مقدمة المترجم

لم يكن جوته من الشعراء الذين تخطر لهم الفكرة فيُسرعون كالمحمومين بتدوينها على الورق، ثم لا يطيقون بعد ذلك أن يُلقُوا عليها نظرة واحدة. لقد كانت تأتيه الفكرةُ فيبدأ في كتابتها، تم يُدركه التعب أو يناله السأم أو تشغله مشاغلُ الحياة، فيتركها ناقصة. وقد يعود إليها في خلال أيام أو أشهر أو سنين — ربما امتدتْ نصف قرن كما فعل في مسرحيته الكبرى فاوست — فيُضيف إليها أو يُعدِّل فيها أو يعيد صياغتها في وزن جديد أو يكتبها شعرًا، بعد أن بدأها نثرًا. وقد يحسُّ أن الفكرة لم تنضج النضج الكافي، فينتقل إلى مشروع آخر كان قد بدأه ولم يُتمَّه، فيقطع فيه شوطًا ثم يتركه إلى غيره. وتواصل هذه الأفكار حياتها الخاصة في ضميره، وكأنها تنتظر حتى يتمَّ خلقها، وتأتيَ اللحظة المناسبة التي تخرج فيها إلى النور. ولكن اللحظة يطول غيابُها، ويُلح الأصدقاء والمحبون على الشاعر ليستأنف عمله من جديد. ولكن انشغاله بأعباء العمل أو السياسة، وإقباله النَّهم على نعم الحياة الخصبة والحب المتجدد، وانصرافه إلى مختلف الأبحاث العلمية في النبات والطب والألوان وطبيعة الأرض والجو والصخور … إلخ، يؤخر إنجاز الوعود، ويزيد من التشتت والتردد. غير أن الإلهام السعيد لا يُخيب ظنَّه، بل يُقبل في موعده المحتوم ويفرض قانونه الضروري، وإذا بالشاعر يُنجز عمله في ساعات أو أيام معدودة، كما فعل في «فرتر» وفي معظم قصائده وقصصه الصغيرة، أو في شهور قليلة لا تتجاوز عددَ أصابع اليد الواحدة، أو في سنوات تمتدُّ امتداد العمر كله.

ومسرحية تاسو من هذا النوع من الأعمال الشعرية التي بدأها الشاعر ثم انتظر ما يزيد على ثماني سنوات حتى تمَّ لها النضج. فنحن نعثر على أول أثر لها في ملاحظة، دوَّنها في مذكراته اليومية في الثلاثين من مارس عام ١٧٨٠م، حيث يقول: «ابتكار طيب: تاسو». ولكن يبدو أنه لم يبدأ في الكتابة إلا بعد هذا التاريخ بفترة طويلة. تشهد على ذلك ملاحظة أخرى، سجَّلها في مذكراته اليومية في الرابع عشر من أكتوبر من السنة نفسها، حيث نجده يقول: بدأت الكتابة في «تاسو». ثم تتابع رسائله في الشهرين التاليين إلى حبيبته المشهورة «فراوفون شتاين»، فيحدِّثها عن مشروعه الجديد. ويواصل العمل في مسرحيته إلى أوائل عام ١٧٨١م، تشهد على ذلك رسالةٌ كتبها إليها من «فيمار» في العشرين من أبريل حيث يقول: «لا أريد أن أقول لك شيئًا عن نفسي ولا عن الغد. لقد تعبدتك وأنا أكتب في «تاسو». روحي كلها لديك. اليوم أريد أن أنشط للعمل.»

