تاريخ وادي النيل وفي تاريخ البشرية طرًّا. فلقد سبقت مملكة مصر الموحَّدة مملكة وادي الرافدين الموحَّدة بحوالي ثمانية قرون، وكانت بمثابة النموذج الأسبق والأول لكل الممالك الكبرى اللاحقة. نقل نارمر عاصمته من مدينة زيس بمصر العليا إلى مدينة ممفيس بمصر السفلى، التي تقع إلى الجنوب من موقع القاهرة الحالي بحوالي مائة كيلومتر، ومن هناك عمل هو وخلفاؤه من ملوك الأسرة الأولى على تكوين ملامح البنية السياسية الجديدة لوادي النيل، وهي البنية التي احتوت وطوَّرت البنى القبلية السابقة، وصهرتها تدريجيًّا في مجتمع مدني موحَّد. يدعو المؤرخون هذه الفترة التأسيسية بعصر الأسرات الأولى، وقد امتدَّ هذا العصر من عام ٣١٠٠ إلى حوالي عام ٢٧٠٠ق.م. وحكمت خلاله أسرتان من الملوك حُكمًا استبداديًّا مطلقًا، يقوم على مفهوم الحق الإلهي، فقد كان الملك تجسيدًا للإله الأعلى حوروس وتجليًّا بشريًّا للصقر السماوي، وكان الملك يُدعى أيضًا بالاسم حوروس خلال حياته، ثم يسلِّم الاسم لولي عهده عند مماته.

كانت الكتابة الهيروغليفية في مرحلة تجاربها الأولى خلال هذا العصر، ونحن لا نملك نصوصًا كافية تُساعدنا على رسم صورة واضحة للحياة والمعتقدات الدينية من تلك الفترة، ولذا فإنَّنا مضطرون إلى الاعتماد على النصوص اللاحقة التي تحتوي في بعضها على إشارات واضحة إلى المعتقدات والطقوس السالفة، وإلى الاعتماد على مكتشفات علم الآثار في المدافن العائدة لملوك ذلك العصر ونبلائه وعامته. ولعل أول ما يواجهنا في بحثنا هذا، هو سيادة معتقد ديني عميق التأثير في المجتمع المصري منذ عصر ما قبل الأسرات، يتعلَّق بحياة ما بعد الموت وبأنَّ تلك الحياة تُشبه إلى حدٍّ بعيدٍ الحياةَ الأولى. فلقد احتوت قبور المصريين في المستويات الآثارية العائدة إلى الألف الرابع قبل الميلاد، سواء في الجنوب أو في الشمال، على هدايا جنائزية تتضمَّن أدوات ووسائل زينة وطعام، وما إليها.

كانت مقابر عصر ما قبل الأسرات تقع بعيدًا عن المناطق السكنية، وكان المدفن الواحد عبارة عن حفرة بيضاوية الشكل بعمق بضعة أقدام، يوضع فيها الميت في وضعية الانطواء بحيث يتجه رأسه نحو الغرب، وهي الجهة التي كان المصريون في العصور التاريخية اللاحقة يعتقدون بأنَّها مقر عالم الأرواح. وفوق القبر ترتفع تلة صغيرة من التراب أو الحجارة، وقد احتوت هذه المدافن إلى جانب الهدايا الجنائزية المؤلفة من أدوات العمل وأوعية الطعام ووسائل الزينة وما إليها، على تمائم سحرية على شكل حيوانات، من بينها التمساح والغزال والخرتيت والصقر، كما احتوت على دُمى طينية لأشكال أنثوية تُمثَّل — على الأغلب — الإلهة الأم للعصر الحجري الحديث، وقد تم تمثيل هذه الإلهة أيضًا بطريقة الحز على الأوعية الفخارية، حيث تبدو في هيئة امرأة لها قرون البقر ومعها ابنها وحبيبها الذي صار فيما بعد إلهًا للخصب. كما قدَّمت لنا أوعية فخارية أخرى مشاهد تُمثِّل طقس الزواج المقدس بين هذين الإلهين، ومشاهد راقصة كانت على ما يبدو جزءًا من هذا الطقس المتجذر في منطقة الشرق القديم، والذي أعطتنا عنه اللُّقى الأثرية في وادي الرافدين الجنوبي أمثلة مشابهة. ومن الملفت للنظر وجود بعض المدافن الواسعة مخصصة لدفن نساء من ذوات المكانة الاجتماعية المميزة، تحتوي على هدايا جنائزية متميزة سواء من حيث النوع أم من حيث الكم، الأمر الذي يدل على المكانة العالية للمرأة في ذلك العصر، وتضلعها بمهام كهنوتية ذات صلة بعبادة الأم الكبرى.

خلال الفترة الانتقالية التي قادت إلى تكوين حضارة المدن في وادي النيل والتي ترافقت مع دخول جماعات آسيوية سيطرت على منطقة الدلتا ومنها على كامل مصر السفلى فالعليا، حصلت تغييرات عميقة في المعتقدات الدينية وفي بانثيون الآلهة، فقد تربَّع حوروس إله الشرائح الآسيوية الحاكمة على قمة البانثيون، يليه الإله سيت المعبود القديم للسكان الأصليين، والذي نرجح أنَّه هو نفسه الإله الابن الذي ظهر إلى جانب الأم المصرية الكبرى للعصر النيوليتي. ومرَّة أخرى فإنَّ المدافن هي التي تعطينا الصورة العامة عن معتقدات وطقوس عصر السلالات الأولى، فيما بينا ٣١٠٠ و٢٧٠٠ق.م.

