الفصل الثامن

الغنوصية المانوية وشيطانية المادة

تحوَّلت الغنوصية على يد ماني إلى دين مؤسساتي ذي عقيدة متماسكة واضحة المعالم، استقت من التيارات الدينية السائدة في عصرها وأثَّرت فيما تلاها. تقوم هذه العقيدة على مفهوم دينامي للتاريخ ينطلق، كما في الزرادشتية، من وجود مبدأين كونيين متصارعين، يقود صراعهما حركة التاريخ إلى نهاية محتومة. فمنذ الأزل كان النور وكان الظلام، عالمان منفصلان ومستقلان ولكنَّهما متجاوران، وكان جوهر النور هو الحكمة وجوهر الظلام هو الجهل. وهذه هي المرحلة الأولى الكاملة من مراحل التاريخ، أو العصر الذهبي. ثم إنَّ الظلام قد عدا على النور، فتقدَّم النور لصده وإرجاعه، فاختلطت عناصر النور بعناصر الظلمة وراحا يتصارعان، وهذه هي المرحلة الثانية من مراحل التاريخ، مرحلة يوم الناس هذا. ولكن النور سوف يُفلح في تخليص نفسه من الظلام خلال المرحلة الثالثة المقبلة، التي ستنتهي لا باستقلال النور عن الظلام فقط، بل بالقضاء عليه وتأسيس ملكوت النور النهائي. في هذه المعركة الدائرة الآن، يُشارك الجنس البشري بكل قوته، سلاحُه في ذلك العرفان الذي يُحرِّر المبدأ النوراني الحبيس في الجسد المادي المظلم. وإلى أن يحين اليوم الأخير، فإنَّ الأرواح العارفة التي اكتشفت طبيعتها كقبسٍ من النور الأعلى، سوف تنضم إلى عالمها الذي نشأت عنه، بينما تبقى الأرواح الجاهلة في إسار دورة الميلاد والموت، وتتناسخ في أجساد جديدة ضمن هذا العالم المظلم.

وهكذا تستبدل المانوية المفهوم الزرادشتي عن تاريخ دينامي يُشارك فيه الإنسان من خلال الإيمان والأخلاق، بمفهومها عن تاريخ يُشارك فيه الإنسان من خلال العرفان.

من بين جميع الفرق الغنوصية، كانت المانوية الأوسع انتشارًا والأكثر دوامًا، فلقد انتشرت شرقًا وغربًا انطلاقًا من بابل الموطن الرئيسي لمعلمها، وعاشت فترة زمنية مديدة تُقدَّر بأكثر من عشرة قرون، لا كمعتقد طائفي مقتصر على جماعة بعينها، بل كدينٍ عالمي ومعتقد شمولي يتوجَّه إلى جميع بني البشر. وبذلك تقف المانوية في صف الديانات العالمية الكبرى في تاريخ الدين، مثل الإسلام والمسيحية والبوذية. إلى جانب جاذبية المعتقد المانوي واحتوائه على عناصر شتى من كل المعتقدات الأقدم منها والمعاصرة له، فإنَّ انتشار المانوية يمكن أن يُعزى إلى ثلاثة عناصر رئيسية: أولها النشاط التبشيري المحموم الذي مارسه ماني شخصيًّا في كل بقعة من بقاع المشرق، وتابعه بعد ذلك حواريوه. وثانيهما التنظيم المؤسساتي الدقيق للكنيسة المانوية التي كانت تتألَّف من مبشرين منذورين لمهامهم، وكهنة متفرغين ضمن سلسلة مراتبية مرسومة بدقة، ونُخبة دينية تُشبه فئة الرهبان البوذية، وعامة المؤمنين الذين يقدمون الدعم المالي والمعنوي للأجهزة الفعالة في المؤسسة الدينية. وثالثهما اعتماد ماني على الكُتب الدينية التي تؤسِّس للعقيدة وتحفظها. فلقد كانت المانوية ديانة كتابٍ شأنها في ذلك شأن اليهودية والمسيحية والبوذية، وعمل ماني منذ البداية على وضع كُتبه بنفسه وخطها بقلمه، ثم حرص على نسخها وتداولها وحفظها في حالة جيدة، سواء من خلال المواد المستخدمة أم من خلال تقنيات الإنتاج العالية.

ورغم ما لحق بالمؤلفات المانوية من إتلاف متعمد على يد الخصوم خلال حملات الاضطهاد المتكررة والمتلاحقة، إلَّا أنَّ عددًا لا بأس به من المخطوطات المانوية الأصلية قد اكتُشفت سليمة في القرن العشرين، ومكتوبة بعددٍ من اللغات منها الإيرانية والتركية القديمة والصينية والقبطية واليونانية. وقد مكنتنا هذه المخطوطات من إجراء التقاطعات بين المصادر الأصلية، والمصادر غير المباشرة التي كان الباحثون حتى وقت قريب يعتمدون عليها وحدها. من أهم المصادر غير المباشرة ما كتبه القديس أوغسطين (حوالي عام ٤٠٠م)، الذي كان مانويًّا متحمسًا قبل أن يتحوَّل إلى المسيحية، وما كتبه أفرايم السرياني (حوالي عام ٣٧٠م)، وتيودور بن قوينا (حوالي عام ٧٩٠م)، وما كتبه المؤلفون العرب من أمثال ابن النديم (القرن العاشر م)، والبيروني (القرن الحادي عشر م)، والشهرستاني (القرن الثاني عشر م).١

(١) ماني

ينتمي ماني إلى أسرة إيرانية عاشت قرب مدينة طيسفون بمنطقة بابل، وكانت طيسفون في ذلك الوقت عاصمة الإمبراطورية الإيرانية، ومقرًا لملوك الأسرة البارثية ثم الساسانية من بعدها. جاء أبوه من منطقة همذان وتزوَّج من المدعوة مريم، وهي سليلة أسرة نبيلة تتصل بأواصر القربي بالأسرة البارثية الحاكمة، ثم أقام الزوجان في بلدة مردينيوس في منطقة بابل، وهناك وُلِد ماني وأمضى طفولته ومراهقته. وقد أكَّدت إشارات ماني المتفرقة هذه الرواية، ومنها قوله: «إني أنا الرسول الشكور المبعوث من أرض بابل» وأيضًا: «أنا النطاسي الذي جاء من أرض بابل.» وتعبير النطاسي هُنا يدل على المهارات الطبية العالية التي تمتع بها ماني، فقد كان نطاسيًّا ماهرًا قادرًا على شفاء الأمراض المستعصية. يُرجِّح الباحثون أنَّ الاسم «ماني» هو من أصل سامي لا من أصل إيراني، أمَّا الاسم «مانيخيوس» الذي عُرف به المعلم لدى اليونان، فهو تحوير للقبه الآرامي «ماني-حياه» أي ماني الحي. ومن ألقابه الأخرى الآرامية «مار-ماني» أي السيد ماني، ومنه جاء اسمه بالصينية «مور-موني».