ويبدو أن جوته قد استطاع أن يقطع شوطًا كبيرًا في مسرحيته، بحيث استطاع في اليوم العاشر من نوفمبر أن يقرأ المشهد الأول منها على صديقه «كنيبل»، وأن يُتمَّ الفصل الأول كله، ويشرع في الفصل الثاني. ولكن العمل توقف من جديد على أواخر ذلك العام، حيث نجده يتحدث في إحدى رسائله التي كتبها في ذلك الحين عن المسرحية الناقصة. ويبدو كذلك أنه عاد إليها في ربيع سنة ١٧٨١م، وأنه قد بلغ فيها ما يُشبه النهاية المؤقتة. مهما يكن من شيء، فقد كتب جوته مسرحيته في هذه المرحلة بالنثر الشعري أو بالشعر المنثور، كما نقول اليوم، ثم عاد إلى التفكير في تعديلها وإعادة صياغتها شعرًا في أثناء رحلته المشهورة إلى إيطاليا، بين سنتي (١٧٨٦ و١٧٨٨م) حتى أتمَّها في صورتها النهائية المعروفة في سنة ١٧٨٩م. وأردنا أن نتتبَّع خطواتِه في هذه المرحلة، فوجدناه يكتب من روما إلى صديقه «كنيبل» رسالة بتاريخ ١٩ فبراير سنة ١٧٨٧م يقول فيها: «أنا الآن أعمل في «تاسو» التي ينبغي الانتهاءُ منها.» ويدوِّن في مذكرات رحلته الإيطالية وهو في طريق البحر من نابولي إلى «باليرمو» هذه السطور في الثلاثين من مارس من السنة نفسها: «لم أخذ معي من بين أوراقي كلها سوى الفصلين الأول والثاني من «تاسو» اللذين كتبتهما منذ عشر سنوات، ولم يزالا في خطتهما وسير أحداثهما شبيهين بما أفكر فيه اليوم — كان فيهما شيءٌ من النعومة والضبابية، لم يلبث أن اختفى عندما غيرت رأيي فيهما فأحكمت بناء الشكل وأدخلت فيهما الوزن والإيقاع.»

وواصل جوته تفكيره في مسرحيته وراح يتعذب بينه وبين نفسه في إعادة صياغتها من جديد. فهو يقول في اليوم الأخير من شهر مارس في مذكرات رحلته: «… بدأتْ أمواج البحر ترتفع، ومرض أغلب المسافرين … وبقيتُ في مكاني المألوف أفكر في المسرحية كلها من أولها إلى آخرها.» ثم يقول في اليوم التالي مباشرة: «تجرأت أحيانًا على الصعود إلى ظهر السفينة، ولكنني لم أدَع مشروعي الشعري يغيب عن بالي، حتى استطعت إلى حدٍّ كبير أن أتحكم في المسرحية كلها.» ويواصل كلامه في الثاني من أبريل فيقول: «وجدنا أنفسنا في الثامنة صباحًا أمام «باليرمو». فقد كانت خطة هذه المسرحية قد ازدهرت في الأيام الأخيرة في بطن الحوت.» ومع هذا كله، فيبدو أن الشاعر لم يكن قد غيَّر تغييرًا يُذكر في النسخة الأولى التي كتبها نثرًا ولم يعثر عليها الباحثون حتى اليوم. وقد رجع في الفصلين اللذَين أتمهما منها، ثم عاد فيما بعد إلى صياغتها شعرًا إلى حياة الشاعر الإيطالي «توركواتو تاسو»١ كما كتبها «جوفاني باتيستا مانسو»، وملأها دون تروٍّ أو تدقيق بالخرافات والأقاصيص عن حياة هذا الشاعر الكبير. ومع ذلك فقد استفاد شاعرنا كثيرًا من القصة التي اخترعها (مانسو) من خياله وزعم فيها أن تاسو قد هام حبًّا بالأميرة ليونورة شقيقة ألفونس الثاني أمير «فرار» الذي استضاف الشاعر ورعاه.

