الفصل السابع

يهوه: شيطان الغنوصية

في الوقت الذي كان فيه مؤلفو الأسفار التوراتية المنحولة يعملون على إحداث تغييرات أساسية في الأيديولوجيا التوراتية، مع الحفاظ على جوهرها إلى هذا الحد أو ذاك، كان الغنوصيون يؤسسون لتيار روحي جديد يقوم على نقد جذري لليهودية وللمسيحية اليهودية على حد سواء. نشأ هذا التيار في الإسكندرية ثم امتدَّ إلى سورية وبلاد الرافدين، وساهم في إغنائه عدد من المُعلمين الكبار من أمثال فالنتينوس وباسيليديس وبتولمايوس. ولقد نافست الغنوصية في كل مكان المسيحية خلال القرون الأولى للميلاد، وشكَّلت تهديدًا حقيقيًّا للكنيسة الناشئة قبل أن تتلاشي إثر حملة قمع شاملة قادتها الكنيسة في القرن السادس الميلادي، وقد أدَّت هذه الحملة التي طالت الأشخاص والكتب إلى إتلاف معظم المخطوطات الغنوصية، وأمَّا ما تبقَّى منها فقد ضاع أثره تدريجيًّا بعد فترة لا بأس بها من التداول السري، وذلك بسبب صعوبة إنتاج نُسخ جديدة منه، لهذا فقد بقي المهتمون بالتأريخ للفكر الغنوصي يعتمدون على ما كتبه آباء الكنيسة، في معرض نقدهم للغنوصية وما أوردوه من مقتطفات أمينة من كُتبها الأساسية. ولكن في عام ١٩٤٥ تمَّ اكتشاف مكتبة غنوصية بموقع نجع حمادي بمصر، احتوت على اثنين وخمسين مخطوطة مُخبَّأة في جرارٍ فخارية، أمكن إرجاع تاريخها إلى حوالي عام ٤٠٠ ميلادية. وهذه المخطوطات عبارة عن ترجمة قبطية عن أصول يونانية. ومنذ عام ١٩٦٤ عكف الباحثون على ترجمة هذه الثروة الفكرية الهامة، وصارت متاحة للقراء والاختصاصيين في مجلد واحد ضخم صدر بالإنكليزية بإشراف وتحرير J. M, Robinson.١
والغنوصية Gnosticism مشتقة من Gnosis، وهي كلمة من أصل يوناني تدل على المعرفة بشكل عام، ولها أشباه في بقية اللغات الهندو-أوروبية، مثل قولنا بالإنكليزية Know أي يعرف وKnowledge أي معرفة. على أنَّ المعرفة التي تُشير إليها المفاهيم الغنوصية هي أقرب إلى مفهوم «العرفان» بمصطلح التصوُّف الإسلامي، أي إنَّها فعالية روحانية تقود إلى معرفة الأسرار الإلهية من خلال تجربة باطنية تقود إلى الكشف والاستنارة. ففي مقابل التزام اليهودي بالشريعة وأدائه للطقوس، وفي مقابل إيمان المسيحي بيسوع المُخلِّص، فإنَّ الغنوصي ينكفئ على ذاته في خبرة عرفانية تقوده إلى معرفة الله الحي ذوقًا وكشفًا وإلهامًا. هذه المعرفة هي وحدها الكفيلة بتحرير الروح الحبيسة في إطار الجسد المادي والعالم المادي الأوسع، لتعود إلى العالم النوراني الذي صدرت عنه.

ولكن الله الحي الذي يبحث عنه الغنوصي في داخله، ليس الإله يهوه صانع هذا العالم المادي، بل الله العلي الذي يتجاوز ثنائيات الخلق ويسمو فوقها. فهُم يعتقدون أنَّ هذا العالم الناقص والمليء بالشرور ليس من صنع الله، بل من صنع إله أدنى هو إله التوراة، الذي يطابقون بينه وبين أنجرا ماينو شيطان الزرادشتية، ويدعونه بأمير الظلام وحاكم العالم المادي، ويصوِّرونه على هيئة ملكٍ متربع على عرش العالم يُحيط به مساعدوه من قوى الظلام المدعوون بالأراكنة «مفردها أركون أي الحاكم». هذا الإله الخالق هو نقيض إله الأنوار الأعلى الذي لا يحده وصف ولا يحيط به اسم، وهو يعمل دومًا على حبس النور في طبقات المادة الكثيفة التي خلق منها العالم. وعندما جاء إلى خلق الإنسان في نهاية عمل التكوين، صنع جسمه من مادة الأرض الظلامية، ثم حبس روحه التي أخذها من نور الأعالي المسروق في ذلك الجسد، ولكي يُبقيه في حجب الجهل فقد فرض عليه الشريعة، التي تشغله عن العرفان واكتشاف الجوهر الحقيقي للروح.

