الدموع

كان السكون سائدًا في الغرفة الفسيحة، ونار الموقد المتضائلة تطرح على الجدران، وبين أرجل الموائد المذهبة، ظلالًا مضطربة تتتابع وتستبق بعضها أثر بعض.

ووراء النوافذ كانت السدفة١ تتراكم، وتتكاثف في جو الطريق الخفاق بالرياح تحت سماء مكفهرة، ومن لوح الزجاج الأقرب إلى الموقد كان ينعكس شعاع على شخص رجل مستند إلى زاوية صفة الموقد، ومن الموقد ذاته كان ينبعث وهج متألق على إزار فتاة متكئة على كرسي لدى الزاوية الأخرى.

وكان وجه الفتاة خافيًا في ظل الموقد.

أما الفتى فكان جميلًا مليح الطلعة، تستدير ياقته البيضاء العالية حول رقبة تلعاء غلباء، وتضم بردته الزرقاء على قامة معتدلة هيفاء.

تنظر الفتاة إلى هذه المحاسن، فتجد لأثرها في نفسها لذة وسرورًا مشوبًا بكمد واكتئاب، ثم تستقر عينها على وجه الفتى فتتشبث به كأن بها أحر الظمأ إلى غدير حسنه الرقراق.

وكان لا يزال بالغرفة من بقايا الضوء المنصرم ما أراها مستدار وجهه البديع، وما كان قد عراه آنفًا من هزال في وجنتيه ونحول، وذواء في وردتيهما وذبول، وتغضن في الجبين، وشيء من الورم في الجفون.

هنا يتحول الفتى عن موضعه قليلًا، فينظر من النافذة، وعينه مفعمة بالكرب والضيق، وإنها لتعلم ذلك، وإن كان وجهه محولًا عنها، فترسل ضحكة مكتومة خرساء، وكانت وقفته الآن تنم لها عن معنى السخط، والقلق البادي على شفتيه، ودلائل العزم والإصرار البادية على ذقنه.

قال الفتى بصوت جافٍ فاتر فيه شيء من المناوأة والمنابذة، ولكن لهجته تنم عن حسن أدب ورقة، وهو مولي الفتاة ظهره، وكأنما يخاطب زجاج النافذة: «أتظنين أن رجلًا وامرأة يستطيعان أن يعيشا بلا مال ولا إيراد؟» فلم تدر الفتاة أي الإحساسين كان يتغلب في نفسها على الآخر؛ اللذة أو الألم.

فقالت بصوت خافت مختنق: «ولكنني أقول: إذا كان إيراد أحديهما أو مجموع إيراد الاثنين كافيًا، فليس من المهم أيهما الموسر وأيهما المعدم، أو أيهما الأغنى وأيهما الأفقر.»

ويعقب هذا فترة سكوت، ثم تقول بصوت لجلج: «هيَّات، أترى ذلك في شيء من الأهمية؟»

فأجاب: «أجل، إنه لمن أهم الأشياء عندي، ينبغي أن يكون للرجل من الثروة ما يكفي الاثنين، وإلا فلا حق له في الزواج مطلقًا.»

هنا تشتبك يداها خلف خصرها النحيل بشدة، دليل التأثر العظيم وتطرق حزينة مكتئبة.

لقد آنست في لهجة الفتى أمارات الإصرار القوي، الدالِّ على أن كلامه كان يشمل شيئًا أكثر من مجرد التعبير عن نظرية اجتماعية — كان يشمل ثقته التامة، واعتقاده الشديد بصحة ما يقول؛ مما ألقى على قوله صبغة المبدأ الراسخ المتأصل.

فيعتري الفتاة شبه دوار من فرط التأثر، فتغمض جفنيها الملتهبتين بسرعة لتحجب عن بصرها ما يبدو على ذقن الفتى من ذلك الخط الحاد الدال على منتهى الإصرار والعناد.

وتقول الفتاة: «إن الناس ليذهبون مذاهب شتى في تقدير المبلغ الكافي لنفقة معاش الزوجين.» قالت ذلك بأدب وتلطف، وقلبها يخفق ارتقابَ جوابه على مقالها هذا.

قال الفتى بجمود بعد فترة قصيرة، وتحول نحو الغادة قليلًا: «وما مذهبك أنت في ذلك؟ كم ترين يكفي الزوجين؟»

في هذه اللحظة كان لهيب النار الأحمر يلقي شعاعه الوهاج على ذيل مئزرها، ووقع بصر الفتى على ساقها المستدير، وعلى إحدى قدميها اللطيفتين مستقرة على أسفل قائمة الموقد، وكانت بقية شخصها مستورة في الظل الأسود إلا جانبًا من كتفها المكتنز البديع الاستدارة، ووبيصًا لماعًا فوقه من شعرها الذهبي.

فرنا إليها الفتى طويلًا، وعرته هزة فجائية، وأحس بدنه ينمو، ويتمدد لفرط اهتياج أعصابه، ولكن لقوة إرادته لم يبدُ على ظاهره أدنى حركة تدل على القلق والاضطراب، وجعل الفتى ينتظر جوابها على سؤاله في أتم سكينة وهدوء. فترددت الفتاة في فكرها وهي تنظر إليه.

لقد بدا سؤاله هذا في غاية السخافة والسخرية إزاء فرط حبها له، وغرامها الذي لا يعرف حدًّا ولا غاية.

كيف تقدر لعيشها معه مبلغًا من المال، وهي التي يكفيها معه أيُّ شيء ولا شيء!

في هذه اللحظة كان تيار شعورها الباطن الخفي المنساب تحت الطبقة الظاهرة من أفكارها، والذي كان يشوش هذه الأفكار، ويصعب عليها طريق التعبير والإبانة — كان ذلك التيار الوجداني الخفي هو بالنص الآتي: «أشهى لي وأحب إلي أن أموت جوعًا بين ذراعيك، من أن أعيش يومًا واحدًا بعيدة عنك.»

هذا شعورها الباطن، فبماذا تجيب؟ إن تحديدها مبلغًا قليلًا في نظره خطأ كبير كتحديدها مبلغًا عظيمًا؛ فسيراها على أية حال سخيفة غبية منقادة للعواطف الخيالية المتطرفة، لا للحقيقة العادلة، جاهلة بما تتعرض له من هذا الموضوع الخطير؛ جاهلة بمسئولية الحياة العظمى.

وكانت تعلم فوق ذلك أن تحديدها مبلغًا ضئيلًا كان يثير أمام عينه صورة عيشة حقيرة ضنكة تجرح شعوره، وتؤذي إحساسه، وتملؤه اشمئزازًا وسخطًا.

أليس الفتى فقيرًا قليل ذات اليد؟ بلى، لقد خبَّرها أنه فقير وإنها لتصدق ذلك، ولكنها تعلم أنه يقترض ويستدين؛ ليستطيع أن يعيش ويلبس كما يلبس ويعيش الرجل المحترم.

وهنا كرت بصرهاعلى شخصه، فاستوعبت في نظرة واحدة حسن هندامه، وجمال شارته، وقالت في نفسها: هذه الحلة البديعة، وهذا الحذاء الرقيق، وهذه السجائر الغالية، هذه المناعم والمتارف لا تصلح إلا له، ولا يصلح إلا لها، فهكذا يعيش ويلبس وإلا فلا، هكذا ينبغي أن تكون عيشته، وإلا فكل عيشة غيرها تكون خلوًّا من اللذة، قفرة من المتاع، عاطلة من البهجة والسرور والسعادة.

ومع ذلك فلقد كانت مضطرة إلى تعيين مبلغ لا يئوده ولا يبهظه، فتذكرت المائتي الجنيهات — إيرادها في العام — ثم قالت في نفسها: وما أظن أن ربحه السنوي يقل عن مائة.

فأجابت أخيرًا بصوت ضعيف خافت: «إن الجواب على هذا لمن أصعب الأمور؛ لأن اعتقادي الشخصي أن الإنسان يستطيع العيش بأقل مبلغ من المال، ولكني أظن أن معظم الناس في مركزي هذا يحددون مبلغ ثلاثمائة جنيه في العام.»

فمد يده لقدح الشاي الموضوع على مائدة صغيرة إلى جانبه، وكان الشاي قد برد أثناء المناقشة في هذه الأغراض النظرية، فتناول القدح، وهو يقول بلهجة الهازئ: «ثلاثمائة جنيه في العام!» ثم جلس بالقدح في زاوية من الأريكة المقابلة للفتاة، وأقبل يقلب الشاي ببطء، وقال بتمهل وتريث: «كم يكون ذلك في الأسبوع؟ خمسة جنيهات وخمسة عشر شلنًا، أليس كذلك؟ خبريني ماذا تصنعين بهذا؟ منزل من بابه، أصغر منزل، ثم الخدام …»

فقاطعته الفتاة قائلة: «وما لزوم منزل كامل، وأي ضرورة للخدام؟»

فقال بجفاء: «لا أدري، ولكن شيمة الفتيات أنهن ينتظرن كل هذا عند أزواجهن.»