وُلِد ماني عام ٢١٦م، وتربَّى على ملَّة أبيه، وهي طائفة غنوصية معمدانية يدعوها ابن النديم في كتابه الفهرست بالمُغتسلة، وذلك نسبة إلى طقوس التعميد بالماء التي كانت تمارسها. وكان المُغتسلة يلتزمون سلوكًا طهوريًّا بالغ الصرامة، إذ كانوا يمتنعون عن أكل اللحم وشرب الخمر ويفرضون على الممارسة الجنسية قيودًا شديدة. إضافة إلى هذه الخلفية الغنوصية التي اكتسبها ماني من طائفته هذه، ومن الطوائف الغنوصية الأخرى الناشطة في منطقته مثل المندائية والمرقيونية والديصانية، فقد اكتسب ماني الكثير من البيئة الثقافية البابلية التي كانت منفتحة على شتى التيارات الدينية والفلسفية، وتلاقت عندها الأفكار المسيحية واليهودية والزرادشتية والهيلنيستية والهندية والصينية، إضافة إلى الثقافة الكلدانية المحلية التي تختصر التركة القديمة لبلاد الرافدين بأكملها. وهذا ما جعل من ديانته نموذجًا عن الديانة التوفيقية، التي تحتوي على الموروث بكل زخمه وتنوعه، وتتجاوزه بطريقة مُبدعة تُعبِّر عن عبقرية صاحبها وقوة شخصيته وتفوق تفكيره.

عندما بلغ ماني الثانية عشرة من عمره هبط عليه الوحي (على ما يقول) من السماء عن طريق كائن نوراني يدعوه ﺑ «التوم»،٢ وهو القرين السماوي للنبي، فأمره أن يعتزل ملَّته ويُطهِّر نفسه استعدادًا للوحي الثاني الذي سيهبط عليه عندما يغدو قادرًا على الدعوة والتبشير. في سن الرابعة والعشرين أتاه التوم ونقل إليه وحي الرسالة كاملًا غير منقوص، ثم أمره أن يظهر للناس ويبلغهم ما أمره الله تعالى إبلاغهم. نقرأ في كتاب الفهرست للمؤلف العربي ابن النديم:

«فلما تمَّ له اثنتا عشر سنة أتاه الوحي، على حد قوله، من ملك جنان النور وهو الله (تعالى عما يقول). وكان الملاك الذي جاءه بالوحي يُسمَّى التوم، وهو بالنبطية ومعناه القرين. فقال له: اعتزل هذه الملة فلست من أهلها، وعليك بالنزاهة وترك الشهوات ولم يئن لك أن تظهر لحداثة سنَّك. فلما تمَّ له أربع وعشرون سنة، أتاه التوم فقال: عليك السلام مني ومن الرب الذي أرسلني إليك واختارك لرسالته، وقد أمرك أن تدعو وتُبشِّر ببشرى الحق من قِبله وتحتمل في ذلك كل جهدك. فخرج يوم مَلَك شابور بن أردشير ووضع التاج على رأسه، وهو يوم الأحد أول يوم من نيسان والشمس في برج الحمل، ومعه رجلان قد تبعاه على مذهبه، أحدهما يُقال له شمعون والثاني زكوا، ومعه أبوه ينظر ما يكون من أمره … وقد زعم ماني أنَّه الفارقليط الذي بشَّر به عيسى بن مريم. واستخرج ماني مذهبه من المجوسية والنصرانية. والقلم الذي كتب به كتبه مستخرج من السرياني والفارسي.»

ونقرأ في نص قبطي عن لسان ماني نفسه: «في هذه السنة نفسها، عندما كان الملك أردشير على وشك التتويج، نزل الفارقليط٣ الحي وكلمني، وأباح لي معرفة السر المحجوب بخصوص عصور وأجيال بني البشر، السر العميق والعالي، سر النور والظلام، سر الصراع والحرب الماحقة، وعلَّمني ما هو كائن وما كان وما سيكون.» إنَّ الفارقليط، أو البارقليط، المذكور هنا، هو الذي أشار إليه إنجيل يوحنا في أكثر من موضع، ويرد في الترجمات العربية تحت اسم «المُعزِّي». نقرأ في الإصحاح ١٤: «إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. وأنا أطلب من الآب فيعطيكم مُعزيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يراه ولا يعرفه. أمَّا أنتم فتعرفونه لأنَّه ماكثٌ معكم ويكون فيكم.» ونقرأ في الإصحاح ١٥: «ومتى جاء المُعزِّي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي، وتشهدون أنتم أيضًا لأنَّكم معي منذ الابتداء.» وبما أنَّ الفارقليط هو التوءم والصورة العليا لماني، فقد دعا ماني نفسه بالبارقليط أيضًا، واعتبر نفسه مُتمِّمًا لرسالة يسوع في صيغتها الأصلية التي لم يفهمها الرسل.

اعترف ماني بقيمة الديانات السابقة، ولكنَّه اعتبرها مؤقتة وغير كاملة. فلقد كشف كل من بوذا وزرادشت ويسوع عن حقيقة الدين، كلٌّ بما يناسب عصره والأرض التي ظهر بها والشعب الذي توجَّه إليه بلغته. أمَّا ماني الذي دعا نفسه بخاتم الأنبياء، فقد جاء ليُكمِّل رسالة هؤلاء ويطوِّرها، لأنَّه يتوجه برسالته الجديدة إلى جميع بني البشر أيًّا كانوا وبأية لغةٍ تحدَّثوا. وهو يصف هذا الطابع العالمي لتعاليمه فيقول: «كما أنَّ نهرًا يرفد آخر لتكوين تيار دافق قوي، كذلك صبَّت الكتب القديمة في كتبي فشكَّلت حكمةً كبرى لا مثيل لها في الأجيال السابقة.»

ويرد ما يُشبه قول ماني هذا في كتب المؤلفين العرب. نقرأ في كتاب المغني للقاضي عبد الجبار: «وعندهم إنَّ أول ما بعث الله تعالى بالعلم آدم، ثم شيتًا ثم نوحًا وبعث زرادشت إلى أرض فارس، والبدَّة (= البوذا) إلى أرض الهند، وعيسى المسيح إلى بلاد المغرب، ثم ماني خاتمًا للنبيين.» ونقرأ في كتاب المِلل والنِّحَل للشهرستاني: «واعتقاده — أي ماني — في الشرائع والأنبياء أنَّ أول من بعث الله بالعمل والحكمة آدم أبو البشر، ثم شيتًا بعده، ثم نوحًا بعده، ثم إبراهيم بعده، ثم بعث بالبدَّة إلى أرض الهند، وزرادشت إلى أرض فارس، والمسيح كلمة الله وروحه إلى أرض الروم والمغرب، وبولص بعد المسيح إليهم، ثم يأتي خاتم النبيين.» ونقرأ في كتاب الآثار الباقية للبيروني: «وكان ابن ديصان ومرقيون ممن استجابا وسمعا كلام عيسى وأخذا منه طرفًا، وممَّا سمعا من جهة زرادشت طرفًا، واستنبط كل واحدٍ من كلا القولين مذهبًا يتضمَّن القول بقدم الأصلين، وأخرج كل منهما إنجيلًا نسبه إلى المسيح وكذَّب ما عداه، ثم جاء من بعدهما ماني، وكان قد عرف مذهب المجوس والنصارى والثنوية، فتنبَّأ وزعم في أول كتابه الموسوم بالشابورقان أنَّ الحكمة هي التي لم تزل رسل الله تأتي بها في زمن دون زمن، فكان مجيئها — أي الحكمة والأعمال — في بعض القرون على يدي الرسول الذي هو البدْ (= البوذا) إلى بلاد الهند، وفي بعضها على يدي زرادشت إلى أرض فارس، وفي بعضها على يدي عيسى إلى أرض المغرب، ثم نزل هذا الوحي، وجاءت هذه النبوة في هذا القرن الأخير على يديَّ أنا ماني رسول الله الحق إلى أرض بابل … وذكر ماني في إنجيله أنَّه الفارقليط الذي بشَّر به المسيح، وأنَّه خاتم النبيين.»