فيما عدا الغنوصية المانوية التي تحوَّلت على يد معلمها «ماني» إلى ديانة مؤسساتية خلال أواسط القرن الثالث الميلادي، فإنَّ الفكر الغنوصي لم يُطوِّر أيديولوجيا دينية موحَّدة ومنمطة، وبقيت الفرق الغنوصية أقرب إلى الفرق الصوفية التي يتبع كل منها معلمًا روحيًّا ذا نهجٍ خاص وفكرٍ متميز، مع اشتراكها جميعًا بعددٍ من الأفكار العامة التي ميَّزها عن غيرها من التيارات الدينية والفلسفية، التي كانت تتمازج وتتلاقح خلال فترة تُعدُّ من أخصب فترات التاريخ الروحي والثقافي للحضارة الإنسانية. ونظرًا لخلو الغنوصية من التعاليم والأيديولوجيا الناجزة، فقد تطوَّرت ضمنها اتجاهات متنوعة بينها الوثني واليهودي والمسيحي، وجميعها تدين بأصولها إلى شكل من الغنوصية المُبكِّرة هي الحكمة الهرمزية، التي قامت على تعاليم وأفكار شخصية يلفها الغموض هي هرمز المثلث الحكمة. وإلى هرمز هذا تُنسب مجموعة من رسائل الحكمة تمتزج فيها أفكار الأفلاطونية المحدثة بالميثولوجيا المصرية في أشكالها المتأخرة ذات الطابع السراني المسطيقي. وقد كُتبت هذه الرسائل في مطلع القرن الأول قبل الميلاد في مدينة الإسكندرية. ولهرمز المثلث الحكمة قول مأثور تداولته فيما بعد الفرق المسطيقية وصولًا إلى الصوفية الإسلامية وهو: «إنَّ من يعرف نفسه يعرف الكلي»، ولقد جعل المتصوِّفة المسلمون من هذا القول حديثًا نبويًّا لا سند له: «من عرف نفسه عرف ربه.»٢

اتخذت الغنوصية شكلها الناضج على يد معلمها الكبير فالينتينوس، الذي ولد حوالي عام ١٠ ميلادية بمنطقة الدلتا بمصر، من أسرةٍ ذات أصول يونانية، وتلقَّى علومه بالإسكندرية، مدينة العلم والثقافة لذلك العصر، وبؤرة إشعاع الفكر لأفلاطوني المحدث والفكر الهرمسي. اتصل بالمسيحيين واعتبر نفسه مسيحيًّا، ولكنَّه شكَّل لنفسه شبكة من الأخويات الغنوصية ضمن كنيسة الإسكندرية، وأسَّس أكاديمية للبحث الحر. اعتبر فالينتينوس نفسه المُفسِّر الحقيقي لتعاليم المسيح، وبلغ من ثقته بنفسه أنَّه قد دعا لنفسه كمرشح لكرسي الباباوية في أواسط القرن الثاني الميلادي، رغم أنَّ تعاليمه تُشكِّل انشقاقًا كاملًا عن لاهوت العهد القديم، وتفسيرًا مغرقًا في التطرف لحياة يسوع ورسائل بولس الرسول. يرى فالينتينوس أنَّ بؤس الإنسان ناجم عن سجن روحه في المادة المُظلِمة من قبل يهوه، إله العهد القديم وخالق العالم المادي، ولكن الخلاص متاحٌ أمام كل فرد من خلال الغنوص أو العرفان الداخلي، ورغم أنَّ هذا العرفان ذو طابع فردي في أساسه ويؤدي إلى خلاص فردي في النهاية، إلَّا أنَّ كل فعالية عرفانية فردية تؤثِّر على صيرورة الكون بكامله وتُساعد على تخليص العالم، كما تُساعد على إصلاح الإله الخالق نفسه لأنَّه إله جاهل ومحروم من العرفان اللازم لخلاصه، ولكن الإنسان قادر على معونته وعلى شفائه وتحريره من خلال تلمُّسه للنور الروحاني في داخله.