قالت: «ليس كل الفتيات سواء.» وكان يخيل للسامع أنه يسمع في صوتها الابتسامة التي كانت تضيء وجهها أثناء نطقها بهذه العبارة.

فقال بسرعة: «تريدين دورًا في منزل.» ولاح على صحيفة وجهه بارق سرور خاطف ثم زال، واستمر في قوله: «نفرض دورًا في منزل، أنت تريدين لذلك ثلاثين شلنًا في الأسبوع على الأقل، ثم ثلاثين أخرى للخوان، فيبقى بعد ذلك جنيهان وخمسة عشر شلنًا لسائر مطالب الحياة.»

– «هذا بلا شك مبلغ يفي بأجمعها ويفضل.»

قال الفتى: «أنا لا أرى ذلك، اذكري الملابس.» وأقبل بوجهه على النار مطرقًا يفكر ويتدبر، وقد ثارت في أعماق نفسه ذكرى أليمة وخازة بشأن خمسة جنيهات ثمن «بدلة» يطالبه به الخياط.

وأحس أن في كلمته الأخيرة، ما يدل على شيء من الإسراف والتبذير والأنانية، فأراد أن يمحو عنه الريبة فقال: «ولا تنسي ما ينبغي للزوج أن يقدم إلى الزوجة من صنوف الملاهي، وضروب المطارب، ومبلغ ثلاثمائة في العام لا يترك شيئًا لذلك.»

فوثبت الفتاة من مجلسها، ووقفت منتصبة أحد مرفقيها يلامس صفة الموقد، وشعاع النار يفيض على شخصها، ويغمره من خصرها النحيل إلى ذيلها، وصاحت: «ملاهي ومطارب! أي ملهاة تريد المرأة إذا كانت تحب الرجل الذي تعاشره وتعايشه؟ الرجل نفسه لذتها، وملهاتها، ومطربتها! فحسبها انتظاره غائبًا، وتمريضه عليلًا، ومراقبته والنظر إليه منشغلًا بواجباته وأعماله، أي لذة وملهاة تبتغي بعد ذلك؟»

فيرنو «إصطفيان» إلى ذلك القوام اللين الناعم، ويصغي إلى تلك الكلمات التي كان يود لو تكون صادرة عن عقيدة راسخة. ولكن ريبته بالنساء عامة، حملته على الظن بأن الفتاة توارب، وتداهن جريًا على عادة النساء من الشغف بإرسال الكلام الطنان المزخرف تأثيرًا في نفس المخاطب. وكان رأيه في النساء أنهن جميعًا كاذبات منافقات، وغادرات خائنات، متَّجرات في سوق الحياة بمحاسنهن، يبعن فيها ويشترين كأي سلعة، ولكنه مع كل ذلك كان يشعر في أعماق قلبه — وكان له قلب وإن كان قد انكمش، وضمر وتقبض من قلة الاستعمال — بِشَرَهٍ شديد ونهم حاد إلى فتاة تحبه لذاته، وإن فرط حدة هذا النهم قللت نفاذ بصيرته، وأعمته عن غرائز الفتاة وطباعها.

فضحك ضحكة خفيفة ثم قال: «إنك لتنظرين إلى هذا الأمر الخطير نظرة خيالية روائية؟»

– «ماذا تريد بذلك؟»

– «أنت تحسبين أن الزوجة تمحض زوجها الحب والمودة، وتلازمه في الشدة والبلاء، فيقتحمان الأهوال والأخطار جنبًا إلى جنب … إلى غير ذلك.» وهنا يتثاءب ثم يقول: «ولكني رأيت الحب يذهب بذهاب المال، والحب لا يكون حيث الفقر والفاقة.»

قالت الفتاة ولم تشأ أن تفند رأيه، وتنقض مذهبه خشية أن يعود إلى اتهامها بالآراء الخيالية الروائية: «ولكن ثلاثمائة جنيه في العام لا تعد فاقة وفقرًا.»

– «حقًّا، إنها لتكفي ما دام هنالك اثنان فقط، ولكن متى جاء الأطفال كثرت المطالب وازدادت الحاجات.»

– «أترى كثرة الأولاد من ضروريات الحياة؟»

– «كلَّا! لا أرى ذلك البتة.»

– «ألا ترى أن أجلَّ نعم الزواج هي قلة الذرية؟»

– «بلا شك.» وهنا ينهض من مجلسه، ويدخل يديه في جيبيه: «هي أكبر مناعم الحياة الزوجية بلا ريب.»

يعقب ذلك سكوت، ويلبث الفتى أثناءه قلقًا مترددًا دقيقة أو اثنتين، ثم يضحك ضحكة مرَّة قاسية، ويقول: «لو رزقت الأولاد لكرهتها، وأي شيء أسوأ من أن يدخل المرء داره فيفاجئه الأطفال بالصراخ والعويل؟»

لم تجب الفتاة على ذلك، وأطرق الفتى مليًّا ثم ألان لهجته وقال: «ولا تنسي أن حب الزوجة لبعلها لا يلبث أن يتحول إلى أولادها. أجل، إن الحياة أهنأ بغير الأولاد والعيش أرغد.»

وأعقب ذلك فترة سكون أحس كل منهما في خلالها بشيء من الراحة، والطمأنينة لاتفاقهما أخيرًا في تلك النقطة.

ثم تحفز الفتى للذهاب، وقال: «سأذهب الآن لأني أخشى أن يفوتني موعد الغداء.»

هنا تقبل الفتاة على النار فتحركها، فيسطع لها لهب متألق وهاج يملأ الغرفة ضياء، ويكشف عن شخص كل منهما للآخر.

ولا تحاول الفتاة حجزه وإبقاءه، ثم ينظر كلٌّ إلى صاحبه نظرة الوداع.

ما أشدَّ كتمانَهما لعواطفهما! وما أعجبَ قوةَ ضبطهما لنفسيْهما!

وقف الفتى ينظر إليها بعينيه النجلاوين نظرة بثٍّ ولوعة، فكان فيما نطقت به عيناه من كربة الوجد الأليم، والغليل المحرق، وحسرة اليأس المضاض، والقنوط المبرِّح، ما قدح في قلب الفتاة، وحزَّ في أحشائها، حتى أحسَّت أن مهجتها قد ذابت وأنها تسيل بين جوانحها نهرًا فياضًا من الحنان والعطف، وطوفانًا دافقًا من الشوق والصبابة.

هل به كمد ولوعة؟ أجل لشد ما يبدو عليه البث واللوعة والكرب والشقاء. أما إنها لتتلهف لهفًا أحرَّ من الضرام، وأحز من الحسام، على أن تعبر له عما يخالج ضميرها من فرط رثائها له، وحزنها عليه.

فهي تناجي نفسها بهذه الكلمة: «يا أحبَّ الناس إليَّ وأعزهم عليَّ، بودي لو أطلعك … ولو على أقل ما …».

ويرنو إصطفيان إلى ذلك الوجه الذي يقطر منه ماء الملاحة والحسن، وتترقرق في مرآته عواطف الحب والحنان والرحمة وإلى تينك الشفتين الحارتين، وبه كالجنون توقًا إلى لثمهما … أي لذة في قبلة يطبعها على تينك الشفتين! وما عسى يكون طعم هذه القبلة؟ وإذا جادت عليه هاتان الشفتان ﺑ … وهنا تمر فترة سكوت قصير مفعمة بسيل جياش من الوجد الأليم المبرح، ولكن كلاهما يكتمه بين أحناء ضلوعه وفي سويداء لبه، فلا تنتثر منه قطرة، ثم يضحك الفتى ضحكة فجائية سوداء.

ويقول بصوت متكلف مصطنع: «لقد تباحثنا في مسألة معضلة، ومشكلة عويصة.»

قالت الفتاة همسًا، وصوتها لا يكاد يسمع من شدة جفاف حلقها وفرط يُبْسِهِ: «يظهر لي أن الموضوع غاية في البساطة.»

يسمع الفتى قولها هذا، ولكن لا يرد عليه بأكثر من ضحكة سوداء أخرى، ثم يمد يده لسلام الوداع، فتضع فيها الغادة كفها، ويتبادلان ضغطة خفيفة، ثم يخرج ويغلق الباب تاركًا الفتاة واقفة مسلوبة الحركة، وقد جَمَّدت ضحكته السوداء الأخيرة كل ما كان يتدفق في قلبها من ينابيع الحب والحنان الحارة.