كتب ماني خلال حياته عددًا من المؤلفات يربو على العشرة، إضافة إلى بعض الرسائل القصيرة، وكتاب مصوَّر يشرح فيه عقيدته من خلال رسوم فخمة أعدَّها بنفسه، وفيما عدا كتاب الشابورقان الذي ألفه بالفارسية وأهداه إلى الملك الساساني شابور، فإنَّ بقية كتبه قد خُطَّت باللغة والقلم الآرامي الشرقي. وكانت الآرامية في ذلك الوقت لغة الكتابة والقراءة بين متعلمي ذلك العصر وأداة التخاطب الديبلوماسي. وهذا ما أمَّن للمانوية انتشارًا واسعًا لم يكن لأية لغةٍ أخرى أن تؤمنه. لم يبق من كُتب ماني، التي نعرف عناوينها فقط، إلا شذرات عُثِر عليها بشكل خاص في طورفان بآسيا الوسطى وفي الفيوم بمصر. ولكن مقاطع مُطوَّلة من هذه الكتب قد وردت في مؤلفات القديس أوغسطين وابن النديم. هذه الشذرات الأصلية والمقاطع المنقولة، تكشف لنا عن مدى اطلاع ماني على ثقافة عصره. فلقد درس بالتأكيد الأناجيل الأربعة ورسائل بولس الرسول وغيرها من أسفار العهد الجديد، القانونية منها والمنحولة، وكان مُطَّلعًا على الأسفار التوراتية المنحولة وعلى رأسها كتاب أخنوخ الأول وكتاب أخنوخ الثاني. ولم يُخفِ إعجابه بتوما الرسول الذي توجَّه للتبشير في مناطق الهند، فكانت رحلته التبشيرية الأولى تتبع خُطا ذلك المُبشِّر العظيم، إضافة إلى هذا التراث المسيحي واليهودي، فقد كان ماني مطلعًا على الزرادشتية في شكلها الأصلي وفي أشكالها المتأخرة. وخلال رحلاته التبشيرية المبكِّرة نحو الشرق احتكَّ بالعديد من الثقافات الشرقية، واطَّلع بشكل خاص على بوذية المهايانا.

بعد أن تلقَّى ماني الأمر بالتبشير، دعا إلى دينه أهله الأقربين؛ فاستمال والده وأعضاء بارزين في أسرته، ثم شرع في رحلته التبشيرية الأولى نحو أطراف الهند ومناطق آسيا الوسطى، آملًا في استمالة الجيوب المسيحية التي شكَّلتها بعثة توما الرسول، فوصل إلى إقليم السند ثم إلى إقليم بلوخستان وإقليمي مكران وطورفان. ولعلَّ أهم ما أنجزته حملة ماني التبشيرية الأولى هذه هو استمالة ملك طورفان وحاشيته، فاعتنق الملك المانوية وجعلها دينًا للمملكة بدلًا عن البوذية. لم يُقدَّر لرحلة ماني الشرقية أن تدوم طويلًا، فلقد قرَّر الرجوع إلى موطنه بعد أن سَمِع بوفاة الملك أردشير وصعود ابنه شابور إلى العرش، وفي طريق عودته مرَّ بإقليم ميسان الذي يحكمه مهرشاه أخو شابور، فدخل عليه مُبشِّرًا بديانته، وهنا تروي الأخبار المانوية أنَّ ماني دخل على مهرشاه وهو في بستانه الذي كان حديث الناس لجماله وكثرة أشجاره ومائه وحسن تنظيمه، فقال له مهرشاه: هل يوجد في الفردوس الذي تتغنَّى به بستان كبستاني هذا؟ فلما سمع ماني هذا أراه بقوته الخارقة الملأ الأعلى وجعله يشم نسيم الحياة الأبدية، وأراه بُقعًا من الفردوس السماوي وأشياء أخرى مِمَّا يُمكن رؤيته هناك، فسقط الرجل على الأرض مغشيا عليه مدة ثلاث ساعات، ثم وضع الرسول يده على رأسه فأفاق وسجد عند قدمي ماني مُعلِنًا إيمانه. تُبين لنا هذه الحادثة الجانب الآخر من شخصية ماني، فقد كان طبيبًا ماهرًا يُعالج الجسد بالعقاقير والروح بطرد الشياطين منها، وكان صاحب معجزات تتراوح بين شفاء الأمراض المستعصية ورفع الأرواح إلى السماء ساعة يشاء، وقد عرج هو نفسه إلى السماء وفق إحدى الروايات ليتلقَّى الوحي الإلهي هناك.

أدرك ماني أنَّ دعوته لن يُقيَّض لها النجاح دونما سند سياسي قوي من أعلى سلطة في البلاد، فاتصل بالقصر الملكي وحاور الأُمراء والنبلاء فاستمال فريقًا منهم، وبينهم أخو الملك المدعو فيروز الذي حصل لماني على الإذن بالدخول على شابور، فمثل أمامه وقدَّم له كتابه المعروف بالشابورقان، نسبة إلى الاسم الملكي. عن هذه المقابلة الحاسمة في حياة ماني يُحدِّثنا ابن النديم في الفهرست فيقول: «وجوَّل ماني في البلاد قبل أن يلقى شابور، ثم إنَّه دعا أخا شابور بن أردشير فأوصله إلى أخيه شابور، فدخل إليه وعلى كتفيه مثل السراجين من نور. فلمَّا رآه أعظمه وكبر في عينيه، وكان قد عزم على الفتك به وقتله، فلمَّا لقيه داخلته له هيبة وسُرَّ به وسأله عمَّا جاء فيه، فوعده أنَّه يعود إليه. وسأله ماني عدة حوائج منها أن يُعزَّ أصحابه في البلاد وسائر بلاد مملكته، وأن ينفذوا حيث شاءوا، فأجابه شابور إلى جميع ما سأل. وكان ماني قد دعا الهند والصين وأهل خراسان، وخلَّف في كل ناحية صاحبًا له.» ويروي ماني نفسه عن هذه المقابلة قائلًا: «مثلت أمام الملك شابور فاستقبلني بحفاوة كبيرة، ووافق على أن أتجوَّل في البلاد وأن أُبشِّر برسالة الحياة. وأمضيت بعد ذلك عامًا بين حاشيته.» وقد بلغ من تقريب شابور لماني أنَّه اصطحبه في حملته الكبرى ضد الروم من أجل استعادة النفوذ الفارسي في آسيا الصغرى، فقاتل ماني إلى جانبه، على ما يذكُره المؤلف أليكسندر ليكوبوس «وهو من فلاسفة الأفلاطونية المحدثة» في رده على المانوية.