يُعتبر باسيليدس المُعلِّم الثاني للغنوصية بعد مُعاصِره فالينتينوس. اعتبر نفسه مسيحيًّا أيضًا، وبقي عضوًا في كنيسة الإسكندرية حتى آخر أيامه، رغم أنَّ أتباعه كانوا يقولون بأنَّهم ليسوا يهودًا ولم يصبحوا بعد مسيحيين. أسَّس باسيلديس مدرسة غنوصية اجتذبت الكثير من الأتباع خلال النصف الأول من القرن الثاني الميلادي، وكان يُبشِّر بالله العلي الذي يسمو على الإله يهوه إله العهد القديم. أنتج باسيليديس ميثولوجيا على غاية من التعقيد والغموض في موضوعات النشأة الأولى والتكوين، ففي البداية لم يكن شيء سوى العدم والإله الخفي المتلفِّع بالعدم، ثم أنتج الإله الخفي بشكل تلقائي بذرة الكون التي تنطوي على كل المُمكنات التي تحقَّقت فيما بعد، مثلما تحتوي حبة الخردل على ممكنات الجذر والساق والأوراق … إلخ. من هذه البذرة خرج الأركون الأكبر المدعو يهوه وباشر بخلق العالم المادي دون أن يعلم بوجود الإله الخفي الأسمى منه.

أمَّا الشخصية الثالثة في الفكر الغنوصي فكانت مرقيون. أسَّس مرقيون خلال أواسط القرن الثاني الميلادي لكنيسة بديلة، شكَّلت أكبر تهديدٍ للكنيسة الرسمية، واستمرَّت قوية لفترة طويلة بعد وفاة مؤسسها، خصوصًا في الأطراف الشرقية لمناطق انتشار المسيحية مثل أرمينيا، وكانت وراء تعجيل الكنيسة في إقرار الأناجيل الأربعة وتثبيت المعتقد الرسمي في صيغته النهائية. يعتبر مرقيون أكثر الغنوصيين مسيحية، فهو رغم اتفاقه مع الغنوصية في كل طروحاتها الرئيسية، إلَّا أنَّه يؤكد في النهاية على عنصر الإيمان المسيحي ويُعليه فوق العرفان الغنوصي، فالخلاص عنده يأتي بالإيمان وعن طريق يسوع المسيح بالذات ابن الله العلي لا ابن يهوه، وهذا ما استتبع عنده نُكران الطبيعة الواحدة التي تجمع بين روح الإنسان وروح الله. فالإنسان نتاج صنعة الإله الخالق لا الإله المُتعالي الخفي، ولكن الإله المتعالي قد أحبَّ الإنسان وأشفق عليه فمدَّ إليه يد الخلاص.

ينطلق مرقيون في تفكيره من مبدأ الفصل التام بين العهد القديم والعهد الجديد، فيؤسِّس لعقيدة مسيحية مستقلة عن التوراة تقوم على إنجيل لوقا فقط في شكله المشذب والمختصر من قبله، وعلى رسائل بولس الرسول. ذلك أنَّ بولس، في رأي مرقيون، هو الذي فهم الإنجيل حق الفهم من دون بقية الرسل، بعد أن تجلَّى له المسيح على طريق دمشق وأوكل إليه مهمة التبشير بالإنجيل الحقيقي، فعارض منذ البداية المسيحية اليهودية التي كان بطرس وزملاؤه يدعون إليها. يرى مرقيون أنَّ هذا العالم المادي الناقص والمليء بالشرور هو من صُنع الإله يهوه، وإنَّ إله العهد القديم هذا هو الذي خلق الإنسان وفرض عليه الشريعة التي كانت بمثابة لعنة، على حد تعبير بولس، ولكن يهوه هذا ليس الإله الأعلى، رغم أنَّ جهله قد جعله في البداية يعتقد بوحدانيته، فلم يعلم بوجود قوة شمولية عُظمى تتمثَّل في الله الخفي، الأب الأعلى إله المحبة. ولقد شعر الأب الأعلى بالشفقة نحو الإنسان فأرسل ابنه المسيح في هيئة يسوع الناصري ليُخلِّص البشرية، ورآه الناس بينهم فجأة وهو يُعلِّم ويُبشِّر بملكوت الروح، فظنَّه بعض اليهود المسيح القومي المنتظر، كما أنَّ الحواريين أنفسهم لم يفهموا المغزى الحقيقي لرسالته. ونظرًا لجهل يهوه بقيمة المُخلِّص فقد دفع به إلى الصلب، وهو لا يدري أنَّ عمله هذا سوف يجلب عليه سوء المصير، لأنَّ ابن الله قد حرَّر بموته الناس من سلطة يهوه ومن لعنة الناموس.

