الفصل الخامس

الشيطان في التوراة بين إشكالية التوحيد وإشكالية الأخلاق

يعزو الباحثون الغربيون غياب شخصية الشيطان الكوني عن المعتقد التوراتي إلى حرص محرري التوراة على وحدانية يهوه، وتنقية مفهوم الإله الأعلى من أيَّة ظلال قد تجنح به إلى ثنوية أو تعددية كان الدين الشعبي اليهودي ميَّالًا إليها على الدوام. ولكن الأمر كما نراه، هو أنَّ غياب الشيطان الكوني واقتصار ممثل الشر في التوراة على دور ثانوي جدًّا، يرجع بالدرجة الأولى إلى قيام إشكاليتين رئيستين لم يتوصَّل الفكر التوراتي إلى حلهما حتى نهاية فترة تدوين الأسفار القانونية، وهما إشكالية التوحيد وإشكالية الأخلاق. فمن جهة أولى، لم تتوصَّل الأيديولوجيا التوراتية إلى مفهوم صافٍ للوحدانية بخصوص الإله يهوه، كما لم تتوصَّل إلى ربط الأخلاق بالدين وإلى رسم صورة إله أخلاقي يجمع إليه كل الكمالات، ويؤسِّس لصلة بينه وبين العالم والإنسان قائمة على الأخلاق، الأمر الذي حَرَم الأيديولوجيا التوراتية من أهم عنصرين لازمين لبناء شخصية متكاملة للشيطان في أي معتقد ديني.

(١) إشكالية التوحيد

لكي نفهم إشكالية التوحيد في التوراة، علينا أن نوضِّح، ابتداءً، الفرق بين مفهومين دينيين يجري الخلط بينهما في معظم الأحيان، وهما مفهوم التوحيد ومفهوم وحدانية العبادة. فالتوحيد هو الاهتداء إلى فكرة الله. والله ليس إلهًا أعلى شأنًا من بقية الآلهة المتحكمة في مظاهر الطبيعة وما وراء الطبيعة، بل هو الألوهة الوحيدة الخافية، والمتبدية في كل مظاهر الكون والطبيعة، إنَّه العلة الأولى والمآل الأخير، مبتدأ السببية ونهايتها، أمَّا وحدانية العبادة فهي شكل من أشكال التعددية (= الشرك = الوثنية)، يتميَّز بعبادة إله واحد والإخلاص له من دون بقية الآلهة، التي لا يُنكر وجودها وإنما تُستبعد من الحياة الدينية للجماعة لصالح ذلك الإله المعبود. اعتمادًا على هذا التمييز بين المفهومين، يُمكننا القول بأنَّ المعتقد التوراتي كان معتقد وحدانية عبادة لا معتقد توحيد بالمعنى الدقيق للمصطلح، وإنَّ الانتقال من المفهوم الأول إلى الثاني لم يتحقَّق تمامًا، حتى في أسفار الأنبياء التي وصلت إلى عتبة التوحيد دون أن تتخلَّص من الإرث الأيديولوجي التقليدي.

لقد نشأت وحدانية العبادة في التوراة عندما قام أحد الآلهة الفلسطينية المدعو يهوه بإبرام عقد بينه وبين الأسلاف المفترضين لبني إسرائيل، ومضمون هذا العقد (الذي سُمِّي عهدًا) هو أن يعبد أولئك الأسلاف وذريتهم من بعدهم الإله يهوه من دون بقية الآلهة، مقابل تقديمه الحماية والعون لهم وإعطائهم أرض كنعان (= فلسطين) ملكًا لهم بعد انتزاعها من أهلها. نقرأ في سفر التكوين ١٧ عن أول صيغة لهذا العقد بين يهوه والأب الأول إبراهيم: «وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم، عهدًا أبديًّا، لأكون إلهًا لك ولنسلك من بعدك، وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان مُلكًا أبديًّا، وأكون إلههم» (١٧: ٧–٨). ثم يُجدِّد يهوه عقده هذا مع إسحاق وابنه يعقوب من بعده، وبعد ذلك بأكثر من أربعمائة سنة يعود إلى تجديد العهد مع موسى وشعبه، لقاء إخراجهم من مصر وتحريرهم من العبودية. نقرأ في سفر الخروج ٦ على لسان يهوه: «قد سمعت أنين بني إسرائيل وتذكَّرت عهدي، لذلك قُل لبني إسرائيل: أنا الرب، وأنا أخرجكم من تحت أثقال المصريين، وأتَّخذكم لي شعبًا وأكون لكم إلهًا وأُدخلكم إلى الأرض التي رفعت يدي أعطيها لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، وأعطيكم إياها ميراثًا» (٦: ٦–٨).

يتَّضح لنا معتقد وحدانية العبادة منذ أول وصية تصدَّرت الشريعة التي أنزلها يهوه على موسى. نقرأ في سفر الخروج، ٢٠: «ثم تكلَّم الرب بجميع هذه الكلمات قائلًا: أنا الرب الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية. لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لأني أنا الرب إلهك، إله غيور» (٢٠: ١–٥). ففي هذا المقطع الذي سوف يتكرَّر مضمونه حتى آخر الأسفار، نلاحظ أنَّ یهوه لا يدَّعي الوحدانية، وإنَّما يُطالب بأن يكون المعبود الوحيد من دون بقية الآلهة التي تُثير غيرته، فهو إله غيور، لا يحتمَّل وجود آلهة أخرى إلى جانبه، على عكس بقية آلهة الشرق القديم التي لم تستبعد بعضها بعضًا، وإنَّما شكَّلت فيما بينها مجتمعًا منظمًا أدق التنظيم. وها هو يُخاطب موسى مرة أخرى مؤكدًا على صفة الغيرة الشديدة عنده: «فإنَّك لا تسجد لإله آخَر، لأنَّ الرب اسمه غيور، إله غيور» (الخروج، ٣٤: ١٤). وغيرته تشبه نارًا آكلة: «احترزوا أن تنسوا عهد الرب إلهكم الذي قطعه معكم، لأنَّ الرب إلهك هو نار آكلة، إله غيور» (التثنية، ٤: ٢٣–٢٤). وتماثيل الآلهة الأخرى تُدعى بتماثيل الغيرة، وهي تُهيِّج غيرة يهوه. نقرأ في رؤيا النبي حزقيال: «وأتى بي الملاك إلى أورشليم، إلى مدخل الباب الداخلي المتجه نحو الشمال حيث مجلس تمثال الغيرة، المهيج للغيرة» (حزقيال، ٣: ٨). وعندما يُجدِّد يشوع عهد الشعب مع يهوه بعد موت موسى يُذكِّرهم بغيرة الرب: «فالآن اخشوا الرب واعبدوه، وانزعوا الآلهة التي عبدها آباؤكم واعبدوا الرب. وإنْ ساء في أعينكم أن تعبدوا الرب فاختاروا لأنفسكم اليوم من تعبدون. وأمَّا أنا وأهل بيتي فنعبد الرب. فأجابه الشعب وقالوا: حاشا لنا أن نترك الرب لنعبد آلهة أخرى، لأنَّه هو إلهنا. قال يشوع للشعب … إله غيور هو، لا يغفر ذنوبكم وخطاياكم. وإذا تركتم الرب وعبدتم آلهة غريبة يرجع ويُسيء إليكم ويُفنيكم» (يشوع، ٣٤: ١٤–٢٠).

وغالبًا ما يوصف يهوه بأنَّه الأعظم بين الآلهة: «من مثلك بین الآلهة يا رب، من مثلك معتزًّا بالقداسة» (الخروج، ١٥: ١١). وأيضًا: «أي إله عظيم مثل الله»١ (المزمور ٧٧: ١٣). وأيضًا «يا رب، إله الجنود، من مثلك إله قوي، وحقك، من حولك» (المزمور ٨: ٨٩). كما يُلقَّب بإله الآلهة: «فأجاب بنو رأوبين وقالوا: إله الآلهة، الرب إله الآلهة» (يشوع، ٢٢: ٢١). وأيضًا: «إله الآلهة، الرب تكلم، ودعا الأرض من مشرق الشمس إلى مغربها» (المزمور ٥٠: ١). ونجده أحيانًا واقفًا بين الآلهة يُصدر إليهم الأوامر: «الله قائم في مجمع الله. في وسط الآلهة يقضي: حتى متى تقضون جورًا وترفعون وجوه الأشرار؟ … أنا قلت إنَّكم آلهة وبنو العلي كلكم، ولكن مثل الناس تموتون وكأحد الرؤساء تسقطون» (المزمور ٨٢: ١–٦). إنَّ هذا المقطع رغم غموضه وغموض هوية أولئك الآلهة التي يُشير إليها، ليؤكد فكرة مجمع الآلهة التي تظهر في مواضع أخرى أيضًا: «لأنَّه من يعادل في السماء الرب؟ من يشبه الرب بين أبناء الله؟ إله مهوب جدًّا في جماعة القديسين، ومخوف عند جميع الذين حوله» (المزمور ٨٩: ٦–٧). وجماعة القديسين في هذا المزمور هم أبناء القُدُس نسل الإله إيل المذكورون في نصوص أوغاريت. نقرأ في النص ١٢٩ من ملحمة بعل وعناة على لسان بعل ما يلي: «أنا ليس لي بيت كما للآلهة، وليس لي مسكن كما لبني القُدُس.» إنَّ مؤدَّى الفقرة المقتبسة أعلاه من المزمور ٨٩ لتدل بجلاء على أنَّ يهوه ليس الإله الأعلى بل واحدًا من أبنائه وأعظمهم شأنًا، وهذا ما نجده في مزمور إشكالي آخر يقول على لسان داود: «قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك» (المزمور ١١٠: ١).

وإذا كان التنزيه ملازمًا لمفهوم الله الواحد المتعالي عن الوصف، فإنَّ التشبيه ملازم لمفهوم التعددية. ولعلنا غير واجدين بين جميع آلهة المشرق القديم إلهًا أكثر شبهًا بالبشر من إله التوراة. ففي سفر التكوين نجده يقوم بزيارة ودية لمضرب خيام إبراهيم ومعه اثنان من أتباعه، فيتكئون تحت الشجرة ويأكلون عجلًا طبخته سارة زوجة إبراهيم. نقرأ في الإصحاح ١٨: «وظهر له الرب عند بلوطات ممرًّا وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار، فرفع عينيه وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه، فلمَّا نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض وقال: يا سيد إن كنت قد وجدتُ نعمةً في عينيك فلا تتجاوز عبدك. ليؤخذ قليل ماءٍ واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت الشجرة، فآخذُ كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثم تجتازون. فقالوا هكذا نفعل» (١٨: ١–٥). «وفيما هم يستريحون من وعثاء السفر، أمر إبراهيم أحد غلمانه بذبح عجل طري أعطاه لزوجته فطبخته، وعجنت خبزًا وجهزت زبدًا ولبنًا، ووضع إبراهيم ذلك كله أمام ضيوفه فأكلوا وشبعوا» (١٨: ٦–٩). ثمَّ قام الضيوف ومشى إبراهيم معهم ليُشيعهم. وفيما هو يسير جنب الرب، بثه يهوه مكنونات قلبه: «وكان إبراهيم ماشيًا معهم ليُشيعهم. فقال الرب: هل أُخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله، وإبراهيم يكون أمة كبيرة وقوية ويتبارك به جميع الأمم … إنَّ صراخ سدوم وعمورة قد كثر، وخطيتهم قد عظمت جدًّا» (١٨: ١٦–٢٠).

بعد ذلك يظهر يهوه ليعقوب حفيد إبراهيم، ولكن بطريقة أكثر درامية، فعندما وصل يعقوب أرض كنعان قادمًا مع أسرته من آرام النهرين حيث تغرَّب مدة طويلة، ظهر له إنسان عند موقع يُدعى مخاضة يبوق وصارعه ليلًا، وعندما لم يقدر عليه حتى طلوع الفجر ضربه في موضع الحق من فخذه «وهو رأس الورك»، فانخلع حق يعقوب ولكنه بقي ممسكًا بخصمه الذي استغاث طالبًا إطلاقه، ولم يكن هذا الخصم المستغيث سوى يهوه نفسه. نقرأ في سفر التكوين، ٣٢: «فبقي يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر. ولمَّا رأى أنَّه لا يقدر عليه ضرب حق فَخِذه، فانخلع حق فَخِذ يعقوب في مصارعته معه، وقال: أطلقني لأنَّه قد طلع الفجر. فقال: لا أُطلقك إنْ لم تباركني. فقال: ما اسمك؟ فقال: يعقوب. فقال: لا يُدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل، لأنَّك جاهدت مع الله والناس وقدرت. وسأل يعقوب وقال: أخبرني باسمك. فقال: لماذا تسأل عن اسمي؟ وباركه هناك. فدعا يعقوب المكان فنيئيل قائلًا: لأني نظرت الله وجهًا لوجه ونجيت نفسي» (٣٢: ٢٢–٣٠).

وقد رآه موسى مرتين رؤية العين، في المرة الأولى من قفًا وفي الثانية من أمام. نقرأ في سفر الخروج، ٣٣: «فقال — موسى — أرني مجدك. فقال: لا تقدر أن ترى وجهي لأنَّ الإنسان لا يراني ويعيش. هو ذا عندي مكان، فتقف على الصخرة، ويكون متى اجتاز مجدي أني أضعك في نقرة من الصخرة وأستُرك بيدي حتى أجتاز، ثم أرفع يدي فتنظر ورائي وأمَّا وجهي فلا یُری» (٣٣: ١٨–٢٣). ورغم هذا التحذير من رؤية وجه الرب فقد سمح يهوه في مناسبة أخرى لموسى وسبعين شيخًا من شيوخ إسرائيل أن يروه وجهًا لوجه على جبل سيناء. نقرأ في الخروج ٢٤: «ثم صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون شيخًا معه من شيوخ إسرائيل، ورأوا إله إسرائيل، وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق وكذات السماء في النقاوة، ولكن لم يمد يده إلى أشراف إسرائيل، فرأوا الله وأكلوا وشربوا» (٢٤: ٩–١١). وهناك مواجهة ثالثة ذات طابع عنيف بين يهوه وموسى. فبينما موسى عائد إلى مصر من مديان ومعه صفورة زوجته وابنهما، ظهر له الرب وأراد أن يقتله لأنَّ صفورة مانعت في ختان ابنها، فأسرعت صفورة وأمسكت بحجر صوان مسنون وختنت ابنها ثم مسَّت رجلي يهوه. ولمس الرجلين هنا على ما نعرف من مواضع أخرى في الكتاب هو كناية عن لمس الأعضاء التناسلية. نقرأ في الخروج ٤: «وحدث في الطريق أنَّ الرب التقاه وطلب أن يقتله، فأخذت صفورة صوانة وقطعت غرلة ابنها، ومست رجليه فقالت: إنك عريس دمٍ لي، فانفكَّ عنه» (٤: ٢٤–٢٦).

وفي مواضع كثيرة يستخدم النص تعبير «ملاك الرب» كناية عن حضور يهوه المرئي. نقرأ في سفر القضاة عن رؤية أبوَيْ شمشون للرب الذي جاء يُبشرهما بمولد غلام يُحرِّر إسرائيل من أعدائها: «فقال مَنوحٌ لملاك الرب ما اسمك حتى إذا جاء كلامك نُكرمك. فقال له ملاك الرب لماذا تسأل عن اسمي وهو عجيب. فأخذ مَنوح جدي المعزى والتقدمة وأصعدهما على الصخرة للرب. فعمل عملًا عجيبًا، ومنوح وامرأته ينظران، فكان عند صعود اللهيب عن المذبح نحو السماء أنَّ ملاك الرب صعد في لهيب المذبح ومنوح وامرأته ينظران، فسقطا على وجهيهما إلى الأرض … فقال منوح لامرأته نموت موتًا لأنَّنا قد رأينا الله» (١٣: ١٧–٢٢). إلى جانب هذه الظهورات التي يبدو فيها يهوه كإنسان عادي أو كجني ليلي يخاف طلوع الفجر، أو كعفريت شاهرًا سيفه للقتل، هناك ظهورات يبدو فيها يهوه في هيئة الملك الشرقي الجالس على العرش، على هذه الصورة رآه النبي إشعيا في الهيكل رؤية العين وسمع من فمه: «في سنة غُزيا الملك، رأيت السيد جالسًا على كرسي عالٍ ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل … فقلت ويلي إني هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأنَّ عيني قد رأتا الملك رب الجنود» (إشعيا، ٦: ١–٥).

هذا وتنعكس إشكالية التوحيد في النص التوراتي على موقف الشخصيات الرئيسية في القصة التوراتية من هذه المسألة، وعلى سلوك الجماعة بأسرها، فلا قادة الشعب التزموا عبادة يهوه وحده، ولا بقية الشعب من ورائهم أيضًا، وبما أنَّ قائمة الشواهد من الكتاب تطول حتى تُغطي عشرات الصفحات، فإنَّنا سنكتفي هنا بإيراد شاهد واحد من كل حقبة من أحقاب الرواية التوراتية.

في سفر التكوين الذي يسرد قصص الآباء الأولين من إبراهيم إلى يعقوب والأسباط، لدينا العديد من الشواهد النصية على أنَّ الآلهة الأخرى كانت مُبجَّلة في بيوت أولئك الآباء. نقرأ في الإصحاح ٣٥: «ثم قال الله ليعقوب قم اصعد إلى بيت إيل وأقم هناك واصنع مذبحًا لله … فقال يعقوب لبيته ولكل من كان معه: اعزلوا الآلهة الغريبة من بينكم وتطهروا وأبدلوا ثيابكم» (٣٥: ١–٢). وفي سفر الخروج، وبعد ثلاثة شهور فقط على هروب بني إسرائيل من مصر، لم يجد هارون أخو موسى غضاضة في صنع تمثال للعجل، يتعبَّد له بنو إسرائيل أثناء غياب موسى الطويل على جبل سيناء: «قال الشعب لهارون: قم اصنع آلهة تسير أمامنا لأنَّ هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من مصر، لا نعلم ماذا أصابه. فقال لهم هارون انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها … فأخذ ذلك من أيديهم وصوَّره بالإزميل وصنعه عجلًا مسبوكًا. فقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من مصر» (٣٢: ١–٤). وعندما وصل موسى بقومه إلى شرقي الأردن بعد أربعين سنة، لم يكن موقف الشعب من يهوه قد تغير: «ابتدأ الشعب يزنون مع بنات موآب، فدَعَون الشعب إلى ذبائح آلهتهن، فأكل الشعب وسجد لآلهتهن، وتعلَّق الشعب ببعل فغور «إله موآب»، فحمي غضب الرب على إسرائيل» (العدد، ٢٥: ١–٣).

وبعد موت موسى واجتياز خليفته يشوع بن نون نهر الأردن إلى أرض كنعان التي غنمها ووزعها على القبائل الاثني عشر، كانت الآلهة الغريبة ترافقهم في حلهم وترحالهم. وتوفي يشوع بن نون وهو يوصيهم بنزعها: «فالآن، انزعوا الآلهة الغريبة التي في وسطكم وأميلوا قلوبكم إلى الرب إله إسرائيل» (يشوع ٢٤: ٢٣). وعندما استقر الشعب في كنعان عبدوا الإله بعل والإلهة عشيرة ونسوا الرب الذي أخرجهم من مصر وعبر بهم الأردن، ولمَّا جاء ملاك الرب إلى المدعو جدعون وأمره أن يهدم مذبح البعل ويقطع السارية المنصوبة «جذع الشجرة المقدس» عنده، لم يجرؤ على ذلك في وضح النهار. نقرأ في سفر القضاة: «وإذا كان يخاف من أهل بيته وأهل المدينة أن يعمل ذلك نهارًا فعمله ليلا. فبكَّر أهل المدينة في الغد وإذا بمذبح البعل قد هُدم والسارية التي عنده قد قُطعت … فقال أهل المدينة ليوآش: أخرج ابنك لكي يموت لأنَّه هدم مذبح البعل» (٦: ٢٧–٣٠).