خلال عصر السلالات الأولى نستطيع تمييز طريقتين في الدفن: الطريقة الأولى وهي المتبعة من قبل السكان الأصليين، وتُظهر استمراريةً لعادات الدفن القديمة التي كانت سائدة في عصر ما قبل الأسرات مع بعض التعديلات الطفيفة، أمَّا الطريقة الثانية فهي التي اتبعها — على ما يبدو — القادمون الجدد، والتي أخذت الشرائح العليا من السكان الأصليين بتبنيها تدريجيًّا خصوصًا في المناطق الحضرية والمدن الكبرى. فلقد تحوَّل المدفن من حفرة صغيرة يعلوها مرتفع ضئيل من التراب أو الحجارة، إلى بناء مُصمَّم على طريقة بيوت الأحياء، ويحتوي على عدد من الغرف أو الأجنحة، وذلك تبعًا لمكانة صاحب المدفن، وبما أنَّ هذا النوع من المدافن كان يرتفع في جزئه الأعلى قليلًا عن سطح الأرض، فقد أطلَق عليه علماء الآثار اسم المصطبة، وهي التسمية العربية المتداولة لأيَّة بنية ترتفع قليلًا عن الأرض، وقد ميَّز الآثاريون ثلاثة أنواع من هذه المدافن المصطبية: الأول خاص بالأسرة المالكة، والثاني بالحاشية والنبلاء، والثالث بعامة الناس.

خلال حكم الأسرة الأولى، كانت المدافن الملكية عبارة عن بنية محفورة في الأرض الصخرية الصحراوية، ومقسمة من الداخل إلى عدد من الغرف بواسطة جدران من الآجر، أكبر هذه الغرف مخصص لجثمان صاحب المدفن، أمَّا بقية الغرف فللهدايا الجنائزية المرافقة له، وفوق هذه البنية ترتفع بنية أخرى على شكل مصطبة مستطيلة تشبه بيوت تلك الفترة، ومزيَّنة من الخارج بديكورات مماثلة لما كان للقصور، ويُحيط بالبناء سور، وقد يُوضع في غرفة خاصة، قرب السور، قارب خشبي ينتظر الميت لكي ينقله في رحلته إلى العالم الآخَر. خلال حكم الأسرة الثانية جرى توسيع وتطوير المقابر المصطبية لتغدو أشبه بالقصر الملكي الحقيقي، فهناك قاعة استقبال، وغرف للضيوف وغرفة للمعيشة، وجناح للحريم، وحمامات ومراحيض، إضافة إلى غرفة النوم الرئيسية حيث يضطجع سيد القصر الملك المتوفى.

وتتسع بعض هذه المقابر الملكية لتستوعب خارج حدود السور عددًا من المقابر التي تنتظم على طول أضلع المصطبة الأربعة، وتحتوي على جثث لرجال ونساء من حاشية الملك، وخدمه، وحِرَفيِّيه الذين اصطحبوا معهم أدوات عملهم. وبما أنَّ الدلائل الأثرية تُشير إلى تزامن دفن هؤلاء الأتباع مع دفن صاحب المقبرة الرئيسية، فإنَّ النتيجة التي يُمكن استخلاصها هي أنَّ الملك قد اصطحبهم معه إلى العالم الآخَر، لكي يتابعوا خدمته هناك مثلما كانوا يفعلون في الحياة الدنيا، ويبدو أنَّ هؤلاء قد تناولوا السم قبل دفنهم ثم نقلوا بعدها إلى الأماكن المعدة لهم، وقد بلغ عدد الضحايا التي رافقت الملك زُر، من الأسرة الأولى، رقمًا يزيد على الخمسمائة بين رجال ونساء، ولكن مع نهاية حكم الأسرة الأولى يبدأ طقس دفن الأتباع بالاضمحلال تدريجيًّا إلى أن يختفي تمامًا مع نهاية حكم الأسرة الثانية وبداية ما يُدعى بعصر المملكة القديمة.

تُنسج مقابر على منوال المقابر الملكية من حيث التصميم العام، ولكنَّها كانت أصغر منها وأكثر تواضعًا، أمَّا مقابر العامة قد توسَّعت وتحوَّلت من مجرَّد حفرة إلى غرفة صغيرة يوضع فيها المتوفى داخل تابوت خشبي، وتُلبس جدرانها الداخلية بالآجر، بينما تتوزَّع الهدايا الجنائزية على أرضية الغرفة، وبقيت مقابر فقراء العامة على ما كانت عليه في العصور السابقة.

تكشف عادات وطقوس الدفن هذه عن اعتقاد المصريين بأنَّ القوة الحيوية في الجسد الإنساني تستمر بعد الموت، وتبقى على صلة بالجسد وبالعالم الأرضي بطريقة ما. من هنا جاء اهتمامهم بجعل القبر أقرب ما يكون إلى بيت تسكنه الروح أو تعود إليه من وقت لآخر للتزوُّد بالطعام، أو استخدام الأدوات وما إليها من الهدايا الجنائزية المودوعة فيه، والتي كانت تتفاوت في نوعيتها وكميتها حسب الوضع الاجتماعي للمتوفى. وبما أنَّ هذه الهدايا الجنائزية كانت عرضة للنفاد، وخصوصًا الطعام والشراب، فقد كان أهل المتوفى يعودونه على فترات منتظمة لوضع مزيد منها عند مدخل القبر، أو يدخلونها من فتحة خاصة معدة لهذا الغرض، وإضافة إلى ذلك كله فقد تمَّ اللجوء إلى وسائل سحرية من شأنها تعويض ما ينفد من طعام وشراب دون حاجة إلى مدد خارجي، ومن هذه الوسائل كتابة قائمة سحرية بأسماء الأطعمة على نصب حجري صغير، من شأنها تحويل الأطعمة المذكورة إلى غذاء حقيقي يمد صاحب القبر باحتياجاته، أو رسم صور بعض الماشية التي كان المصريون يعتمدون عليها في غذائهم.