ننتقل الآن إلى تقديم نموذج عن الميثولوجيا الغنوصية التي عرض المعلمون أفكارهم من خلالها، وهي ميثولوجيا شديدة الغموض والتعقيد وذات دلالات رمزية بعيدة الأغوار. ونموذجنا هنا هو الكتاب المعروف بعنوان «منحول يوحنا» أو «كتاب يوحنا السري» المنسوب إلى يوحنا الإنجيلي. ولكنَّنا نرى من المفيد قبل ذلك عرض وتبسيط بعض مصطلحات الميثولوجيا الغنوصية، فالآلهة بالمفهوم الغنوصي أقرب إلى مفهوم الشياطين في بقية الميثولوجيات، وهي تنتمي إلى العالم المادي وتُشكِّل جزءًا لا يتجزأ منه، وتُدعى أراكنة، جمع أركون «أو أرخون» وتعني حاكم. يحكم فوق هؤلاء الأركون الأعظم يهوه الملقب بساكلاس أي الأحمق، وسمائيل أي الأعمى. أمَّا في المستوى الروحاني الأعلى فلا وجود لآلهة بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، بل لأفلاك قوة تُدعى أيونات، جمع أيون، وإذا كانت هذه الأيونات تدخل في علائق مع بعضها البعض، فما ذلك إلَّا من دواعي أسلوب القصص الميثولوجي، لا يُستثنى من ذلك فلك القوة الأعلى، فهذا الفلك ليس إلهًا وإنَّما هو مفهوم مجرد عن المبدأ الكلي والحقيقة النهائية.

ولدينا مفهوم مركزي من التصوُّرات الميثولوجية الغنوصية هو «صوفيا»، أي الحكمة. وصوفيا هي آخر أفلاك القوى الروحانية في ترتيب الصدور عن مركز النور الأسمى، ولكن أهميتها تأتي من كونها حلقة الوصل بين الأفلاك الروحانية وما يُناظرها في الأسفل من عوالم المادة والظلام، وهي التي أنجبت الأركون الأعظم، كبير الآلهة يهوه. ونستطيع أن نعثر على بذور فكرة صوفيا في مقاطع من سفر الأمثال التوراتي وفي سفر حكمة سليمان أيضًا. نقرأ في سفر الأمثال عن الحكمة قولها: «الرب حازني في أول طريقه قبل ما عمله منذ البدء. منذ الأزل مُسحتُ، من الأول من قبل أن كانت الأرض. وُلدت حين لم تكن الغمار والينابيع الغزيرة، قبل أن أُقرت الجبال، والتلال وُلدت، إذ لم يكن قد صنع الأرض بعد ولا البراري ولا أول أتربة المسكونة، حين هيَّأ السماوات كنت هناك، وحين رسم دائرة على وجه الغمر العظيم … لما رسم أُسس الأرض كنتُ عنده صانعًا، وكنت كل يوم لذته، فرحةً دائمًا قدامه» (الأمثال، ٨: ٢٢–٣٠).

أي إنَّ الحكمة-صوفيا كانت بمثابة الزوجة الروحية للخالق وقد شاركته في فعاليات الخلق. وفي سفر حكمة سليمان: ٨، هنالك مطابقة بين الحكمة والروح القدس، ويُشار إليها على أنها دفق مجد الرب ومرآة فعالياته الخلَّاقة ومنبع النور الأبدي. وفي التيار الغنوصي السوري، الذي يُعتبر سمعان السامري من أقوى ممثليه، فإنَّ صوفيا هي فكرة الآب الأعلى الأولى، والروح القدس، وأُم الجميع، وقد هبطت صوفيا من العوالم الروحانية نحو الأسفل حيث أنجبت ملائكة المادة الذين خلقوا العالم.