وفي عصر المملكة الموحدة نجد أصنام الآلهة موجودة في بيت داود، الشاب الذي مسحه الرب ملكًا على إسرائيل بدلًا عن شاؤل. نقرأ في سفر صموئيل الأول: «فأرسل شاؤل رُسلًا إلى بيت داود ليراقبوه ويقتلوه في الصباح. فأخبرته ميكال زوجته قائلة: إن كنت لا تنجو بنفسك هذه الليلة فإنَّك تُقتل غدًا. فأنزلت ميكال داود من الكوة فذهب هاربًا ونجا، وأخذت ميكال الترافيم ووضعته في الفراش ووضعت لبدة المعزى تحت رأسه وغطَّته بثوب» (١٩: ١١–١٣). والترافيم المذكور هنا، هو نوع من أصنام الآلهة الخاصة بالبيوت، ويبلغ حجمها في بعض الأحيان حجم الإنسان الحقيقي. (بخصوص أصنام الترافيم راجع المواضع الآتية في التوراة: التكوين، ٣١: ٩ و٣٤ و٣٥؛ وصموئيل الأول، ١٥: ٢٣). وكان الملك سليمان باني هيكل الرب في أورشليم من عبدة الآلهة السورية، ولهذا فقد حكم الرب على مملكته بالانقسام بعد وفاته. نقرأ في سفر الملوك الأول: «وكان في زمن شيخوخة سليمان، أنَّ نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملًا مع الرب إلهه. فذهب سليمان وراء عشتاروت إلهة الصيدونيين وملكوم رجس العمونين، وعمل سليمان الشر في عيني الرب … فقال الرب لسليمان: من أجل أنَّ ذلك عندك، ولم تحفظ عهدي وفرائضي فإني أمزق المملكة عنك تمزيقًا وأعطيها لعبدك» (١١: ٤–١١).

بعد انهيار مملكة سليمان وانقسامها إلى مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا، كان ملوك إسرائيل وعامتها يعبدون الآلهة السورية حتى دمار عاصمتهم السامرة عام ٧٢١ق.م. أمَّا في يهوذا فإنَّ المقطع الآتي من سفر الملوك الثاني يُعطي صورة حيَّة عن حالة هيكل سليمان في أورشليم الذي امتلأ بنُصب ورموز آلهة الخصب الكنعانيين: «وأمر يوشيا الملكُ الكاهن العظيم حلقيا وكهنة الفرقة الثانية أن يُخرجوا من هيكل الرب جميع الآنية المصنوعة للبعل وللسارية ولكل أجناء السماء وأحرقها خارج أورشليم، ولاشى كهنة الأصنام الذين جعلهم ملوك يهوذا ليوقدوا على المرتفعات في مدن يهوذا وما يُحيط بأورشليم، والذين يوقدون للبعل وللشمس وللقمر ومنازل السماء ولكل أجناء السماء، وأخرج السارية من بيت الرب خارج أورشليم … وهدم بيوت المأبونين (= الدعارة المقدسة) التي عند بيت الرب حيث كانت النساء ينسجن بيوتا للسارية» (٢٣: ٤–٧).

ويُحدِّثنا النبي حزقيال عن تحوُّل هيكل الرب إلى مكان لعبادة الآلهة الأجنبية وأداء طقوس الخصب التموزية فيه: «وقال لي ادخل وانظر الرجاسات الشريرة التي هم عاملوها هنا، فدخلت ونظرت وإذا كل شكل دباباتٍ وحيوانٍ نجسٍ، وكل أصنام بيت إسرائيل مرسومة على الحائط على دائرة، وواقف قدامهم سبعون رجلًا من شيوخ بيت إسرائيل وكل واحد مجمرته في يده وعطر عنان البخور صاعد … وقال لي بعدُ تعود تنظر رجاسات أعظم هم عاملوها، فجاء بي إلى مدخل باب بيت الرب الذي من جهة الشمال، وإذا هناك نسوة جالسات يبكين على «الإله» تموز … وجاء بي إلى دار بيت الرب الداخلية وإذا عند باب هيكل الرب بين الرواق والمذبح نحو خمسة وعشرين رجلًا ظهورهم نحو هيكل الرب ووجوههم نحو الشرق وهم ساجدون للشمس» (حزقيال، ٨: ٧–١٦).

وفي أسفار الأنبياء وفي بعض فصول شعر المزامير، يرسم المحرر التوراتي صورة أكثر وضوحًا لإله عالمي شمولي، تجعلنا نعتقد لأول وهلة بأنَّ الأيديولوجيا التوراتية قد لامست فكرة «الله» وبلغت أعتاب مفهوم التوحيد، غير أنَّ القراءة المدقَّقة للمقاطع المعنية في هذه الأسفار، توضِّح لنا أنَّ كل وصف عالمي شمولي للإله يهوه يتبعه مباشرة توكيد على علاقة يهوه بشعبه المختار، ووعد صريح بتخليصه وإعلائه فوق الجميع «وهذه المسألة لم يلحظها الباحثون الغربيون الذين يُعيدون القول في كل مناسبة بأنَّ أسفار المزامير والأنبياء قد توصَّلت أخيرًا إلى مفهوم التوحيد الصافي.» فالشمولية والحالة هذه ليست إلَّا حلية وزينة للإله التوراتي الذي يبقى رغم كل سماته الكونية إلهًا لإسرائيل وحدها عاملًا في سبيل تحقيق مملكتها الأرضية وسلطانها على بقية الشعوب.

نقرأ في سفر إشعيا، وهو السفر المفضَّل لدى الباحثين عن التوحيد في الأيديولوجيا التوراتية، هذه الفقرات المنتخبة، لنرى كيف ترتبط الصورة الشمولية للإله بالصورة التقليدية لإله إسرائيل، وكيف يجري توظيفها لخدمة النظرة الشوفينية الضيقة للخطاب التوراتي: «أنا الرب. أنا الأول والآخر. رأت الجزائر وخافت، ارتعدت أقاصي الأرض فدنت وأقبلت … إلخ. أما أنت يا إسرائيل عبدي ويا يعقوب الذي اخترته، نسل إبراهيم خليلي، لا تخف لأني معك، لا تتلفت لأني إلهك. قد أيدتك وأعنتك وعضدتك بيمين بري … يكون كلا شيء مخاصموك ويبيدون، تفتش عن منازعيك ولا تجدهم» (٤١: ٨–١٢). نلاحظ في هذا المقطع كيف يتم الانتقال مباشرة من المفهوم التوحيدي الشمولي في قوله «أنا الأول والآخر»، إلى مفهوم إله إسرائيل الذي ينصر شعبه على أعدائه، وهذه الصيغة تتكرر عبر كامل سفر إشعيا:

«هكذا قال الرب ملك إسرائيل وفاديه، رب الجنود: أنا الأول وأنا الآخر ولا إله غيري. من مثلي يدعو ويُخبر بهذا أو يرتب لي ذاك، منذ أنشأت شعبًا أبديًّا ليخبروهم بالمستقبل وبما سيأتي. لا ترتاعوا ولا تضطربوا، ألم أُسمعكم من ذلك الوقت وأُخبركم، أنتم شهودي هل من إله غيري أو من صخر لا علم لي به؟ … هكذا قال الرب فاديك «يا إسرائيل» وجابلك من البطن: أنا الرب صانع الكل، ناشر السماوات وحدي وباسط الأرض بنفسي، مُثبت كلام عبده ومتمم مشورة رسله. القائل لأورشليم ستُعمرين ولمدن يهوذا ستُبنين وأنا أقيم المنهدم منها» (٤٤: ٦–٢٦). إنَّ كل هذا الإعلاء من شأن إله إسرائيل وجعله باسطًا للأرض وناشرًا للسماوات، لا يخدم أيديولوجيا توحيدية عالمية، بل يهدف إلى زرع الثقة في قارئ النص بأنَّ إله إسرائيل قادر على إعادة بناء أورشليم وبقية مدن يهوذا المُهدَّمة.

ونُتابع القراءة في الإصحاح ٤٣: «أنتم شهودي يقول الرب، وعبدي الذي اخترته، لكي تعلموا وتؤمنوا بي وتفهموا أني أنا هو، لم يكن إله قبلي ولا يكون بعدي. أنا، أنا الرب ولا مُخلِّص غيري. إني أخبرت وخلَّصت وأسمعت وليس فيكم غريب، وأنتم شهودي يقول الرب وأنا الله» (٤٣: ١٠–١٢). إنَّ لفظ الجلالة «الله» المذكور هنا وفي مئات المواضع الأخرى من النص التوراتي هو ترجمة للاسم الكنعاني «إيل» الذي يستخدمه المحرر التوراتي في الإشارة إلى إله التوراة إلى جانب الاسم الآخر «إيلوهيم» الذي هو صيغة جمع من «إيل». وفي الإصحاح ٤٦ نقرأ: «اسمعوا لي يا آل يعقوب ويا بقية آل إسرائيل الذين أُقِلُّوا من البطن وحُملوا من الرحم إلى شيخوختكم أنا، وإلى مشيبكم أقلَّكم. أنا صنعتكم أنا أحملكم، أنا أقلُّكم وأنجِّيكم، بمن تشبهونني وتعادلونني، وبمن تمثلونني فنتشابه؟ … اذكروا الأوائل منذ الدهر، إني أنا الله وليس آخر، أنا الله وليس مثلي، أنا المخبر منذ البداءة بالنهاية، ومن القديم بما لم يكن، قائلًا: إنَّ مشورتي تَثْبُتُ وإني أصنع كل ما أشاء … إني قربت بري فلا يبعد، وخلاصي فلا يبطئ، وسأجعل في صهيون الخلاص ولإسرائيل فخري» (٤٦: ٣–١٣). ونقرأ في الإصحاح ٤٨: «اسمع لي يا يعقوب ويا إسرائيل الذي دعوته. أنا هو، أنا الأول وأنا الآخر. يدي أسَّست الأرض ويميني شَبَرت السماوات. أدعوهن فيقفن جميعًا … هكذا قال الرب فاديك قدوس إسرائيل: أنا الرب إلهك الذي يُعلمك ما ينفع ويهديك الطريق الذي تسير فيه … اخرجوا من بابل، اهربوا من الكلدانيين بصوت الترنيم، أخبروا بهذا ونادوا به، أذيعوه إلى أقاصي الأرض. قولوا قد افتدى الرب عبده يعقوب» (٤٨: ١٢–٢٠).

وهكذا نجد أنَّ الإله الذي جلس تحت الشجرة قرب خباء إبراهيم وأكل وشرب من طبيخ سارة، والذي صارع يعقوب عند مخاضة يبوق، والذي رآه موسى من قفاه أولًا ثم جلس وسبعين من شيوخ إسرائيل ينظرون إليه وهم يأكلون ويشربون على جبل سيناء، قد تمَّت ترقيته إلى رتبة الإله الأعلى خالق السماوات والأرض في أسفار الأنبياء، لا تأسيسًا لأيديولوجيا عالمية وإنَّما تجميلًا لصورته في عين شعبه المختار، وتوكيدًا لهذا الشعب بأنَّه وحده القادر على خلاصهم. من هنا، فإنَّ أي حديث عن توصُّل هذه الأسفار إلى مفهوم توحيدي صافٍ، هو لغوٌ لا طائل من ورائه.

(٢) إشكالية الأخلاق

لقد عملت المسيحية من خلال تبنيها لكتاب التوراة باعتباره العهد القديم، على تحسين صورة الإله اليهودي، كما أضافت تفسيراتها اللاهوتية إلى الأيديولوجيا التوراتية بُعدًا إنسانيًّا تفتقده على كل صعيد. ولعل من أخطر ما قدَّمته هذه التفسيرات إظهارها لإله التوراة في صورة الإله الأخلاقي والمُشرِّع الأخلاقي، وذلك بتركيزها على ما دعته بالوصايا العشر الواردة في الإصحاح ٢٠ من سفر الخروج، وعلى عدد قليل آخر من الوصايا الأخلاقية المبعثرة في خضم آلاف الوصايا الطقسية والتحريمية المبثوثة في الأسفار الخمسة، والمفصلة إلى درجة تُثير الملل عند القارئ الحديث الذي لا يستطيع فهم باعثها والهدف منها، تمامًا مثلما كان اليهودي وما زال لا يفهم ذلك وإنَّما يُطبِّقه في انصياع تام لشريعة غير إنسانية، تهدف إلى تكبيل الإنسان بطقوس وممارسات وتحريمات لا طاقة لأحد على الالتزام بها. من هنا لا عجب إذا وَصَفَ القديس بولس «وهو اليهودي السابق المتحمس» شريعة التوراة بأنَّها لعنة، ودارت معظم تعاليمه حول بطلان زمنها وافتتاح زمن الفداء بيسوع المسيح.

لم تكن الوصايا العشر أولى الوصايا التي تلقاها موسى، وأول وصية في الشريعة لم تكن وصية أخلاقية بل وصية طقسية محضة أسَّست للفصح اليهودي، وهو ذكرى الخروج من مصر. ففي اليوم السابق للخروج كلَّم الرب موسى وهارون، على ما نقرأ في سفر الخروج: «كلَّم الرب موسى وهارون في أرض مصر قائلًا: هذا الشهر يكون لكم رأس الشهور، هو لكم أول شهور السنة. كَلَّما كل جماعة إسرائيل قائلين: في العاشر من هذا الشهر يأخذون لهم كل واحد شاةً بحسب بيوت الآباء، تكون لكم شاة صحيحة ذكرًا ابن سنة … ثم يذبحه كل جمهور إسرائيل في العشية … ويأكلون اللحم تلك الليلة مشويًّا بالنار مع فطير … لا تأكلوا منه نيئًا أو طبيخًا مطبوخًا بالماء، بل مشويًّا بالنار، لا تُبقوا منه إلى الصباح والباقي يُحرق بالنار. وهكذا تأكلونه: أحقاؤكم مشدودة وأحذيتكم في أرجلكم، وعِصيُّكُم في أيديكم. وتأكلونه بعَجَلة، هو فصح للرب … سبعة أيام تأكلون فطيرًا، اليوم الأول تعزلون الخمير من بيوتكم، فإن كل من أكل خميرًا من اليوم الأول إلى اليوم السابع تُقطع تلك النفس من إسرائيل» (١٢: ١٠–١٥). أمَّا لماذا تؤخذ الشاة ذكرًا وابن سنة فقط، ولمَّاذا يتوجب عليهم أكلها مشوية لا مطبوخة؟ ولماذا يأكلونها بعجلة وهم وقوفٌ وأحقاؤهم مشدودة وأحذيتهم في أرجلهم وعصيهم في أيديهم؟ ولماذا يأكلون خبزًا فطيرًا لا خميرًا مدة سبعة أيام؟ فجميعها أسئلة لا يُمكن الإجابة عنها إلا بالمقارنة مع لوائح التابو التي نجدها عند القبائل البدائية، والتي تكمن عند جذور الدين وأصوله البعيدة.

ونلاحظ من المقطع أعلاه، أنَّ الوصية الطقسية الأولى قد وردت مترافقة مع أول وصية تحريمية (= تابو) وهي عدم أكل الخبز الخمير، ثمَّ تمَّ تدعيم هذه الوصية التحريمية بأول عقوبة إعدام في الشريعة، وهذه العقوبة لا تُفرض على من يخل بنظام الجماعة ويُهدد أمنها، ولا على من يتعدَّى حدود قاعدة أخلاقية أساسية للحياة المشتركة، بل على من يأكل خبزًا خميرًا لا فطيرًا. وبذلك تُعلن الشريعة الموسوية عن جوهرها منذ البداية، باعتبارها شريعة طقس وتابو لا شريعة أخلاق، ومنذ البداية أيضًا يعلن يهوه عن شكل العلاقة التي يُقيمها بينه وبين شعبه، وهي علاقة طقسية جوهرها الخوف والخضوع وتأدية الشعائر وعدم تعدي حدود التابو. أمَّا الأخلاق فمسألة ثانوية، ويستطيع من ارتكب أبشع الذنوب الأخلاقية أن يغسل ذنوبه كما يغسل ثوبه. نقرأ في سفر اللاويين (وهو أحد الأسفار التي تابعت تفصيل الشريعة بعد سفر الخروج، إلى جانب سفر العدد وسفر التثنية) التعليمات الآتية حول طقس غسل الذنوب الأخلاقية: «إذا أخطأ أحد وخان خيانة بالرب وجحد صاحبه أمانةً أو مسلوبًا، أو اغتصب من صاحبه، أو وجد لقطةً وجحدها وحلف كاذبًا … يأتي إلى الرب بذبيحة لإثمه كبشًا صحيحًا من الغنم ذبيحة إثم للكاهن، فيُكفِّر الكاهن أمام الرب فيصفح عنه» (٦: ١–٧). كما يُمكن غسل إثم الجماعة كلها عن طريق طقس يُدعى بطقس تيس الخطيئة … «ومتى فرغ الكاهن من التكفير عن القُدُس وعن خيمة الاجتماع وعن المذبح يقدِّم التيس الحي ويضع هارون يده على رأس التيس ويقرُّ عليه بكل ذنوب بني إسرائيل وكل سيئاتهم مع كل خطاياهم، ويجعلها على رأس التيس ويرسله بيد من يلاقيه إلى البرية، ليحمل التيس عليه كل ذنوبهم إلى أرضٍ مقفرة» (١٦: ٢٠–٢٢).

إنَّ السرقة أو الاغتصاب والسلب وجحد الأمانة واليمين الكاذبة، وما إليها من الذنوب الأخلاقية، يُمكن غسلها بأداء طقس تطهيري بسيط، أمَّا تجاوز حدود قاعدة طقسية أو تحريمية فمن شأنه أن يودي بحياة أكثر الناس تقوى، ويطاله عقاب يهوه الفوري، وهذا ما حدث لابني هارون المدعوين ناداب وأبيهو، وكانا على رأس الموكَّلين بأداء الشعائر أمام خيمة الاجتماع التي تضم تابوت العهد، والتي يُقيم فيها يهوه بين شعبه. نقرأ في سفر اللاويين: «وأخذ ابنا هارون ناداب وأبيهو كل مجمرته وجعلا فيها نارًا ووضعا عليها بخورًا، وقربا أمام الرب نارًا غريبة لم يأمرهما بها، فخرجت نار من عند الرب وأكلتهما فماتا أمام الرب» (١٠: ١–٢). وتلقَّى الرجل الصالح المدعو عزة عقوبة مشابهة عندما انتهك التابو الذي يمنع لمس تابوت العهد، رغم أنَّه فعل ذلك ليمنع التابوت من السقوط عن المركبة التي كانت تقله. نقرأ في سفر صموئيل الثاني: «فأرْكَبوا تابوت الرب على عجلة جديدة وحَمَلوه … وكان عزة وأخيو ولدا أبيناداب يسوقان العجلة الجديدة … ولما انتهوا إلى بيدر ناحون مدَّ عزة يده إلى تابوت الرب وأمسكه لأنَّ الثيران انشمصت. فحمي غضب الرب على عزة وضربه هناك لأجل غَفَلهِ فمات» (٦: ٣–٨).