ولكي تتعرَّف الروح على بيتها في كل مرة وتستخدم محتوياته، كان لا بد من الحفاظ على الشكل الخارجي لجثمان صاحب المقبرة، بطريقة تجعله أقرب ما يكون إلى شكله في الحياة الأولى، وهذا ما دفع المصريين منذ مطلع عصر الأُسرات إلى إجراء التجارب الأولى في هذا المجال. لقد كانت العوامل الطبيعية كفيلة في الماضي بحفظ جثث الموتى الذين كانوا قبل عصر الأُسرات يُدفنون في حفر ترابية سطحية، لأنَّ الجو الجاف وندرة المطر والتربة الرملية كانت تعمل على التجفيف السريع للأنسجة العضوية ومنعها من التحلُّل، بحيث إنَّ بعض جثث ذلك الزمن كانت عند اكتشافها في العصر الحديث تحتفظ بجزء لا بأس به من الشعر والجلد الملتصق على الهيكل العظمي، غير أن الانتقال إلى بناء المقابر المصطبية ولجوء العامة إلى تلبيس جدران قبورهم بالآجر، قد أدَّى إلى عزل الجثة عن الرمل الحار الذي كان يمتص رطوبة الأنسجة، وبالتالي إلى تفسخها السريع، وهذا ما دفع إلى التفكير بوسائل اصطناعية تُحافظ على ما يشبه الشكل الحي لصاحب القبر.

كانت أولى تقنيات التحنيط تهدف إلى الحفاظ على الشكل الخارجي للجثة قبل تحللها، وذلك بلفها بطبقات من قماش الكتان الناعم المشبَّع بمحلول قابل للتصلُّب بعد الجفاف، فكان القماش المبلل يلصق بإحكام فوق الجمجمة والوجه وبقية الأعضاء، حتى إذا جفَّ منه المحلول صارت الجثة إلى ما يشبه التمثال الجصي، ولإضافة لمسة من الحيوية على الشكل، يجري بعد ذلك تلوين الشعر وملامح الوجه، وتحديد الخطوط الخارجية للأعضاء، وبذلك يتم إنتاج نسخة خارجية مماثلة للجثة الآيلة إلى التفسخ تحت هذه القشرة الخارجية، ونظرًا للوقت الذي تستغرقه هذه العملية وارتفاع تكاليفها، فقد كان استخدامها وقفًا على مدافن الأسرة المالكة وكبار النبلاء، والتي احتوت في بعض الأحيان على تمثال خشبي كامل للمتوفى، لتحل محل الصورة المحفوظة بالطريقة السابقة إذا تعرَّضت للفناء بطريقة ما. أمَّا التحنيط الحقيقي للجثة فلم تكتمل تقنياته إلَّا نحو نهايات المملكة القديمة في أواخر الألف الثالث قبل الميلاد.

على أنَّ الاعتقاد بحياة ما وراء القبر عند المصريين، في هذه الفترة المبكِّرة، لم يكُن يعني أنَّ جميع أرواح الناس سوف تخلد خلود الآلهة في عالم نوراني سماوي، أو في جنة لا ألم فيها ولا مرض ولا شقاء، لأنَّ مثل هذا الخلود كان وقفًا على الفرعون وحده، باعتباره إلهًا وإنسانًا في آنٍ معًا، وعلى مَن يختاره الفرعون بنفسه لكي يخصه بخلود مماثل لخلوده، أمَّا بقية شرائح الشعب فإنَّ حياة ما بعد الموت بالنسبة إليها لم تكُن إلَّا استمرارًا شبحيًّا للحياة الأرضية، يُغْنيها أو يفقرها مراعاة طقوس الدفن وعناية أهل الميت بروحه بعد الموت، وهذا ما نستدل عليه من مدافن الحقبة التالية ووثائقها الأثرية والكتابية، وهي حقبة المملكة القديمة التي امتدت من حوالي عام ٢٧٠٠ إلى حوالي عام ٢٢٠٠ق.م. وكانت بمثابة ذروة الحضارة المصرية والعصر الذهبي لها.

حقَّقَت المملكة القديمة منجزات في التكنولوجيا والعمارة والفنون لم يتم تجاوزها أو حتى مماثلتها في الفترات اللاحقة، كما تمَّ خلالها تكوين عدد من المفاهيم والمعتقدات الدينية التي بقيت مؤثرة حتى نهاية التاريخ المصري. يتجلَّى التقدُّم التكنولوجي، والمفهوم المعماري والأستاتيكي، في أوضح تعبير لهما، بأهرامات الجيزة التي بناها فراعنة الأسرة الرابعة (٢٦٠٠–٢٥٠٠ق.م.)، فلقد أتاحت السُّلطة المُطلَقة للملوك تسخيرهم لموارد البلاد وعمالتها الفنية واليدوية من أجل تشييد مقابر لهم، على شكل صروح جبارة ما زالت باقية إلى يوم الناس هذ، وهذه الصروح لم تكُن نتاج نزوات فردية بقَدْر ما كانت نتاجًا لأيديولوجيا دينية سائدة في المجتمع، وراسخة في نفوس وعقول كل الشرائح الاجتماعية. فلقد قام المجتمع المصري على مفهوم الملوكية، وكان الملك بمثابة رمز الحياة الدينية والسياسية والاجتماعية بكل فعالياتها. فهو ابن للإله حوروس «أو رع بعد ذلك» من أم ملكية هي الزوجة الرئيسية للملك، حملت به من أشعة الشمس العلوية لا من زوجها الشرعي، ونظرًا لوضعه المتميز والاستثنائي هذا، فقد كان متفردًا ومستقلًّا عن بقية أفراد البشر، وفي موقع يسمح له بالتوسُّط بين السماء والأرض وبين الله والناس، لقد كان النقطة التي يتصل عندها الإلهي بالبشري، وكانت حياته ومماته أيضًا بمثابة المحور الذي تدور حوله حياة الجماعة بأكملها، كما كانت موارد المجتمع الاقتصادية وإمكاناته التكنولوجية والفنية موجهة نحو تأمين حياة الملوك على هذه الأرض وضمان رحلتهم الآمنة إلى العالم الآخَر. من هنا يعتقد العديد من مؤرخي الحضارة المصرية بأنَّ بناء الأهرام وبقية الصروح الدينية الضخمة، قد تمَّ بدوافع طوعية من قِبل المواطنين، وأنَّ الفرعون كان يجزيهم لقاء عملهم أجورًا عادلة خلال مواسم العطالة التي كانوا خلالها ينتظرون انحسار فيض النيل عن الأراضي الزراعية.