يهبط إصطفيان السلم ويسلم نفسه إلى جوِّ أكتوبر القار القارس.

ثم ينحدر في الطريق، وهو يشعر أنه قد سبب آلامًا وأوجاعًا، وخلَّف همومًا وأحزانًا وراءه. ولكن هذا الشعور كان يتغلب عليه، ويكاد يمحوه شعور أشد منه وأعظم؛ شعور سخطه على حظه التعس وطالعه النحس، وحنقه على الدهر الظالم، والقدر المجحف.

فيسير برهةً مطرقَ الرأس منغمس الذهن في لجة من الكرب واليأس، ولسان حاله يقول: «مائة جنيه في العام كل أرباحي! خمسة وعشرون من العمر، ولا أكسب أكثر من مائة في العام!»

لم يكن إصطفيان بالهادئ المزاج الساكن الطبع، لقد كان جهازه العصبي مشدود الأوتار إلى الغاية القصوى، وكانت أوتاره — نظرًا لظروف وأسباب خاصة — مختلة النغمة شيئًا ما، أو على الأقل كان يشعر أنها كذلك.

فكانت دورته الدموية في ذلك الوقت مفرطة السرعة، وكل نبض يضرب بمنتهى الشدة، والدم يتدفق مستعرًا في عروقه.

ونحو ذلك كانت حالته النفسية؛ فكان ناريَّ المزاج سريع التأثر والانفعال، قريب اهتياج العواطف والشهوات، قليل الصبر كثير القلق. ولكنه كان لا يزال يقدح نفسه، ويقمعها بأصعب شكيمة من قوة الإرادة، وأمتن لجام من صرامة العزم.

فبفضل هذه الإرادة استطاع إصطفيان بعد برهة يسيرة أن يهدِّئ ثائرة نفسه، ويربط نافر جأشه، وينظم ما تشوش واضطرب من حركة ذهنه. ثم جعل في أثناء مسيره يحاول أن يتذكر هل كان قد صرح للفتاة في مقاله المتقدم بكل ما ينوي ويقصد؟

فيقتنع بعد التذكر والتدبر، بأنه قد فعل ذلك؛ فيطمئن قلبه، ويهدأ باله.

ويقول في نفسه: «لقد بينت لها مبادئي وآرائي، فهي الآن لا تستنكر منى إمساكي عن مفاتحتها في شأن اقتراني بها، فعليَّ الآن أن أبحث عن وظيفة ذات مرتب أكبر مما أتقاضاه اليوم، وبعد ذلك …»

كان إصطفيان راجح السهم، وافر النصيب من المحامد والمناقب، يمتاز بقوة الحزم، وصرامة العزم، وضبط النفس، وقمع الشهوات والأهواء، وشدة التمسك بأسباب الشرف والنزاهة، وفرط الاحتفاط بما يراه الفرض والواجب، وله قوة إرادة لا تردها قوة في السماء والأرض، ولا يقف في وجهها حائل. ولكنه كان يفقد شيئًا أعظم من كل ذلك وأخفى وأدق؛ وذلك هو حلاوة الروح وعذوبة النفس.

وكذلك لم يكن في طبعه مثقال ذرة من تلك الخلة السماوية، والخصلة الملائكية التي هي إكسير الحياة وترياق الهموم؛ أعني «المؤاساة»، أي مشاركة الغير في آلامه وأحزانه، ومشاطرته جملة أوجاعه وأشجانه. هذه الشيمة الإلهية «المؤاساة» لم تكن في طبعه، ولا كان يفقه لها أدنى معنى. أما الرحمة والرأفة التي هي صدى «المؤاساة» وظلها، فكان نصيبه منها طفيفًا جدًّا، ومعناها في ذهنه ضعيفًا مبهمًا غامضًا.

كان الفتى يلتزم ما يظنه منهج الحق وسبيل الواجب أشد التزام، أما عواطف الغير وإحساساتهم فلا لوم عليه إذا لم يحفل بها ولم يكترث؛ لأنه لم يستقر في علمه قط أن للغير إحساسات وعواطف.

ولقد وضع لظروفه الخاصة التي حاولنا شرحها آنفًا شيئًا من القوانين الحجرية والقواعد الحديدية، أحكم نحتها وصقلها وأجاد تهذيبها وتنقيحها، وقضى على نفسه باتباعها والتزامها مهما كانت العاقبة. ولم يحفل البتة بماذا يكون من شعور الفتاة وعواطفها وإحساساتها تحت تأثير تلك القوانين الحجرية القاسية، والقواعد الحديدية العاتية، إلا كما تحفل أنت — أيها القارئ — بشعور حزمة من الأمتعة تعالج حبكها وحزمها بحبل من الليف أو المسد، تعتقد أنه غاية في المتانة والإحكام والحصافة.

لقد كان يرى أن من الخسة والنذالة أن يعد الرجل فتاة بالاقتران بها إذا كان لا يوقن أنه قادر، ومصمم على تنفيذ ذلك الوعد في القريب العاجل.

ويرى أيضًا أن من لؤم النحيزة، وسقوط الكرامة أن يخطب الرجل الفتاة إذا كانت ذات مال وكان معدومًا. ويرى كذلك أن من الأنانية الممقوتة أن يعمد الرجل إلى فتاة في عيشة رغد فسيحة، فيحولها إلى ما هو أضيق وأنكد مهما حلفت له أنها تفضل الثانية على الأولى. ويرى أيضًا أنه ليس من الصواب والحكمة لأسباب شتى أن يبالغ في تحبيب نفسه إلى الفتاة، أو أن يجعل لها إلى خفايا إحساساته، وخبايا عواطفه من الأدلة إلا أخفاها وأغمضها.

لا يسمح مطلقًا أن تعطى الفتاة أدنى وعد؛ فإن شعورك نحوها رهن التغير وعرضة للتقلب — إذا طالت مدة الانتظار — فخير للفتاة والحالة هذه أن لا تربطها بك أدنى رابطة.

وبناء على ذلك قرر في نفسه أن يسلك مع الفتاة الخطة الآتية: أن يكثر من زيارتها، ويطيل ملازمتها تسلية للناظرين وتعجيبًا للمشاهدين، وأن يذكي لهيب غرامها باللحظات والتلمحيات، وأن يهيج وجدها وصبابتها بالتودد والازدلاف والمغازلة كلما آنس في نفسه ميلًا إلى ذلك، ولكنه يردها ويصدها إذا حاولت هي أن تصنع معه مثل هذا، وأن يعاملها كما لو كان خطيبها، ولكن يحتج عليها بشدة إذا زعمت أن منزلته منها أكثر من منزلة الصاحب المعتاد. هذه مبادئه وخطته.

مر أسبوع كان الفتى يكثر أثناءه من التردد إلى الفتاة، فكان يزورها ثلاث مرات أو أربعًا في الأسبوع أو أكثر، ومع أن العلائق الظاهرية بينهما كانت على حالها، فقد كانت ثائرة الوجد تشتد في أحشائهما، وكربة الكمد تتلظى وتلتهب.

وكان لفرط سخطه على سوء حظه، ولشدة ألمه من نكد طالعه، ربما تسرب إلى صوته أثناء تحدثه إليها شيء من الغلظة والقسوة، وتطرق إلى لهجته نوع من العنف والفظاظة. وكانت بصيرة الفتاة النقاذة تتغلغل إلى سر ذلك، كما أنه كان يفهم بحدة ذكائه علة ما كان يبدو أحيانًا على وجه الفتاة من دلائل الوهن والفتور والخور، ويفيض به قلبها المضنى وجوانحها الملتهبة من زفرات البث والأسى، ولكن الأمر بينهما كان مقصورًا على ذلك.