لم يشعر جوته بالحاجة إلى كتابة مسرحيته في ثوب شعري جديد إلا أثناء رحلته في إيطاليا. لقد أحسَّ بأن عليه أن يستبعد منها الليونة والغموض، فيُحكم بناء شكلها ويصوغها في إيقاع شعري يليق بموضوعها الرقيق النبيل، ألا وهو الصراع الخالد بين الشاعر والواقع، وبين عالم الفن وعالم السياسة. ولقد زاد هذا الإحساس لديه حتى كاد يصبح أزمة حادة يعبر عنها قوله في أثناء زيارته الثانية لمدينة روما في اليوم الأول من فبراير سنة ١٧٨٨م: «… ثم أُعاني أزمة جديدة، لا يستطيع أحدٌ أن يشير عليَّ فيها أو يُعينني عليها. يجب أن تُصاغ «تاسو» صياغة أخرى؛ فما لديَّ منها الآن لا ينفع في شيء، ولا يمكنني أن أختمه أو أقذف به بعيدًا. هكذا حكم الله على الإنسان بكل هذا العناء!» وتلحُّ عليه الأزمة في أواخر مدة إقامته الثانية في روما. فها هو ذا يقرأ من جديد عن حياة «تاسو» كما كتبها «أباني بيير أنطونيو سيراستي»، وكانت قد ظهرت في روما في سنة ١٧٨٥م. ويعكف على دراسة هذا الكتاب، ويأخذ منه أشياء جديدة عن الصراع الذي دار بين «تاسو» ورجال البلاد والسياسة كما يتعرف على شخصية «أنطونيو مونتكاتبنو» الذي سيقوم بدور مهم في المسرحية، ويساعد مع صراع الحب اليائس على بلوغ الأزمة في نفس «تاسو» إلى ذروتها، حتى يصل الصدامُ بينه وبين عالم السياسة والواقع الذي يمثِّله «أنطونيو» إلى قمته في جنونه الأخير.

ويبدو أن جوته قد ضاق بالمسرحية أو تهيَّب من إعادة صياغتها. غير أن سحر شخصية «تاسو» كان أقوى من كل تردد، وطبيعته كانت تنبع من أعمق أعماقه بحيث نضج العمل كله على أواخر رحلته الإيطالية، فأقبل في خريف ١٧٨٨م وربيع ١٧٨٩م بكليته على العمل، حتى لنجده يكتب إلى صديقه وراعيه الأمير «كارل أوجوست» في فبراير ١٧٨٩م فيقول: «إن «تاسو» ينمو كشجرة البرتقال في بطء شديد. فلعله أن يؤتيَ ثمارًا حلوة.» واستطاع الشاعر أن يتمَّ مسرحيته في شهر يونيو عام ١٧٨٩م، وأن ينشرها في المجلد السادس من طبعة أعماله الكاملة.

•••

ما من عمل مسرحي يخلو من الصراع أو يستطيع أن يُستغنى عنه. ولقد تحدث جوته بنفسه عن الصراع في هذه المسرحية فوصفها في صورة عامة مجردة، بأنها تُعالج موضوع التنافر بين الموهبة والحياة. كما وصف أحد النقاد «تاسو» بأنه «فرتر» متطرف أو مبالغ في لهيب حماسه وعواطفه.