وفيما يتعلَّق بالمعتقدات الدينية للمملكة القديمة، فقد حلَّ الإله رع تدريجيًّا محل الإله حوروس، وصار رئيسًا للبانثيون المصري وأبًا للآلهة جميعًا. ووَفْق لاهوت كهنة هيليوبوليس (= أون)، المدينة التي كانت مركز الحياة الدينية خلال عصر المملكة القديمة، كان رع أول مَن ظهر من لجة المياه الأزلية بقواه الذاتية، خالقًا نفسه بنفسه، وبعد أن أوجد لنفسه مكانًا يقف عليه فوق الماء، قام بتبديد الظلمة والعماء بالنور الذي صدر عنه، ثم أنجب رع شو إله الهواء، وتفنوت إلهة الرطوبة، ومن زواج شو وتفنوت ولدت السماء نوت والأرض جيب، ومن زواج السماء والأرض ولد أربعة آلهة هما أوزوريس وسيت وإيزيس ونفتيس، فتزوج أوزوريس من إيزيس وسيت من نفتيس، ومن بين جميع آلهة المصريين ممَّن كان كهنة هذه الفترة يعملون على تقصِّي منشئهم ورسم سير حياتهم، والتوفيق بينهم عن طريق جمعهم في ثواليث وتاسوعات، فقد كان لهذه الآلهة الأربعة، إضافة إلى حوروس الذي صار الآن ابنًا لإيزيس وأوزوريس، أن تلعب الدور الأهم في الحياة الروحية المصرية منذ نهايات المملكة القديمة إلى آخر تاريخ مصر القديمة. ورغم أنَّ الإله رع كان بمثابة تجسيد لفكرة الله عند المصريين، إلَّا أنَّه كان يتجلَّى في العالم المادي على هيئة قرص الشمس، فيقطع السماء من مشرقها إلى مغربها ثم يسير ليلًا في العالم الأسفل ليُشرق ثانية في اليوم التالي. هذا الانبعاث اليومي للشمس هو النموذج الذي يحتذيه الملك عندما يرتقي السماء على أشعة الشمس من قمة الهرم صاعدًا إلى أبيه السماوي، هناك يستقبله حشد الآلهة ويقودونه عند المشرق إلى مركبة رع.

على أنَّ هذا المجتمع المستقر الذي أسَّسه فراعنة الأُسرات الأولى، وأكمل بناءه الفراعنة الأوائل لعصر المملكة القديمة، قد أخذ بالتضعضع منذ نهايات حكم الأسرة الرابعة. فلقد ازدادت سلطة كهنة رع على حساب سلطة الملك وأمراء الأسرة الحاكمة، ولدينا من الدلائل ما يُشير إلى أنَّ هؤلاء الكهنة صاروا يتدخَّلون في مسألة على جانب كبير من الأهمية والحساسية بالنسبة لنظام المملكة القديمة، وهي مسألة ولاية العهد ووراثة العرش، وأنَّ العديد من ملوك الأسرة الخامسة كانوا يدينون للكهنة بهذه الوراثة. كما ساعد على تقليص سلطة الملك المطلقة تزايد ثروة البلاد على حساب ثروة الملك، التي كانت تتآكل تدريجيًّا نتيجة للنفقات الهائلة التي تطلَّبها بناء الأهرامات والمعابد الضخمة، فلقد كان كل ملك مهتم ببناء هرم جديد له من جهة، وملزم من جهة أخرى بتجديد وصيانة أهرامات أسلافه، إضافة إلى واجباته التقليدية الموروثة التي تُلزمه بتقديم هبات للأمراء وكبار النبلاء والأتباع المقربين، تُعينهم على بناء وتجهيز مدافنهم الخاصة التي تضمن لهم الخلود الذي وعدهم به الفرعون، كما ساهم في تآكل ثروة القصر الملكي سياسة المنح والإقطاع التي اتبعها الملوك الأوائل من أجل ضمان ولاء حكام المقاطعات.

وقد نجم عن ذلك كله تحوُّل السلطة تدريجيًّا نحو اللامركزية، واستقلال الأقاليم البعيدة عن العاصمة ودخول حكامها في منازعات دائمة، وكان من أهم نتائج تراخي قبضة السلطة المركزية عن هذه المساحات الواسعة من المملكة انهيار نظام الري وتراجع غلة المواسم الزراعية وانتشار المجاعة، وكذلك انعدام الأمن وغياب سلطة القانون، وهذا ما قاد بدوره إلى تعطيل طرق التجارة المحلية والدولية، ومع نهاية حكم الأسرة السادسة، أخذت القبائل الرعوية تهاجم مصر من حدودها الشمالية الشرقية قادمة من بوادي بلاد الشام، فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير، حيث انهارت المملكة القديمة ودخلت البلاد في الفترة التي يدعوها المؤرخون بالفترة الانتقالية أو المعترضة الأولى، التي استمرت من حوالي ٢٢٠٠ إلى حوالي ٢٠٤٠ق.م. بعد ذلك أفلح أول فراعنة الأسرة الثانية عشرة في إعادة توحيد البلاد وفرض سلطته على جميع الأراضي المصرية مبتدئًا بذلك فترة المملكة المتوسطة التي دامت حتى غزو الهكسوس عام ١٧٥٠ق.م.