إنَّ تجاوزات الوصايا التحريمية التي تقود إلى الموت أكثر من أن تُحصى في شريعة موسى، ونكتفي بذكر بعض منها، فعدم غسل الكاهن ليديه ورجليه قبل أداء الطقوس يُعرِّضه للموت (الخروج، ٣٠: ١٧–٢٠)، وممارسة أي نشاط في يوم السبت يستوجب الإعدام الذي تنفذه الجماعة بالمخطئ (الخروج، ٣١: ١٥)، ومثل العمل في يوم السبت كذلك العمل في اليوم العاشر من الشهر السابع، وهو يوم الكفارة أو الغفران (اللاويين، ٢٣: ٢٧–٣٠)، وأكل الدم يستوجب الموت (اللاويين، ١٧: ١٠–١١)، وكذلك مضاجعة المرأة الحائض (اللاويين، ٢٠: ١٨). وهنا يحق لنا أن نتساءل: أين مفهوم الله من هذا الكائن الباطش المتعسف، الذي وضع الشريعة لا لخلاص الناس بل لإدانتهم وتجريمهم والانتقام منهم، وأين خصيصتا الأخلاق والعدالة في إله لا يتجلَّى إلَّا في الغضب والثأر والثورة الآكلة؟

لقد سبقت الوصايا الطقسية والتحريمية الوصايا العشر بوقت طويل، ثم تتابعت بعدها عبر أسفار الخروج واللاويين والعدد والتثنية، وذلك في سلسلة تبدو لقارئ التوراة بلا نهاية. فبعد الوصية العاشرة مباشرة قال الرب لموسى: «مذبحًا من تراب تصنع لي وتذبح عليه محرقاتك وذبائح السلامة من بقرك وغنمك، وإن صنعت لي مذبحًا من حجارة فلا تبنها منحوتة، فإنَّك إن رفعت حديدك عليها دنستها، ولا تصعد إلى مذبحي على درج لئلا تنكشف عورتك عليه» (الخروج، ٢٠: ١٨–٢٦). ونحن هنا أمام وصية تحريمية يجب تنفيذها دون مناقشة فحواها غير المفهوم. وهي تُشبه وصايا تحريمية سائدة لدى الشعوب البدائية ولدى بعض الثقافات القديمة في مطالع تاريخها. فتابو استخدام الحديد معروف في روما القديمة حيث كان محرمًا على الكهنة الحلاقة بموسى حديدية. وفي غابة آرفال المقدسة قرب روما كان محرمًا إدخال الحديد أو أيَّة أداة مصنوعة منه، فإذا تطلب الأمر استعمال أداة حديدية في نقش كتابة ما على الحجر، كان لا بد من تقديم ذبيحة تطهيرية قوامها حمل وخنزير. وإلى وقت قريب كان أهالي جزيرة جاوة يُحجِمون عن استخدام المحاريث الحديدية في فلاحة أرضهم. ولدى بعض قبائل الهنود الحمر كان مُحرمًا استخدام السكاكين الحديدية في الطقوس الدينية. وفي كوريا كان مُحرمًا على الملك لمس الحديد أو استخدام أدوات مصنوعة منه. وفي جنوب غربي أفريقيا تجري إلى الآن عملية ختان الصبيان بواسطة سكين صوانية، فإذا تطلب الأمر إجراءها بسكين حديدية يجري التخلص من السكين بدفنها بالتراب.

وتتعزَّز إشكالية المسألة الأخلاقية في التوراة من خلال سلوك الإله التوراتي نفسه، وهو سلوك متناوس بين الخير والشر، وغالبًا ما ينأى عن أبسط القواعد الأخلاقية. ونستطيع متابعة هذه الطبيعة الأخلاقية المتناقضة منذ الإصحاحات الأولى لسفر التكوين وحتى آخر أسفار الكتاب. فبعد أن خلق الإله الإنسان الأول، لم تكن أولى وصاياه إليه وصية أخلاقية ترسم له دوره في الحياة والتاريخ، بل كانت وصية تحريمية غير مفهومة، وعندما يكون التحريم غير مفهوم أو مسوغ فإنَّه غالبًا ما يدفع إلى العصيان، وهذا ما حصل فعلًا عند فجر الزمن. فبعد اكتمال أعمال التكوين غرس يهوه بستانًا في مكان على الأرض يدعوه الكتاب بشرقي عدن، وفي وسط البستان أُنبت شجرة الحياة وشجرة أخرى هي شجرة المعرفة، ثم وضع آدم الذي صنعه من طين الأرض في ذلك البستان ليعمل به ويحفظه. وبعد أن خلق له زوجة من ضلعه أوصاهما قائلًا: «من جميع شجر الجنة تأكلان، وأمَّا من شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكلا، لأنَّكما يوم تأكلان منها موتًا تموتان.» هذا التابو غير المفهوم قد سهَّل على الحية إغواء حواء وتزيين العصيان لها. فبينما هي تتمشى قرب شجرة المعرفة تسلَّلت الحية إلى المكان، وكانت أحيل جميع حيوانات البرية حسب وصف النص، فأطلعت حواء على حقيقة التابو والغاية منه؛ فثمر الشجرة لن يُميتهما بل سيجعلهما مثل خالقهما حرين وعارفين الخير والشر: «فقالت الحية للمرأة لن تموتا، بل الرب عارف أنَّه يوم تأكلان تنفتح أعينكما وتكونان كالرب عارفين الخير والشر. فرأت المرأة أنَّ الشجرة جيدة للأكل وأنَّها بهجة للعيون فأخذت من ثمرها وأكلت، وأعطت رجلها أيضًا معها فأكل.» وعندما يكتشف يهوه عصيان الإنسان ينطق بلعنته المقيمة التي تتجاوز عالم الإنسان إلى عالم الطبيعة بأكملها: «ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكًا وحسكًا تنبت لك، وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزًا حتى تعود إلى الأرض التي أُخذت منها، لأنَّك تراب وإلى تراب تعود.»

لقد كذب يهوه على آدم وحواء بقوله إنَّ شجرة المعرفة ستجلب عليهما الموت. فالإنسان الأول لم يولد خالدًا، وخالقه التوراتي لم يكُن راغبًا في أن يُشاركه أحد خلوده، وذلك بدليل قوله بعد ذلك: «هو ذا آدم قد صار كواحد منَّا يعرف الخير والشر، والآن لعله يمد يده فيأخذ من شجرة الحياة ويأكل فيحيا إلى الأبد. فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل في الأرض التي أُخذ منها.» وهكذا تم منذ البداية، ومن خلال التابو والكذب، التأسيس لطبيعة العلاقة بين الإله والإنسان، وهي علاقة قائمة على الأمر الإلهي والرضوخ الإنساني، على حرية الإله وعبودية الإنسان.

وبين الأمر والرضوخ تقوم الطقوس والشكلانيات الشعائرية باعتبارها الرابطة الوحيدة بين الطرفين، والمحور الذي يدور حوله دين التوراة.٢

بعد أن دفع يهوه الإنسان الأول إلى الخطيئة، زرع بين ذريته الشقاق الذي قاد إلى أول جريمة في التاريخ. فلقد وُلد لآدم وحواء بعد طردهما من الجنة ولدان هما قايين وهابيل، مما تتابعه رواية سفر التكوين: «فكان هابيل راعي غنم وقايين كان يحرث الأرض. وكان بعد أيام أنَّ قايين قدَّم من ثمر الأرض تقدمة للرب، وقدَّم هابيل أيضًا شيئًا من أبكار غنمه ومن سمانها، فنظر الرب إلى هابيل وتقدمته وإلى قايين وتقدمته لم ينظر.» ولقد أدَّى سلوك يهوه غير المسوغ والبعيد عن مفهوم العدالة، إلى حقد قايين على أخيه المفضل عند الرب، فراح يتربَّص به إلى أن قاده إلى الصحراء حيث قتله هناك ودفنه. وبذلك أصَّل يهوه لأول خطيئة أخلاقية في المجتمع الإنساني بعد أن أصَّل لأول خطيئة تحريمية في الفردوس.

ثم يتابع يهوه تعامله مع بني الإنسان من موقف غير متعاطف وغير أخلاقي، فعندما أخذ الناس يتكاثرون على وجه الأرض صاروا أمة واحدة تتكلَّم لسانًا واحدًا وتعيش في سلام ووئام، ولما همُّوا ببناء مدينة لهم وبرج عالٍ يرمز إلى وحدتهم وتضامنهم، نظر يهوه إلى ما هم صانعون فخاف أن يؤدي اتحادهم وازدياد قوتهم إلى تحالفهم ضده، فعمل على تشتيت شملهم وتحويلهم إلى مجموعات متنافرة تتكلَّم لغات مختلفة لا يفهم بعضهم حديث بعض: «وكانت الأرض لسانًا واحدًا ولغة واحدة. وحدث في ارتحالهم شرقًا أنَّهم وجدوا بقعة في أرض شنعار وسكنو هناك … وقالوا هلم لنبنِ لأنفسنا مدينة وبرجًا رأسه بالسماء، ونصنع لأنفسنا اسمًا لئلَّا نتبدَّد على وجه الأرض. فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما، وقال الرب: هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل، والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه، هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض، فبدَّدهم الرب من هناك على وجه كل الأرض.» إنَّ ما فعله يهوه في حقيقة الأمر هو تحويل الجماعة الإنسانية الواحدة إلى مجتمعات متباعدة ذات ثقافات متغايرة، وهذا ما زرع العداوة بينها، وكان ابتداء الحروب وعدوان أمة على أخرى.

فإذا غادرنا هذه الفترة الافتتاحية من تاريخ الإنسان، إلى العصر الذي حلا فيه ليهوه أن ينتقي من شعوب الأرض كلها شعبًا واحدًا يكون له أمةً كهنة، على حد تعبير النص، استطعنا متابعة سلوك يهوه المتناقض أخلاقيًّا في كل خطوة من مسيرة علاقته الطويلة مع هذا الشعب، فهو يأخذ البريء بجريرة المذنب، وينتقم من الآباء في أبنائهم ممن لا ذنب لهم، وفي أبناء أبنائهم وصولًا إلى الجيل الرابع من نسل المخطئ: «أفتقدُ ذنوب الآباء في الأبناء، في الجيل الثالث والرابع من مبغضي» (الخروج، ٢: ٥). ولهذا شاع في إسرائيل المثل القائل: «الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون» (إرميا، ٣١: ٢٩ وحزقيال، ١٨: ٢). هذا السلوك من قبل يهوه يتناقض مع قاعدة تشريعية وردت في سفر التثنية تمنع أخذ الابن بجريرة أبيه: «لا يُقتل الآباء عن الأبناء، ولا يقتل الأبناء عن الآباء. كلٌّ بجريرته يُقتل» (٢٤: ٦). وهذا يعني أنَّ الإله المُشرِّع في حلٍّ من قواعد الشريعة عندما يأتي إلى التعامل مع الإنسان، وأنَّ على الإنسان ألَّا ينتظر من إلهه التزامًا بأيَّة معايير أخلاقية.

وإله التوراة ولوع برؤية الدماء وغضبه لا يهدأ إلا بها. فبعد أن عبد الشعب العجل في سيناء، أمر الرب كل من لم يخطئ إليه بعبادة العجل أن يستل سيفه ويقتل صاحبه وابنه وأخاه من المخطئين ليحصل على بركة الرب: «فقال لهم موسى كذا قال الرب إله إسرائيل: ليتقلَّد كل واحد سيفه، واذهبوا وارجعوا من باب إلى باب في المحلة، وليقتل كل واحد أخاه وصاحبه وقريبه … فسقط من الشعب في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل، وقال موسى: كرسوا اليوم أيديكم للرب، كل واحد حتى بابنه وأخيه فتُعطوا اليوم بركة» (الخروج، ٣٢: ٢٧–٢٩).٣ وإذا كان هذا شأنه مع شعبه المختار، فإنَّ ولعه بسفك دماء الشعوب الأخرى لا يمكن تصنيفه تحت أي مصطلح مَرَضي في قاموس الطب النفسي الحديث، وأخبار حملات الإبادة الجماعية للأطفال والنساء والشيوخ تملأ صفحات الأسفار الخمسة، إضافة إلى سفر يشوع الذي ما زالت رائحة الدم تفوح من ثناياه إلى يومنا هذا. وهذه أخبار إحدى حملات موسى التي وجهَّها إلى مديان: «فتجندوا على مديان كما أمر الرب وقتلوا كل ذكر، وملوك مديان قتلوهم فوق قتلاهم … وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم ونهبوا جميع بهائمهم وكل أملاكهم، وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم … فخرج موسى لاستقبالهم إلى خارج المحلة، فسخط موسى على وكلاء الجيش وقال لهم: هل أبقيتم كل أنثى حية؟ فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت رجلًا بمضاجعة ذكر اقتلوها، لكن الأطفال من الإناث اللواتي لم يعرفن مضاجعة ذكر أبقوهنَّ لكم حيات» (العدد ٣٢: ٨–١٨).

ووفق قاعدة «التحريم» التي استنها يهوه لقادة جيوشه، يتوجَّب على هؤلاء في بعض الحالات إفناء كل نفس حيَّة بما في ذلك المواشي والبهائم، ولا يجوز لهم الاحتفاظ بأسرى أو سلب المواشي والممتلكات، لأنَّ كل ما في المدينة من حي وجامد يُلقى للموت والدمار والحريق إرضاء ليهوه. وهذا ما حصل لمدينة أريحا على يد يشوع: «فحرَّموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ حتى البقر والحمير والغنم بحد السيف … وأحرقوا المدينة مع كل ما بها في النار» (يشوع، ٦: ٢١). وهذا ما حصل لمدينة عاي: «فكان جميع الذين سقطوا ذلك في اليوم من رجال ونساء اثني عشر ألفًا هم جميع أهل عاي. ويشوع لم يرد يده حتى حرَّم جميع سكان عاي» (يشوع، ٨: ٢٣–٢٤). وعندما اختار الرب شاؤل ليكون أول ملك على إسرائيل، وراح هذا يُحرِّر شعبه من قمع الفلسطينيين وتسلُّط الممالك المجاورة، ما لبث أن غضب عليه وأعطى المُلك إلى داود، لأنَّه لم يلتزم قاعدة التحريم. نقرأ في سفر صموئيل الأول الأمر الذي أعطاه الرب لشاؤل بضرب شعب العماليق مع تطبيق قاعدة التحريم: «الآن اذهب واضرب عماليق وحرَّموا كل ما له، ولا تعفُ عنهم بل اقتل رجلًا وامرأة، طفلًا ورضيعًا، بقرًا وغنمًا، جملًا وحمارًا» (١٥: ٣). فحمل شاؤل على العماليق وأفناهم جميعًا، ولكنه عفا عن ملكهم المدعو أجاج وجاء به أسيرًا، كما أنَّه لم ينحر كل المواشي بل احتفظ بالصحيح والسمين منها لكي يُقدِّمه قربانًا للرب على المذبح. فغضب الرب على شاؤل وأرسل عليه روحًا شريرًا تلبسه فصارت تنتابه حالات اكتئاب، إلى أن سقط قتيلًا في معركة جلبوع وسمَّره الفلسطينيون مع أولاده الثلاثة على سور مدينة بيت شان.

ورغم أنَّ يهوه قد نهى في شريعته عن القرابين البشرية، إلَّا أنَّ غضبه لم يكُن يهدأ أحيانًا إلَّا بها. فقد انتقم من شاؤل بعد موته بسبعة من أولاده وأولاد ابنته ميكال، تمَّ تقديمهم قربانًا له. نقرأ في سفر صموئيل الثاني: «وكان جوع في أيام داود ثلاث سنين. فطلب داود وجه ربه فقال الرب: هو لأجل شاؤل ولأجل بيت الدماء … فأخذ داود ابني رصفة اللذين ولدتهما لشاؤل وأبناء ميكال ابنة شاؤل الخمسة، وسلَّمهم إلى الجبعونيين فصلبوهم على الجبل حتى انصب الماء عليهم من السماء» (صموئيل الثاني، ٢١: ١–١٠). ولدينا قصة قربان بشري تقشعر لها الأبدان في سفر القضاة. فلقد خرج قاضي إسرائيل المدعو يفتاح الجلعادي لقتال العمونيين، ونذر قبل خروجه للرب أضحية بشرية يرفعها له مُحرَّقة إذا نصره على أعدائه، واختار أن تكون هذه الأضحية أول شخص يخرج للقائه بعد عودته منتصرًا، فتقبَّل الرب النذر وحقَّق له الغلبة على بني عمون، وفيما هو عائد إلى بيته كان أول خارج للقائه والفرح بمقدمه هو ابنته الوحيدة: «وكان لما رآها أنَّه مزَّق ثيابه وقال: آه يا بنتي، قد أحزنتني لأني فتحت فمي إلى الرب ولا يُمكنني الرجوع. قالت له: يا أبي، هل فتحت فمك إلى الرب؟ فافعل بي كما خرج من فمك بما أنَّ الرب قد انتقم لك من أعدائك.» ولكنَّها طلبت مهلة شهرين لتذهب إلى الجبال مع صويحباتها وتبكي عذريتها، فأمهلها، وعند نهاية المدة عادت إلى أبيها فنحرها وأحرقها على المذبح، وهي لم تعرف رجلًا. فصارت عادة في بني إسرائيل أن تمضي البنات في كل سنة وينُحن على ابنة يفتاح أربعة أيام. (القضاة، ١١: ٣٠–٣٩).

ومن طبع يهوه الغش والخداع، فقد دفع الملك داود إلى الخطيئة وزيَّنها له، لكي يجعل من خطيئة الملك ذريعة لإنزال العقوبة بالشعب والقضاء على عشرات الآلاف منهم. والخطيئة الموصوفة في هذه القصة ليست خطيئة أخلاقية بل خطيئة تحريمية تتعلق بتابو قديم موضوعه تحريم عد الأنفس. لقد غفر يهوه لداود قتله لجندي مخلص في جيشه لكي يسلبه زوجته (انظر قصة أوريا الحثي في سفر صموئيل الأول: ١١ و١٢) ولكنَّه لم يغفر له هذه الخطيئة التحريمية التي لا نجد لها معنى إلَّا مقارنة بالتابو البدائي. نقرأ في سفر صموئيل الثاني: «وعاد فحمي غضب الرب على إسرائيل، فأهاج عليهم داود قائلًا له: امضِ واحصِ إسرائيل ويهوذا … فخرج يوآب ورؤساء الجيش من عند الملك ليعدوا الشعب … وطافوا كل الأرض وجاءوا في نهاية تسعة وعشرين يومًا إلى أورشليم … فجعل الرب وباءً في إسرائيل من الصباح إلى الميعاد، فمات من الشعب سبعون ألف رجل، فكلَّم داود الرب عندما رأى الملاك الضارب الشعب وقال: ها أنا أخطأت وأنا أذنبت، وأمَّا هؤلاء الخراف فماذا فعلوا؟» (٢٤: ١–١٧).

ومن طبعه أيضًا نقض العهود والمواثيق. وها هو كاتب المزمور ٨٩ يوجِّه إليه التهم الموثقة بالشواهد: «لقد كلمت صفيِّك في رؤيا فقلت … وجدتُ داود عبدي، بدهن قداستي مسحتُه … يدعوني إنَّك أبي وإلهي وصخرة خلاصي، وأنا أجعله بكرًا عليًّا فوق ملوك الأرض … مرة حلفتُ بقداستي ولا أكذب على داود، ليدومنَّ نسله إلى الأبد وعرشه كالشمس أمامي … لكنك أقصيت ورذلت، استشطت على مسيحك نقضت عهد عبدك ونجست تاجه بالتراب» (١٩–٣٨).