كانت سنوات العلاقة الطيبة مع شابور بمثابة الفترة الذهبية للدعوة المانوية، فقد تمَّ خلال هذه الفترة تأسيس الكنيسة المانوية، وتنظيمها وفق هيكل مراتبي دقيق يتألَّف من خمس طبقات. في الطبقة الأولى العليا هناك الحواريون أو الرسل وعددهم اثنا عشر رسولًا، وفي الثانية الأساقفة وعددهم اثنان وسبعون، وفي الثالثة الكهنة وعددهم ثلاثمائة وستون، وفي الرابعة المختارون وعددهم غير محدد لأنَّه يتوقَّف على عدد المؤمنين الراغبين في التخلي عن الدنيا والالتزام بالقواعد السلوكية والأخلاقية الصارمة الخاصة بالكهنوت المانوي، أمَّا الطبقة الخامسة والأخيرة في السلَّم فتضم عامة المؤمنين. ومن مقر إقامته في طيسفون بعث ماني بحوارييه ينشرون الدين في الجهات الأربع، ولاقت دعوته نجاحًا كبيرًا في سورية ومصر وآسيا الصغرى، كما دخلت عُقر دار الإمبراطورية الرومانية في أوروبا. وباتجاه الشرق تجاوز المبشرون المانويون آسيا الوسطى إلى أطراف الصين. وتولَّى ماني بنفسه حملات تبشيرية عديدة مُؤسِّسًا جماعات جديدة من الأتباع أنَّي رحل، تاركًا بين أيديهم نُسخًا من كتبه وخصوصًا إنجيله المدعو بالإنجيل الحي. وكان يتباهى بالقول بأنَّ كُتب من سبقوه من أصحاب الرسالات الروحية دُوِّنت بعد وفاتهم وبيد خلفائهم، أمَّا هو فقد دوَّن كُتبه بنفسه. وعلى حد وصف أحد المراجع المسيحية المُعاصرة له، فقد كان ماني يُشاهَد بين الناس مرتديًا سروالًا عريضًا لونه أصفر مائل إلى الاخضرار وعباءة خضراء مائلة نحو الزرقة، وبيده عصًا من الأبنوس، وتحت إبطه الأيسر كتاب بابلي «أي مكتوب بالآرامية». عن هذا النشاط ونتائجه كتب ماني يقول: «لقد وصل أملي — أي الكنيسة المانوية — إلى مشارق الأرض ومغاربها، شماليها وجنوبها، وهذا ما لم يحدث لأي داعية من قبلي.»

لقد بدا للبعض أنَّ المانوية سوف تغدو الديانة الرسمية للإمبراطورية الفارسية، وذلك بسبب دعم القصر الملكي وتعاونه، إلَّا أنَّ الملك شابور رغم ميله الضمني لماني ومعتقده، كان يُدرك قوة التقاليد الزرادشتية المحافظة، ويفهم دوره الرسمي كوصيٍ على تُراث الأجيال. يُضاف إلى ذلك أنَّ طبقة المجوس كانت تقود في ذلك الوقت حركةً واسعة النطاق تهدف إلى جمع وتدوين الأدبيات الدينية الزرادشتية بروحٍ قومية متعصبة، وتعمل جاهدة على مقاومة المد المانوي من خلال تنظيم كنيستها الخاصة وإحياء معابد النار في كل مكان. وبذلك بدت المواجهة الحاسمة بين الطرفين محتومة، ولم يؤخِّرها سوى مقدرة الملك شابور على الإمساك بخيوط اللعبة بكل حذق ومهارة، ولكن وفاة هذا العاهل الحكيم في عام ٢٧٣ ميلادية قد قلب ميزان القوى فجأة، وأخذ المجوس يتهيَّئون للتخلص من ماني.

خَلَف شابور ابنه هرمز الأول الذي اتخذ موقفًا وديًّا من ماني، ولكن هرمز هذا ما لبث أن توفي بعد عام فقط من توليه السلطة وخلفه أخوه بهرام، الذي كان شابًا ضيِّق الأفق لا يعرف من أمور الحكم سوى الرياضة والقنص، ويعطي أذنًا صاغية لدسائس الكهنة المجوس. سمع ماني بوفاة هرمز بينما كان يزور بعض الجماعات المانوية عند حوض نهر الدجلة الأسفل، وفي نيته أن يتابع رحلته شرقًا، وبينما كان يتفكَّر فيما يتوجَّب عليه فعله وصله أمرٌ ملكي بالعودة إلى العاصمة. وهنا تصف لنا النصوص القبطية الأسابيع الأخيرة من حياة ماني. فلقد عاد المعلم مُبحرًا في نهر دجلة حتى طيسفون، وعندما وصل كان المجوس قد وضعوا أمام الملك عريضة ادعاء تتهم ماني بالتحريض ضد العقائد والآلهة الإيرانية وإفساد عقول العباد، ولكن بهرام لم يكن فعلًا بحاجة إلى مثل هذه العريضة، لأنَّه اتخذ قرارًا مسبقًا بإيقاف الداعية الخطر عند حده، فلمَّا مثُل ماني أمامه لم يكن مهتمًا فعلًا بالاستماع إلى أقواله والموازنة بينها وبين دعاوى متَّهميه، فلم تدم المقابلة سوى وقت قصير اقْتِيد بعدها المُعلم إلى السجن. عن هذه المقابلة العاصفة التي حضرها الكاهن الأكبر قيردير عدو ماني اللدود، نقرأ في إحدى الوثائق القبطية الوصف الآتي:

«أتى ماني لمقابلة الملك بهرام، وكان الملك جالسًا إلى مائدة الطعام، فدخل عليه رجال من بلاطه وقالوا له: لقد أتى ماني وهو حاضر عند الباب. فأرسل الملك إلى مولانا أن يتريث حتى يستطيع القدوم إليه. فجلس مولانا إلى جانب الحارس حتى غسل الملك يديه لأنَّه كان عازمًا على الذهاب إلى الصيد، ثم جاء وهو يضع إحدى ذراعيه على كتف الملكة والأخرى على كتف الكاهن قيردير، وخاطب مولانا قائلًا: لا مرحبًا بك. فردَّ عليه مولانا قائلًا: لماذا؟ هل ارتكبت أي ذنب؟ فقال الملك: لقد أقسمت ألَّا أدعك تبقى على هذه الأرض، ثم انفجر غاضبًا وخاطب مولانا قائلًا: عجبًا، ما الحاجة إليك؟ فأنت لا تُشارك في الحرب ولا في مطاردات الصيد، قد تكون مفيدًا في الطب وتركيب العقاقير ولكن حتى هذه لا تُحسنها. فأجابه مولانا: لم أقترف بحقك أي ذنب. لقد قدَّمت لك ولأسرتك الكثير من الفوائد، وحرَّرت أعدادًا كبيرة من عبيدكم من الشياطين والأرواح الشريرة، وأقمت كثيرين من فراش المرض فشفيتهم، وخلصت آخرين من الحمى … أمَّا الذين كانوا على حافة الهلاك وأعدتهم إلى الحياة فأكثر من أن يُحصوا.»