ولدينا مفهوم مركزي آخر في الميثولوجيا الغنوصية هو «الإنسان القديم»، الذي هو ابن الله العلي وصورة الإنسان الكامل التي تعيش في عالم المُثُل الأعلى، بالمفهوم الأفلاطوني. وفي لحظة معينة من تاريخ العالم، نزل هذا الإنسان المؤله الذي يُدعى أيضًا بابن الإنسان فتجلَّى في هيئة يسوع الناصري، ولكن دون أن يلبس جسدًا ماديًّا حقيقيًّا، ثم عاد في النهاية إلى عالم النور الأسمى الذي انبثق عنه. هذا الإنسان القديم هو النموذج الذي خُلق آدم على صورته، فعندما كان الأراكنة يهمون بخلق الإنسان الأول من تُراب الأرض، أطلَّ الإنسان القديم من الأعلى فانعكست صورته على صفحة الماء، ولما رآها الأراكنة راحوا يصنعون آدم على صورة ما رأوه.

في كتاب منحول يوحنا الذي أُقدِّم ترجمتي الملخَّصة له فيما يأتي،٣ يُحاول المؤلف تقديم إجابة على سؤالين: الأول ما هو أصل الشر؟ والثاني كيف نستطيع الخلاص من عالم الشر هذا؟ وهو يصوغ نصه مُتَّبعًا جنس الأدب الرؤيوي الذي عهدناه لدى مؤلفي الأسفار المنحولة. في البداية نجد يوحنا وقد انتابته الحيرة عقب حوار بينه وبين أحد الفريسيين، فيترك المعبد وينعزل في جبل يتأمَّل في مسائل الإنجيل. في أحد الأيام تقع له رؤيا هائلة، فتنشق السماء وتهتز الأرض ويشع من الأعلى نورٌ غامرٌ ليس من هذا العالم، فيرتجف فرقًا ويسقط على وجهه، ولكن صوتًا من داخل النور يناديه قائلًا: «يوحنا لماذا تشُك؟ لا تكن ضعيف الإيمان لأني معك دائمًا، أنا الآب وأنا الأم وأنا الابن، أنا الموجود أبدًا. جئتك لأكشف لك حقيقة ما هو كائن وما كان وما سيكون، فتعرف ما هو ظاهر للأعين وما هو خافٍ عنها، وأكشف لك عن سر الإنسان الكامل. فارفع وجهك وتعال فاسمع وتعلَّم ما أقوله لك اليوم، لكي تنقله لأترابك من سلالة الإنسان الكامل القادرين على الفهم.»

«الروح وحدة غير متجزئة لا يحكم فوقه أحد. إنَّه الله الحقيقي أبو الجميع، الروح القدس، الخفي الذي يهيمن على الكل، الموجود بقيوميته، القائم بنوره، الذي لا تدركه الأبصار، الروح ليس إلهًا أو كائنًا يتمتع بصفات وخصائص محددة. إنَّه البداية التي لا تسبقها بداية، لم يكن لأحد وجود قبله فيحتاج إليه. الروح لا يحتاج الحياة لأنَّه سرمدي، ولا يطلب ما دونه لعدم وجود نقص فيه يتطلَّب التكميل. إنَّه وراء الكمال، إنَّه النور، إنَّه بلا حدود ولا أبعاد، لعدم وجود شيء قبله يُحدِّده. خفي، لم ولن يراه أحد. دائمٌ وموجودٌ أبدًا. بلا أوصاف لأنَّ أحدًا لم يفهم كنهه فيصفه، بلا اسم لعدم وجود أحد قبله يُطلق عليه الاسم. ليس واسعًا وليس ضيقًا، ليس كبيرًا وليس صغيرًا، ليس ماديًّا وليس غير مادي، ليس بكم وليس بكيف، ليس كيانًا ولا غير كيان، ليس زمنيًّا بل وراء الزمن، ليس موجودًا ولكنَّه وراء الوجود، قائم في نفسه ولنفسه. وحده الذي يُقيم ضمن نوره الذي يحيط به. إنَّه نبع الحياة والنسور الأعظم الباهر.»