أحدثت الفترة المعترضة الأولى تغييرات عميقة في المعتقدات الدينية للمصريين، فلقد كان من نتيجة تدهور الوضع الاقتصادي للأسرة الملكية وزوال هيبتها السياسية أنَّ الملوك فقدوا هالة الألوهية التي كانت تحيط بهم وتجعل منهم صنفًا من البشر-الآلهة، وأخذ الناس ينظرون إلى الملك كمجرَّد حاكم بين حُكَّام الأقاليم، ساعد على ذلك اضطرار بعض الملوك إلى اتخاذ زوجات لهم من خارج نطاق الأسرة المالكة، ومصاهرة النبلاء من ذوي الثروة الكبيرة من أجل دعم الوضع المالي المتردي للقصر الملكي، ومع اهتزاز صورة الملك كممثل للإله الأعلى ونقطة اتصال السماء بالأرض، حصل اهتزاز شامل في القيم الدينية التقليدية ووُضِعَت موضع الشك والتساؤل. فمنذ نهايات حكم الأسرة السادسة، عندما ترسَّخت اللامركزية السياسية وأخذ حكام الأقاليم بالاستقلال وبناء قصورهم الخاصة وتنمية ثرواتهم المحلية، لم يعُد الفرعون مصدر قوتهم وجاههم وتمكينهم في مناصبهم، ولم يعُد بالتالي شفيعهم من أجل الخلود في عالم الآلهة، وبعد أن كانوا يبنون مدافنهم قرب مدفن الفرعون بمعونة من القصر الملكي، راحوا الآن يبنون صروح دفن لهم في مناطقهم فاقت مع الأيام مدافن الملوك، ويسعون لتحصيل الخلود، دون شفاعة الفرعون ووساطته، ولم يمضِ وقت طويل حتى أخذت كل شرائح الشعب تتطلَّع إلى الخلود، وإلى حياة سعيدة بصحبة الآلهة في عالم نوراني بعيد عن ألم وشقاء الحياة الأرضية، وبذلك ولدت فكرة الجنة السماوية المعدة للصالحين جميعهم بصرف النظر عن منشئهم الطبقي، وساد ما يُمكن تسميته بديمقراطية الخلود، فمنذ هذه الفترة الحالكة من تاريخ الثقافة المصرية، صار الإله الصاعد أوزوريس هو الشفيع الوحيد للموتى، وهو الذي يُمسك بمفاتيح العبور إلى العالم الآخَر، وصارت عبادته والإخلاص له، إضافة إلى طقوس الدفن الصحيحة واستخدام الصيغ السحرية القديمة، بمثابة بوابة الخلود. ومنذ هذه الفترة أيضًا تم ربط الأخلاق بالدين، فإذا كان الفرعون يلتحق بعالم الآلهة بعد موته بسبب نسبه الإلهي، وإذا كان بقية النبلاء والأمراء يلتحقون به جرَّاء شفاعته ووساطته، فإن بقية شرائح الشعب صارت تأمل الآن بالخلود عن طريق إيمانها بإله مخلِّص وإتيانها لصالح الأعمال في الحياة الدنيا، لقد كان أوزوريس إلهًا أخلاقيًّا يحضُّ على الفضائل ويجزي بها ويكره الرذائل ويعاقب عليها. ومع ارتباط الأخلاق بالدين تحوَّلت القطبية الكونية القديمة إلى ثنوية أخلاقية وخضعت ميثولوجيا سيت-حوروس إلى تعديل جوهري من أجل مُلاءمتها مع العقيدة الشعبية الجديدة.

لم يكُن أوزوريس بالإله الجديد على البانثيون المصري، فلدينا من الدلائل ما يُشير إلى كونه إلهًا للخصب منذ مطلع التاريخ المصري المكتوب، وكما هو حال آلهة الخصب الشرق أوسطية جميعًا، فقد كان أوزوريس إلهًا مات وبُعث من الموت في الأزمنة الميثولوجية الأولى، مؤسسًا بذلك لدورة الطبيعة السنوية ولموت وبعث الحياة النباتية، ولذا فقد كان المزارعون يحتفلون سنويًّا بذكرى موته ثم بذكرى قيامته من الأموات، من خلال طقوس قديمة ومتجذرة في العصر النيوليتي. وخلال عصر الأُسرات الأولى، ثم عصر المملكة القديمة، تعايشت عبادة أوزوريس مع عبادة حوروس الصقر السماوي، ثم مع عبادة رع. ولكن ميثولوجيا أوزوريس أخذت تتغيَّر منذ نهايات عصر المملكة القديمة، عندما تحوَّل أوزوريس من إله للخصب إلى إله للموتى وقاضٍ في العالم الآخَر.

لا يوجد بين أيدينا نص ميثولوجي مصري مطَّرد ومتكامل عن أسطورة أوزوريس، لا في حلتها القديمة ولا في حلتها الجديدة، ولكنَّنا نملك العديد من الإشارات والتلميحات إلى هذه الأسطورة، مقتطعة من سياقاتها الميثولوجية الأصلية ومدغمة في سياقات طقسية شعائرية، من هذه الإشارات نعرف أنَّ أوزوريس كان أول ملك على الأرض، وأنَّه كان حاكمًا عادلًا نشر الأمن والطمأنينة وقاد البشرية الأولى من عصور الفوضى والهمجية إلى عصر من الحضارة والنظام، وقد مات أوزوريس غيلة على يد أخيه التوءم سيت الشرير، الذي كان يحسد أوزوريس ويغار منه أشد الغيرة، وقد قطَّع سيت جسد أخيه إلى أربع عشرة قطعة ونثرها في أماكن متفرقة من مستنقعات الدلتا، حتى لا يُمكن جمعها وبث الحياة فيها، ولكن إيزيس زوجة أوزوريس أفلحت بالتعاون مع ابنها حوروس في العثور على القطع، فجمعتها معًا وبثَّت الحياة في الجثة الميتة وقام الإله من بين الأموات، ولكن أوزوريس قرَّر مغادرة الأرض والصعود إلى السماء، وهناك رحَّب به رهط الآلهة وأعطوه سلطة مطلقة على عالم الموت، فصار قاضيًا في العالم الأسفل يُحاسب الموتى على ما قدَّمته أيديهم في الحياة الدنيا، يُرسل بالمحسن إلى دار البقاء وبالمذنب إلى دار الفناء. أمَّا سيت فقد حوَّل نشاطه العدواني إلى حوروس، الذي ورث عرش أبيه على الأرض وراح يتهيَّأ للانتقام لأوزوريس. وهنا تُحدِّثنا النصوص الهيروغليفية عن جولات متتالية من صراع الإلهين، كانت تنتهي لصالح هذا أحيانًا ولصالح ذاك في أحيان أخرى، ولكن دون التوصُّل إلى حسم نهائي. وبذلك اتَّخذت القطبية الكونية القديمة شكلًا ثنويًّا ذا مضامين أخلاقية.