وهو ناكر للجميل يصعب إرضاؤه، فرغم كل ما فعله موسى وأخوه هارون عبر ملحمة الخروج من مصر، فقد مات الاثنان في المعصية ولم يصفح لهما يهوه خطيئة طقسية اشتمَّ من ورائها نقصًا في الإيمان. فعندما عطش الشعب في برية سيناء تذمَّر على موسى وكاد أن يرجمه بالحجارة، فصرخ موسى إلى الرب طالبًا عونه، فأمره أن يضرب صخرة معينة بعصاه ليتفجر منها نبع، ففعل موسى وشرب الناس، وبعد أن اجتاز بهم موسى كل المحن ووصل إلى الأطراف الشمالية لبرية سيناء على حدود كنعان، عطش الشعب ولم يكن هنالك ماء، فأمر الرب موسى وهارون أن يقفا أمام صخرة معينة ويكلماها فتُخرج لهم ماءً، ولكن موسى الذي كان في حالة إحباط ويأس، لم يُكلِّم الصخرة بل ضربها بعصاه كما في المرة السابقة وصرخ في وجه الشعب: أمِن هذه الصخرة نخرج لكم ماءً! وبذلك ارتكب خطيئة طقسية أولًا، ثم أظهر شكه بإمكانية تفجر الماء من الحجر الأصم: «قال الرب لموسى وهارون من أجل أنَّكما لم تؤمنا بي حتى تُقدساني أمام عين بني إسرائيل، لذلك لا تُدخلان هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتهم إياها» (العدد، ٣٠: ١–١٣). وبعد هذه الحادثة بمدة قصيرة حكم الرب على هارون بالموت: «يُضم هارون إلى قومه،٤ لأنَّه لا يدخل الأرض التي أعطيتُ لبني إسرائيل، لأنَّكم عصيتم قولي عند ماء مريبة. خُذ هارون وأليعازر ابنه واصعد بهما إلى هور، واخلع عن هارون ثيابه والبس ابنه أليعازر إياها، فيُضم هارون ويموت هناك» (٣٠: ٢٣–٢٦). أمَّا موسى فقد أمهله الرب حتى وصل بقومه ضفة نهر الأردن، وهناك أصعده على جبل نبو فأراه الأرض الموعودة من بعيد ثم قبض روحه عقوبة له: «انظر أرض كنعان التي أنا أعطيها لبني إسرائيل مُلكًا ومُت في الجبل الذي تصعد إليه، وانضم إلى قومك كما مات هارون أخوك في جبل هور، لأنَّكما خنتماني في وسط بني إسرائيل عند ماء مريبة» (التثنية، ٣٢: ٤٨–٥١).

إنَّ عدم توصُّل إله التوراة إلى موقف متسق من مسألة الأخلاق، سواء فيما يتعلَّق بسلوكه الخاص أم بمطلبه الأساسي من شعبه، قد جعل الشخصيات الرئيسية في الرواية التوراتية تسلك بدوافع من محاكماتها الآنية ودون الاستناد إلى أيَّة مرجعية أخلاقية، ونحن إذا تتبَّعنا سِيَر حياة تلك الشخصيات من مُختاري الرب، طالعتنا مواقف وتصرفات لا تليق بإنسان عادي، فما بالك بأولئك المختارين الذين رسم لهم الرب أدوارًا مهمة في حياة الجماعة. فهذا نوح الأب الثاني للبشرية بعد آدم، والذي جاء وصفه في الكتاب بأنَّه الرجل البار الكامل، يتكشَّف عن سِكِّير يُعاقر الخمرة في خبائه ويتعرى من ثيابه حتى تنكشف عورته أمام أولاده (التكوين، ٩: ٢٠–٢٤) … وهذا لوط ابن أخي إبراهيم يأخذ الخمرة من يد ابنتيه ويشرب حتى يفقد وعيه، فتقوم ابنته الكبرى بمضاجعته في الليلة الأولى، ثم تفعل أختها الصغرى الشيء نفسه في الليلة التالية، وتحمل البنتان من أبيهما. (التكوين، ١٩: ٣٦–٣٨). وإبراهيم يرتحل إلى مصر في سنة مجاعةٍ، وهناك يقول عن امرأته سارة إنَّها أخته لكيلا يطمع بجمالها أحد المصريين فيقتله ويأخذها، ولكن جمال سارة قد لفت أنظار رجال الفرعون فأخذوها إلى البلاط وألحقوها بالحريم، فدخل عليها الفرعون ثم أجزل العطاء لإبراهيم بسببها، وصار له غنم وبقر وحمير وجمال. (التكوين، ١٢: ١٧–٢٠). وبذلك يبني الرجل الأول في القصة التوراتية ثروته من زنى زوجته. وقد فعل ابنه إسحاق الشيء نفسه عندما جاء إلى مدينة جرار الفلسطينية، فقال عن زوجته إنَّها أخته حتى لا يُقتل بسببها، ولكن ملك جرار المدعو أبيمالك اكتشف كذبة إسحاق وعنَّفه قائلًا: «إنَّما هي امرأتك فكيف قلت هي أختي؟ فقال إسحاق: لأني قُلت لعلِّي أموت بسببها. فقال أبيمالك: لولا قليل لاضطجع أحد الشعب مع امرأتك فجلبت علينا ذنبًا» (التكوين، ٢٦: ٣–١١). وبذلك تفوَّق أبيمالك أخلاقيًّا على إسحاق.

وكان لإسحاق ولدان هما عيسو الابن الأكبر، ويعقوب الابن الأصغر الذي صار اسمه فيما بعد إسرائيل. وقد تآمر يعقوب مع أمه رفقة التي كانت تؤثره على عيسو، على اغتصاب حقوق البكورية من أخيه، فعندما دعا إسحاق وهو على فراش الموت ابنه الأكبر عيسو ليباركه، جاءت رفقه بيعقوب ليأخذ بركة أبيه عوضًا عن عيسو ووضعت على يديه وعنقه فروة جدي ليغدو مشعر الجسم مثل أخيه عيسو، فلمَّا حضر ولمسه أبوه الذي كان كليل النظر من وهن الشيخوخة، داخله الشك فسأله: هل أنت ابني عيسو؟ فقال يعقوب: أنا هو، فباركه أبوه. ومع البركة انتقلت كل حقوق الأخ الأكبر إلى يعقوب الكذَّاب، ومع الحقوق ورث عهد الرب الذي تجدَّد معه لا مع أخيه الأكبر، أي إنَّ يهوه قد بارك من جهته كذب يعقوب وكافأه عليه، ثمَّ إنَّ يعقوب يتعرض بدوره لمكيدة من أولاده وهو في سن الشيخوخة، فقد أحبَّ يعقوب ابنه الأصغر يوسف وفضَّله على إخوته، الأمر الذي جلب عليه بغض وحسد هؤلاء، فتآمروا لقتله عندما وافاهم في البرية وهم يرعون الغنم، ثم ألقوه في بئر جافة ليموت هنالك، وعادوا إلى أبيهم بقميصه وعليه أثر دم جدي وقالوا إنَّ وحشًا رديئًا قد افترسه (التكوين ٣٧). وبذلك يبتدئ تاريخ الأسباط الاثني عشر بالبغض والحسد والقتل والكذب.

ولدينا قصة عن أحد أولاد يعقوب المدعو يهوذا، وهو الذي تُنتسب إليه قبيلة يهوذا، فقد مات الابن الأكبر ليهوذا وترك وراءه زوجته المدعوة تامار، فزوَّجها يهوذا من ابنه الثاني الذي ما لبث أن مات أيضًا، فوعدها يهوذا بتزويجها من الابن الثالث ولكنه راح يماطل في الوفاء بوعده. وبينما هو في طريقه إلى بلدة تمنة لبعض أشغاله، خلعت تامار عنها ثياب ترمُّلها وتغطَّت ببرقع وجلست إلى جانب الطريق، ولمَّا مرَّ بها يهوذا ظنَّها زانية فطلب أن يدخل عليها. فقالت له: ماذا تعطيني إذا دخلت عليَّ؟ قال: أُعطيكِ جديًا من الماعز. قالت: هل تعطيني رهنًا ريثما ترسل الجدي؟ قال: ما الرهن الذي أُعطيكِ؟ فقالت: خاتمك وعصابة رأسك وعصاك، فأعطاها ما طلبت ودخل عليها، وبعد ثلاثة أشهر قيل ليهوذا إنَّ تامار قد زنت وهي الآن حُبلى. قال يهوذا: أخرجوها وأحرقوها، ولكنَّ تامار أرسلت إليه خاتمه وعصاه وعصابة رأسه قائلة إنَّها حامل من صاحب هذه الأشياء. فعرف يهوذا أشياءه وبرَّأها ثم تزوجها، فولدت له ابنين هما فارص وزارح (التكوين ٣٨). ومن فارص ابن الزنا بالكنة يتسلسل نسب الملك داود على ما نقرأ في سفر راعوث، ٤: ١٨–٢٢. فداود مؤسس السلالة التي حكمت في أورشليم حتى نهاية تاريخها القديم كان ابن زنا، رغم أنَّ الرب قد شرع في سفر التثنية: «لا يدخل زنيم في جماعة الرب ولو في الجيل العاشر» (٢٣: ٢).

في سفر الخروج، يبتدي موسى حياته بجريمة قتل لم يكُن مضطرًّا إليها، عندما هبَّ لنجدة العبراني الذي كان يتشاجر مع مصري، فقتل موسى المصري وطمره في الرمل. وقبل أن يخرج بجماعته من مصر حضَّهم على استغلال ثقة جيرانهم المصريين وسرقتهم تحت ذريعة الإعارة المؤقتة، وقد شارك يهوه في عملية السرقة هذه عندما زيَّن للمصريين أن يعيروا لبني إسرائيل ما طلبوا: «وفعل بنو إسرائيل بحسب قول موسى. طلبوا من المصريين أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابًا. وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين حتى أعاروهم فسلبوا المصريين» (الخروج، ١٢: ٣٤–٣٦).

ويبتدي داود، مؤسِّس ما يُدعى بمملكة كل إسرائيل، حياته العامة كقائد مرتزقة يعمل لحساب الفلسطينيين من أعداء قومه (صموئيل الأول ٢٦–٢٩)، وعندما صار ملكًا استهلَّ حكمه بالقضاء على نسل سلفه شاؤل، فعمد إلى تسليم أولاد شاؤل وأولاد ابنته إلى خصومهم الجبعونيين فقتلوهم (صموئيل الثاني، ٢١: ١٠–١). ورغم الزوجات والسراري اللواتي حفل بهنَّ قصره فقد اغتصب امرأة كانت زوجة واحد من رجاله المخلصين يُدعى أوريا الحثي، ثم دبَّر له مكيدة في الحرب أودت بحياته، وعندما عرف أنَّ المرأة حامل تزوجها فأنجبت له سليمان، ابن الزنا والاغتصاب والقهر. لقد انتهك داود الوصية الخامسة: لا تزنِ. وأدار ظهرًا للفقرة التشريعية القائلة: «إذا وُجِد رجل مضطجعًا مع امرأة متزوجة يقتل الاثنان» (التثنية، ٢٢: ٢٢). ولم تكُن أخلاق بيت داود بأفضل من أخلاق رب البيت. فقد اغتصب ابنه المدعو أمنون أخته غير الشقيقة تامار (صموئيل الثاني، ١٣). وقام ابنه الآخر المدعو أبيشالوم بالتمرُّد عليه وحاول قتله للاستئثار بالسلطة (صموئيل الثاني، ١٥–١٨).

فإذا عدنا إلى ابن الزنا سليمان، وجدناه يحتال لانتزاع ولاية العهد من أخيه أدونيا، عندما كان أبوه داود شيخًا مريضًا يتدفأ من داء البرداء في أحضان عذراء جميلة اسمها أبيشج الشمونية (الملوك الأول، ١: ٣٤). وكان أول عمل يقوم به بعد مسحه ملكًا هو قتل أخيه أدونيا صاحب الحق بالعرش، وقتل قائد جيش داود المخلص المدعو يوآب لدعمه أدونيا، وعندما استتبَّت له الأمور نسي إلهه الذي بنى له الهيكل وعبد آلهة أخرى، مما أشرنا إليه سابقًا. أمَّا عن أخبار من تلا سليمان من ملوك إسرائيل وملوك يهوذا بعد انقسام المملكة، فإنَّ الصفحات هنا تضيق عن ذكر كل ما ارتكبوه من مخازٍ وآثام، ولذلك نضرب الصفح عنها، ونُحيل القارئ إلى سفري الملوك الأول والملوك الثاني في الكتاب العتيد.

وأخيرًا، فقد أدرك مؤلفو أسفار الأنبياء هذا المأزق الأخلاقي للتوراة مثلما أدركوا المأزق التوحيدي، فحاولوا إنقاذ ما تبقى من القيم الأخلاقية التوراتية، عندما راحوا يؤكِّدون على السلوك الأخلاقي في مقابل الطقوس. نقرأ في سفر إشعيا: «لماذا لي كثرة ذبائحكم، يقول الرب: اتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات … البخور هو مكرهة لي، رأس الشهر والسبت ونداء المحفل. لست أطيق الإثم والاعتكاف، رءوس شهوركم وأعيادكم بغضتها نفسي، صارت عليَّ ثقلًا مللت حملها، فحين تبسطون أيديكم أستر عيني عنكم، وإن كثَّرتم الصلاة لا أسمع. أيديكم ملآنة دمًا. اغتسلوا تنقوا اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني» (١: ١١–١٧). وأيضًا: «مَن يذبح ثورًا فهو قاتل إنسان، من يذبح شاةً هو ناحر كلب، من يُصعد تقدمة يُصعد دم خنزير. من أحرق بخورًا فهو مباركٌ وثنًا. بل هم اختاروا طرقهم وبمحرقاتهم سُرَّت أنفسهم» (٦٦: ٣). ويسير عاموس على النهج نفسه في إعلاء الأخلاق فوق الطقوس: «اطلبوا الخير لا الشر لكي تحيوا … بغضت، كرهت أعيادكم ولست ألتذ باعتكافاتكم. إني إذا قدمتم لي محرقاتكم وتقدماتكم لا أرضى، وذبائح السلامة من مسمناتكم لا ألتفت إليها. أبعد عني ضجة أغانيك، ونغمة ربابك لا أسمع. وليجرِ الحق كالمياه، والبر كنهر دائم» (٥: ١٤، ٢١–٢٤). أمَّا حزقيال فيُصحِّح سلوك إله التوراة الذي كان يفتقد ذنوب الآباء في الأبناء، عندما يقول على لسان إلهه: «ما لكم أنتم تضربون هذا المثل في إسرائيل قائلين الآباء أكلوا الحصرم وأسنان الأبناء ضرست. حي أنا، يقول الرب: لا يكون لكم من بعد أن تضربوا هذا المثل في إسرائيل … النفس التي تخطئ هي التي تموت … الابن لا يحمل من إثم الأب» (١٨: ٢–٤، ٢٠).

ولكن هذه النداءات الواهية المتفرقة في أسفار الأنبياء، لم تكن كافية لحل إشكالية الأخلاق التي بقيت قائمة، مثلها مثل إشكالية التوحيد، حتى اختتام تدوین الأسفار القانونية.

(٣) الشيطان الحاضر الغائب

إنَّ عدم توصُّل الأيديولوجيا التوراتية إلى صياغة معتقد واضح متَّسق حول وحدانية الإله وأخلاقيته، وتقصيرها عن بلوغ مفهوم الكمال والخير المطلق في شخصية ذلك الإله، الذي بقي يتصرَّف حتى النهاية كزعيم قبلي مدفوع بردود أفعاله الآنيَّة وبعواطفه الفطرية مثل الغضب والغيرة، قد دفع بالشيطان إلى دائرة الظل عبر أحداث الرواية التوراتية. فإله التوراة هو صانع الخير وصانع الشر في آنٍ معًا، وها هو النبي إشعيا يُقدِّم لنا ما يُمكن اعتباره خلاصة تجربة شعب التوراة مع إلهه: «أنا الرب وليس آخر. مصور النور وخالق الظلمة. صانع السلام وخالق الشر. أنا صانع كل هذا» (٤٥: ٧٦). ونقرأ في سفر يشوع بن سيراخ: «الخير والشر، الحياة والموت، الفقر والغنى من عند الرب … الظلال والظلمة خُلِقا مع الخطأة» (١١: ١٤–١٦). وأيضًا: «أنا، أنا هو الرب وليس إله معي. أنا أُميت وأُحيي. سحقت وإني أشفي، وليس من يدي مخلِّص. إني أرفع يدي إلى السماء وأقول: حي أنا إلى الأبد. سللت سيفي البارق وأمسكت بالقضاء يدي، أرُد نقمة على أضدادي وأجازي مبغضي. أُسكر سهامي بدم ويأكل سيفي لحمًا بدم القتلى والسبايا ومن رءوس قوات العدو» (التثنية، ٣٢: ٣٩–٤٢). وبذلك يتم دمج الإله والشيطان في شخصية واحدة هي شخصية يهوه الذي نراه يلعب الدورين ببراعة، رغم أنَّ العناصر الشيطانية في شخصيته تطغى على العناصر الإلهية. فأي إله هذا الذي تسكر سهامه بالدم ويأكل سيفه اللحم مغمسًا بدم القتلى والسبايا ورءوس قوات العدو؟ وأي إله هذا الذي يشبهه مقطع آخر بالعملاق الذي تعتعه السُّكر فراح يضرب ذات اليمين وذات الشمال: «ثم استيقظ الرب كنائم، ومثل الجبار الذي رانت عليه الخمر، فضرب أعداءه إلى الوراء، جعلهم عارًا أبديًّا» (المزمور ٧٨: ٦٥–٦٦). وأي إله هذا الذي يخرج من أنفه دخان ومن فمه نار آكلة: «ارتجَّت الأرض وارتعشت. أسس الجبال ارتعدت وارتجَّت لأنَّه غضب، صعد دخان من أنفه ونار من فمه أكلت، جمر اشتعلت منه» (المزمور ١٨: ٧–٨). وأي إله هذا الذي يحف به كلما خرج شيطان الوبأ وشيطان الحمى: «قدامه ذهب الوبأ وعند رجليه خرجت الحمى … وقف وقاس الأرض، انظر، فرجف الأمم» (حبقوق ٣: ٤–٦).

ومع ذلك فإن الشيطان لم يكُن غائبًا تمامًا رغم ضآلة دوره وقلَّة حيلته، وهو يظهر شريكًا ليهوه أحيانًا وتابعًا له في أحيان أخرى ينفذ مهامًّا معينة. ففي الأسفار الخمسة يُدعى عزازيل، ويبدو أشبه بالجن التي تسكن البوادي والقفار، وهو يقتسم قربان الخطيئة مع يهوه. نقرأ في سفر اللاويين: «ويأخذ هارون التيسين ويوقفهما أمام الرب لدى باب خيمة الاجتماع، ويُلقي على التيسين قرعتين قرعة للرب وقرعة لعزازيل، ويُقرِّب هارون التيس الذي خرجت عليه القرعة للرب ويعمله ذبيحة خطيئة، وأمَّا التيس الذي خرجت عليه القرعة لعزازيل يوقف حيًّا أمام الرب ليفكر عنه ليرسله إلى عزازيل في البرية» (اللاويين، ١٦: ٥–١٠). ونجده في سفر القضاة وما تلاه تحت اسم بَليعال، والذي يعني بالعبرية الشرير عديم الفائدة. نقرأ في سفر القضاة عن سبط بنيامين الذي كان رجاله لوطيين يصطادون الغرباء ويعتدون عليهم:

«وفيما هم يطيبون قلوبهم إذا برجال المدينة رجال بني بَليعال أحاطوا بالبيت قارعين الباب، وكلَّموا الرجل صاحب البيت الشيخ، قائلين: أَخرج الرجل الذي دخل بيتك فنعرفه٥ فخرج إليهم الرجل صاحب البيت وقال لهم: لا يا إخوتي لا تفعلوا شرًّا بعدما دخل هذا الرجل بيتي لا تفعلوا هذه القباحة» (١٩: ٢٢–٢٣). ونجد هنا نموذجًا عن أخلاق عامة الناس في الرواية التوراتية، ممَّا لم نتعرض له عندما عرضنا لسلوك الشخصيات الرئيسية في الرواية. هذا ويرد الاسم بَليعال في عدة مواضع أخرى في الإشارة إلى الشيطان، ففي سفر الملوك الأول يغتصب الملك آخاب كرمًا للمدعو نابوت اليزرعيلي ويلفِّق له تهمة تودي بحياته، ثم يأتي بشهود زور من بني بَليعال (الملوك الأول ٢١). وقد استخدم مؤلفو العهد الجديد الاسم بَليعال للدلالة على الشيطان. يقول بولس الرسول: «وأيَّة شِرْكةٍ للنور مع الظلام، وأي اتفاق للمسيح مع بَليعال» (كورنثة الثانية، ٦: ١٤–١٥). كما استخدمت الأسفار غير القانونية الاسم أيضًا ومنها نصوص قمران، كما سنرى في الفصل القادم.