بعد ذلك يُتابع الصوت تعليم يوحنا ويشرح له كيفية صدور ما سوى الله عن الله، وكيف تشكَّلت أولًا أفلاك القوى الروحانية من منبع النور الأسمى، وهي الأيونات «ومفردها أيون». فكانت الفكرة الأولى أول ما ظهر، ثم تحوَّلت صورتها إلى شبه إنسان، هو الإنسان القديم، بعد ذلك ظهرت المعرفة الأولى، فالديمومة، فالحياة الخالدة. ثم إنَّ الفكرة الأولى «وتُدعى باربيللو» نظرت إلى أعماق النور العظيم، فحملت وأنجبت شرارةً من نورٍ هي المولود البكر للنور الأعظم، المسيح المُعمَّد بطيبة الروح الخفي، فوهبه الأب العقل والإرادة والكلمة، وجعل الحقيقة طوع بنانه، وأعطاه سلطانًا على بقية الأيونات، بعد ذلك ظهرت الأفلاك الأدنى مرتبة وأُعطيت لها أسماؤها ومراتبها وصولًا إلى فلك الحكمة صوفيا عروس الإنسان القديم.

ثم إنَّ صوفيا أحسَّت برغبة في أن تُنجب صورة عنها، ولكن رغبتها تلك لم تلقَ موافقة زوجها ولم تحظَ بمباركة الروح الأعلى، ومع ذلك فإنَّ رغبتها استعرت حتى شعت نحو الخارج، وأعطت الميلاد لكائن إلهي جهيض غير مكتمل أشبه بالمسخ، لأنَّه وُلِد من أمه دون موافقة الأب وتعاونه. فكان له شكل مختلط من أسد وأفعى، وله عينان جمرتان من نار. فلمَّا رأته صوفيا ذعرت وأبعدته عنها، ولكيلا يراه أحد من أقرانها صنعت له عرشًا وأخفته في سحابة تحجبه عن الأعين، ودعت اسمه يلدابوث، فكان أول الأراكنة.

بعد أن شعر يلدابوث بقوته الذاتية، خرج من المكان الذي أودعته فيه أمه وجعل لنفسه فلكًا ناريًّا أقام فيه، فكان هذا الفلك أعلى طبقات العالم المادي الكثيف الذي سيظهر فيما بعد عن عالم الظلمات، ظلمات جهل أول الآلهة. ثم إنَّ يلدابوث دعا اثني عشر فلك قوةٍ تحتيةٍ إلى الظهور، لكل فلك ملاك رئيس، تحته طبقة من الملائكة الثانوية تخدمه وتأتمر بأمره. كما جعل لكل من هؤلاء الملائكة الثانويين طبقة من الملائكة الثانوية تخدمه وتأتمر بأمره، وتابع إظهار وتنظيم هذه المراتبية الملائكية حتى بلغ عدد الطبقات ثلاثمائة وستين طبقة، وعندما نظر يلدابوث إلى ما خلق من أفلاك قوة تحته، ابتهج وصاح قائلًا: أنا الرب ولا إله غيري، إله غيور (سفر الخروج، ٢٠: ٣؛ وسفر التثنية، ٥: ٩). ثم شرع يصنع السماوات والأرض بكلمته الخالقة، بالقوة التي ورثها عن أمه صوفيا، ولكن صوتًا جاءه من الأعالي قائلًا: أنت مخطئ یا سمائيل «أي الأعمى»، لأنَّ إنسانًا كاملًا وخالدًا ومستنيرًا قد وُجد قبلك، ولسوف يأتي ويحل في جسد فيحطم مملكتك كما تُحطمُ الجرة الفخارية، ويحيل كل نقص إلى كمال الحقيقة.

