كلمة للمعرب في الدموع

مطافئ الحزن، كلما أسرع لهيبه أسرعت بوادرها، وكلما عاد عادت، فسبحان من جعلها عيونًا ثرَّة، وهيَّأ لكل آفة ضدها ليستقيم ملكه ويتم أمره.

بكى أحد الحكماء على قبر ولده، فقيل له: «كيف تبكي مع علمك أن الحزن لا يفيد؟» قال: ذلك الذي يبكيني، كفى حزنًا أن الحزن لا ينفع.

من المغالطة أن تحاول بالتمويه تحريم البكاء، وتأمر الناس أن يَسدُّوا من ينابيع الدمع ما فجره الله في قلوبهم.

لم يخلق الدمع لامرئ عبثا
الله أدرى بلوعة الحزن

إن البعض ليرحب بالدمع ترحاب المجدب بالغمام؛ فإن الحزن العديم الدموع كالصحراء العديمة الماء. والحزن الذي يبخل بالعبرات كالمحروق الذي تذهله النار أن يذهب إلى الحوض؛ لذلك كان أفضل الحزن وأرشده، ما فتح أقفال الدمع فتواصلت سجامه.

الدمعة تذهب اللوعة. قال سليمان بن عبد الملك عند موت ابنه لعمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة: «إني لأجد في كبدي جمرةً لا تطفئها إلا عبرة.» فقال عمر: «اذكر الله يا أمير المؤمنين وعليك بالصبر»، فنظر إلى رجاء بن حيوة كالمستريح إلى مشورته، فقال له رجاء: «أفضها يا أمير المؤمنين، فما بذاك من بأس، فقد دمعت عين رسول الله على ابنه إبراهيم.» وقال: «العين تدمع والقلب يوجع.» فأرسل سليمان عينه فبكى حتى قضى أربًا، ثم أقبل عليهما فقال: «والله لو لم أنزف هذه العبرة لانصدعت كبدي.»

وربما كان لطليعة الدموع من شدة الوقع ما لطليعة السيل والخيل، ولكنها على كل حال برد على الغليل وسلام، وفيها منجاة من جفاف الحزن، والأسى اليابس الذي يترك المرء عرضة للذبول في قفار الشقاء، والدمع مهما اشتد انطلاقه فمآله إلى السير الرقيق والانسجام اللين، ثم يستقر، ولكل ثائرة قرار.

والدمع يغسل الأشجان كما يغسل السحاب الجدب، وتذيب أملاح الهم، وتذهب بمرارة الأسى كأنها المصارف في التربة الخبيثة. وهي التي تغلب الحزن، وتقهر الموت نفسه، وتسلب من أفاعي الذكرى إبرها، وتترك في صابها عسلًا.

والدمع ليس بقاصر على الأسى، فقد يكون من الرقة، والحنان، والرحمة، والشكر، والخوف، والرجاء، والندم، والتوبة، والطرب، والفرح. سل الأم التي تضم رضيعها، لماذا تبكي؟ والأب الذي يستقبل ابنه العائد، لماذا يبكي؟ والرجل الذي يسمع الغناء، لماذا يبكي؟ والعاشق الذي يبصر القمر، لماذا يبكي؟ سل الشاعر الذي يَنظِم القصيد، أو ينشده، لماذا يبكي؟ والعروس التي تزف إلى قرينها، لماذا تبكي؟ والكريم الذي يئوي البائس تحت سقفه، ويشاطره طعامه، لماذا يبكي؟ والعدو الذي يصالح عدوه، لماذا يبكي؟ والسائح الذي يسمع تسبيح العابد، لماذا يبكي؟ الدمع عنوان الشعور، ودليل الإحساس.

ولا أحسب عبرات السرور إلا شكرًا محسوسًا لنعمة الله، وحمدًا ملموسًا. والدموع في خدود الحسان من أملح المناظر؛ إذا كانت للفرح فبرقت في لَألاء الوجه المشرق، رأيت الورد يجلو الندى في بهجة الصباح، وإذا كانت في الشجن، خِلت النرجس يبكي في ظلال المساء.

ليس في الكون ما هو أفعل في القلوب من منظر العبرات، والرجل الذي لا تحركه العبرات مظلم الذهن راكد النفس، لا يصلح إلا للفساد والخيانة.

وقد أظن أن الرحمة لو تمثَّلت لما كانت إلا دمعة، قال الشاعر «توماس مور»:

بكت الفتاة على قبر حبيبها ونور القمر يتوسد فرش الثلج
فانطلقت دمعة حارة جمدها الهواء القارس
ولبثت طول الليل حتى برق الصباح فبرقت في شعاعه
وكان أحد الملائكة قد فارق فلكه يرفرف على عظام الموتى
فأبصر تلك الدمعة الجامدة
فحملها إلى «الرحمة» ذات العين الندية
وجعلها حلية لتاجها وزينة سنية.

أما دمع التوبة فطهور النفس يغسلها من شوائب الإثم، ويضرح عنها أقذاء المنكر، ويتقدم التوبة، فهو لها كالضوء للصلاة. ولعل هذا النوع من الدموع أجلها وأشرفها، وإذا كانت العبرات المسكوبة لغرض دنيء تذهب في الأرض هدرًا، فإن دموع التوبة تتصاعد إلى عرش الله بخارًا طاهرًا.

الدمع على كل حال جلاء العين، يجلو صدأها ويصقلها. والعين بعد البكاء أصفى رؤية وأثقب بصرًا وأهدى إلى مواطن الحق، وأنفذ إلى مكان الحكمة، وأعود على صاحبها بالإيمان والتقوى.

محمد السباعي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