وقد يُشير المحرر التوراتي إلى الشيطان دون ذكر اسمه صراحة، فهو «المُهْلِك» الذي يُرسله يهوه في مهمات القتل والدمار، نراه في صحبته عندما مرَّ على بيوت المصريين ليضربهم في سفر الخروج، وذلك بعد أن أمر العبرانيين بوضع شارة مرسومة بالدم على أبوابهم لكي يُميِّزهم عن المصريين: «إنَّ الرب يجتاز ليضرب المصريين، فحين يرى الدم على العتبة العليا والقائمتين يَعْبر الرب عن الباب ولا يدع المُهْلِك يدخل بيوتهم ليضرب» (١٢: ٢٣). ويقول إشعيا بأنَّ يهوه قد خلق المُهْلِك لمهام الخراب والتدمير: «وأنا خلقت المُهْلِك ليُخرِّب» (٥٤: ١٦). وبه يُهدد النبي إرميا أهل يهوذا وأورشليم: «قد صعد الأسد من غابته، وزحف مُهْلِك الأمم، خرج من مكانه ليجعل أرضك خرابًا. تخرب مدنك فلا ساكن» (٤: ٧). والنبي ناحوم يعد الشعب بكف أذى المُهْلِك: «هو ذا على الجبال مبشر منادٍ بالسلام، عيِّدي أعيادك يا يهوذا، أوفي نذورك، فإنَّه لا يعود يَعْبر فيكِ أيضًا المُهْلِك. قد انقرض كله» (١: ١٥).

وهو الروح الرديء الذي يرسله يهوه فيتلبَّس من يخطئ أمامه، وقد أرسل مثل هذا الروح فحلَّ في جسد شاؤل: «وذهب روح الرب من عند شاؤل وبغته روح رديء من قِبل الرب» صموئيل الأول (١٦: ١٤). «وكان في الغد أنَّ الروح الرديء من قبل الرب اقتحم شاؤل وجنَّ في وسط البيت» (١٨: ١٠). وهذا يعني وجود صلة شراكة بين يهوه والشياطين التي تعمل تحت إمرته. وكان يسوع فيما بعد يُخرج مثل هذه الأرواح الرديئة من أجسام المجانين فيُشْفَون، وهم يُدعَون العهد الجديد بالأرواح النجسة والأرواح الشريرة والشياطين.

وهو الوباء والحمى اللذان يسيران أمام إله الغضب: «جلاله غطى السماوات، والأرض امتلأت من تسبيحه، وكان له لمعان كالنور، قدامه ذهب الوبا، وتحت رجليه خرجت الحمَّى … بغضب خطرتُ في الأرض، بسخطٍ دستُ الأمم» (حبقوق، ٣: ٣–١٢)، وفي سفر طوبيا يُدعى إزموداس (طوبيا، ٣: ٨) مثلما يُدعى أيضًا بالشيطان (طوبيا، ٦: ٨ و٨: ٢–٣). وعندما يُذكر بالاسم «الشيطان» (وهو بالعبرية شطن، ويعني المقاوم والمعاند) نجده واحدًا من بطانة يهوه الخاصة والمقربة، مُكلَّفًا بأداء مهام شريرة يوكلها إليه الرب، كما نجد أنَّ الاثنين متفقان أحيانًا ومختلفان في أحيان أخرى. ففي المزمور ١٠٩ نجد كاتب المزمور يدعو ربه لكي يقيم من عنده شيطانًا على خصمه يُفسِد عليه حياته: «فأقم عليه شريرًا، وليقف شيطان عن يمينه، إذا حوكم فيخرج مذنبًا، وصلاتُه فلتكن خطيئة. ليكن بنوه أيتامًا وامرأته أرملة» (٦–٩). وفي سفر زكريا ينتهر الرب الشيطان لأنَّه وقف عن يمين الكاهن يهوشع ليقاومه: وأراني الملاك الكاهن العظيم يهوشع قائمًا قدام الرب، والشيطان قائم عن يمينه ليقاومه. فقال الرب للشيطان: لينتهرك الرب يا شيطان، لينتهرك الرب الذي اختار أورشليم (٣: ١–٢).

في سفر أيوب نجد أنَّ يهوه والشيطان متفقان تمامًا بخصوص النيل من العبد الصالح أيوب، وهما يعقدان رهانًا فيما بينهما بشأنه. وهنا تتضح لنا بجلاء شخصية الشيطان في التوراة ومكانته ومهامه، فهو ملاك أسود موكَّل من قِبل يهوه بأمر الشر، ويجول مع بقية الملائكة في الأرض يستقي أخبارها ويرفع تقاريره إلى مُعلمه، وهو رغم تبعيته الظاهرية إلَّا أنَّه قادر على خداع سيده، ودفعه لاتخاذ قرارات غير صائبة بناءً على معلومات كاذبة يُقدِّمها إليه. وإليكم القصة نسوقها مع بعض التفصيل نظرًا لأهميتها في الكشف عن الجوانب الشيطانية في شخصية يهوه.

كان أيوب رجلًا كاملًا ومستقيمًا، على حد وصف مطلع السفر: «وكان هذا الرجل كاملًا ومستقيمًا، يتَّقي الله ويحيد عن الشر … وُلِدَ له سبعة بنين وثلاث بنات، وكانت مواشيه سبعة آلاف رأس من الغنم وثلاثة آلاف جمل وخمسمائة فدان بقر وخمسمائة أتان، وخَدَمه كثيرون جدًّا. فكان هذا الرجل أعظم بني المشرق» (١: ١–٣). وفي أحد الأيام جاء الملائكة ليمثلوا أمام الرب وجاء الشيطان في وسطهم كواحد منهم: «وكان ذات يوم أنَّه جاء بنو الله ليمثلوا أمام الرب وجاء الشيطان أيضًا في وسطهم. فقال الرب للشيطان: من أين جئت؟ فأجاب الشيطان الرب وقال: من الجَوَلان٦ في الأرض والتمشي فيها» (١: ٦–٧). هنا يتذكَّر يهوه عبده الصالح أيوب ويأمل ألَّا يكون الشيطان عازمًا على مسِّه بسوء: «فقال الرب للشيطان: هل جعلت قلبك على عبدي أيوب؟ لأنَّه ليس مثله في الأرض، رجل صالح كامل ومستقيم، يتقي الله ويحيد عن الشر» (١: ٨). عند ذلك يبدأ الشيطان مكيدته لأيوب، فيوحي ليهوه بأنَّ تقوى الرجل ليست تعبيرًا عن كماله وإنَّما هي نتاج موقف نفعي، لأنَّ الرب قد أغدق عليه ووهبه ما لم يهب لغيره، فإذا مسَّه ضرٌّ من ربه سوف يكفر ويجدف في وجهه: «فأجاب الشيطان: هل مجانًا يتقي أيوب الله؟ أليس أنَّك سيَّجت حوله وحول بيته وحول كل ما له من كل ناحية، باركت أعمال يديه فانتشرت مواشيه في الأرض، ولكن ابسط يدك الآن ومس كل ما لهُ فإنه يجدِّف عليك» (١: ٩–١١). هنا يظهر بجلاء عدم اتصاف يهوه بواحدة من أهم خصائص الله وهي كلانيَّة المعرفة، لأنَّ الشك يُداخله في أمر أيوب ويود معرفة خبيئة نفسه، فينقاد لأحابيل الشيطان: «هو ذا كل ما له في يدك، وإنَّما إليه لا تمد يدك» (١: ١٢). وقد كان أحرى به أن يرجع إلى معرفته الكُلية، إذا كان لديه منها أدنى نصيب، ليعرف خبيئة نفس أيوب بدل توظيفه للشيطان والاتكال عليه.

أطلق يهوه يد الشيطان في أيوب يُنزل به ما شاء من الضربات، ففي يوم واحد سُرقت أبقاره وجماله، وقتل اللصوص عبيده جميعًا، وسقطت نار من السماء فأحرقت قطعان غنمه، ثم سقط البيت على أولاده فماتوا جميعًا: «فقام أيوب ومزق جبته وجزَّ شعر رأسه وخرَّ على الأرض وسجد وقال: عريانًا خرجت من بطن أمي وعريانًا أعود إلى هناك. الرب أعطى والرب أخذ. فليكن اسم الرب مباركًا. وفي كل هذا لم يُخطئ أيوب ولم ينسب لله جهالة» (١: ١٣–٢٢).

يأتي الشيطان للمثول أمام الرب مرة أخرى فيعاتبه الرب على دسيسته لأنَّ أيوب لم يُخطئ ولم يجدِّف رغم ما حلَّ به من مصائب: «إلى الآن هو متمسك بكماله وقد هيجتني عليه لأبتليه بلا سبب» (٢: ١–٣). فيقترح الشيطان أن يستمر الاختبار، وأن يطال الأذى أيوب في جسمه وصحته بعد أن طاله في أملاكه وعائلته، فينساق يهوه مرة أخرى لإغواء الشيطان الذي يُباشر عمله فورًا: «فخرج الشيطان من حضرة الرب وضرب أيوب بقرح رديء من باطن قدمه إلى هامته، فأخذ لنفسه شقفةً ليحتك بها وهو جالس في وسط الرماد. فقالت له امرأته: أنت متمسِّك بعد بكمالك؟ … فقال لها: تتكلمين كلامًا كإحدى الجاهلات. أنقبل الخير من عند الله والشر لا نقبل؟ في كل هذا لم يخطئ أيوب بشفتيه» (٢: ٤–١٣).

ولكن يهوه وقد أمتعته اللعبة الآن، يزداد إمعانًا في تعذيب أيوب الذي تشتد عليه الأوجاع الجسدية والشقاءات الروحية، فيرفع عقيرته بالشكوى وطلب العدل من إله لا يعرف مثل هذا المصطلح: «أبحرٌ أنا أم تنين حتى جعلت عليَّ حارسًا؟ إن قلتُ فراشي يعزيني وينزع كربتي تُريعني بأحلام وتُرهبني برؤى … كُفَّ عني الآن لأنَّ أيامي نفحة. ما هو الإنسان حتى تعتبره وحتى تضع عليه قلبك، وتتعهده كل صباح، وكل لحظة تمتحنه؟ حتى متى لا تلتفت عني ولا تريحني ريثما أبلع ريقي؟ هل أخطأت؟ ماذا أفعل لك يا رقيب الناس؟ لماذا جعلتني عاثورًا لنفسي حتى أكون على نفسي حِملًا؟» (١٧: ١٢–٢٠). ولكن هذه الشكوى تذهب هباءً، لأنَّ يهوه هو الخصم والحكم، وما مِن أحد يُحاسبه على أعماله: «ذاك الذي يسحقني بالعاصفة ويُكثر جروحي بلا سبب، لا يدعني آخذ نَفَسي ولكن يشبعني مرائر. إن كان من جهة القوة يقول ها أنا ذا، وإن كان من جهة القضاء يقول مَن يُحاكمني؟ … أنا مُستذنب فلماذا أتعب عبثًا … لأنَّه ليس هو إنسانًا مثلي فأجاوبه فنأتي جميعًا للمحاكمة. ليس بيننا مُصالح يضع يده على كلينا» (٩: ٢٩–٣٣). «أفهمني لماذا تُخاصمني … يداك كَوَّنتاني وصنعتاني كُلي جميعًا، أفتبتلعني؟ … كُفَّ عني قبل أن أذهب ولا أعود إلى أرض ظلمةٍ وظل موت» (١٠: ١–٢١).

ولكن ادعاء البراءة من جانب أيوب وثباته على توكيد حقه أمام إلهه، لا يزيد هذا إلَّا تعنُّتًا، وها هو يخاطبه مخاطبة الند للند مستعرضًا قوته أمام هذا الإنسان الضعيف القاعد فوق كومة رماد بين أطلال بيته المهدَّم يحك قروحه بكسرة فخار: «فأجاب الرب أيوب من العاصفة وقال: من هذا الذي يظلم القضاء بكلام بلا معرفة؟ أشدد حقويك الآن كرجل، فإني أسألك فتعلمني. أين كنتَ حين أسستُ الأرض؟ أخبر إن كان عندك فهم، من وضع قياسها أو من مدَّ عليها مطمارًا؟ على أي شيء قرَّ قواعدها، أو من وضع حجر زاويتها عندما ترنَّمت كواكب الصبح معًا وهتف جميع بني الله؟» (٣٨: ١–٦). وبعد خطبة طويلة يتباهى يهوه فيها بكل ما صنعت يداه، يتقدَّم أيوب بإجابة مقتضبة تنم عن اليأس من الاحتكام لإله يعتبر نفسه فوق الواجبات الأخلاقية: «فأجاب أيوب الرب وقال: ها أنا حقير بماذا أجاوبك؟ وضعتُ يدي على فمي. مرة تكلمتُ فلا أجيب، ومرتين فلا أزيد» (٤٠: ٢–٤).

هذه الإجابة المختصرة تدعو يهوه إلى ثورة عارمة أقوى من الأولى، لأنَّه يرى في ثناياها اتهامًا مُبطَّنًا من قِبل أيوب: «فأجاب الرب أيوب من العاصفة فقال: الآن أشدد حقويك كرجل. أسألك فتُعلمني. لعلك تُناقض حكمي!! تستذنبني لكي تتبرَّر أنت!» (٤٠: ٦–٨). ثم يعود إلى استعراض قوته مستعيدًا مشاهد معروفة تظهر تسلطه على الوحوش والتنانين البحرية من أمثال بهيموث ولوياتان: «هل لك ذراع كما لله وبصوت مثل صوته تُرعد؟ … أتصطاد لوياتان بشص أم تضغط لسانه بحبل؟ … من يفتح مصراعي فمه؟ دائرة أسنانه مرعبة … عطاسه يبعث نورًا وعيناه كهدب الصبح، من فمه تخرج مصابيح شرار نار تتطاير منه … إلخ» (٤٠: ٩؛ و٤١: ١–٢١). بعد أن ينتهي يهوه من خطبته الاستعراضية الثانية هذه، يدرك أيوب أخيرًا أنَّ إلهه لا ينطلق في تصرفاته من أيَّة قاعدة منطقية أو أخلاقية، بل من إحساسه بالتفوق والسلطة المطلقة، وأنَّه لا يطلب من عباده إلَّا اعترافًا تامًّا بالتفوق، ولا فائدةً تُرجى من تذكيره بالعدل والإنصاف. وهنا يعمد أيوب إلى صياغة إجابته الأخيرة بطريقة تنسجم مع نظرة يهوه إلى نفسه، وبذلك يُفلح في كسب قضيته أخيرًا: «فأجاب أيوب الرب فقال: قد علمتُ أنَّك تستطيع كل شيء ولا يعسر عليك أمر … وقد نطقتُ بما لم أفهم بعجائب فوقي لم أعرفها … بسمع الأذن قد سمعتُ عنك، والآن رأتك عيني، لذلك أرفض وأندم في التراب والرماد» (٤٢: ١–٥).

لا تحتوي كلمات أيوب الأخيرة على أي عرضٍ لحق أو احتكام لعدل أو تذكير بالقواعد الأخلاقية، بل إنَّها تُبدي خضوعًا كاملًا وغير مشروط لجبروت إله كان أيوب يسمع به وبعجائبه ولكنه رآه بعد ذلك بأم عينه، لهذا يهدأ غضب يهوه ويُقرِّر الرأفة بأيوب، فيُعيد إليه كل ما سُلب منه: «وزاد الرب على كل ما كان لأيوب ضعفًا، فجاء إليه كل إخوته وكل أخواته وكل معارفه وأكلوا خبزًا في بيته، ورثوا له وعزَّوه عن الشر الذي جلبه الرب عليه. وبارك الرب آخرة أيوب أكثر من أولاه … وعاش أيوب بعد هذا مائة وأربعين سنة ورأى بنيه وبني بنيه إلى أربعة أجيال، ثم مات أيوب شيخًا وشبعان الأيام» (٤٢: ١–١٧). ولكن من يُعيد لأيوب كرامته الإنسانية التي هُدرت على يد إله يدَّعي أنَّه الذي أسَّس الأرض ورفع السماء، ويتباهى بقتل التنانين واصطيادها بشصٍ كما السمك، ولكنَّه لا يملك الحد الأدنى من المعرفة التي تُمكِّنه من الاطلاع على فؤاد أيوب ليتأكَّد من صحة ادعاء الشيطان.

(٤) لاهوت الملائكة

على عكس لاهوت الشيطان، الذي بقي ناقصًا وغامضًا حتى اختتام الأسفار القانونية، فإنَّ لاهوت الملائكة يأخذ بالاتضاح تدريجيًّا عبر الأسفار، وذلك بتأثيرات رافدينية وفارسية، غير أنَّ ما يُميِّز مفهوم الملائكة في التوراة عن مفهوم الملائكة الفارسي، هو أنَّ الملائكة التوراتية ليست كائنات نورانية خيِّرة تقف في وجه الشياطين وتُكافح الشر في العالم على كل صعيد، بل هي البطانة الخاصة التي تحيط بيهوه الملك، وتحمل عرشه كلما زار الأرض، وتنفِّذ ما يوكل إليها من مها، فمنها للمهام الخيِّرة ومنها للمهام الشريرة، وغالبًا ما يختلط الفريقان حتى يصعب التمييز بين ملائكة النور وملائكة الظلام. فبعد أن ترك يهوه خيمته التي سكن تحتها في الصحراء ردحًا وصار له هيكل مثل بقية الآلهة الكبرى، أخذ المحررون التوراتيون يرسمون له صورة الملك الشرقي المتربِّع على العرش، والذي يحيط به رهط السماء من الخدم والحشم والأتباع: «قد رأيت الرب جالسًا على كرسيه، وكل جند السماء واقفًا عن يمينه ويساره» (الملوك الأول، ٢٢: ١٩). «الرب جالسٌ على كرسي قدسه» (المزمور ٤٧: ٨). «الرب قد مَلَك. لبس الجلال، لبس الرب القدرة ائتزر بها» (المزمور ٩٣: ١). «الرب قد مَلَك فلتبتهج الأرض ولتفرح الجزائر الكثيرة … أسجدوا له يا كل الآلهة» (المزمور ٩٧: ١–٧).