لم يَدُرْ بينهما شيء من أحاديث الغزل الرقيق والنسيب الحلو، ولم يتجاوبا كحمامتي الأيكة الناضرة بشهي ألحان الغرام، وشجي أنغام الصبابة، ولم يتساقيا كئوس المؤانسة، والمطايبة، والمعابثة، والمداعبة، والمشاكاة، والمعاتبة؛ شأن الأحباب والعشاق في كل آن ومكان، ولم ينطبق عليهما قول الشاعر:

إذ جانب العيش طلق من تآلفنا
ومورد اللهو صافٍ من تصافينا
وإذ هصرنا غصون الأنس دانية
قطوفها فجنينا منه ما شينا

لقد كان الأمر بينهما أجل وأخطر من أن يسمح بمثل هذا، وكانت نفس كل منهما أشد ثورانًا وفورانًا من أن يكون بها مجال لمثل ذلك. فكانت زياراته الطويلة يقضي معظمها في محاورات مُرة أليمة عدائية عن أتفه الموضوعات وأقلها أهمية. وكانا يقضيان جانبًا عظيمًا من الوقت في الاشتغال بالموسيقى، يتغنى هو صوتًا أثر صوت، وهي تعزف على البيانو، ولكنهما لشدة الملل والضيق لم يكونا يستطيعان إكمال دور واحد، فكان لا يكاد يأتي على نصف الدور حتى تعتريه نوبة من الكرب والقلق، فيقذف بصحيفة الألحان على البيانو، ومع ذلك فقد كانا يديمان الاشتغال بالموسيقى — لعله فرار من التحدث في موضوعهما المؤلم، وهرب من الاستهداف للذعات الهواجس ولفحات الوساوس، أو لعله للسبب الآتي بيانه.

كانا يجلسان على البيانو متلاصقين تختلط منهما الأنفاس، وتمتزج حرارة الجسمين، واتفق مرة أن صحيفة الألحان سقطت منه فبينما كان يتناولها لمست كفه يدها، وسقطت مرة أخرى، وأراد حسب الظاهر أن يتناولها، فارتكز بيده وذراعه على فخذها لحظة — ثانية من الوقت لا غير — ولكن أحشاء الفتاة ذابت من تلك اللمسة الخفيفة، وأحست أن كيانها ينهدم انهدامًا، وجثمانها ينحطم انحطامًا، وأن قوة عزمها المتماسك تتمزق وتتصدع كالمكينة، حينما تدار إدارة عنيفة معكوسة.

أعيدت صحيفة الألحان إلى مكانها، ولكن ذراعي الفتاة كانتا قد سقطتا عن معازف البيانو كالمشلولتين إلى جانبيها.

ثم قالت: «الحر شديد، ولا أطيق الاستمرار على العزف، تفضل علي بفتح النافذة.»

فذهب إصطفيان إلى النافذة ففتحها، وأرسل ابتسامة في ظلمات الليل.

في تلك الليلة أحس إصطفيان أنه لا يستطيع مفارقة الفتاة، فأطال الاشتغال بالموسيقى حتى جاوز حد اللياقة. وقد كان مستمرًّا إلى الصباح لولا أن جاءت أخت «إيزابلا» (اسم الفتاة) فأذكرته، وهي تبتسم أنه يجب مراعاة حرمة الجيران الذين يشاطرونهم المنزل، فألقى إصطفيان الصحيفة كارهًا. ونهض واقفًا وإلى جانبه شخص إيزابلا الحسن الجميل، ووجهها المليح باديًا للحظات مؤخر عينه، وهو متجه إلى أختها يحادثها.

أطال التحدث إلى أختها متعللًا بكل غرض تافه، وموضوع سخيف، فلما فرغت جعبة تلك الأحاديث الفارغة جاءت فترة سكوت عجز فيها عن اختراع موضوع للحديث، فاستجمع قواه وتجلد ثم مد يده وقال: «إلى الملتقى!»

وكان بالفتاة إيزابلا أضعاف ما بالفتى من كراهية الفراق، فتبعته إلى خارج الغرفة ثم تواقفا برهة على رأس السلم، وكان قد استجمَّ إذ ذاك في ذهن الفتى طائفة جديدة من المعاني الضئيلة، والخواطر التافهة، فأخذ يستخدمها إطالة لأمد البقاء مع الفتاة، ودفعًا وتأجيلًا لوقت الفراق، وكان لا يمتنع من استخدام أي شيء، وكل شيء في سبيل إطالة مدة اللبث معها دقيقة أخرى. ومع كل ذلك فقد كان لا يبدو عليه أدنى أثر من فرط وجده عليها، وشدة هيامه بها.

فكان كل ما ختم به حديثهما هو لفظة: «ليلة سعيدة»، ولم ترجع الفتاة إلى غرفة الاستقبال حيث كانا، ولكن أصعدت في السلم إلى حجرتها الخاصة.

وجعلت تتمشى في أنحاء الحجرة إقبالًا وإدبارًا، فهي تسائل نفسها: «تراه يحفل بي ويكترث؟ بودي لو أعرف حقيقة شعوره نحوي؟ من لي بمن يقنعني أنه يهتم بي ويأبه لي؟ إن هذا الشك والريب قاتلي لا محالة! وهب بعد كل ذلك أنه لا يبالي بي ولا يعنى!»

إلا أنها لتميد وتترنح من نشوة الحزن والأسى، ثم تلقي ذراعيها ممدوتين على صُفَّة الموقد، وتركز عليهما رأسها المتعب المدنف.

وتناجي نفسها وهي على هذه الحال، وتلوح على شفتيها ابتسامة ضعيفة ساخرة: «وهذا إذن هو الحب! هذا الكرب والوجد، وهذا الألم واللوعة، وهذا السقام والضنى! ما هو والله إلا السم الزعاف يصب في الأحشاء!»

لبثت إيزابلا طوال اليوم التالي طريحة الفراش صغراء صامتة، وبها من شدة الجهد والنصب ما منعها حتى الإجابة على تهكمات أختها وتنديداتها.

فلما كان وقت الغداء وإيزابلا وأختها وزوجها جالسين على الخوان، أخبر الزوج امرأته أنه قد ملَّ سكنى الساحل، وكانوا يسكنون دارًا على شاطئ البحر للمصيف والنزهة، وأنه قد عزم على مهاجرة المكان في ظرف أسبوع، فلما سمعت ذلك إيزابلا لاحت على وجنتيها بقعة حمراء قانية، وانداحت حدقة عينها جزعًا وذعرًا.

ثم غضت جفنيها، وزالت البقعة الحمراء من وجنتيها، وبقيت صامته لم تنبس ببنت شفة، ولما انتهى الغداء استأذنت في الذهاب، وانصرفت وحدها إلى غرفتها.

فلما صارت هنالك نزعت ثياب الخوان وخلعت حذاءيها، ولبست حلة الخروج. وكان بيديها من الرعشة والارتجاف، ما صعَّب عليها عقد إزرة قميصها فوق صدرها المفعم الخفاق.

ولكن عزمها قد أبرم، لقد علمت أنهم راحلون في ظرف أسبوع، وكانت تعرف من قبل ذلك أن إصطفيان راحل غدًا ثم لن يعود إلا بعد أسبوعين، فلا بد من لقائها إياه الليلة.

فلما أكملت لبس ثيابها، وقفت لحظة لتسيغ ما شرق به حلقها إذ ذاك من غصة الكرب الحازب، وشجا الوجد الأليم.

ثم هبطت السلم في سكون وخرجت.

كان الليل لا يزال هادئًا باردًا مظلمًا.

طوت إيزابلا الطرقات القليلة التي كانت تفصل بين دارها وداره.

وجعل الأفراد القلائل الذين صادفوها في الطريق يلتفتون وراءهم بدافع إجباري ليشيعوا بالنظرات تلك القامة الأملود الرائعة الجمال، ومن مشيتها الجادة المعتزمة، وعينيها الشاخصتين المنصرفتين عنهم، وعن كل ما سواهم — استنتجوا أنها لا بد أن تكون في رق إنسان آخر قد امتلك شخصها امتلاكًا ذهنيًّا أو فعليًّا.

تصل الفتاة إلى منزل إصطفيان، فتعلم أنه هنالك فيعتريها نوع من الخوف والذعر من مقابلته، ولكنها تكلف الخادمة أن تخبره بمجيئها، وأنها تريد لقاءه.

وتدخل في غرفة الاستقبال، وتصعد الخادمة بالرسالة، ثم تستند إيزابلا إلى جدار الغرفة، ويعتريها بغتة وهن وخور فظيع متسبب من شدة انفعالها، واهتياج أعصابها.

وفي الحجرة كرسيٌّ، ولكنها لا تراه لظلمة عينيها، فكل ما تستطيعه إذ ذاك هو أن تتعلق بأكرة الباب، وتسند رأسها إلى الحائط.

في ذلك الحين يكون إصطفيان جالسًا في الدور الأعلى مع أخيه واثنين من أصحابه، لقد كانوا يلعبون الورق، وقد فرغوا من الدور الأخير، ووقفوا ليلينوا أعضاءهم، واتكأ إصطفيان على صفة الموقد كعادته وأخذ يتثاءب، وكان قد قام عن مائدة الورق مغلوبًا، وهو الرجل الذي لا يطيق في اللعب غلبًا ولا خسارًا.