والحق أن هذا هو الانطباع الأول الذي يشعر به القارئ من المسرحية، دون حاجة منه إلى مزيد من التعمق والتحليل. ففي المسرحية عالمان يواجه كلٌّ منهما الآخر ويصطدم به؛ هناك عالم المجتمع والسياسة، يمثله الوزير «أنطونيو» والأمير «ألفونس» والدوقة «ليونورا سانفيتاله». وهو عالم تغلبُ عليه روحُ الحكم والسيادة ويتميز بوضوح الرؤية العقلية، وطموح الغريزة العملية. وهناك عالم الشعور والفن الذي يرفرف فيه «تاسو» كالطائر الوحيد، فيحلِّق إلى أعلى القمم ويهبط إلى أسفل الأعماق، ويهيب دائمًا بعظمة الماضي ويحيا على ذكرى الشعراء العظام. ثم يحاول أن يعيش في الحاضر أو ينسجم مع الواقع فيشعر بعجزه، ويزداد إحساسًا بانكساره. إنه عالم المطلق والجوهر والفن النقي الخالص الذي لا يمكن أن يُقاس به العالم السابق أو يرتفع إلى مستواه، غير أن هذا التنافر بين العالمين لا يستطيع وحده أن يفيَ مسرحيتنا حقَّها أو يُفسر مأساة بطلها. فوجهُ الخطورة فيه أنه قد يغرينا بالتفسير النفسي لشخصية البطل، أو إرجاع موقفه التراجيدي إلى ما يوصف به من شذوذ أو تطرُّف أو جنون، وهي أمور عرضية لا يمكن أن تنشأ عنها مأساة حقيقية؛ ذلك أن سرَّ مأساة «تاسو» أنه يحسُّ كما لا يحسُّ أحد من المحيطين به بذلك الطموح المطلق الذي ينزع إليه الفنان بطبيعته، كما يشعر بالعجز الضروري لهذا الطموح، ويرفض في الوقت نفسه أن يقتنع به أو يستسلم له. هذا الخلاف الأساسي بين عالم الخيال وعالم الواقع هو الإطار الذي تدور فيه أحداث المسرحية. وهو خلاف يبلغ من الشمول والعمق حدًّا، تتصدع معه العلاقات الإنسانية بين الأفراد، كما يتصدع وجود البطل نفسه من جذوره. ذلك لأنه — مثله في ذلك مثل هاملت — يسمع صوتًا لا يسمعه أحد سواه، ويكلف برسالة لا يستطيع أن يحققها في الواقع على الوجه الذي يرضيه، ويحمل أمانة المطلق أو الحقيقة أو الفن. بغير أن تكون لديه الوسائل الكفيلة بأدائها في دنيا الأرض والواقع، أو بغير أن يجد في هذا الواقع أيَّ استعداد لتلقِّيها. إنه يجد نفسه ملقًى به فيما يمكن أن نسميَه «منطقة القدر» يحيط به نظام من الأشخاص والعلاقات، كرَّس كل جهده لتحقيق الأهداف والمنافع. وهو يشعر بعجزه عن تعديل هذا النظام أو الاندماج فيه. والمشهد الثالث من الفصل الأول أساسي في فهم المغزى العام من المسرحية وإلقاء الضوء على موقفها من الزمن والتاريخ. فنحن نرى في هذا المشهد كيف ينعزل وجود الشاعر، وتنعزل كلماته عن عالم الواقع الذي يعيش فيه وكيف يفقد هذا العالم الزخير روحه ومعناه. ولذلك فإن «تاسو» لا يتعب من التعبير عن شوقه إلى الزمن الماضي لأنه يجد فيه — على خلاف الحاضر المحيط به — أن الحقيقة والواقع، والشاعر والبطل، والحكمة والفعل تنجذب إلى بعضها بقوة أشبه بقوة المغناطيس. والحديث عن اللقاء بين «تاسو» والأميرة لا يبعد بنا عن موضوع المسرحية كما حدَّدناه في السطور السابقة. فقد كان هذا اللقاء هو نواة المسرحية، كما تصورها جوته في البداية، ولعله كان هو الباعث الذي دفعه إلى كتابتها بعد أن وجد فيه صدًى لحياته وعذابه في ذلك الحين. وأهم ما ينبغي إبرازُه في هذا اللقاء هو تلك العناصر التي تشهد على صلة القربى التي تربطها بفلسفة أفلاطون. وقد تنبَّه الباحثون إلى ذلك، وأكثروا من الإشارة إليه. وليس من قبيل المصادفة أن نسمع الدوقة «ليونورا سنفيتاله» تصف الأميرة في نهاية المشهد الأول من الفصل الأول فتقول إنها تلميذة أفلاطون:

«أمثلُكِ يا تلميذة أفلاطون لا تفهم ما تجرؤ مستجدة على الثرثرة به!» وذلك بعد أن وصفت شاعرنا قبل ذلك بسطور قليلة وصفًا لا ينطبق إلا على أفلاطوني يتأمل المثل، أو يتملى النموذج الأوحد الأسمى لكل ما في الواقع من صور الجمال:

إن روحي الخصب يمجد صورة واحدة في كل أبياته وقصائده.
أحيانًا يفتنه سناها المضيء فيرفعها إلى السماء المزدانة بالنجوم
ويسجد أمامها سجود العابد كما تفعل الملائكة فوق السحاب.