لقد كان الملك المتوفى في عصر المملكة القديمة يُدعى أوزوريس، كنايةً عن التماهي مع الإله الذي قهر الموت وبُعث إلى عالم الآلهة، وكانت عبادة أوزوريس موجهة بالدرجة الأولى نحو معونة الفرعون على تحقيق خلوده الفردي. وعندما صارت التعاويذ السحرية التي ترافق دفن الملوك متاحة للنبلاء، وصار بمقدورهم تمويل بناء مدافن صرحية لهم على طريقة الفراعنة، صار كل واحد منهم يتحوَّل إلى أوزوريس في العالم الآخَر، ولكن مع صعود الميثولوجيا الأوزورية الجديدة وشيوع عبادة أوزوريس بشكلها الشعبي، صار بإمكان كل متوفى أن يُصبح أوزوريسًا وينعم بصحبة الآلهة، وذلك بصرف النظر عن وضعه الاجتماعي ومنبته الطبقي، شريطة أن يؤمن بأوزوريس مخلِّصًا، ويسلك سلوكًا أخلاقيًّا خلال الحياة الدنيا، ويحرص على تأمين مدفن له تتوفر فيه الشروط الدنيا الكفيلة براحة روحه، وأداء أهله للطقوس الجنائزية القديمة. إنَّ أهم ما قدَّمته عبادة أوزوريس بشكلها الشعبي للمعتقدات المصرية، هو التوكيد على عنصر الأخلاق الاجتماعية وربطها بالدين وبمعتقد الخلود. ورغم أنَّ المصريين قد استمروا حتى نهاية تاريخهم يُجلون الطقوس القديمة ويؤمنون بالتعاويذ والرقى السحرية، إلَّا أنَّ الأوزيرية قد رفعت الأخلاق إلى مستوى يُعادل في الأهمية ما للطقوس، بل ويزيد عليها.

كانت الأوزيرية عبادة آخروية تُركِّز على النهايات دون كبير عناية بالبدايات. فقد كان المصري حرًّا لينخرط في أيَّة عبادة، محلية كانت أو ملكية إمبراطورية رسمية، ويؤمن بأي معتقد حول التكوين والأصول والبدايات، ويؤدي ما يشاء من الطقوس لمَن يشاء من القوى العليا، ولكنَّه عند التفكير بالموت والتهيئة لرحلة العالم الآخَر كان يلتفت إلى أوزوريس ويؤدِّي ما يتوجَّب عليه أداؤه لكي يؤمِّن مزدلفًا آمنًا إلى الحياة الثانية. على أنَّ المصري لم يكن لينتظر حلول النهاية لكي يُفكِّر بأوزوريس ويلتفت إليه طالبًا عونه، بل إنَّ استعداده للقاء ربه كان شغله الشاغل طيلة حياته، ذلك أنَّ سنوات حياته ووقت مماته معروفة سلفًا من قبل أوزوريس، ومدوَّنة لديه في لوح القدر الذي تُسجل فيه الآجال ويُحدِّد لكل امرئ نصيبه من الأيام، فهو رب القضاء والقدر والمصائر، المطَّلع على كل شيء، لا يخفى عليه ما في السماء وما في الأرض. وإلى جانب لوح القدر، فإنَّ أوزوريس كان يحتفظ بسجل آخر يُدعى سجل المصائر، تُدوَّن فيه أعمال البشر جميعهم، ويشرف عليه إلهان هما تحوث وسيشيتا اللذان يُحصيان الأعمال الصالحة والطالحة لكل إنسان ويحفظانها إلى يوم الحساب، الذي يرى فيه كل واحد أعماله عندما يقف في حضرة ربه أمام الميزان في قاعة العدالة.

عندما يفلح الميت في عبور المفازات المرعبة التي تفصل عالم الأحياء عن عالم الأموات، وذلك بفضل الرقى السحرية التي أودعت في مدفنه من أجل استخدامها لهذه الغاية، يلقاه الإله حوروس، أو الإله أنوبيس الذي يحمل رأس ابن آوى (وهو إله المدافن وراعي التحنيط) فيقوده من يده ويدخله إلى قاعة العدالة المزدوجة، وهي قاعة فسيحة يتصدَّرها الإله أوزوريس جالسًا على عرشه، ووراءه الإلهتان إيزيس ونفتيس في وضعية الوقوف، أمام أوزوريس وباتجاه وسط القاعة هنالك ميزان كبير منصوب يقف قربه الإله تحوث إله الحكمة والكتابة في هيئة القرد، وأمامه عن الجهة الأخرى للميزان يقف الوحش عم-ميت آكل الموتى متحفِّزًا للانقضاض على الميت والتهامه إذا ثبتت إدانته، وعلى طول جدار القاعة يصطف آلهة الأقاليم المصرية وعددهم اثنان وأربعون، ولدى مرور الميت أمام هؤلاء يُعلن أمام كل منهم براءته من إحدى الخطايا التي يكرهها أوزوريس، وهكذا حتى ينتهي من إعلان براءته من اثنتين وأربعين خطيئة، يوردها كتاب الموتى وَفْق الترتيب الآتي:

لم أقُم بعمل شرير يؤذي أحدًا من الناس، لم أكُن سيئًا في معاملة الماشية والأنعام. لم أقترف خطيئة في مكان الصدق (= المعبد)، لم أحاول معرفة ما لا يجب على الإنسان الفاني معرفته، لم أجدِّف على أحد من الآلهة، لم أكُن قاسيًا على أحد من الفقراء، لم أقُم بعمل تمقته الآلهة، لم أشوِّه سمعة عبد أمام سيده، لم أتسبَّب بمرض أحد، لم أتسبَّب بحزن وبكاء أحد، لم أقتل ولم أعطِ أمرًا بالقتل، لم أتسبَّب في عذاب أحد، لم أمارس الجنس مع غلام، لم أزد ولم أنقص في مكيال الحبوب، لم أغش في مقياس المساحة، لم أتلاعب بوزنات الميزان، لم أغش في كفة ميزان، لم أحرم الأطفال من حليبهم، لم أحرم المواشي من مراعيها، لم أمسك الطيور في حُرُم الآلهة، لم أصطد الأسماك في بحيرات حُرم الآلهة، لم أمنع الماء عن الآخرين في مواسم السقاية، لم أضع ردمًا أمام الماء الجاري في السواقي، لم أطفئ شعلة نار لأحد، لم أتناسَ مواعيد تقديم القرابين … إلخ.

بعد ذلك يؤتى بالميت أمام الميزان فيوضع قلبه في إحدى الكفتين وريشة طائر في الكفة الأخرى، وهي رمز معات إلهة العدالة والنظام والحقيقة. والمطلوب هنا أن يتساوى بدقة قلب الإنسان (الذي هو مقر العقل والعواطف والأفكار والنوايا، وبالتالي يحتوي سجلًّا كاملًا لجميع الأعمال) مع رمز الحقيقة والقانون والنظام. وبعد أن يقوم أنوبيس بفحص النتيجة يُبلِّغها إلى الإله تحوت الواقف خلفه فيدونها في سجل يُمسك به ثم يُعلنها لأوزوريس، إذا وُجد الميت مذنبًا انقضَّ عليه الوحش فالتهمه ومحي من الوجود ذكره، وإذا وجد بريئًا اقتاده الإله حوروس إلى حضرة أوزوريس وخاطبه قائلًا: جئت إليك بفلان الذي وجدنا قلبه صالحًا، وقد اجتاز الميزان، لقد وُزن قلبه وفقًا للأمر الذي نطقت به جماعة الآلهة، فامنحه كعكًا وجعة واسمح له بالدخول إلى حضرتك، عند ذلك يركع الميت أمام أوزوريس ويُخاطبه قائلًا: أنا في حضرتك يا رب، ليس فيَّ ذنب، فأنا ما كذبت عمدًا ولا فعلت شيئًا عن سوء نية، فاجعلني بين من آثرتهم بفضلك وجعلتهم في صحبتك، لعلي أصير أوزوريسًا يؤثره الإله الجميل بفضله، ومحبوبًا من رب العالمين. وهنا يجيئه الجواب المنتظر من أوزوريس: دعوا الميت ينصرف سالمًا منتصرًا، دعوه يمضي حيث يشاء، ويعيش في صحبة الآلهة وبقية الأرواح الصالحة.

تُدعى الجنة الأوزيرية في النصوص المصرية بحقول القصب، وهي عبارة عن أرض خصبة تقع وراء الأفق الغربي، وتتخلَّلها شبكة من القنوات المائية العذبة تجعلها أشبه بالجزر المتقاربة، وتهبها خصبًا وخضرة دائمة، فيها ينمو الزرع والشجر من كل نوع، وفيها تعيش أرواح الصالحين خالدة إلى أبد الآبدين. أمَّا عن علاقة روح الميت بجسده الذي تركه في القبر، فمسألة إشكالية في المعتقدات المصرية، ذلك أنَّ النصوص تُشير صراحة إلى أنَّ روح الإنسان الصالح تنتقل من الجسد لتعيش مع الأبرار والآلهة، أمَّا الجسد الفيزيائي فلا يبعث أبدًا ولا يغادر القبر، ومع ذلك فقد استمر المصريون يحافظون على جثث أمواتهم منذ بدايات التاريخ المصري وحتى نهاياته. فما فائدة الجسد المادي إذا لم يكُن معدًّا للبعث ولحلول الروح فيه مرة أخرى؟ إنَّ الجواب على هذا السؤال ليس بالأمر السهل، وأي جواب لن يكون قاطعًا بحال من الأحوال؛ فنحن في دراستنا للدين المصري لا نقف أمام معتقد موحَّد وثابت، بل أمام معتقد متغير تتداخل حلقاته عبر ثلاثة آلاف سنة، وتحتوي كل حلقة من هذه الحلقات على أثر باقٍ من سابقتها، يُضاف إلى ذلك أنَّ الكهنة المصريين لم يعمدوا أبدًا إلى إنتاج لاهوت متكامل متماسك، ولم يعبِّروا عن معتقداتهم بطريقة منظمة، مثلما لم يدوِّنوا أساطيرهم المتداولة بنصوصها الكاملة، بل اكتفوا بالإشارات والتلميحات وإيراد مقتطفات منها ومشاهد تفي بالأغراض الطقسية. ولعل الجواب الأكثر إقناعًا عن علاقة الروح بالجسد، هو أنَّ طقوس الدفن وما يرافقها من تعاويذ وصيغ سحرية تحيل الجثة المحفوظة إلى نوع من الجسد الأثيري الذي ينبثق منها ويتجه إلى العالم الآخَر، وهذا الجسد الأثيري الذي يشبه تمامًا الجسد المحفوظ، هو الذي تُبعث فيه الروح إلى حياتها الأخرى، يُضاف إلى ذلك أنَّ الروح، ولأسباب نجهلها، تبقى بحاجة لأن تزور جسدها من وقت لآخر وتقيم معه لفترات تطول أو تقصر.