رغم أنَّ قصة الخلق التوراتية لم تأتِ على ذكر خلق الملائكة، إلَّا أنَّ النص يتحدَّث عن صنفٍ من هذه الكائنات منذ مطالع سفر التكوين ويدعوها «كروبيم»، والكلمة صيغة جمع للمفرد «كروب» وهي من أصل بابلي، وتدل على كائنات مجنحة ذات رأس إنساني وجسم حيواني، كانت تُصوَّر على مداخل الأبنية والقصور الملكية باعتبارها كائنات ما ورائية حارسة. يرد أول ذكرٍ للكروب والكروبيم في الإصحاح الثالث من سفر التكوين. فبعد أن جرى طرد الإنسان من جنة عدن أقام الرب الكروبيم لحراسة الطريق إلى شجرة الحياة (التكوين، ٣: ٢٤). وفي سفر الخروج يأمر الرب موسى أن يصنع لتابوت العهد غطاءً عليه صورة لكروبين مجنحين: «اصنع كروبًا واحدًا على الطرف من هنا وكروبًا آخر على الطرف من هناك، ويكون الكروبان باسطين أجنحتهما إلى فوق، مظللين بأجنحتهما على الغطاء» (الخروج، ٢٥: ١٩). كما أمره أن يرسم عددًا آخر من الكروبيم على نسيج خيمة الاجتماع التي تضم تابوت العهد (الخروج، ٢٦: ٣١). وعندما بنى سليمان الهيكل الذي وضع الرب بنفسه مُخطَّطه، كانت صور الكروبيم تملأ المكان: «وعمل في المحراب كروبين من خشب الزيتون علو الواحد عشر أذرع، وخمس أذرع جناح الكروب الواحد، وجعل الكروبيم في وسط البيت الداخلي، وجميع حيطان البيت في مستديرها رسمها نقشا بنقر كروبيم … وعمل لباب المحراب مصراعين من خشب الزيتون ورسم عليهما نقش كروبیم» (الملوك الأول، ٦: ٢٣–٣٢).

ويستخدم يهوه هذه الكائنات كواسطة نقل عندما يُفكِّر بزيارة الأرض: «طأطأ السماوات ونزل، وضباب تحت رجليه، ركب على كروب وطار، ورُئي على أجنحة الريح، جعل الظلمة حول مظلات» (صموئيل الثاني، ٢٢: ١٠). ونجد الصورة نفسها في المزمور ١٨: «ركب على كروب وهفَّ وطار على أجنحة الريح … من الشعاع قُدامه عبرت سُحُبه، بَرَدٌ وجمرٌ ونار» (١٨: ١٠–١٢). كما أنَّ الكروبيم تسند عرش يهوه: «يا راعي إسرائيل يا جالسًا على الكروبيم أشرق» (المزمور ٨٠: ١). وأيضًا: «الرب قد مَلَك. ترتعد الشعوب وهو جالسٌ على الكروبيم، تتزلزل الأرض» (المزمور ٩٩: ١). وفي رؤيا حزقيال نجد أربعًا من هذه الكروبيم تحمل عرش الرب، الذي تحوَّل إلى مركبة تطير به وتحط على الأرض، في مشهد رأى فيه بعض أصحاب الخيال الجامح من الكُتَّاب الغربيين ما يُشبه هبوط مركبة فضائية من العوالم الأخرى: «فنظرت وإذا بريح عاصفة جاءت من الشمال، سحابة عظيمة ونار متواصلة وحولها لمعان، ومن وسطها شبه أربعة حيوانات هذا منظرها: لها شِبه إنسان، ولكل واحد أربعة أوجه وأربعة أجنحة، وأرجلها قائمة، وأقدام أرجلها كقدم رجل العجل، وبارقة كمنظر النحاس المصقول، وأيدي إنسان تحت أجنحتها على جوانبها الأربعة … منظرها كجمر نار متقدة، ومن النار كان يخرج برق … وعلى رءوس الحيوانات شبه مُقبب كمنظر البلور الهائل منتشرًا على رءوسها من فوق … وفوق المقبب الذي على رءوسها شبه عرش كمنظر العقيق الأزرق، وعلى شبه العرش كمنظر إنسان … هذا منظر شبه مجد الرب. ولمَّا رأيته، خررت على وجهي وسمعت مرسل صوت متكلم فقال لي: يا ابن آدم قم على قدميك فأتكلم معك» (١: ٤–٢٨).

ويستخدم النص في الأسفار الخمسة الاسم المفرد «ملاك» في العديد من المواضع، والكلمة بالعبرية تُلفظ «ملاخ» وتعني رسول أو مرسل. نقرأ في سفر التكوين، في خطاب إبراهيم لعبده: «هو يرسل ملاكه أمامك فتأخذ زوجة لابني من هناك» (٢٤–٧). وفي سفر الخروج: «ها أنا مُرسل ملاكًا أمام وجهك يحفظك في الطريق». وفي سفر العدد: «فصرخنا إلى الرب فسمع صوتنا وأرسل ملاكًا وأخرجنا من مصر» (٢٠: ١٦). وبعد ذلك تظهر في النص صيغة الجمع «ملائكة» إلى جانب صيغة المفرد: «الرب في السماوات ثبت كرسيه ومملكته على الكل تسود … باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوةً، الفاعلين أمره عند سماع صوت كلامه. باركوا الرب يا جميع جنوده، خدامه العاملين مرضاته» (المزمور ١٠٣: ١٩–٢٠). وهم مثل ريح ونار على حد تعبير المزمور ١٠٤: «باركي يا نفسي الربَّ … الجاعل السحاب مركبته، الماشي على أجنحة الريح، الصانع ملائكته رياحًا وخدامه نارًا ملتهبة.»

ونظرًا لغياب الشياطين كمخلوقات ما ورائية شريرة، فإنَّ الملائكة تنقسم إلى فريقين: واحد شرير والآخر طيب. والشريرون منهم هم أداة غضب يهوه: «أرسل عليهم حُمو غضبه، سخطًا ورجزًا وضيقًا، جيش ملائكة أشرار مهَّد الطريق لغضبه» (المزمور ٧٨: ٤٩–٥٠). وأمَّا الطيبون منهم فيحفظون أتقياء يهوه: «لأنَّك قلت أنت يا رب ملجئي، لا يلاقيك شر، لأنَّه يوصي بك ملائكته لكي يحفظوك في كل طرقك» (المزمور ٩١: ٩–١١). والشيطان نفسه هو واحد من هؤلاء الملائكة الأشرار وربما كان رئيسًا عليهم رغم عدم وجود إشارة واضحة في النص إلى ذلك. وينفرد سفر إشعيا بالحديث عن طبقة من الملائكة تُدعى سيرافيم، وهؤلاء يطيرون بستة أجنحة لا بأربعة كما هو حال الكروبيم: «رأيت السيد جالسًا على كرسي عالٍ ومرتفعٍ وأذياله تملأ الهيكل. السيرافيم واقفون فوقه، لكل واحد ستة أجنحة، باثنتين يُغطي وجهه وباثنتين يغطي رجليه وباثنتين يطير، وهذا نادى ذاك وقال قدوس رب الجنود، مجده ملء كل الأرض» (٦: ١–٣).

ومن مهام الملائكة الاتصال بمختاري الرب وأنبيائه. فبعد أن تحوَّل يهوه إلى ملك شرقي وترك خيمته المتواضعة في الصحراء، لم يعد يتصل مباشرة بالناس بل جعل من الملائكة وسيطًا بينه وبينهم. فهؤلاء إلى جانب تسبيحهم للرب وتعظيمهم له فإنَّهم يتصلون بمختاري الرب وأنبيائه فيفسرون معنى أحلامهم ويضعون النبوءات على ألسنتهم (حزقيال، ٤: ٣–٤؛ وزكريا، ١٢:١). ونعرف من هؤلاء الوسطاء ميخائيل رئيس الملائكة، وجبرائيل حامل الوحي. نقرأ في سفر دانيال عن ظهور جبرائيل للنبي: «وبينما أنا أتكلم وأصلي وأعترف بخطيئتي وخطيئة شعبي، وإذا بالرجل جبرائيل الذي رأيته في الرؤيا لمسني عند وقت تقدمة المساء، وفهَّمني وتكلَّم معي وقال: يا دانيال … إلخ» (٩: ٢٠–٢٢). وأيضًا: «إذا كنت على جانب النهر العظيم الذي هو دجلة، رفعت بصري ونظرت وإذا برجلٍ لابس كتانًا لابس وجسمه كالزبرجد ووجهه كمنظر البرق وعيناه كمصباحي نار وصوت كلامه كصوت جمهور … وسمعت صوت كلامه. ولمَّا سمعت صوت كلامه كنت مُسبخًا على وجهي، ووجهي إلى الأرض، وإذا بيد لمستني وأقامتني مرتجفًا وقال لي: يا دانيال … إلخ» (دانيال، ١٠: ٤–١١).

إنَّ تجلي جبرائيل للنبي دانيال في المشهد أعلاه، يُظهر بقوة أثر التقاليد الزرادشتية، ويُحضر إلى الأذهان مشهد تجلي الروح القدس المدعو فوهو مانا لزرادشت عندما كان على ضفة النهر، وإبلاغه إياه رسالة أهورا مزدا. كما تظهر التأثيرات الزرادشتية في سفر طوبيا الذي يُشير إلى وجود سبعة ملائكة تقف في حضرة الرب بشكل دائم. فهذه الملائكة السبعة هي نظيرة الأرواح السماوية السبع التي تحيط على الدوام بأهورا مزدا وتعكس مجده. يقول الملاك للرجل الصالح طوبيا: «والآن فإنَّ الرب قد أرسلني لأشفيك وأُخلِّص سارة كنتك من الشيطان، فإني أنا رفائيل الملاك، أحد السبعة الواقفين أمام الرب» (١٢: ١٤–١٥). وقد انتقلت هذه الفكرة بعد ذلك إلى العهد الجديد. نقرأ في رؤيا يوحنا اللاهوتي: «سلام من الكائن، والذي كان والذي يأتي، ومن سبع الأرواح التي أمام عرشه» (١: ٤). وأيضًا: «هذا يقوله الذي له سبع أرواح الله وسبعة الكواكب … إلخ» (٣: ١).

وخلاصة الأمر فيما يتعلق بمفهوم الملائكة في الأيديولوجيا التوراتية، هي أنَّ المحرر التوراتي قد اقتبس هذا المفهوم عن المعتقد الزرادشتي بعد أن جرَّده من كل معانيه الأصلية. إنَّ وجود الملائكة في المعتقد الزرادشتي هو ضرورة أخلاقية، وقد خلقها أهورا مزدا لغرضٍ محددٍ واضح هو مكافحة الشيطان وأعوانه، والتصدِّي لهجوم قوى الشر الدائم على خلق الله الطيِّب. أمَّا في المعتقد التوراتي الذي يفتقر أصلًا إلى تصوُّر متسقٍ وواضح عن الخير والشر، وإلى أي معنى أخلاقي للكون والحياة وصيرورة التاريخ، فإنَّ وجود الملائكة لا يخدم إلَّا صورة يهوه عن نفسه كملك مطلق السلطان.

(٥) الزمن ومفهوم التاريخ

تنتمي الرؤية التوراتية للزمن والتاريخ إلى نمطٍ خاص أدعوه بالتاريخ الدينامي المنقوص، لأنَّ هذه الرؤية تقوم على فكرة نهاية التاريخ، ولكن مع استمرارية الزمن الدنيوي المفتوح على اللانهاية، فالأيديولوجيا التوراتية تفتقر إلى أهم العناصر التي يقوم عليها مفهوم التاريخ الدينامي، وهي: وحدانية الإله وأخلاقيته، والشيطان الكوني، وصراع الخير والشر الذي يقود التاريخ والزمن معًا إلى نهاية يعقبها خروج من الزمن إلى الأبدية. فلنتابع فيما يأتي حركة تاريخ العالم والحضارة الإنسانية كما رآه محررو التوراة حتى اختتام أسفار الكتاب.

قبل بداية الزمن، لم يكُن سوى المياه البدئية الأزلية، وروح الرب يرف فوق سطحها، ولسببٍ غير مفهوم قرَّر الرب خلق العالم، ونفَّذ ذلك خلال ستة أيام تُقابل مراحل الخلق الست في الزرادشتية. في اليوم الأول خلق الرب النور الذي شقَّ الظلمة الأزلية المتكاثفة فوق سطح الغمر البدئي، وسمَّى النور نهارًا وسمَّى الظلمة ليلًا. في اليوم الثاني خلق قبة السماء. وفي اليوم الثالث أظهر اليابسة وميَّزها عن البحار ثم بثَّ فيها الحياة النباتية. وفي اليوم الرابع خلق الشمس والقمر وبقية الأجرام السماوية. وفي اليوم الخامس خلق الكائنات المائية وطيور الجو. وفي اليوم السادس خلق حيوانات الأرض ثم خلق الإنسان. وفي اليوم السابع استراح من جميع عمله الذي جعله خالقًا (التكوين ١ و٢).

مما يُلفت النظر في قصة الخلق هذه، عدم تعرُّضها لخلق الملائكة والشياطين أو أيَّة كائنات ما ورائية أخرى، رغم أنَّ مثل هذه الكائنات تبدأ بالظهور تباعًا عقب ذلك، غير أنَّ مُحرِّر الإصحاحات الأولى من سفر التكوين قد ترك لنا جملة غامضة في مطلع الإصحاح الثاني يقول فيها: «فأكملت السماوات والأرض وكل جندها، وفرغ في اليوم السابع من عمله.» وهذه الجملة تفتح الباب واسعًا أمام عدد من التفسيرات المتعلقة بالكائنات الما ورائية على مختلف أنواعها. فكلمة «جند» الواردة هنا، ومرادفها «أجناد»، مضافة إلى كلمة «الرب» أو «السماء»، تدل في النص على الآلهة الأخرى أحيانًا، وعلى الملائكة في أحيانٍ أخرى. نقرأ في سفر الملوك الثاني: «وكان أن بني إسرائيل أخطئوا … وتركوا جميع وصايا الرب إلههم وسجدوا لجميع جند السماء وعبدوا البعل» (١٧: ١٦). وأيضًا: «وعمل منسي — ملك إسرائيل — الشر في عيني الرب وأقام مذابح للبعل … وسجد لكل جند السماء وعبدها» (٢١: ١–٣). وأيضًا: «وأمر الملك … أن يُخرجوا من هيكل الرب جميع الآنية المصنوعة للبعل وللسارية ولكل أجناد السماء وأحرقها خارج أورشليم» (٢٣: ٤). وفي سفر إرميا نقرأ: «في ذلك الزمان، يقول الرب، يُخرجون عظام ملوك يهوذا وعظام رؤسائه وعظام الكهنة وعظام الأنبياء وعظام سكان أورشليم من قبورهم، ويبسطونها للشمس وللقمر ولكل جنود السماء التي أحبوها والتي عبدوها»٧ (٨: ١–٢).

وفي مواضع أخرى نجد أنَّ تعبير جند الرب أو جند السماء يدل بوضوح على الملائكة. نقرأ في سفر يشوع: «رفع «يشوع» عينيه ونظر، وإذا برجل واقف قبالته وسيفه مسلول بيده، فسار إليه يشوع وقال له: هل أنت لنا أو لأعدائنا؟ فقال: كلا بل أنا رئيس جند الرب» (٥: ١٣–١٤). ونقرأ في إرميا: «كما أنَّ جند السماوات لا يُعد ورمل البحر لا يُحصى، هكذا أكثر نسل داود عبدي» (٣٣: ٢٢). وفي سفر أخبار الأيام الثاني: «قد رأيت الرب جالسًا على كرسيه وكل جند السماء وقوف عن يمينه ويساره» (١٨: ١٨). وفي المزمور ١٠٣: «باركوا الرب يا ملائكته … باركوا الرب يا جميع جنوده، خدامه العاملين مرضاته» (١٠٣: ٢٠). وفي المزمور ١٤٨: «سبحوه يا جميع ملائكته، سبحوه یا كل جنوده» (١٤٨: ١–٣).

هذه الشواهد وغيرها تُلقي ضوءًا على الجملة التي ختم بها المحرر التوراتي فعاليات خلق يهوه. فلقد أراد القول بأنَّ يهوه لم يكُن وحيدًا عندما اكتمل خلق العالم، وأنَّ المستوى الما ورائي كان مليئًا منذ البداية بحشد من الكائنات الإلهية والملائكية، ولكن يهوه قد سما عليهم جميعًا من خلال عملياته الخلَّاقة عند جذور الزمن، وها هو يُراقب صيرورة التاريخ الذي انطلق عقب التكوين دونما خطة إلهية مسبقة.

بعد طرد الإنسان من جنة عدن، مما فصلناه في موضع سابق، يبتدئ تاريخ الحضارة الإنسانية، ولكن يهوه لا يُتْبِع فعاليات التكوين بفعاليات التأصيل على طريقة الآلهة المشرقية، التي وضعت بنفسها أصول التحضر الإنساني ودفعت حثيثًا مسيرة البشر الثقافية، وإنَّما ينسحب إلى عليائه بعد أن أسَّس لثلاثة أصول فقط، هي الخطيئة واللعنة والجريمة. فقد دفع الزوجين الأوَّلين إلى الخطيئة ثم أخرجهما بخطيئتهما من الجنة إلى الأرض ليعملوا فيها، ولعن الأرض بسببهما: «ملعونة الأرض بسببك بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكًا وحسكًا تُنبت لك.» وعندما وُلِد للزوجين الأولين ابنان، هيا يهوه أسباب الجريمة الأولى بقبوله قربان أحدهما ورفضه قربان الآخر، فقتل قاين هابيل متبدئًا تاريخ نسل آدم بالعنف والعدوان. بعد تأسيسه لهذه الشرور الأولى يغفو الإله التوراتي ردحًا طويلًا تاركًا البشر يسلكون في طرقهم الخاصة، حتى تكاثروا وملئوا الأرض. وخلال هذه المدة لم يتدخَّل في شئونهم لا سلبًا ولا إيجابًا ولم يؤسِّس لنوع من الصلة معهم. فلا طقوس ولا عبادات ولا شريعة أخلاقية من أي نوع. وفجأة ينتبه يهوه ويخطر له أن يتفقَّد أحوال الناس فيرى أنَّ شرهم قد كثر في الأرض، ولا يجد وسيلة لإصلاح هذا الشر أفضل من إفنائهم جميعًا، رغم كل الخيارات الأخرى المتاحة أمام إله يُفترض أنَّه كلي القدرة: «ورأى الرب أنَّ شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأنَّ كل تصور قلبه إنَّما هو شرير كل يوم، فحزن الرب أنَّه عمل الإنسان في الأرض وتأسَّف في قلبه، فقال الرب أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته، الإنسان مع البهائم ودبابات وطيور السماء … فها أنا آتٍ بطوفان الماء على الأرض لأُهلِك كل جسد فيه روح حياةٍ من تحت السماء. كل ما في الأرض يموت» (التكوين، ٦).

بعد زوال الطور الأول من الحضارة وابتداء الطور الثاني ممَّا تلا الطوفان، يعود يهوه إلى الاستغراق في ذاته تاركًا العالم على هواه مرة أخرى، ثم يصحو ليجد الناس وقد صاروا أمة واحدة تتكلم لسانًا واحدًا، وها هم يبنون مدينة وبرجًا عاليًا يصبح رمز وحدتهم وتكاتفهم، وبدلًا من أن يمد لهم يد العون فقد عمل على تشتيتهم وبلبلة ألسنتهم ليصبحوا شيعًا متفرقة متناحرة: «وكانت الأرض كلها لسانًا واحدًا ولغة واحدة … وقالوا هلم نبني لأنفسنا مدينة وبرجًا رأسه بالسماء، ونصنع لأنفسنا اسمًا لئلا نتبدَّد على وجه الأرض. فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما. وقال الرب: هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل، والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه. هلم ننزل ونبليل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض، فبدَّدهم الرب من هناك على وجه الأرض» (التكوين، ١١: ١–٨).