بعد أن اكتمل خلق السماوات والأرض، أطلَّ الأب الأعلى إلى الأرض في صورة الإنسان القديم فانعكس خياله على صفحة الماء، فرآها الأراكنة الرؤساء وقال بعضهم لبعض: هلمَّ نصنع الإنسان على الصورة التي رأيناها ليخدمنا على الأرض. وهكذا جبلوا الإنسان الأرضي من التراب، على صورة الإنسان القديم السماوي التي تراءت لهم، ودعوه آدم، إلَّا أنَّ الهيئة الطينية بقيت مسجَّاة بلا حراك، رغم كل ما بذله الأراكنة لإحيائها. ولكن صوفيا، في رغبتها لاسترجاع قوة الروح التي استمدَّها منها يلدابوث، أوحت إليه أخيرًا أن ينفخ في أنف آدم بعضًا من الروح التي فيه، ولمَّا فعل ذلك تحرَّك آدم وانتصب إنسانًا تامًّا ذا جسد مادي وروح سماوية. وهنا غار رؤساء طبقات الملائكة الثانوية من آدم لأنَّهم تبيَّنوا تفوُّقه عليهم فهمًا وحكمة، فأرادوا قتله. ولكن يلدابوث أخذه وأسكنه في جنة عدن، ثم أرسل عليه سُباتًا وأخذ من أضلاعه واحدًا صنع منه المرأة حواء. أمر يلدابوث آدم وزوجه أن يأكلا من ثمر الجنة كلها عدا ثمر شجرة المعرفة، وذلك خوفًا من أن تنفتح عيونهما ويعرفا أصلهما النوراني في عالم الروح الأعلى، ولكن حواء عصت الأمر وحرَّضت آدم على العصيان الذي كان بمثابة الخطوة الأولى في سبيل تحرير الجنس الإنساني من حُجب الجهل التي فرضها يهوه. ولقد حقَّق الزوجان هذه الخطوة البطولية بمعونة الأفعوان، الذي يُمثِّل هنا مبدأ العرفان لا مبدأ الشر، والذي وهبهما المعرفة التي من خلالها وحدها يتم التخلُّص من سلطة يهوه ومن إسار عالمه المادي. وعندما يبلغ سعي الإنسانية نحو الخلاص أوجَه، سوف يعود مبدأ العرفان ليظهر في هيئة المُخلِّص يسوع المسيح، الذي سيرفع عن كاهل الناس لعنة الشريعة التي أبقتهم طويلًا في حُجب الجهل، وينقذهم من صاحب هذه الشريعة ومن العالم الناقص الذي صنعه، عندها يكتشفون الجوهر الحقيقي للروح.

خلاصة

لقد حلَّت الغنوصية معضلة وجود الشر في العالم بطريقة مبدعة وجديدة على الفكر الديني، وذلك بابتكارها لفكرة الأب الأعلى مصدر العالم الروحاني عالم النور، والإله الأدنى خالق العالم المادي عالم الجهل والظلمة. فالكون المادي لم يُخلق كاملًا من قبل الله ثم داخله الشر من خارجه، كما هو الحال في المعتقد الزرادشتي، بل إنَّ المادة هي الشر بعينه، ومصدر هذا الشر هو إله التوراة الذي وُلِد صدفة من الأم صوفيا، ثم راح يخلق المادة ليقتنص فيها نور الأعالي ويحبس فيها أرواح الناس. ولكن هذا الإله وعالمه سيئولان إلى الدمار عندما يتعرَّف الإنسان على النور الأسمى في داخله، وهي المعرفة التي تعتقه من دورة الميلاد والموت والتناسخ في الأجساد. فالإنسان ليس خاطئًا منذ البداية ولكنَّه مأسور في حجاب الجهل، ولا فكاك له إلَّا بالعرفان، وهو النشاط الأسمى للنفس الإنسانية الراغبة في الانعتاق. إنَّ العرفان الداخلي الذي يُنير جنبات النفس هو الذي يجعل من صاحبه إنسانًا طيبًا وأخلاقيًّا، ودونما حاجة إلى لوائح أخلاقية مفروضة من الخارج، لأنَّ الشر هو الجهل والمعرفة هي الخير. أمَّا الطقوس والعبادات الشكلية فليست في حقيقتها إلا خضوعًا لإله العالم المادي وتطبيقًا أعمى لشرائعه، بينما لا يتطلَّب الأب الأعلى من الإنسان سوى أن يعرفه ويتلمَّس منابع الخير في داخله، وهو ملتزم بتخليصه واستعادة روحه إلى بيتها الذي ضاعت عنه، إذا استجاب لنداء رحمته.

مراجع الفصل

  • (1)
    J. M. Eobinson, edt. The Nag Hammadi Library, Harper, New York 1972.
  • (2)
    Willis Barnstone, edt. The Other Bible, Harper, New York 1984.
  • (3)
    Gnosticism, in: Encyclopedia of Religion, vol 2.
١  J. M. Robinson: The Nag Hammadi Library, Harper, New York 1972.
٢  قال ابن تيمية عن هذا الحديث إنَّه موضوع. وقال النووي إنَّه ليس بثابت. وقال أبو المظفر السمعاني في «القواطع» إنَّه لا يُعرف مرفوعًا. وقال غيرهم إنَّه ليس بثابت، ولكن كتب الصوفية مشحونة به يسوقونه مساق الحديث. انظر كشف الخفاء ج٢، حديث رقم ٢٥٣٢.
٣  عن نص: Frederik Wisse في: The Nag Hammadi Library. وعن نص: R. M. Grant في The Other Bible.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