في هذه اللحظة تنقر الخادمة على الباب، ثم تدخل وتقول وعلى ثغرها ابتسامة خفيفة معنوية: «سيدي، إن بأسفل الدار سيدة تريد أن تراك، وقد قالت: إنها لن تصعد إلى هنا، وهي تنتظر بحجرة الاستقبال.» يسود السكوت في الغرفة، ويصفر وجه إصطفيان، ويرتفع حاجباه دلالة على السخط والاستياء.

يتردد إصطفيان لحظة ثم يعبر الغرفة نحو الباب دون أن ينطق بأدنى كلمة، وترجع الخادمة بسرعة.

ويتبادل الرجال الثلاثة النظرات، وبودهم أن يتبادلوا الابتسامات، ولكن يمنعهم من ذلك ما يعلمون من سرعة غضب إصطفيان وسورة جهله، فيكتمون ضحكهم حتى يخرج، ويهبط إصطفيان السلم، وقد هيأ في خاطره جملة واحدة يقولها للفتاة وهي: «كيف تجرئين على المجيء إلى منزلي، وتهزئيني عند إخواني، وتجعلينني ضحكة في أعينهم؟»

والواقع أن قدوم الفتاة كدر صفوه ونغص عيشه، وهذا الشعور؛ شعور الاستياء والغضب، قد أفعم قلبه وطرد كل شعور آخر.

في هذه اللحظة كانت إيزابلا واقفة وسط غرفة الاستقبال تحت مصباحها المرتج تراقب إصطفيان وهو يهبط السلم إليها في سرعة وخفة، والدنيا تميد بها وتترجح، وهي من نشوة الهيام تدور وتترنح.

ماذا في شخص هذا الفتى قد تيم قلبها ولاع مهجتها؟ وجهه المليح! وأفتن من ذلك لروحها، وأسحر للبها جيده الأغيد واستدارة كتفيه ورشاقة قده، وكأن كل ما قسمه الله لها في هذه الحياة من اللذة والنعيم والسعادة منحصر في هذا القد الأهيف، والقوام المرهف.

تندفع إيزابلا لاستقباله خطوة واحدة، لكنها كوثبة الليث الضيغم، وطمحة السيل المفعم، وكأنما بها مس أو خبال من غلواء الوجد وحميَّا الصبابة، وتمد نحوه يدًا مضطربة ملتهبة، فيرى إصطفيان أنه ليس من آداب اللياقة أن تبقى الفتاة في غرفة الاستقبال، فيقبض على يدها بيمينه، ويتلمس علبة الثقاب بيساره.

وقال لها بلهجة الأنفة والكبرياء التي كانت منه عنوان السخط المكتوم، ودليل الارتباك والحيرة: «هلم معي إلى غرفة الخوان من فضلك؟»

ثم يدير أكرة الباب وقلبه يخفق اهتياجًا؛ إذ يرى نفسه في حضرة الفتاة بالفعل فيفتح الباب.

ثم يقدح عودًا من الثقاب ويرفعه في يده، ويستند بظهره إلى الباب ليدعها تمر قبله.

وبينما تلج الباب يكاد شخصاهما يتماسان ثانية من الزمن، فإذا عروقه تلتهب وتحتدم، ولكنه يستجمع جأشه ويتماسك ويستعصم، وهذا عنده رأس الحكمة، ومبدأ الحياة الأقوم، وأساس كل شيء.

بعد ذلك يتبعها إلى داخل حجرة الخوان فيشعل مصباحها، ثم يعود إلى الباب فيغلقه ويتقدم إليها.

وإذ ذاك تكون عقدة عزمه قد استحصفت، وأسباب عزمه قد استحصدت، واستكملت قوة إرادته، وتناهى سلطانه على هواه وشهواته، وأصبح الحاكمَ المستبدَّ على نفسه؛ فوجهه جامد صلب كأنما قُدَّ من صخر، وعيناه النجلاوان المحمرتان من كثرة التدخين في هذا المساء، ومن طول الأرق والسهاد في الليلة السالفة تستقران على شخص الفتاة، وفيهما نظرة استفهام جافة جامدة.

لقد كانت هاتان العينان تنظران إليها مرةً نظرةَ وَلَهٍ وصبابة وهيام، فها هي الآن تبحث في أعماقهما عن شعاع من ذلك الضوء الذائب المذيب، فما إن له من أثر!

لقد أسدل فوقهما، وفوق سائر وجهه أكثف قناع من القسوة والإعراض، وأغلظ لثام من الجفوة والانقباض، فوهى جلدها وخارت قواها.

وكاد يطير من قفص ضلوعها قلبها الخفاق، واكتظ صدرها حتى آذن باختناق، ثم قالت ردًّا على استفهام نظراته: «نحن … نحن راحلون.»

فخيل إلى إصطفيان أن قلبه ينكمش، ويتقلص لدى سماع هذه الكلمات التي طالما أوجس خيفة أن يسمعها، وقد سمعها الآن.

فيزداد يأسًا على يأسه.

ولكنه لا يجيب بأكثر من قوله: «أحقًا ما تقولين؟ أرجو أن لا يكون رحيلكم فورًا.»

لم يكن في الوجود شيء هو أمض وأوجع وأذل لعزة الفتاة، وأرغم لشممها وأسحق لآمالها وأمحق لمطامعها، من وقع كلماته الفاترة الباردة على كبدها الحرى، وأحشائها المتسعرة.

أهذا ما يسمونه الحشمة واللياقة وآداب الجماعة وقواعد السلوك؟ فيالله ما أشنع وما أبشع وما أقصى وما أطغى! ويا بعدًا ويا سحقًا لهذه الآداب الثلجية القاتلة بشدة بردها وجمودها! لأفضل من هذه الآداب المتمدينة قلة آداب الهمج والمتوحشين، وخير من هذه الرقة المتحضرة غلظة سكان الفيافي والقفار والأحراش والأدغال.

لقد أقام إصطفيان من هذه الآداب العرفية بينه وبين الفتاة حاجزًا رقيقًا دقيقًا، فكان أثره السيئ أبلغَ مما لو كان قد شق بفنون السحر بينه وبينها أبعد هاوية وأسحقها!

فقالت متلجلجة: «كلًّا. ليس ليس فورًا، ولكن عن قريب، ويلوح لي أني لا أستطيع البقاء في هذه الدنيا إذا حرمت رؤيتك إلى الأبد.»

ويعقب ذلك فترة سكوت يعتريهما خلالها كرب وضيق، ويبقى هو جامد الحركة، إحدى يديه في جيبه، والثانية مسلوبة القوة مدلاة إلى جنبه.

ويرنو أحدهما إلى الآخر، وكل منهما يصور لنفسه فرط اللذة والسعادة التي كان يجدها الآن في العناق لو تعانقا لحظة، ولكن كلًّا يرى دون ذلك زاجرًا في نفسه مخالفًا لما يراه الآخر؛ فزاجر الفتى هو «ليس هذا من الصواب والحكمة»، وزاجر الفتاة هو «لقد كنت أعانقه لو يرضى، ولكنه لا يقبل.»

أخيرًا يقول لها: «لا بأس علينا من هذا الفراق ما دمنا نستطيع تبادل الرسائل.»

فتجيبه الفتاة بوجد وحرارة: «ولكن ماذا تجدي الكتب، وماذا تغني الرسائل؟!»

ثم يدفعها فرط شغفها به، وشعورها بحبه إياها، وعلمها أن من الحماقة تضييع مثل هذه الفرصة التي عليها تتوقف سعادتها، أو شقاؤها وحياتها، أو هلاكها — لسبب حقير تافه كالمحافظة العمياء على الكرامة والعزة والإباء — فتقول له: «أنت تعلم — وما إخالك إلا تعلم — أنك أحب ما في الوجود إلى نفسي، وإني لا أحفل في الحياة بشيء غيرك.»

وكان في صوتها حدة من حرارة وجدها، وقد مدَّت ذراعيها قليلًا نحوه كالمبتهلة المتضرعة.

يرى إصطفيان ذراعيها ترتجفان، ووجهها يصفر، وتلتهب في عينيها لوعة الجزع والكرب، فلا يتزعزع ولا يتضعضع، ولا يلين ولا يرق، بل يثبت كالطود الراسخ مع ما يجيش بقلبه من الحب والهوى، ويغلي في جوفه من الوجد والجوى (لقد تعجب من ذلك إصطفيان نفسه من وقت آخر بعد مرور هذه الحوادث وانقضاء هذه المأساة).