بعد أن تابع ماني تعداد ما أفاض عليه الملكان السابقان من حماية ورعاية، ختم خطابه قائلًا: والآن افعل بي ما تراه. فأمر الملك بتقييد ماني، فوُضِعت ثلاث سلاسل حديدية حول يديه وثلاث أخرى حول عقبيه وواحدة حول رقبته، وأُخذ إلى السجن حيث أمضى ستة وعشرين يومًا كان خلالها قادرًا على رؤية حوارييه والتَّكلُّم معهم، لأنَّ نُظم السجن الفارسية كانت تسمح بمثل هذه الإجراءات. ولكن جسده الذي أضعفه الصيام والأغلال الثقيلة، كان يخور تدريجيًّا وهو ينقل تعاليمه الأخيرة التي تُكمل العقيدة والشريعة المانوية، وما لبث طويلا حتى أسلم الروح. عند ذلك أمر الملك أن يغرز مشعل محترق في جسد ماني ليتأكد من موته، ثم قطع رأسه وعلقه فوق بوابة المدينة. وبذلك تقرَّر مصير واحد من أعظم أصحاب الرسالات الروحية من قِبل ملك غُر أنهى المُحاكمة المصيرية خلال الوقت الفاصل بين غسل يديه عقب الطعام والانطلاق إلى الصيد، ولم ير في ماني الكهل إلا رجلًا لا يصلح للحرب ولا للصيد.

ولكن السلطة قد تنال من جسد المفكر وتفعل به ما تشاء، أمَّا أفكاره فتطير كل مكان ولا يمكن اصطيادها بشص أو إسقاطها بسهم. ولقد عاشت المانوية أكثر من ألف عام بعد وفاة مُعلمها رغم أنف كل سلطةٍ غاشمة.

(٢) المعتقد

إنَّ العقيدة التي بشَّر بها ماني هي شكل من أشكال الغنوصية السورية البابلية، ولكن ماني قد تجاوز الحدود الضيقة للغنوصية فأسَّس لديانة شمولية تقوم على موروث غنوصي بالدرجة الأولى وموروث زرادشتي ومسيحي ويهودي، إضافة إلى العديد من التيارات الدينية والفلسفية الأخرى. إنَّ توجُّه هذه الديانة إلى جميع بني البشر ونهجها التبشيري الإنساني يجعل منها ديانة عالمية توحيدية بكل امتياز.

تتفق المانوية مع الغنوصية في نقطتين رئيسيتين، الأولى هي أنَّ العالم شرٌ ومحكوم بالقوى الشريرة، والثانية هي أنَّ العرفان لا الإيمان هو الذي يقود إلى خلاص الروح. فروح الإنسان هي قبس من النور الأعلى ومن جوهر الله، ولكنه قبسٌ حبيسٌ في سجن المادة. ثم تسير المانوية أبعد من ذلك عندما ترى أنَّ العرفان الفردي يُساهم بشكل فعَّال في عملية الخلاص الكونية التي يقودها الأب النوراني الأعلى، من أجل انتصار النور الطيب على الظلام الخبيث، وتحرير عناصر النور التي اختلطت بعناصر الظلمة. وهُنا تلتقي المانوية مع الزرادشتية في التوكيد على مفهوم الثنوية؛ فهي تقول بوجود أصلين أو مبدأين هما النور والظلام، ولكن بينما ترى الزرادشتية أنَّ النور قديم والظلام حادثٌ، فإنَّ المانوية ترى أنَّ النور والظلام أزليان ومتساويان في القدم ولكنهما ليسا متساويين في الأبد، لأنَّ الظلام يسير نحو التلاشي والنور يحتل مواقعه تدرجيًّا عبر مراحل التاريخ الثلاث التي كشفها الأب النوراني لرسوله، في المقطع الذي اقتبسناه آنفًا: «وأباح لي معرفة السر المحجوب بخصوص عدد وأجيال البشر. السر العميق والعالي، سر النور والظلام، سر الصراع والحرب الماحقة. وعلَّمني ما هو كائن وما كان وما سيكون.»

في المرحلة الأولى السابقة على الخلق والتكوين كان الأصلان مستقلين ومنفصلين عن بعضهما. وعلى حد ما أورده ابن النديم فإنَّ: «مبدأ العالم كونان، أحدهما نور والآخر ظلام، كل منهما منفصل عن الآخر. فالنور هو العظيم الأول، وهو الله ملك جنان النور … وذلك الكون النَّير مجاورٌ للكون المظلم لا حاجز بينهما، فلا نهاية للنور من فوقه ولا يمنته ولا يسرته، ولا نهاية للظلمة من سفلها ولا من يمنتها ولا من يسرتها. ومن الأرض المظلمة كان الشيطان الذي ليس أزليًّا بعينه رغم أنَّ عناصره كانت أزلية.» وعلى حد ما أورده الشهرستاني في المِلل والنِّحَل: «ولم يزل النور يُوَلِّد ملائكة لا على سبيل المناكحة بل كما تتولَّد الحكمة من الحكيم والمنطق الطيب من الناطق. وملك ذلك العالم هو روحه، ويجمع عالمه الخير والحمد والنور. كما أنَّ الظلمة لم تزل تُوَلِّد أراكنة وعفاريت، لا على سبيل المناكحة بل كما تتولَّد الحشرات من العفونة القذرة. وملك ذلك العالم هو روحه، ويجمع عالمه الشر والذميمة والظلمة.»