يختفي يهوه بعد أن اطمأن إلى تشتيت البشر وفرقتهم بتنوُّع لغاتهم، وبعد أن اطمأن إلى إحباط قفزتهم الحضارية الأولى. بينما يُتابع سفر التكوين سرد نسب سام بن نوح من دون جميع فروع بني البشر، ومن سلسلة نسب سام هذه يُتابِع فقط خطًّا واحدًا هو الخط الذي انتهى بالمدعو تارح، الذي وُلِد في مدينة أور الكلدانية ثم ارتحل مع ولديه ناحور وأبرام (= إبراهيم) وحفيده لوط من ابنه المتوفى هاران، فسار وحطَّ في مدينة حاران في الشمال السوري. هنا ينتبه يهوه مجددًا وينظر إلى الأرض بقاراتها وشعوبها وحضاراتها جميعها، فلا يرى منها سوى أبرام، فنراه يُكلمه بدون مقدمات ويأمره بالتوجُّه إلى أرض كنعان التي سيُعطيه إياها ميراثًا ويجعله أُمَّة عظيمة: «وقال الرب لأبرام اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أُريك، فأجعلك أُمَّة عظيمة وأُباركك وأُعظِّم اسمك … وتتبارك فيك قبائل الأرض» (التكوين، ١٢: ١–٣). أمَّا لماذا وقع الاختيار على أبرام هذا من دون بقية بني البشر، ولماذا سيجعل الرب منه أُمَّة عظيمة وتتبارك فيه قبائل الأرض جميعها، فأسئلة لا يُجيب عليها النص، ولا يستطيع من يتابع سيرة أبرام وسير أبنائه وأحفاده من بعده أن يستشفَّ أيَّة حكمة من وراء هذا الاختيار.

بعد ذلك بمدة، يعقد يهوه عهدًا بينه وبين أبرام مضمونه أن يعبد، هو ونسله من بعده، يهوه وحده من دون بقية الآلهة، مقابل تقديم الحماية والعون لهم وإعطائهم أرضًا تُصبح لهم ملكًا خاصًّا: «ولمَّا كان أبرام ابن تسع وتسعين سنة ظهر الرب لأبرام وقال له: أنا الله٨ القدير. سر أمامي وكن كاملًا، فأجعل عهدي بيني وبينك وأُكثِّرك كثيرًا جدًّا … وتكون أبًا لجمهور كبير، فلا يُدعى اسمك بعد أبرام بل يكون إبراهيم … وأُقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهدًا أبديًّا لأكون إلهًا لك ولنسلك من بعدك، وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكًا أبديًّا، وأكون إلههم» (١٧: ١–٨). وبعد وفاة إبراهيم يُجدِّد يهوه عهده مع ابنه إسحاق ومع ابن إسحاق يعقوب، الذي صار اسمه إسرائيل وأنجب اثني عشر ولدًا، هم رءوس قبائل بني إسرائيل.

خلال عصر الآباء الذي يبتدئ بهجرة إبراهيم إلى كنعان، وينتهي بالتحاق يعقوب وأولاده بيوسف في مصر، لا يتَّصل الرب بأولئك الآباء إلَّا مرات قليلة وعلى فترات متباعدة، وذلك إمَّا لتجديد العهد أو للتبشير بغلام بعد سن العجز واليأس. كما أنَّه لا يستن لهم شريعة ولا يوحي بوصايا من أي نوع. من هنا تبدو لنا جماعة عصر الآباء بدون عقيدةٍ واضحة أو دين مؤسس، وفيما عدا هذه الاتصالات العرضية التي يُباشرها يهوه بنفسه، فإنَّ هذا الإله الذي يوصف عادةً بالإله الذي يتجلَّى في التاريخ ويفعل من خلاله، لا يُمارس أيَّة فعالية في تاريخ العالم الذي يُفترض أنَّه خالقه، ولا في تاريخ البشرية التي يُفترض أنَّه إلهه. لقد اختار نسل إبراهيم شعبًا له، ومن نسل إبراهيم اختار خط إسحاق من دون إسماعيل، ومن خط إسحاق اختار خط يعقوب من دون عيسو.

كما أنَّه من كل بقاع الأرض لا يرى إلَّا بقعة جغرافية صغيرة لا تكاد العين تلمحها على خارطة العالم، أعطاها ملكًا أبديًّا لشعبه هذا، وأمضى ما تبقَّى من تاريخ العالم في محاولة الوفاء بوعده لهم. ومع ذلك فإنَّ الباحثين الغربيين لا يملُّون إسماعنا في كل مناسبة بأنَّ إله التوراة هو إله يتجلَّى في التاريخ ويفعل من خلاله، بينما تتجلَّى آلهة الشرق القديم في الطبيعة وتفعل من خلال صيرورة عملياتها. وهذه الفكرة هي أخطر الأفكار المسيطرة (= Paradigm) على حقل دراسة لاهوت العهد القديم، وأكثرها خطأً في الآن نفسه، إلَّا إذا افترضنا أنَّ الجغرافيا البشرية تقتصر على منطقة السامرة ويهوذا، وأنَّ تاريخ العالم يقتصر على فلسطين الكنعانية خلال فترة الحدث التوراتي.

ترحل جماعة سفر التكوين من كنعان لتلتحق بيوسف الذي صار وزيرًا للفرعون، وكان عددهم سبعين نفسًا فقط، وهناك أقطعهم يوسف أراضي في منطقة الدلتا فاستقروا وتكاثروا … ولكنَّهم بعد موت يوسف وقعوا تحت نير العبودية والسخرة مدة أربعمائة سنة، كان الرب خلالها غافلًا عنهم في نوبة من نوبات سُباته «التاريخية» الطويلة، التي لم يوقظه منها سوى صراخ بني إسرائيل، فنظر وتذكَّر عهده. نقرأ في مطلع سفر الخروج: «وتنهد بنوا إسرائيل من العبودية وصرخوا، فصعد صراخهم إلى الرب من أجل العبودية، فتذكَّر الرب ميثاقه مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب» (٢: ٢٣–٢٤). اختار الرب موسى ليكون أداته في تحرير الشعب وقيادته، فتجلَّى له أول مرة في لهيب شجرة تشتعل ولا تحترق، «فقال: لا تقترب إلى ههنا. اخلع حذاءك من رجليك لأنَّ الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة، ثم قال: أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب … إني قد رأيت مذلة شعبي وسمعت صراخهم فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين، وأُصعدهم إلى أرض جيدة وواسعة، إلى أرض تفيض لبنًا وعسلًا» (٣: ٥–٨). «لذلك قل لبني إسرائيل أنا الرب، وأنا أخرجكم من تحت أثقال المصريين، وأتخذكم لي شعبًا وأكون لكم إلهًا، وأُدخلكم إلى الأرض التي رفعتُ يدي أن أعطيها لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، وأعطيكم إياها ميراثًا» (٦: ٦–٨).

هنا فقط يقرِّر يهوه الدخول في التاريخ، ولكن لا في تاريخ العالم وتاريخ الحضارة، بل في تاريخ بني إسرائيل حصرًا، وينحصر مخططه التاريخي في تخليص تلك الفئة القليلة من العبودية، وقيادتهم إلى كنعان ليكونوا شعبه الذي اختاره من دون شعوب الأرض، فيصيروا له مملكة خاصة. يترك يهوه علياءه ليقود بنفسه بني إسرائيل عبر صحراء سيناء. فكان يتجلَّى لهم على شكل عمود من سحاب يسير أمامهم في النهار، وعلى شكل عمود من نار يسير أمامهم ليلًا فلا يضلون الطريق، و«لم يبرح عمود السحاب نهارًا وعمود النار ليلًا من أمام الشعب» (١٣: ٢٠–٢١). كما كان مُوكَّلًا بطعامهم وشرابهم، يُنزل عليهم من السماء المنَّ وطيور السلوى لمأكلهم، ويُفجِّر الصخر أمامهم لينبثق منه ماء لعطشهم، ثم سكن بين ظهرانيهم في خيمة كيلا يبرحهم، وكان يتدخَّل في المعارك الحربية إلى جانبهم. الأمر الذي جعله يبدو في الأسفار الخمسة أقرب إلى قائد ملحمي منه إلى إله عُلوي. كما تُعطينا هذه الأسفار انطباعًا قويًّا بأنَّ تاريخ الكون بأسره وتاريخ البشرية منذ آدم، لم يكُن إلا مُقدِّمة لتحرير بني إسرائيل وقيادتهم إلى كنعان، لكي يؤسِّس الرب بهم مملكته على الأرض ويكونوا له أحبارًا في هذه المملكة: «وأنا حملتكم على أجنحة النسور وجئت بكم إليَّ، فالآن إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي، تكونوا لي خاصة من بين جميع الشعوب. فإنَّ لي كل الأرض وأنتم تكونون لي مملكة كهنةٍ وأمة مقدسة» (١٩: ٣–٦). في هذه المملكة ينتظر يهوه أن يتربَّع على العرش ويحكم بشكل مباشر: «ما أجمل قدمي المبشر على الجبال، المخبر بالخلاص، القائل لصهيون قد ملك إلهك» (أشعيا، ٥٢: ٧). وأيضًا: «ارتعدي قدامه يا كل الأرض. قولوا بين الأمم: الرب قد ملك» (المزمور ٩٦: ٨). «الرب قد ملك. فلتبتهج الأرض … قدامه تذهب نار وتحرق أعداءه حوله» (المزمور ٩٧: ١–٢). «الرب قد ملك. ترتعد الشعوب. هو جالس على الكروبيم. تتزلزل الأرض» (المزمور ٩٩: ١).

غیر أنَّ خطة يهوه لم تَسِرْ على ما يُحبُ ويشتهي، لأنَّ الشعب الذي اختاره لم يتحمَّل عبء الشريعة، وراح يتذمر على موسى وإلهه منذ خروجه من مصر، فهو يُفضِّل حياة العبودية مع الطمأنينة على الحرية مع المشقة والخطر: «وقالوا لموسى: هل لأنَّه ليست قبور في مصر أخذتنا لنموت في البرية؟ ماذا صنعت بنا، حتى أخرجتنا من مصر؟ أليس هذا هو الكلام الذي كلمناك به في مصر: كُفَّ عنَّا فنخدم المصريين، لأنَّه خيرٌ لنا أن نخدم المصريين من أن نموت في البرية» (الخروج، ١٤: ١١–١٢). ورغم كل ما فعله يهوه من أجل شعبه، فقد راح هذا الشعب يعبد آلهة أخرى خلال كل الفترة التي تُغطِّيها الأسفار التوراتية. وهذا ما صاغ منذ البداية نوعًا من العلاقة المتوترة بشكل دائم بين الإله وشعبه، استمرَّت حتى نهايات التاريخ اليهودي. فكان الرب يُعاقبهم كلما زاغوا عن سبيله وأهملوا وصاياه، فيضربهم بالوباء ويرسل عليهم الكوارث، ثم يمدُّ لهم الحبل عند توبتهم وعودتهم إليه.

ويدور تاريخ بني إسرائيل في الحلقة المفرغة نفسها: عصيان – غضب وعقاب – توبة – عصيان … وذلك حتى تشكيل المملكة المُوحَّدة التي ضمَّت القبائل في دولة واحدة، تعاقب على العرش فيها شاؤل فداود فسليمان. ولقد بدا لأول وهلة أنَّ مُلك يهوه وشيك التحقُّق من خلال هذه المملكة التي أسبغ عليها خيال المحور التوراتي كل خصائص العصر الذهبي الكاملز نقرأ في سفر الملوك الأول: «فتعاظم سليمان على كل ملوك الأرض في الغنى والحكمة، وكانت كل الأرض ملتمسة وجه سليمان، وكانوا يأتون إليه كل واحد بهديته بآنية فضة وآنية ذهب وحلل وسلاح وأطياب سنة فسنة، وجعل الملك الفضة في أورشليم مثل الحجارة وجعل الأرز مثل الجميز الذي في السهل لكثرته» (٢٣–٢٧). ولكن حلم يهوه في مملكة أرضية قد تلاشي لأنَّ سليمان انحرف عن سبيل الرب وعبد آلهة أخرى: «فقال الرب لسليمان: من أجل أنَّ ذلك عندك ولم تحفظ عهدي، فإني أُمزِّق المملكة عنك تمزيقًا وأعطيها لعبدك» (١١: ٩–١١).

تتمزق مملكة سليمان بعد وفاته وتنقسم إلى مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا، وتدخل هاتان المملكتان في صراع دائم وحروب طاحنة ويسير ملوكهما وعامتهما على خطى من سبقهم في إدارة ظهرهم لإله موسى، فيحكم عليهما بالخراب والسبي، ويستخدم في ذلك مملكة آشور التي دمَّرت السامرة عاصمة إسرائيل وسَبَتْ أهلها، كما يستخدم بعد ذلك بابل التي دمَّرت أورشليم وسَبَتْ أهل يهوذا. نقرأ في سفر إرميا: «قد رجعوا إلى آثام آبائهم الأولين، وقد ذهبوا وراء آلهة أخرى ليعبدوها. قد نَقض بيت إسرائيل وبيت يهوذا عهدي. لذا أنا جالب عليهم شرًّا لا يستطيعون أن يخرجوا منه، ويصرخون إليَّ فلا أسمع لهم … لأنَّه بعدد مدنك يا يهوذا صارت آلهتك» (إرميا، ١: ٩–١٣). وأيضًا: «قد جعلتُ وجهي على هذه المدينة — أورشليم — للشر لا للخير يقول الرب. ليد ملك بابل تُدفع فيحرقها بالنار» (٢١: ٨–١٠).

وهكذا يغدو ملكوت الرب أشبه بسراب خادع، كلَّما اقترب منه بنو إسرائيل صار أبعد عنهم. فمسببو إسرائيل لم يرجعوا قط إلى مواطنهم بل تفرَّقوا وضاع أثرهم، أمَّا مسببو يهوذا فقد سمح لهم الملك قورش الفارسي بالعودة إلى ديارهم، حيث شكَّلوا ولاية فارسية صغيرة دُعيت بمقاطعة اليهودية، قامت على جزء من دولة يهوذا القديمة، ولم تكن إلَّا أثرًا باقيًا من مملكة قديمة زالت إلى الأبد ولا أمل في إحيائها. ثمَّ ما لبثت الاستقلالية الشكلية التي مُنحت لمقاطعة اليهودية خلال العصر الفارسي أن زالت بعد إلحاقها بدولة السلوقيين، التي ورثت أملاك الإمبراطورية الفارسية في مناطق غربي الفرات، وعندما حاول السلوقيون إضفاء الطابع الهيلينستي على المنطقة، ثار اليهود تحت قيادة المكابيين (= الأسرة الهشمونية) ودخلوا حرب استقلال طويلة أنهكت المقاطعة ودمرَّت بناها التحتية التي لم تكن قد تعافت تمامًا، ثم جاء الفتح الروماني ليضع حدًّا لكل أمل لليهود بالاستقلال وإعادة بناء المملكة.

خلال هذه الأحداث كانت فكرة تحقيق ملكوت الرب على الأرض تُدفع نحو الآفاق غير المنظورة للمستقبل، إلى أن صارت مترافقة مع فكرة جديدة على الأيديولوجيا التوراتية هي فكرة نهاية التاريخ، التي تسرَّبت إليها من الزرادشتية خلال فترة السبي والاحتكاك بالفرس. ففي نهاية التاريخ يظهر المُخلِّص المنتظر الذي بشَّرت به الزرادشتية، ولكن لا لكي يأتي بالزمن الدنيوي إلى نهايته ويتغلَّب على قوى الشر الكونية ويُساعد على تخليص الكون والإنسانية، كما هو شأنه في العقيدة الزرادشتية، بل لكي يُنصَّب ملكًا على اليهود ويُحارب أعداءهم في كل مكان، فيرفع الشعب المختار فوق شعوب الأرض قاطبة، ويُمهِّد لحلول ملكوت الرب. إنَّه «المسيا» أي مسيح الرب٩ الذي يمسح ملكًا زمنيًّا على إسرائيل ويُحقِّق مملكتها الأبدية، ورغم أنَّ لقب مسيح الرب كان يُطلق على ملوك إسرائيل الأوائل الذين اختارهم يهوه بنفسه للملك مثل شاؤل وداود «كما أطلقه محرر سفر عزرا على الملك قورش الفارسي الذي سمح لمسببي يهوذا بالعودة إلى أورشليم» إلَّا أنَّه صار فيما بعد وقفًا على مُخلِّص نهاية التاريخ.

إضافة إلى الصفة الزمنية للمسيح المنتظر كمحرر سياسي يأتي من نسل داود، فإنَّ محرري أسفار الأنبياء، بشكل خاص، يضفون عليه خصائص قدسية تجعله أقرب إلى عالم الآلهة منه إلى عالم البشر، فهو يولد من عذراء مثل المُخلِّص الزرادشتي ويُدعى عمانوئيل التي تعني: الله معنا، لأنَّه يُمثِّل الحضور الإلهي بين الناس. نقرأ في سفر إشعيا: «هي ذي العذراء تحبل وتلد ابنًا، ويكون اسمه عمانوئيل» (٧: ١٤). وأيضًا: «لأنَّه يولد لنا ولد ونُعطى ابنًا، وتكون الرياسة على كتفَيه ويُدعى اسمه عجيبًا مشيرًا، إلهًا قديرًا، أبًا أبديًّا، رئيس السلام. لنمو الرئاسة، ولسلام لا انقضاء له على عرش داود» (٩: ٦–٧). وهو يخرج من نسل داود بن يسِّي: «ويخرج قضيب من جذع يسِّي وينبت غصن من أصوله، ويحل عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب، ولذته تكون في مخافة الرب … يقضي بالعدل للمساكين ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض» (١: ١–٤). ونقرأ في نبوءة ميخا أنَّ ولادة المُخلِّص تكون في بلدة بيت لحم: «وأنتِ يا بيت لحم، إنَّك صغيرة في ألوف يهوذا، ولكن منكِ يخرج لي من يكون متسلطًا على إسرائيل … ويقف ويرعى بعزة الرب وبعظمة اسم الرب إلهه، فيكونون ساكنين لأنَّه حينئذٍ يتعاظم إلى أقاصي الأرض» (٥: ١–٤).

ونقرأ في نبوءة دانيال أول إشارة إلى تسمية المُخلِّص بابن الإنسان، وهي تسمية ستعود للظهور في الأسفار التوراتية غير القانونية وفي العهد الجديد بعد ذلك: «كنت أرى أنَّه وُضِعت عروش وجلس القديم الأيام (= الرب). لباسه أبيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف النقي، وعرشه لهيب نارٍ بكراتُه نار متقدة. نهر نارٍ جرى وخرج من قدامه. ألوف ألوف تخدمه، وربوات ربوات وقوف قدامه … وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام، فقربوه قدامه، فأُعطي سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبَّد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي لن يزول وملكوته لا ينقرض» (٧: ٩–١٠ و١٣–١٤).

وفي المزمور الثاني يقول الرب عن مسيحه إنَّه ابنه وإنَّه اليوم قد ولده: «إني أُخبر من جهة قضاء الرب. قال لي أنت ابني، أنا اليوم ولدتك. اسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك، وأقاصي الأرض ملكًا لك، تحطمهم بقضيب من حديد، مثل إناء خزاف تكسرهم» (٢: ٧–٩). لا يوضح كاتب هذا المزمور هوية المتحدث بضمير المتكلِّم، فقد يكون الملك داود المُلقَّب بمسيح الرب، وقد يكون ابنه سليمان لأنَّنا نقرأ في سفر صموئيل الثاني قول يهوه عن سليمان: «هو يبني بيتًا لاسمي وأنا أثبت مملكته إلى الأبد. أنا أكون له أبًا وهو يكون لي ابنًا» (٧: ١٣–١٤). وقد يكون المتكلم هو مسيح آخر التاريخ. وفي جميع الأحوال فإنَّ إطلاق لقب «ابن الله» مجازًا على المسيح المُخلِّص يأخذ مشروعيته من مثل هذه المقاطع.