لقد أدهش إصطفيان هذا الموقف وحيَّر لبه، حتى أوشك أن يرتاب في صدق عواطف الفتاة، وهتف به هاتف شك من أعماق نفسه يناجيه: «أحق ما تقول الغادة أم دعوى زور وبهتان، ومظهر من مظاهر التصنع والرياء؟»

وهنا يضاعف حذره واحتياطه، ويزيد قلبه منعة وحصانة، فيقوم كالبرج المشيد والقلعة العصماء في وجه الفتاة، ويزيده إغراء بذلك شدة استيائه من مفاجأة الفتاة إياه ومهاجمته على غرة، ومحاولتها أن تستخرج منه بطريق المباغتة والتوريط ذلك الوعد الذي أفهمها أنه يكره أن يفوه به إليها.

فيقول لنفسه: «إن الفتاة تحاول توريطي، والتغرير بي.» وهذه الفكرة تستثير كل ما يكمن في نفسه من غرائز العناد والإصرار والمحارنة.

ويقول لنفسه: «ألا إنه لا يرغمني على إعطاء الوعود مرغم، إني أعد الوعد متى شئت، فأما قبل ذلك فلا.»

ثم يقول لها بسكون ورباطة جأش، وبلهجة جافية عرفية: «أشكرك على قول هذا.»

•••

(الآن بعد مرور هذه الحوادث وانقضاء هذه المأساة، يقضي إصطفيان الليل الموحش البطيء بالأرق والسهاد، فتتمثل له الفتاة ماثلة أمامه كما كانت في تلك الليلة، وتتراءى لعينه صفرة ذلك الوجه الحزين، تتراءى لعينه صفرة ذلك المحيا الكاسف الحزين في كل آنٍ ولحظة — الآن — بعد فوات الفرصة وضياع الأمل، أما في تلك الليلة فلقد أعماه العناد عن صفرة ذلك الوجه الحزين، فأعماه عن منهج السداد، وعن سبيل السعادة والنعيم!)

هذا الرجل الذي قضى من عمره خمسًا وعشرين حجة يتلمس الحب الصادق، والوداد المحض ولا يناله، لما هداه الحظ إلى بغيته، وساقه القدر إلى أمنيته؛ داسها بقدمه الأثيمة، وهو لا يكاد يشعر بما يجني ويقترف!

•••

لقد أصاب جوابه الأخير كبدها بجرح يُعْجِز الأساة، وبطعنة حرام رأبها حتى الممات.٢

فوجمت، وخيل إليها أنه يستحيل البتة عليها أن تفوه إليه بكلمة أخرى، ولكن ما يجيش بصدرها من سعير الهيام والوله، يحفز عزمها إلى ركوب الخطة العوصاء، والمسلك الخشن العسير كرة أخرى.

فتقول: «أهذا كل ما تستطيع أن تقوله لي؟ ألا تحفل بي مطلقًا.»

فينظر إليها ويتردد، وتناجيه نفسه قائلة: «لله ما أحلى وما أجمل! وما كل هذه الرقة والتلطف والتودد والتزلف والحياة والخفر، وهي مع كل ذلك تفيض حبًّا وغرامًا وشغفًا وهيامًا، هذا وأيم الله الهوى العذري، والحب الصادق! فما لي أرده ردًّا وأرفضه رفضًا؟»

وكأني به الآن وهو ساهٍ ساهر نهب الهواجس والوساوس، يعض بنانة الندم أسفًا، ويقطع نفسه حسرة ولهفًا، يشبه نفسه بالغواص الذي قضى حينًا يكابد الموج ويكافح اللج ويدافع التيار ويصارع الغمار، ويرسب إلى القرار، حتى إذا صعد بالدرة العذراء، واللؤلؤة الغراء، داخله الشك في حقيقتها، وارتاب في مبلغ خطرها وقيمتها، ثم عراه مع ذلك شيء من اللوثة والخبال، فقذف بها في حومة الماء، ثم أفاق فأدرك عظم نكبته، وهول محنته، أقول: كأني به يشبه نفسه بذلك وبأمثال ذلك، وتناجيه نفسه بما يشبه قول القائل:

ودَّعته وبوُدِّي لو يودعني
صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشفَّع بي أن لا أفارقه
وللضرورات حال لا تُشَفِّعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحًى
وأدمعي مستهلات وأدمعه
أستغفر الله ثوب العذر منخرق
مني بفرقته لكن أرقعه
أُعطيت مُلكًا فلم أحسن سياسته
وكل من لا يسوس الملك يُخلعه

يقول إصطفيان لنفسه: «هذا وايم الله الهوى العذري والحب الصادق! فما لي أرده ردًّا، وأصده صدًّا.» ولكن الفكرة تعاوده: إن الفتاة تحاول توريطي والتغرير بي، وما كنت لأسلس لها مقادتي، وألين شكيمتي، ثم عراه ارتباك وحيرة، إذ قامت بنفسه غريزة تدفعه إلى تأجيل موقف يطالب أن يبدي فيه من التصريحات والوعود ما قد لا يستطيع الوفاء به، ويظهر من الإحساسات والعواطف ما ربما يعجز عن تأييده بالحجة والبرهان على مدى الأوقات وتوالي الأزمان.

فابتسم ابتسامة خفيفة وقال: «تسألينني: أأحفل بك وأكترث؟ نعم بطبيعة الحال، إني أستطرفك كثيرًا.»

وكان في لهجة جوابه هذا من دلائل الاستخفاف والازدراء، ما يؤدي معنى التحذير الآتي؛ وهو: لا تتجاوزي حدك، فتضطريني أن أغلظ لك القول، وأخشن الخطاب.

إن إصرار الفتى على ضبط شهوته البدنية أعماه عن لوعة الفتاة وكربها، وما كان يلذع حشاها من الكمد والحرقة.

فلو أن إيزابلا كانت أكثر خبرة بالرجل وأوسع تجربة، وكان سهمها من الجلد والصلابة أرجح من نصيبها من الحياء والحشمة، لو أنها استطاعت أن تدنو من إصطفيان في تلك اللحظة فتمسك يديه وتضمها إلى صدرها، لو أنها اجترأت على أن تسلط عليه تلك القوة الخفية المجهولة، قوة سحر التلامس الجسماني.

إذن لاضمحلت إرادة الفتى إزاء تلك القوة الهائلة.

إذن لذابت عزيمته في نار شهوته المحتدمة.

إن الألفاظ تحرك الذهن، وهذا يحرك الحواس، ولكن هذه سبيل مطولة بعيدة مع بعض الناس.

أما التلامس فيحرك الأعصاب مباشرة، فينساب لهبه في أنحاء البدن كالألم المستطير.

ولقد كانت أعصاب إصطفيان أحدَّ إحساسًا من ذهنه، فلو أن الفتاة كانت من النسوة المحنكات المدربات لفازت بغرضها وأدركت غايتها، ولكنها كانت صبية ساذجة، فكان حياؤها وحشمتها وسلامة نيتها وعفافها النفساني والجثماني، كل هذه الخلال تقيدها كالأغلال والأصفاد في حومة تلك المعركة.

إن كلماته وصوته ولهجته أصابتها بشل حقيقي لا مجازي، فلم تقوَ على الدنو منه إذ كانت لا تستطيع حراكًا، واعتقل لسانها، ونضب الكلام من شفتيها كما يمسح عنهما الريق بمنديل.

فترنو إليه خرساء متشنجة الأعصاب بما قد تملكها من الرغبة في الانطراح تحت قدميه، وما كان يحجزها عن ذلك من تلك القوة الخفية التي لم تكن تدرك من سرها إلا كما تدرك من سر ما يبهر النائم، ويأخذ بكظمه عند غشيان ما يسمونه «الكابوس».

هذه الحال التي عرتها إذ ذاك لم تكن إلا النتيجة الطبيعية لغرائزها وشيمها وأخلاقها وأسلوب تربيتها وعيشتها، وسجية حيائها وحشمتها وضبطها لنفسها، لقد كانت أشد حياء وحشمة من أن تطرح نفسها على قدمي رجل زاهد فيها غير حافل بها، وكانت عاصفة شهوتها الثائرة تحاول أن تنسف حصن هيبتها الحصين فتعجز، وطوفان ولوعها الطامي يريد أن يحطم صخرة جبنها الصلدة فلا يقوى.

فهي ترنو إليه ونفسها مغمورة في لجة أجاج من الألم المر، وكأن جملة قواها الحيوية تسحق في رحى العذاب والألم. ففي غمرة هذا العذاب الأليم حيث كانت تحس أن كل عصب من أعصابها يرض ويحطم، لاحت على شفتيها الراجفتين ابتسامة ضعيفة، ثم قالت: «ما أمهرك بتشريح الأجسام الحية! أي مشرح حاذق كنت تكون لو اتخذت الطب مهنة!»