في المرحلة الثانية، وهي مرحلة الخلق والتكوين وما تلاها إلى يوم الناس هذا، امتزجت الظلمة بالنور وتصارع الأصلان القديمان. يقول الشهرستاني: «ثم اختلفت المانوية في المزاج وسببه، والخلاص وسببه. قال بعضهم إنَّ النور والظلام امتزجا بالخبط والاتفاق لا بالقصد والاختيار. وقال أكثرهم إنَّ سبب المزاج أنَّ أبدان الظلمة تشاغلت عن روحها بعض التشاغل، فنظرت الروح فرأت النور فبعثت الأبدان على ممازجة النور، فأجابتها الأبدان لإسراعها إلى الشر. فلمَّا رأى ذلك ملك النور وجَّه إليها ملاكًا من ملائكته، فاختلطت الأجناس النورانية بالأجناس الظلامية … فلمَّا رأى ملك النور هذا الامتزاج أمر ملاكًا من ملائكته فخلق هذا العالم على هذه الهيئة، لتتخلَّص أجناس النور من أجناس الظلمة.» كما نقرأ لابن النديم في أمر الامتزاج وخلق العالم: «فلمَّا تكوَّن هذا الشيطان من الظلمة تَسمَّى إبليس القدي، ثم راح هذا الإبليس يتحرَّك يمنة ويسرة وإلى الأسفل، ولمَّا رام العلوم رأى لمحات النور فأعدَّ نفسه وتسلَّح استعدادًا للانقضاض على مملكة النور من أسفلها، فعلم به ملك جنان النور واحتال لقهره. كان جنوده قادرين على قهر إبليس، ولكنَّه أراد أن يتولى ذلك بنفسه فأولد مولودًا هو الإنسان القديم٤ وندبه لقتال الظلمة … فتدرَّع الإنسان القديم بالأجناس النورانية الخمسة وهي: النسيم والريح والنور والماء والنار، واتخذها سلاحًا وانحط بسرعة إلى مكان إبليس. وعمد إبليس إلى أجناسه الظلامية الخمسة وهي: الدخان والحريق والظلمة والسَّموم والسم، فتدرَّعها ولقي الإنسان القديم فاقتتلوا مدة طويلة، ولكن إبليس ظهر على الإنسان القديم وبلع من نوره وأحاط به مع أجناسه وعناصره، ولكن ملك جنان النور أرسل وراءه نجدة من قوى عالم النور خلَّصت الإنسان القديم وأسرت من أرواح الظلمة … وحدث لمَّا شابك إبليس القديم بالإنسان القديم بالمحاربة، أن اختلط من أجزاء النور الخمسة بأجزاء الظلمة الخمسة.

«فلمَّا اختلطت الأجناس الظلامية الخمسة بالأجناس النورية، نزل الإنسان القديم إلى غور العمق فقطع أصول الأجناس النورية لئلا تزيد، ثم انصرف إلى موضعه من الناحية الحربية، فأمر بعض الملائكة باجتذاب ذلك المزاج إلى جانب من أرض الظلمة يلي أرض النور، فعلَّقوهم بالعلو. وبعد ذلك أمر ملك عالم النور بعض ملائكته بخلق هذا العالم وبنائه من تلك الأجزاء الممتزجَة، من أجل تخليص أجناس النور من أجناس الظلمة، فبنى عشر سماوات وثماني أرضين ووكَّل ملاكًا بحمل السماوات وآخر برفع الأرضين، وجعل حول هذا العالم خندقًا ليُطرح فيه الظلام الذي يُستصفى من النور، ثم خلق الشمس والقمر لاستصفاء ما في العالم من النور، فالشمس تستصفي النور الذي امتزج بشياطين الحر، والقمر وسائر النجوم تستصفي النور الذي امتزج بشياطين البرد.»

خلال هذه الفترة الثانية، يُمارِس الإنسان دورًا فعالًا في عملية الفصل بين النور والظلمة ودفع التاريخ إلى مرحلته الثالثة، مرحلة استقلال النور عن الظلمة والقضاء على إبليس. يقول ابن النديم: «وممَّا يُعين في التخليص والتمييز ورفع أجزاء النور، التسبيح والتقديس والكلام الطيب وأعمال البر، فترتفع بذلك الأجزاء النورية في أعمال عمود الصبح (= درب المجرة) إلى فلك القمر. فلا يزال القمر يقبل ذلك من أول الشهر إلى النصف، فيمتلئ فيصير بدرًا، ثم يؤدي إلى الشمس حتى آخر الشهر، فتدفع الشمس إلى نور فوقها في عالم التسبيح، فيسير في ذلك العالم إلى النور الأعلى الخالص، ولا يزال يفعل ذلك حتى لا يبقى من أجزاء النور شيءٌ في هذا العالم.»

عندما تحل المرحلة الثالثة يكون معظم النور المحتبس في المادة الظلامية قد عاد إلى أصله، ولم يبقَ في هذا العالم سوى نذر يسير، تأتي نهاية العالم. يقول الشهرستاني: «حتى إذا لم يبقَ من أجزاء النور في هذا العالم إلا قدرٌ يسير منعقد لا تقدر الشمس ولا القمر على استصفائه، يرتفع الملاك الذي يحمل الأرض، ويدع الملاك الذي يجذب السماوات، فيسقط الأعلى على الأسفل، ثم توقد نارٌ حتى يضطرم الأعلى والأسفل، ولا تزال تضطرم حتى يتحلَّل ما فيها من النور، وتكون مدة الاضطرام ألفًا وأربعمائة وثمان وستين سنة.» ويقول ابن النديم: «وهكذا فأجزاء النور أبدًا في الصعود والارتفاع، وأجزاء الظلمة أبدًا في النزول والتسفُّل، حتى تتخلص الأجزاء من الأجزاء، فيبطل الامتزاج وتنحل التراكيب ويصل كل إلى كله وعالمه، وذلك هو القيامة والمعاد.» وأيضًا: «فإذا انقضى التدبير ورأت روح الظلمة خلاص النور وارتفاع الملائكة والجنود والحَفَظَة رامت القتال، فيزجرها الجنود من حولها فترجع إلى قبرٍ أُعد لها ثم يُسد على ذلك بصخرة تكون مقدار الدنيا، فتتم حينئذٍ الراحة من الظلمة وأذاها.»

أمَّا عن مفهوم الخلاص، وهو المفهوم المركزي في المعتقد المانوي، فيرتبط بأسطورة خلق الإنسان التي تستطيع إعادة بنائها اعتمادًا على شذرات من النصوص المانوية، وعلى مصادر أخرى غير مباشرة. فعندما رأى الشيطان خطة الله في استصفاء النور المحتبس في المادة الظلامية، جهَّز خطة معاكسة لاحتباس مزيد من النور في نسيج المادة بواسطة الجنس البشري، الذي تتألَّف أعضاؤه من المادة بينما تتركَّز الأنوار بكثافة فائقة في روحه. فعهد إلى أركونين من أراكنته باستيلاد الزوجين الأولين آدم وحواء اللذين تجمَّع فيهما جزء كبير من النور المحتجز في الأسفل. ولكن الإنسانين الأولين كانا غارقين في سُبات الجهل غير مدركين لوميض النور في داخلهما. فلمَّا رأى الله ما فعل الشيطان أشفق على الإنسان، فأرسل إلى آدم وحواء يسوع النوراني «وهو غير يسوع الأرضي الذي بُعث رسولًا فيما بعد» ليزودهما بالغنوص (= العرفان) ويفتح أعينهما على حقيقة الروح المحتجزة والمتألمة في سجن المادة ويظهر لهما أصلهما المزدوج، ثم أرسل الله إلى نسل آدم وحواء رُسلًا يحملون لهم المعرفة المحررة وهم: شيت ونوح وأخنوخ وشيم وإبراهيم وبوذا وزرادشت ويسوع وبولس وأخيرًا ماني. ذلك أنَّ الجهل عند المانوية، كما هو عند الغنوصية بشكلٍ عام، هو الذنب وهو الخطيئة، والخلاص لا يتم إلا بالمعرفة الداخلية المحررة.