خلاصة

تقدِّم لنا ديانة مصر القديمة نموذجًا عن كيفية الانتقال من مفهوم القطبية إلى شكل من أشكال مفهوم الثنوية، وعن الدور الذي تمارسه الأخلاق في هذا الانتقال، عندما تتحوَّل من شأن دنيوي إلى شأن ديني، وما ينجم عن ذلك من ظهور فكرة الشيطان، وهي الفكرة التي تؤصِّل لمعتقد الآخروية والنهايات، ولكن المعتقد الأوزيري لم يصِل بهذه الأفكار الدينية جميعها إلى نهاياتها المنطقية، لأنَّ القطبية لم تتحوَّل إلى ثنوية جذرية، ولا حتى إلى ثنوية أخلاقية تامَّة. فرغم علو شأن الأخلاق في العبادة الأوزيرية، فإنَّها لم تطغَ تمامًا على الطقوس وبقيت التمائم والتلاوات السحرية وكلمات القوة وما إليها جزءًا لا يتجزأ من الممارسات الدينية الأوزيرية مثلما كانت سابقًا، ورغم كون أوزوريس إلهًا أخلاقيًّا إلَّا أنَّه لم يتحوَّل إلى مبدأ كوني للخير، مثلما لم يتحوَّل سيت إلى مبدأ كوني للشر، فرغم اتخاذ سيت للكثير من ملامح الشيطان الكوني، إلَّا أنَّه لم يتقمص فعلًا شخصية الشيطان، لأنَّ أهم سمة تميز الشيطان هي انقلابه على القوة الإلهية وتحوُّله إلى ملعون ورجيم من قِبل إله الخير ورهطه السماوي، وهذا لم يحصل لسيت الذي بقي عضوًا محترمًا في البانثيون الإلهي، وبقي الناس يعبدونه ويشيِّدون له المعابد والهياكل حتى نهايات التاريخ المصري، وبلغ من إجلال بعض الفراعنة له أن تسموا باسمه مثل سيتي الأول من أواخر القرن الثالث عشر ق.م.

ومن أهم نتاج تقصير ثنوية سيت-أوزوريس (أو سيت-حوروس بشكلها الجديد) عن بلوغ الثنوية الأخلاقية التامة، هي بقاء التصوُّر المصري للتاريخ أسيرًا لمفهوم التاريخ المفتوح، حيث الزمن الدنيوي عبارة عن سيالة متدفقة أبدًا نحو اللانهاية، والتاريخ الإنساني بمحتواه التكراري يتحرَّك بشكل خطي دون هدف أو غاية. من هنا فقد غاب عن معتقد الثنوية الأوزيرية أهم عناصر الثنوية الأخلاقية الكاملة، وهو معتقد نهاية العالم، والبعث الأخير الشامل، وتحويل الوجود بأسره إلى مستوى ماجد وجليل في نهاية الزمن، وبقيت التصوُّرات الآخروية في حدود القيامة الفردية والمصير الخاص لكل روح على حدة، الأمر الذي يترافق مع غياب مفهوم شامل عن الإنسانية والمجتمع الإنساني، ودور الإنسان كنوع متميِّز وخاص في دراما الخلاص العام.

على أنَّ الأوزيرية قد قدَّمت لمفهوم الثنوية الكونية والتاريخ الدينامي، الذي سنراه في أكمل أشكاله في الديانة الزرادشتية، بعضًا من أهم عناصره وهي:
  • (١)

    صلة الأخلاق بالدين، وصلة المصير الفردي بالأخلاق.

  • (٢)

    القيامة الفردية، أو الصغرى.

  • (٣)

    الثواب والعقاب الآخرويان.

  • (٤)

    تصورات مادية واضحة عن جنة الآخرة.

وهذه العناصر جميعها سوف تُشكِّل جزءًا لا يتجزَّأ من عقائد الديانات المشرقية منذ مطالع الألف الأول قبل الميلاد.

مراجع المادة المعلوماتية للفصل

  • (1)
    A. Rosalie David, The Ancient Egyptians, Routledge, London 1982.
  • (2)
    Manfred Lurker, The Gods and Symbols of Ancient Egypt, Thames and Hudson, London 1984.
  • (3)
    E. A. Wallis Budge. The Gods of The Egyptians, Dover, New York, 1969.
  • (4)
    E. A. Wallis Budge, Osiris, Dover, New York 1973.
  • (5)
    E. A. Wallis Budge, Egyptian Religion, Routledge, London 1975.
  • (6)
    New Larousse Encyclopedia of Mythology, Hamlyn, London 1977, ch. 2.
١  والاسم في بعض اللغات السامية يعني الصقر. وهو متداول الآن بصيغة: الحُر.
٢  في الهيروغليفية المصرية، وفي المسمارية المقطعية الرافيدينية، يجري استعمال إشارات معينة قبل بعض الكلمات ذات اللفظ المشترك والمعنى المختلف، وذلك للتمييز بينها.
٣  الآخروية: هي التصورات الدينية المتعلقة بمصير الكون والروح، ونهاية الزمن الدنيوي. وقد قمت بنحت التعبير من كلمة الآخرة، وبمصطلح فلسفي يمكن القول بأنَّ الآخروية هي ميتافيزيقا النهايات.
٤  العصر النيوليتي هو العصر الحجري الحديث الذي تميَّز باكتشاف الزراعة وبناء المستوطنات الزراعية الأولى وتدجين الماشية. أمَّا العصر المديني فهو عصر المدن الأولى واستخدام الكتابة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