يتمشى إصطفيان في الحجرة إقبالًا وإدبارًا، وصدى جملة الفتاة الأخيرة يرن في أذنيه، ولا يكاد يفهم له معنى من شدة الهياج والانفعال، ثم يناجي نفسه سرًّا: «ما أعجب شأن هذه الفتاة المدهشة! ماذا تريد مني؟ وماذا أستطيع أن أصنع لها؟ إنها لتعلم أني لا أستطيع الآن أن أعدها شيئًا؟ ولكن ما أطمح خيالها وما أبعد مرمى أمانيها! على أني لا أحفل ولا أبالي، فسأنالها يومًا ما، ولكن لا ثمرة في إطالة الكلام عن هذا الشأن الآن.»

انطلقت إيزابلا من دار إصطفيان، وما هي بتلك المخلوقة العاقلة المسئولة عن أعمالها؛ فإن جهازها العصبي الذي أوهنه طول محاربة الشهوات ومكافحة الأميال والنزعات الشهور العديدة، وإدمان الأرق والسهاد الليالي المتوالية الطوال، تحطم الآن وتهدم حتى لا يرجى صلاحه.

وإن عبء غرامها الفداح لما ارتد الآن مقذوفًا به على روح الفتاة صدم عقلها صدمة أخلت ميزانه وقوضت أركانه، لقد كان ذهنها وقادًا وإن رقة شعوره وحدة إحساسه التي هي مصدر ذلك التوقد قد عادت الآن شر آفة له ومصيبة عليه.

لقد كان مبهم الظن وملتبس الحدس والتخمين عن نية الفتى وقصده نحوها يقطع نفسها حسرة ولهفًا، فما بالك باليقين وقد بدا لها الآن ساطعًا مشرقًا! لقد أيقنت الآن أنه يرفضها رفضًا، فجعلت تقول لنفسها وتردد: «إنه لا يعني بي ولا يحفل.» وفي أذنيها يرن صدى ضحكاته القاسية الأليمة.

لقد مات غرامه بها، إن إيزابلا لا تشك في أن ذلك الغرام قد كان مرة — كما دلها على ذلك ما كان يرشقها به من تلك النظرات الحارة، وضغطات يده على يدها كلما وُجدَ السبيل إلى التلامس، وأصيبت الفرصة — أم كان ذلك كله حلم حالم؟

وعلى أية حال فسواء كان يحبها أو لا يحبها قبل اليوم، فلقد علمت أنه الآن لا يحفل بها ولا يعنى، إنها لا تجد غير ذلك تأويلًا لكلماته القاسية ونظراته النابية.

فجعلت تقول في نفسها: «إن مثل هذا الجفاء والقسوة لا يصدر قط من الرجل إلى المرأة التي يهوى بلا سبب ولا موجب.»

لم تكن إيزابلا بالحمقاء ولا بالمتطرفة ولا بالأنانية، ولو أن إصطفيان أخبرها أنه يحبها، ولكنه لا بد لهما من كتمان عواطفهما، وأن الواجب عليها أن تنتظر؛ لأطاعته ورضخت لحكمه وصبرت الشهور بل السنين، بل لرضيت أن تنزل إلى قبرها صابرة منتظرة وافية بعهده. ولا غرو، فلقد كان لها من الحزم وقوة الإرادة مثلما له، ولقد كانت تبذل له من الإخلاص والحفاظ ما لا تبذله امرأة لإنسان، ولكن إصطفيان تنكب المنهج القويم، وسلك سبيلًا عوجاء، وخطة عقيمة كانت نتيجتها اعتقاد الفتاة أنه لا يحبها ولا يحفل بها.

فلما رسخت فيها هذه العقيدة أظلمت في وجهها الدنيا، وضاقت عليها الأرض بما رحبت، وبدت لها روضة الحياة الزاهرة، وجنة العيش الناضرة قفرًا يبابًا وبلقعًا خرابًا لا تستطيع البقاء فيه ولا تطيق أن تبصره.

لا تزال حالة الجسم هي الباعث الأكبر للإنسان على إتيان ما يأتي من الأعمال، وفي هذا الوقت كان جسم الفتاة قد نهكه الكد وأوهنه النصب والإعياء، فتلهف على الراحة … الراحة التي لم يكن في قدرة العقل أن يهبها، كانت الراحة هي أقصى أمنية الجسم المنهوك والأعصاب المتهدمة، ومن هاتين الفكرتين: الراحة والنسيان، تولدت فكرة الموت.

فقالت في نفسها: «ما ألذ النوم والنسيان! ولكني لا أستطيعه! وهبني حصلت على ذلك بالرقاد في فراشي فإني لا أزال مهددة بمصيبة الاستيقاظ.»

سارت إيزابلا من دار إصطفيان إلى دارها فمرت في طريقها بمكتب البريد، فوقفت ونظرت نظرة ذاهلة من خلال زجاج النوافذ.

وقالت في نفسها: «أرسل إليه كتابًا، إذ كنت من فرط العي والبلادة بحيث أعجزني أن ألقي على مسمعه القدر اللازم من القول، وبعد إرسال الرسالة إليه …»

لم تتم الجملة، ولكن وراء هذه الجملة كان ينفسح جناب الراحة والأمن والطمأنينة.

فدخلت مكتب البريد، فاشترت ظرفًا وقرطاسًا، وكتبت الرسالة الآتية:

لقد كنت أمحضك الحب، وأخلص لك الوفاء لو أنك أردت ذلك، ولكنك بينت لي الليلة أنك لا تبتغي الحب، أو على الأقل لا تبتغي حبي، ولقد أدركت الآن أني قد أستطيع لقاء الموت، ولكني لا أستطيع العيش من دونك، فأنا من التو واللحظة ذاهبة إلى البحر، وبعد ساعة من الزمن أفارقك إلى الأبد، فسأجهل كل شيء وستتناسى أنت كل شيء، وهذا تعادل مرضٍ، فإليك تتوجه خواطري وفيك تنحصر عواطفي، واسمك آخر أنفاسي!

ثم ختمته بيد ثابتة رصينة وخرجت من مكتب البريد، وألقت الكتاب في صندوق التوزيع وانطلقت في أحد الأزقة.

وكان الليل هادئًا قارسًا، والقرَّة تتزايد وتشتد، والجو مرتكم الظلمات حالك الأديم تلتمع فيه نجوم الشتاء، وكان السكوت من ورائها وأمامها ويمينها ويسارها لا يكدر صفاءه أدنى ركز أو جرس من عالم الإنسان، والبحر عن يسارها ينداح وينفسح راكد اللج جامد الموج كأنه جني هائل الجثة رائع الجسامة.

فدلفت إلى الساحل عجلى.

سعت إلى الخضرم الخضم تلك الفتاة اللدنة الغضة الصبا، الممتلئة ميعة وقوة وحياة، الراجحة النصيب من ذلك النشاط الذهني العظيم الثمرات عند توجيهه في سبيله، الوبيل العاقبة إذا انعكس على ذاته وارتد على نفسه.

إن روحها لتصرخ من كل ذرات كيانها هاتفة: «ماذا كان يكون حبي وإخلاصي له وعبادتي إياه لو أنه شاء ذلك!»

انحدرت إيزابلا عن السهل المنفسح المشرق إلى حافة الماء الرطبة المظلمة، وكان دافعها الوحيد المستولي على ذهنها وروحها، هو التسلل من عالم الشعور إلى عالم النسيان، والفرار من هذا الإحساس الأليم الذاهب بالعقل والصواب، هو اطِّراح ذلك الشعور الموجع المضاض وخلعه وإلقاؤه في لجة الماء كما يخلع الرداء!

فهي ترنو إلى بريق الماء ولألائه مرتاحة مطمئنة لا يعروها خوف ولا وجل. وإن وميض البحر وبصيصه أقر لجفنها القريح، وأروح لقلبها الجريح من فراشها في غرفتها الموحشة، حيث طالما قضت الليل الطويل بالأرق والسهاد والحسرة والجوى، أما ها هنا فليس إلا الراحة والسكون والنوم الهادئ الطويل الذي لا تستيقظ العين من رقدته على صياح كريه موحش، وكأنما قد فقد الموت في ذهنها معناه وتجرد من صفاته، أو كأنما قد سقطت فكرة الموت البتة من عقد أفكارها، وسلسلة خواطرها. ولا يخفى أن الرغبة في حسم الألم عند إفراطه أشد وأقوى من الرغبة في الحياة ذاتها.