إنَّ الروح العارفة التي حقَّقت الاستنارة وأدركت أصلها النوراني، سوف تنفك من إسار دورة الميلاد والموت، وتصعد عبر عمود الصبح إلى القمر ومنه إلى الشمس فإلى النور الأعلى، تاركة جسدها إلى الأبد في عالم المادة الظلامية. وعندما تصل حدود النور تخرج لاستقبالها عذراء سماوية رائعة هي تجسيد لعرفان الفرد ولعمله الصالح، ووراءها ثمانون ملاكًا مزينين بالورود يأخذون بيد الروح العارفة ويقودونها إلى جنة النور لتذوق السعادة الأبدية هناك. وأمَّا الروح الجاهلة الراسفة في أغلال المادة فإنَّها تبقى في إسار دورة التناسخ حتى نهاية الدهر، وعقب كل موت يأتيها ملائكة العذاب فيوبخونها ويذكرونها بأفعالها السيئة ثم يذيقونها أصناف العذاب، وتُترك بعد ذلك لتتقمص في جسد جديد، وهكذا فمن تَقَمُّصٍ إلى آخر حتى قيام الساعة. عندما تقترب الساعة وتأتي عملية استصفاء النور إلى نهايتها، تحدث كوارث طبيعية في كل مكان، ثم يظهر مخلصان واحد يُدعى ميترا المزيف وهو المُخلِّص الدجال، وآخر هو ميترا الحقيقي الذي يقود الحرب العظمى الأخيرة بين قوى النور وقوى الظلام، والتي تنتهي بالنصر المؤزَّر للنور، عند ذلك يجتمع المؤمنون المُبعثرون، ويتم تجديد المعبد وإنقاذ الكتب المقدسة، ويقوم ملكوت الرب على الأرض، وهو ملكوت يحكمه يسوع المسيح لفترة قصيرة من الزمن قبل أن يلتحق بالعالم النوراني. بعد ذلك تنطبق السماء على الأرض، وتندلع نيران في كل مكان تبقى مضطرمة حتى تُرفع بقية ذرات النور نحو الأعلى، ويموت الجميع وتفنى أجسادهم، أمَّا أرواحهم فتبعث إمَّا إلى نعيم وإمَّا إلى جحيم. أمَّا الشيطان وزبانيته فيُجمعون في كتلة سوداء هي بقية المادة الظلامية، تُرمى في أعماق حفرة كونية هائلة ويُسد عليها بحجر ضخم.

(٣) الأخلاق والعبادات

أورد الشهرستاني مقطعًا مقتضبًا حول الأخلاق والعبادات المانوية قال فيه: «وقد فرض ماني على أصحابه العُشر في الأموال كلها، والصلوات الأربع في اليوم والليلة، والدعاء إلى الحق، وترك الكذب والقتل، والسرقة، والزنا، والبخل، والسحر، وعبادة الأوثان، وأن يأتي على ذي روح ما يكره أن يؤتى إليه بمثله.» غير أنَّ المصادر الأخرى تُعطينا مزيدًا من التفاصيل حول هذه النقطة. فالأخلاق والعبادات المانوية ليست واحدة بالنسبة لجميع فئات الكنيسة. لقد ذكرنا في حديثنا عن مراتبية كنيسة ماني أنَّها تتألَّف من أربع فئات رهبانية وفئة خامسة تشتمل على عامة المؤمنين. يُدعى أهل الفئات الرهبانية بالمُجتبين أو الصدِّيقين، ويُدعى أهل الفئة العريضة الخامسة بالسمَّاعين. وتختلف قواعد السلوك والعبادات المفروضة على المؤمن المانوي تبعًا لانتمائه إلى إحدى هاتين الشريحتين، وبشكلٍ عام يلتزم الصدِّيقون من الشريحة الرهبانية خمس وصايا سلوكية وأخلاقية هي:
  • (١)

    طهارة الفكر واللسان، فلا يتداول العقل إلَّا الأفكار الحسنة ويبتعد عن الأفكار والعواطف السيئة كالحسد والضغينة وما إليها، ولا يصدر عن اللسان إلَّا الصدق وكلام الحق.

  • (٢)

    التزام اللاعنف تجاه الكائنات الحيَّة من إنسان وحيوان ونبات، فلا يقتل الصدِّيق حيوانًا ولا يقطع شجرة ولا يجني ثمارًا أو يحصد غلالًا.

  • (٣)

    الامتناع عن أكل اللحم وشرب الخمر والتزام الغذاء النباتي. وبما أنَّ تحضير الأغذية النباتية يتضمَّن خطيئة مباشرة بحق الحياة النباتية، فإنَّ الصدِّيقين يعتمدون على السمَّاعين في هذه المهمة ولا يمارسونها بأنفسهم، وعندما تُقدَّم الأغذية النباتية إلى أحد الصدِّيقين من أحد السمَّاعين يقبلها منه ويصلي من أجله لكي تُغفر خطيئته، وقبل تناول الخبز يقول: لم أحصدك ولم أطحنك ولم أخبزك، بل فعل ذلك شخص آخر، لذا أتناولك دون إثم.

  • (٤)

    العزوف عن الزواج وعن المعاشرة الجنسية، من أجل معاكسة خطة الشيطان في حبس مزيد من النور في كثافة المادة عن طريق المواليد الجدد. يُضاف إلى ذلك أنَّ المانويين اعتقدوا أنَّ السائل الحيوي في الرجل يحتوي على قدر كبير من النور المُركَّز، فكانوا حريصين على عدم تسرب هذا النور إلى الخارج.

  • (٥)

    الفقر وعدم امتلاك أي شيء من متاع الدنيا.

إنَّ الصدِّيقين وحدهم هم المؤهلون للخلاص والانعتاق من دورة تناسخ الأرواح، في حال التزامهم بالوصايا وتفرغهم لحياة الزهد والتأمل التي تقود إلى العرفان. وبما أنَّ نمط الحياة هذا يحول بينهم وبين أداء كل ما هو عملي، فقد كان على السمَّاعين مساندتهم بالطعام والشراب والكساء وكل ما يلزمهم للتفرغ لمهامهم الروحية، وسيكون أجر المحسن منهم أن يتقمص في جسد صدِّيق في تناسخه المقبل. وقد أحلَّ ماني لشريحة السمَّاعين معظم ما حرمه على الصدِّيقين، فقد أباح لهم أكل اللحم والزواج والإنجاب وممارسة النشاطات العملية اللازمة لاستمرار الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وفرض عليهم خمس وصايا سلوكية وطقسية، هي:
  • (١)

    مراعاة عشر قواعد سلوكية أهمها الامتناع عن الزنا، والإخلاص الزوجي، والتزام اللاعنف تجاه الكائنات الحية.