يُستهل ملكوت يهوه على الأرض بما تدعوه أسفار الأنبياء بيوم الرب، ففي ذلك اليوم يتدخَّل يهوه بشكل مباشر لإفناء الأمم والشعوب من أعداء بني إسرائيل. وها هو يبدأ هجومه الكاسح بصرخة الحرب: «قريب يوم الرب العظيم قريب، وسريع جدًّا صوت يوم الرب. يصرخ حينئذٍ الجبار (صراخًا) مُرًّا، ذلك اليوم يوم سخطٍ، يوم ضيقٍ وشدة، يوم خرابٍ ودمار، يوم ظلامٍ وقتام، يوم سحابٍ وضباب، يوم بوقٍ وهتاف على المدن المحصنة وعلى الشرفات الرفيعة، (يوم) أضايق الناس فيمشون كالعُمي لأنَّهم أخطئوا إلى الرب فيسفح دمهم كالتراب ولحمهم كالجلَّة، لا فضتهم ولا ذهبهم يستطيع إنقاذهم في يوم غضب الرب، بل بنار غيرته تُؤكل الأرض كلها، لأنَّه يصنع فناءً مباغتًا لكل سكان الأرض» (صفنيا، ١: ١٤–١٨).

ويترافق هجوم يهوه مع حلول عدد من الكوارث الطبيعية والكونية، ممَّا رأيناه في التصورات الزرادشتية عند نهاية الأزمنة. نقرأ في سفر إشعيا: «ولولوا لأنَّ يوم الرب قريب، قادم كخراب من القادر على كل شيء … هو ذا يوم الرب قادم، قاسيًا بسخطٍ وحُمو غضب، ليجعل الأرض خرابًا ويُبيد منها خُطاتها. فإنَّ نجوم السماوات لا تُبرز نورها، تظلم الشمس عند طلوعها والقمر لا يلمع بضوئه … أزلزل السماوات وتتزعزع الأرض من مكانها في سخط رب الجنود وفي يوم حُمو غضبه، ويكونون كظبي طريد وكغنمٍ بلا من يجمعها» (١٣: ٩–١٤). وأيضًا: «هو ذا الرب يُخلِّي الأرض ويفرغها ويقلب وجهها ويُبدِّد سكانها» (٢٤: ١). وأيضًا: «عليك رعب يا ساكن الأرض، لأنَّ ميازيب من العلاء انفتحت وأسَّس الأرض تزلزلت، انسحقت الأرض انسحاقًا، تشققت الأرض تشققًا، تزعزعت الأرض تزعزعًا، ترنَّحت الأرض ترنحًا كالسكران، وتدلدلت كالعرزال وثقُل عليها ذنبها، تسقط ولا تقوم» (٢١: ١٧–٢٠). وأيضًا: «اقتربوا أيُّها الأمم لتسمعوا، وأيَّتها الشعوب أصغوا، لتسمع الأرض وملؤها المسكونة وكلُّ ما تُخرجه، لأنَّ للرب سخطًا على كل الأمم وحُمُوًّا على جيشهم، قد حرَّمهم دفعهم للذبح، فقتلاهم تُطرح وجيفهم تصعد نتانتها وتسيل الجبال بدمائهم، ويفنى كل جند السماوات وتلتفُّ السماوات كدرجٍ (= لفافة ورق)، وكل جندها ينتثر» (٣٤: ١–٥).

على أنقاض الأرض المهدمة وعلى أشلاء قتلى الشعوب تُقام مملكة يهوه، ويتربَّع الرب على عرشه ملكًا في جبل صهيون: «ويكون في ذلك اليوم أنَّ الرب يُطالب جند العلاء في العلاء وملوك الأرض على الأرض … ويُجمعون جميعًا كأسارى في سجن ويغلق عليهم في حبس، ثم بعد أيام كثيرة يتعهدون، ويخجل القمر وتخزى الشمس لأنَّ رب الجنود قد ملك في جبل صهيون، وفي أورشليم وقُدام شيوخه قد مُجِّد» (٢٤: ٢١–٢٣).

عند ذلك يُعيد الرب ترميم الطبيعة ليرتع فيها شعبه المختار: «تفرح البرية والأرض اليابسة، ويبتهج القفر ويزهر كالنرجس، يزهر إزهارًا ويبتهج ويُرنَّم … الانتقام يأتي، جزاء الله يأتي، هو يخلِّصكم، حينئذٍ تتفتح عيون العمي وآذان الصم تتفتح، حينئذٍ يقفز الأعرج كالأيل، ويترنَّم لسان الأخرس لأنَّه قد انفجرت في البرية مياه، وأنهار في القفر، ويصير السراب أجمًا والمعطشة ينابيع ماء. ولكن هناك سكة يُقال لها الطريق المقدسة، لا يعبر فيها نجس بل هي لهم … ومفديو الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون بترنُّم وفرح أبدي على رءوسهم» (٣٤: ١–١٠).

وبعد أن يجمع يهوه إليه شراذم الشعب المختار من كل مكان ويريحهم في أرضهم إلى الأبد، فإنَّه يسوق من بقي من الأمم والشعوب إلى إسرائيل ليكونوا عبيدًا في خدمة اليهود. نقرأ في إشعيا: «ويكون في ذلك اليوم أنَّ السيد يُعيد يده ثانية ليقتني بقية شعبه التي بقيت من آشور ومن مصر ومن كوش … إلخ. ويجمع منفيي إسرائيل ويضم مشتتي يهوذا من أربعة أطراف الأرض لأنَّ الرب سيرحم يعقوب ويختار إسرائيل ويريحهم في أرضهم، فتُقرن بهم الغرباء وينضمون إلى بيت يعقوب، ويأخذهم شعوب ويأتون بهم إلى موضعهم، ويمتلكهم بيت إسرائيل في أرض الرب عبيدًا وإماءً ويسبون الذي سَبَوهم ويتسلطون على ظالميهم» (١١: ١١–١٢؛ و١٤: ١–٢). وأيضًا: «ويكون في ذلك اليوم أنَّه يضرب ببوق عظيم فيأتي التائهون في أرض آشور والمنفيون في أرض مصر، ويسجدون للرب في الجبل المقدس … قومي استنيري (يا أورشليم)، لأنَّه قد جاء نوركِ ومجد الرب أشرق عليكِ … تسير الأمم في نوركِ، والملوك في ضياء إشراقكِ … وبنو الذين قهروك يسيرون إليك خاضعين، وكل الذين أهانوك يسجدون لدى باطن قدميك» (٢٧: ١٣ و٦٠: ١–٣ و١٤). أمَّا الحالة الفردوسية التي تعقب حلول ملكوت الرب فلا تُشبه الجنة الزرادشتية المعدة لفاعلي الخير جميعهم، بل هي وقف على أرض يهوه المقدسة، وجبل صهيون الذي يقف عليه سليل داود بن يسِّي راية للشعوب: «فيسكن الذئب مع الخروف ويربض النمر مع الجدي والعجل، والشبل والمسمن معًا وصبي صغير يسوقهما. والبقرة والدبة ترعيان، تربض أولادهما معًا. والأسد كالبقر يأكل تبنًا. ويلعب الرضيع على سرب الصل، ويمد الفطيم يده على جحر الأفعوان. لا يسوءون ولا يُفسدون في حبل قدسي لأنَّ الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تُغطي المياه البحر … ويكون في ذلك اليوم أنَّ أصل يسِّي القائم راية للشعوب، إياه تطلب الأمم ويكون محله مجدًا» (١١: ٦–١٠).

على هذه الطريقة ينتهي التاريخ، وإلى مثل هذه النتيجة يئول سعي البشرية وشقاؤها عبر مراحل التاريخ. أمَّا الزمن الدنيوي فمستمر بعد زوال التناقضات بين يهوه والآلهة الأخرى، وبين الشعب المختار وبقية الشعوب التي تسجد لدى باطن قدمي أورشليم.

(٦) التصورات الآخروية

إنَّ خلو مفهوم التاريخ في الأيديولوجيا التوراتية من صراع الخير والشر، ومن فكرة نهاية الزمن التي يعقبها تحويل كامل للوجود إلى مستوى ماجد وجليل، وافتقاد الإله التوراتي إلى أهم الخصائص والصفات التي تُقرِّبه من مفهوم «الله»، وأهمها الخير والعدالة، يستتبع خلو هذه الأيديولوجيا من فكرة خلاص الروح وخلاص الإنسانية جمعاء من سلطان الموت ودخولها في الأبدية. فالإله التوراتي لم يتدخَّل في تاريخ الإنسانية إلَّا في بداياته وبشكل سلبي لا إيجابي، وعندما قرَّر التدخل في التاريخ بشكل فعلي، اقتصرت خطته التاريخية على قيادة بني إسرائيل بنفسه وتحقيق مملكته على الأرض من خلالهم. من هنا فإنَّ هذا الإله غير معني بالإنسان، ومفهوم الإنسانية غائب تمامًا عن الفكر التوراتي. فإذا أتينا إلى ما تجلبه نهاية التاريخ للشعب المختار، لما وجدنا فيها سوى مملكة أرضية يوتوبية لا عزاء فيها للروح التي تبقى أسيرة لسلطان الموت.

تنسج التصورات التوراتية عن حياة ما بعد الموت على منوال التصورات الرافدينية والسورية القديمة، فأرواح الموتى تذهب إلى العالم الأسفل المدعو بالعبرية شيؤل، والتي ترد في الترجمات العربية على عدة أشكال: فهي الهاوية، والهاوية السفلي، والجب الأسفل، والحفرة السفلى. هذه الهاوية فاغرةٌ فاها لتلتهم كل من دنت ساعته ونفذت أيامه المعدودة، أو كل من حُمَّ عليه القضاء وهو في عز شبابه. فعلى حد قول سفر الأمثال: «الهاوية والهلاك لا يشبعان» (٢٧: ٢٠). وأيضًا: «ثلاثةٌ لا تشبع، وأربعة لا تقول كفى، الهاوية والرحم العقيم وأرض لا تشبع ماءً، والنار لا تقول كفى» (٣٠: ١٦). وهي أرض ظلمة وديجور لا يرى أهلها نورًا: «قد شبعت من المصائب نفسي وحياتي إلى الهاوية دنت … وضعتني في الجب الأسفل، في ظلمات في أعماق» (أيوب، ١٠: ٢١–٢٢). وسكَّانها ظلال وأخيلة: «الهاوية من أسفل مهتزة لك، لاستقبال قدومك، منهضة لك الأخيلة» (إشعيا، ١٤: ٩). والإقامة فيها أبدية والطريق إليها ذو اتجاه واحد: «هكذا الذي ينزل إلى الهاوية لا يصعد ولا يرجع بعدُ إلى بيته» (أيوب، ٧: ٩–١٠). وإليها تهبط أرواح الأشرار والأخيار معًا، وأرواح مختاري الرب وأنبيائه في ذلك مثل الفجار والعصاة. يقول يعقوب عندما نقل إليه أولاده خبر موت يوسف: «فمزق يعقوب ثيابه وناح على ابنه أيامًا كثيرة. … وقال إني نازل إلى ابني نائحًا إلى الهاوية السفلى» (التكوين، ٣٧: ٣٦).

هذا العالم الأسفل هو مملكة مستقلة لا سلطان لإله التوراة عليها، وأهلها لا يعرفون الرب ولا يُسبِّحون بحمده، وهو من جانبه قد نسيهم ومن يده انقطعوا: «بين الأموات فراشي مثل القتلى المضطجعين في القبر الذين لا تذكرهم بعدُ وهم من يدك انقطعوا … أفلعلك يا رب للأموات تصنع عجائب أم الأخيلة تقوم تمجِّدك؟ هل يُحدِّث في القبر برحمتك أو بحقك في أرض النسيان. أمَّا أنا فإليك يا رب صرختُ وفي الغداةِ صلاتي تتقدَّمك» (المزمور ٨٨: ٥–١٣). «لأنَّ الهاوية لا تحمدك، الموت لا يُسبحك، لا يرجو الهابطون إلى الجب أمانتك. الحي هو الذي يحمدك كما أنا اليوم» (إشعيا، ٣٨: ١٨–١٩). «في عز أيامي أذهب إلى أبواب الهاوية، قد أُعدمتُ بقية أعوامي، وقلت لا أرى الرب، الرب في أرض الأحياء» (إشعيا، ٣٨: ٩–١٠). «ليس الأموات يُسبحون الرب، ولا من ينحدر إلى أرض السكون. أمَّا نحن فنبارك الرب من الآن وإلى الدهر» (المزمور ١١٥: ١٧). «إليك يا رب أصرخ، وإلى السيد أتضرع. ما الفائدة من دمي إذا نزلتُ إلى الحفرة؟ هل يحمدُك التراب هل يخبر بحقك؟ استمع يا رب وارحمني … لكي تترنم لك روحي ولا تسكت» (المزمور ٣٠: ١٠–١٢).

ونظرًا لغياب فكرة البعث والحساب والعالم الآخر، فإنَّ ثواب الرب وعقابه يجري على هذه الأرض وخلال حياة الناس، ويظهر ثواب الرب بشكل رئيسي بطول العمر: «أكرم أباك وأمك لكي يطول عمرك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك». (الخروج، ٢٠: ١٢). «مخافة الرب تزيد الأيام وسنو المنافقين تَقصر» (الأمثال، ١٠: ٢٧). «يا بني لا تنسَ شريعتي ولا ينسَ قلبك وصاياي، فإنَّها تزيدك طول أيام وسني حياة وسلامًا» (الأمثال، ٣: ١–٢). ومع ذلك قد نجد الأشرار يكافئون بطول الأيام ورغد العيش والأخيار يموتون بحسرة ولم يذوقوا سعادة قط. نقرأ في سفر أيوب: «لماذا تحيا الأشرار ويشيخون، نعم، ويتجبرون قوة؟ نسلهم قائم أمامهم معهم، وذريتهم في أعينهم، بيوتهم آمنة من الخوف وليس عليهم عصا الله» (٢١: ٧–٩). والفريقان يمضيان إلى آخرة واحدة، كما يتابع أيوب فأين العدالة: «هذا يموت في عين كماله كله مطمئن وساكن، أحواضه ملآنة لبنًا ومخ عظامه طري، وذاك يموت بنفس مرَّة ولم يذق خيرًا. كلاهما يضطجعان معًا في التراب والدود يغشاهما» (٢١: ٢٣–٢٦). وهذا الاضطجاع هو الهجعة التي لا قيام منها أيضًا: «الإنسان يُسلم الروح فأين هو؟ قد تنفذ المياه من البحر والنهر يجف و(لكن) الإنسان يضطجع ولا يقوم» (١٤: ١٠–١٢). ويُشبِّه سفر الجامعة موت الإنسان بموت البهيمة لأنَّ الحادثة تودي بهما إلى الفناء: «موت هذا كموت ذاك ونسمة واحدة للكل، فليس للإنسان مزية على البهيمة لأنَّ كليهما باطل، يذهب كلاهما إلى مكان واحد» (٣: ١٩–٢٠).

على أنَّ إشارات قليلة وغامضة عن خلود الروح ترد في أسفار الأنبياء، منها ما نقرؤه في سفر دانيال: «في ذلك الوقت يقوم ميخائيل الرئيس العظيم (رئيس الملائكة) القائم لبني شعبك، ويكون زمان ضيق لم يكن (مثله) منذ كانت أمةٌ إلى ذلك الوقت … وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الأبدية، وهؤلاء إلى العار للازدراء الأبدي» (١٢: ١–٢). مثل هذه الإشارات القليلة والغامضة لم تؤثر على موقف الأيديولوجيا الرسمية من مسألة خلود الروح، ولكنَّها فتحت الباب واسعًا أمام الأسفار غير القانونية لتُعيد النظر بشكل جذري في هذه المسألة، على ضوء المعتقد الزرادشتي الذي نهلت منه بحريةٍ تامة بعيدًا عن الرقابة الرسمية.

خلاصة

إنَّ أفضل ما نصف به الأيديولوجيا الدينية التوراتية هو أنَّها زرادشتية مقلوبة على رأسها. فالإله الواحد الشمولي العالمي للمعتقد الزرادشتي قد صار إلهًا واحدًا لبني إسرائيل. وتاريخ الكون الدينامي الذي يدفعه صراع الخير والشر نحو نهاية الأزمنة، قد تحوَّل إلى تاريخ دينامي ناقص يتوَّج بسيادة الشعب المختار على كل الأمم وتحقيق ملكوت الرب على الأرض. والشريعة الزرادشتية ببنودها التحريمية جميعها قد صارت شريعة موسى، ولكن بعد إفراغها من بواعثها ومعانيها كسلاح في مقاومة الشيطان وقوى الموت والمرض والفساد، وتحويلها إلى تحريمات مفروضة من قبل الرب، على المؤمن التقيد بها دون تفكير أو مساءلة من أي نوع.

١  إنَّ لفظ الجلالة «الله» أينما ورد في النص العربي للتوراة، هو ترجمة للكلمة الكنعانية «إيل»، أو الكلمة الأخرى «إيلوهيم» المفضلة لدى محرري الأسفار الخمسة. و«إيل» هو اسم كبير آلهة الكنعانيين، على ما نعرف من نصوص أوغاريت وغيرها من النصوص السورية القديمة.
٢  سوف نوضح في الفصل الأخير الفارق الكبير بين قصة خلق الإنسان في التوراة وقصة خلق الإنسان في القرآن الكريم، سواء من حيث الشكل أم من حيث المضمون وكذلك فيما يتعلق بقصة قابيل وهابيل.
٣  لقد استخدم مؤلف هذا الكتاب كلًّا من الترجمة البروتستانتية والترجمة الكاثوليكية للتوراة، فعلى من وجد اختلافًا في الشاهد المقتبس عمَّا لديه، أن يُراجع الموضع المناظر في الترجمة الأخرى.
٤  تعبير «انضمَّ إلى قومه»، يعني مات، لأنَّ الميت يهبط إلى العالم الأسفل الذي سبقه إليه الموتى من قومه.
٥  تعبير عرفه وعرفها، يُستخدم في النص التوراتي للدلالة على الفعل الجنسي، وذلك كقوله: فعرف آدم حواء امرأته فولدت قاين (التكوين، ٤: ١).
٦  عن الجولان في الأرض باعتباره من مهام الملائكة، نقرأ في سفر زكريا: «فقلت يا سيدي ما هؤلاء؟ قال الملاك الذي كلمني: أنا أريك ما هؤلاء … هؤلاء الذين أرسلهم الرب للجَوَلان في الأرض. فأجابوا ملاك الرب وقالوا: قد جُلنا في الأرض فإذا الأرض كلها مستريحة وساكنة» (١: ٩–١١).
٧  نلاحظ من هذا المقطع اعتراف المحرر التوراتي بأنَّ أهل يهوذا جميعًا بمن فيهم الملوك والكهنة والأنبياء لم يكونوا على عبادة يهوه.
٨  لقد قلنا في موضع آخر من هذا النص أنَّ لفظ الجلالة الله أينما ورد في الترجمة العربية للتوراة، هو ترجمة للاسم إيل أو إيلوهم. وتعبير الله القدير أعلاه هو ترجمة للتعبير العبري إيل شداي، أي إيل الشديد أو القوي.
٩  نسبة إلى طقس المسح بالزيت الذي يمرُّ به الملك الجديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