تتعثر قدماها على الشاطئ الأسود المبلول حتى تنتهي إلى البقعة اللزجة اللثقة، والزحلوقة الزل الزلقة، كأنما قد غمر الرملة زيت يتحير على وجهها ويتربع.

ثم تمضي قدمًا فيرتفع الماء إلى كعبيها ثم إلى ركبتيها ثم إلى خصرها، وحينذاك تنطرح على الماء ملاقية ذوائب الموج بذوائب شعرها المتموج، ولاثمة ثغر الحباب بثغرها المضاهية رونقًا وغرة، وشبمًا وقرة. وكذلك رمت بنفسها في أحضان الموج كما حدثتها النفس مرة أن تلقي نفسها على صدر حبيبها.

ثم تمد ذراعيها على الماء وبها كالنشوة من السرور، وتبدأ في السباحة تؤم الأفق، وتناجي نفسها والماء يطوق خصرها: «هذا كذراعيه!» ويمس ثغرها فتقول: «هذا كشفتيه! ويشبه برودة عواطفه!»

•••

كان اليوم التالي مشرقَ الجو صافي الأديم من أجمل أيام الشتاء، وقد لاحت قطرات الندى على خضرة الروض كحلة من السندس رصعت بالدر واللؤلؤ.

وكان بالهواء قرة خفيفة، وقد سادت السكينة على صدر البحر اللين الخفقان.

وفي أرجاء الجو المستنير فاضت أشعة النهار من خلال النافذة على فراش إصطفيان، وأضاءت وجهه المبتسم في نومه، وكانت ذراعه منطرحة على الغطاء، وهو يحلم أنه يلفها حول جيدها الحسان، ذلك الجيد الذي طالما رآه في أحلامه.

استيقظ إصطفيان بعد برهة وتثاءب، وحول رأسه في ثقل وبطء تلقاء النافذة، وقال: «لم يبقَ إلا يوم واحد.»

ثم قام إلى الباب ففتحه، وتناول حذاءيه من وراء استعدادًا للبس ثياب الخروج، فوجد رسالة في جوف كل حذاء، فخفق قلبه لدى رؤية إحدى الرسالتين، ولم تكن هذه هي الواردة من الفتاة إيزابلا، ولكنها آتية من مصدر آخر، أما الأخرى فكان باديًا على ظرفها خط الفتاة، وبهذه لم يحفل ولم يكترث، ولكنه وضعها جانبًا على المائدة، وهو يخاطب نفسه: «أظنها تسألني الخروج للقائها، ما أقل صبرها وأكثر لجاجها!» ولكنه يتناول الرسالة الأخرى بتلهف شديد.

هذه هي الرسالة الخاصة بتلك الوظيفة التي كان إصطفيان يسعى إليها ليتذرع بها إلى الاقتران بالفتاة.

فيفض ختامها فيرى لأول وهلة أن مسعاه قد نجح، وأنه قد أحرز الوظيفة.

فيصعد الدم إلى وجهه، ويستطير في سائر جسده وفي عروقه لهيب نشوة الطرب والمرح، وتهزه أريحية الزهو والتيه.

ويرد الرسالة في غلافها، ثم ينهض ويقف وسط الغرفة، وينظر من خلال ألواح الزجاج الوهاج.

ويقول لنفسه: «لقد فزت بالفتاة! أجل وايم الله لقد فزت بها أخيرًا.»

لقد لاح النهار لعينه الطربة الجذلى متألقًا بنور باهر وهاج سماوي الرونق مقدس الشعاع خلاف نوره المعتاد، وبدت له الحياة في أجمل صورة وآنق هيئة وأبدع زينة وأروع زخرف، وكأنما قد مسها سحر ساحر حول ترابها تبرًا، وحصباءها درًّا.

وقال لنفسه: «الآن يمكنني أن أشافهها، الآن يمكنني أن أعدها وأخطبها وأنا آمن ما أكون من ارتياب الناس بي، وسوء ظنهم بنيتي، واتهامهم إياي بأني إنما عنيت من الفتاة بثروتها وطمحت إلى مالها، أما الآن فقد نلت وطري وبلغت أمنيتي على حين لم أرقب ولم أنتظر! فسرعان ما أسعدني الدهر، وأسعفني الحظ، وأجنت الآمال، وأينعت ثمار المنى! لقد أحسنت صنعًا بتمهلي وانتظاري، وللصبر على كل حال أولى وأليق وخير عاقبة وأحسن مآلًا، لقد كدت والله أن أطيش وأتهور ليلة الأمس، وكاد يخونني جَلَدي ويخذلني تماسكي، وأوشك لساني أن يبوح بما لم أزل أخفي وأضمر، ولكن الله سلم!»

وهنا يقع بصره على رسالة الفتاة، فيتناولها مختومة ويقول لنفسه قبل أن يفضها مناجيًا حبيبته: «أي حبيبة القلب ومنية الروح، سأفهمك الآن حقيقة الحال، وأوضح لك من أمري ما طالما أخفيته عنك وكتمته.»

على مسافة أميال من الساحل في أعماق الزاخر الرجراج تعبث أكف الموج بجثة الفتاة، قد سلبها الموت، ما كان يجيش في ذهنها الوقاد من ملايين المنى والآمال، وتغص به روحها الفياضة الحافلة من ملايين الشهوات والرغبات، في هذه اللحظة يتناول إصطفيان كتابها الوداعي، وعلى وجهه ابتسامة الجذل والسرور وهو يقول لنفسه: «أجل، لقد أحسنت صنعًا بتمهلي وانتظاري، ولَلصَّبر على كل حال أولى وأليق.» ثم فض الرسالة وأخذ يتلوها.

•••

فلما أتى إصطفيان على هذه الرسالة مادت به الأرض، وماجت الأشخاص في عينيه، واختلطت الأشباح وصدمته سورة الحزن، وطاحت بلبه خمرة الأسى، فاستلقى على مقعده لا يدري أين هو ولا أيَّان يسار به، وبقي كذلك برهة كأنه في غمرة، ثم أخذ يستفيق من سكرة هذا المصاب شيئًا فشيئًا، وأخذت صورة مصابه العظيم تتكشف له وتتجلى كأنها تبدو من وراء سحابة أو ضبابة، فهنالك أيقن أنه قد خسر الدنيا برمتها، وفقد طعم الحياة ولذتها، والتفت حواليه فإذا الكون كله قفر خراب، وإذا كل ما يراه من منظر كان من قَبلُ قرَّ عينه، ومن منظر كان متعة ناظره، ومن مسمع كان حلية أذنه، إذا كل ذلك قد عاد قذًى لعينيه وأذًى في أذنيه، فضرب بيده على جبينه وزفر زفرة كادت تصدع أحشاءه، ثم أظلمت الدنيا في ناظريه فأغمضهما، وهنا تراءى له خيال حبيبته الذاهبة في غمار اللج الثائر، تتقاذفه أمواج مجنونة هوجاء، وتترامى به ذوائب العباب كأنها شياطين مردة، فكان لهول هذه الصورة في قلبه ألم كحز الخناجر، ووخز السهام، فضج إصطفيان من فرط الجوى، وأقبل يتوجع ويتأفف، ويتحرق ويتلهف، وحاول أن يطرح من هذا العبء الفداح بالشكوى ومناجاة روح تلك الحبيبة، فاستعصى عليه المنطق ثم أسعفته الدموع بوابل مدرار.

•••

أيها الثاكل الحزين، ما جنى عليك الحظ والقضاء، وإنما على نفسك جنيت، ولم تطعنك بسنانها النافذ يد القدر، وإنما يدك التي طعنتك بسنان أنت صنعته من فولاذ قسوتك وجمودك، ولم تشكل لك لجنة المقادير محكمة أصدرت عليك حكم الإعدام؛ إعدام الراحة والقرار، ولكنك أنت الذي شكلت من آرائك الجائرة ومذاهبك الباطلة تلك اللجنة الظالمة، التي كنت أنت أول ضحية لظلمها، وفريسة لجورها وغشمها. فنفسَك فلتلم إن كنت لائمًا، وعلى نفسك بالعسف والطغيان فاحكم إن كنت حاكمًا، واجنِ من غرس يدك الأثيمة شوك الثأر والعقاب، ومرارة الألم والعذاب، وكان الله لك على كل حال مسعفًا ومعينًا.

١  ضوء يخالطه ظلمة يكون بين الشفق وبين الظلام الحالك.
٢  مأخوذة من قول الشاعر:
طعنا طعنة حمراء فيهم
حرام رأبها حتى الممات

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