  • (٢)

    تأدية الصلوات الأربعة في كل يوم، وهي صلاة الفجر وصلاة الظهر وصلاة المغرب وصلاة العشاء، وتسبق الصلاة عملية الوضوء.

  • (٣)

    تنحية العُشر من أموالهم يُنفق على الفقراء، ولدعم حياة الرهبنة التي يعيشها الصدِّيقون.

  • (٤)

    الصيام يوم الأحد من كل أسبوع، وصيام الشهر المقدس كل سنة، وهو الشهر الذي يسبق العيد الكبير المدعو بيما.

  • (٥)

    ممارسة الاعتراف بالخطايا كل يوم اثنين أمام الكاهن. وهناك اعتراف جماعي يُتلى في العيد الكبير لغفران خطايا الجماعة المانوية.

(٤) انتشار المانوية

انتشرت المانوية في سورية خلال حياة ماني، ومنها انطلقت إلى مصر حيث تشكَّلت جماعات مانوية قوية التأثير في الحياة العامة والسياسية، كما دانت إمارة الحيرة العربية بالمانوية عندما اعتنق ملكها عمر بن عدي ديانة ماني، وصار من أشد المدافعين عنها خلال فترة حكمه التي امتدَّت من سنة ٢٧٠ إلى سنة ٣٠٠ ميلادية. ومن الحيرة خرجت بعثات تبشيرية إلى جزيرة العرب، على ما يروي الجغرافي العربي ابن رستة، فوصلت حتى مكة واستمالت بعض أهلها. بينما يروي المؤرخ ابن قتيبة أنَّ بعض القرشيين قد أحضروا هذه البدعة، كما يسميها، إلى ديار العرب. ومن مصر انتشرت المانوية إلى شمال أفريقيا وإلى إسبانيا، كما عبرت سورية إلى آسيا الصغرى واليونان وإلِّيريا وإيطاليا وبلاد الغال، وجميع هذه المناطق كانت من أصقاع الإمبراطورية الرومانية. ولقد رأت روما في المانوية بدعةً إيرانية، وفي أتباعها نوعًا من الطابور الخامس الذي يعمل لصالح العدو، فابتدأ الاضطهاد المنظم للمانويين منذ عهد الإمبراطور ديوقليان الذي أصدر مرسومًا يقضي بإحراق جميع المؤلفات المانوية أنَّى وُجِدَت، وقتل المانويين ومصادرة أملاكهم.

ونحو الشرق توطَّنت المانوية في المناطق الهندية القريبة من إيران منذ حملة ماني التبشيرية الأولى، واعتنق ملك طورفان المانوية وجعلها ديانة رسمية للدولة. وبعد وفاة ماني حمل حواريوه المعتقد وتوغلوا به شرقًا فصارت مدينتا سمرقند وطشقند الحاضرتين الرئيسيتين لإقليم الصغد بمثابة قاعدة انطلاق للحملات التبشيرية على طول طريق الحرير وصولًا إلى الصين، حيث دخل المُبشِّرون البلاط الصيني وشرحوا معتقدهم للإمبراطور. وحوالي عام ٧٦٠م صارت المانوية الديانة الرسمية لمملكة أويغور الصينية الحدودية، التي كانت تسيطر على أجزاء كبيرة من مناطق آسيا الوسطى، وبعد انهيار المملكة بعد قرن من الزمان، استمرَّت العقيدة المانوية في الصين من خلال جماعات سرية حتى القرن الرابع عشر.

ولكن الاضطهاد الذي وقع على المانوية من قبل روما أولًا ثم الكنيسة المسيحية ثانيًا فالخلافة العباسية، قد أدى إلى أفولها التدريجي حتى تلاشت تمامًا مع مطلع العصور الحديثة.

خلاصة

تُعتبر المانوية بحق نموذجًا كاملًا عمَّا أسميناه في مطلع هذا البحث بالثنوية المطلقة. فعالم النور وعالم الظلام أصلان قديمان أزليان ومستقلان عن بعضهما البعض. وعلى حد قول فاوست تلميذ ماني في حواره مع القديس أوغسطين: «إني أُبشِّر أنَّ هنالك عنصرين رئيسيين هما الله والمادة، فأعزو كل ما هو شرير إلى المادة، كما أعزو كل خير إلى الله.» وبذلك يحل المعتقد المانوي مشكلة وجود الشر في العالم بطريقة أكثر جذرية من بقية المعتقدات الثنوية. فالله ليس مسئولًا بشكل مباشر أو غير مباشر عن وجود الشر، لأنَّ هذا الشر قد نجم عن المبدأ الثاني المستقل. فلا الشيطان انبعث عن الرحمن كما هو الحال في الثنوية الزرادشتية، ولا هو مخلوق من قِبل الرحمن تمرد وعصى عليه كما هو الحال في الثنوية الأخلاقية.

ورغم توكيد ماني على الأخلاق الاجتماعية وتوسيعه مفهوم السلوك الأخلاقي ليشتمل على علاقة الإنسان بجميع مظاهر الحياة، إلَّا أنَّ هذه الأخلاق لا تقود في حد ذاتها إلى الخلاص، مثلما لا يقود الإيمان إليه، وإنَّما هي وسيلة تطهير من شأنها تحضير النفس لتحقيق العرفان، وهو الطريق الوحيد للانعتاق.

مراجع الفصل

  • (1)
    Geo Widengren, Mani and Manichaenism, New York 1965.
  • (2)
    Gerardo Gonoli, Mani-Manichaenism, in: Encyclopedia of Religion, vol. 9.
  • (3)
    Robert Haurdt, Mani and Manichaenism, in: The Other Bible, chapter 9.
  • (٤)

    جيو ودينغرين: ماني والمانوية، ترجمة د. سهیل زكار، دار حسَّان. دمشق ١٩٨٥.

  • (٥)

    ابن النديم: الفهرست، تحقيق د. ناهدة عباس عثمان، الدوحة ١٩٨٥، فصل المنانية، ص٦٤٤ وما بعدها.

  • (٦)

    الشهرستاني: المِلل والنِّحل، دار المعرفة بيروت، المجلد الأول، الباب الثالث، الفصل الثاني.

١  انظر مراجعنا عن المانوية في نهاية الفصل.
٢  والكلمة من أصل سرياني، وتعني التوءم.
٣  والكلمة مشتقة من الأصل اليوناني Para-Kaleo، الذي يحمل معنى التأييد والمعاضدة، ونلاحظ هنا الاختلاف بين النصين القبطي والعربي حول هوية الملك، وفيما إذا كان أردشير أم ابنه شابور. ولكن ما نعرفه من سيرة ماني يدل الآن على أنَّ المعني هنا هو شابور الذي رعى ماني وأكرمه.
٤  وهو ابن الإنسان في الفكر المنحول، والإنسان الكامل أو القديم في الفكر الغنوصي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