المهم على كل حال هو التفسير الميتافيزيقي للجمال والعشق (الإيروس) الذي يحسُّ به كلٌّ من «تاسو» والأميرة؛ فتاسو يشعر من أول لقاء له مع الأميرة بأن جمالها يأسره. ولعله قد شعر قبل ذلك بأن هذا الجمال نموذج عالٍ يفتقر إليه الواقع، أو بأن وجودها قد تشكَّل بالحقيقة والجمال في صورة يعجز عنها الواقع. ولقد ظلَّ يُقنع نفسه بهذه الفكرة الأفلاطونية الخالصة، حتى اعتقد أن المثل الأعلى للوجود قد تحقق في الأميرة، بعد أن ضاع من العالم المحيط به، وأصبحت في نظره خيالًا من الماضي أو مثالًا من المثُل البعيدة عن عالم الواقع والتاريخ!

وليست الأميرة أقل منه إيمانًا بهذه المثُل العالية أو القيَم الأخيرة، ولا هي أقل منه شوقًا إلى إثراء الحاضر البائس بالجمال المثالي. ولكن إذا كان هذا العشق المشترك هو الذي يربط بينهما برباط من التقدير والإعجاب فإن هناك شيئًا آخر يفرِّق بينهما تفرقة شائعة؛ فالأميرة تؤمن بأن مثال الجمال لا يتحقق في الواقع، أو بأن لحظة تحققه لم تأتِ بعد. وهي تؤمن بذلك إيمانها بقدر قاسٍ أو قانون صارم لا سبيل إلى الإفلات منه. وطاعتها لهذا القانون تُكسب شخصيتها مسحة من الكبرياء الحزينة أو الحزن المتكبر، وتطبع حياتها وسلوكها بطابع الزهد والصدود الذي عُرفت به شخصيات نسائية أخرى في أعمال جوته، من أهمها شخصية «أوتيليه» في روايته «الأنساب المختارة».

وقد ساعدت على هذه المعرفة الأليمة بتعاسة الواقع وبؤسه تجاربُ شخصية عديدة مرَّت بحياة الأميرة؛ فلقد مرضت في شبابها مرضًا أشرف بها على الموت، كما عانت أمها المسكينة من قدر قاسٍ لا يرحم، وطبيعي أن أمثال هذه التجارب الشخصية لا تكفي وحدها لطبع شخصيتها بطابع الاتزان والتعفف والزهد اليائس الذي تتميز به. بل إن هناك من الدلائل ما يشير إلى أن هذا القدر الشخصي لم يكن إلا مقدمة لقدر أعم وأشمل، وُضعت فيه هي و«تاسو» وتعلَّمت منه أن الزمن ضنين والواقع فقير. وإذا كان «تاسو» لا يزال يحاول أن يطوِّع هذا الواقع لمثله وأحلامه ويفرض على ذلك الزمن قانونًا لم يأتِ أوانه، فقد عرفت هي أن الواقع قد اغترب عن المثال، والفعل قد انشق على المعنى، فوفرت على نفسها آلام خيبة الأمل المتكررة التي يعانيها «تاسو». وليس معنى هذا أنها استسلمت لمرارة الزمن، ففقدت الإيمان بكل قيمة أو معيار. بل معناه على العكس من ذلك، أنها راحت تُوجِّه حياتها على هُدى قِيَم ‎موضوعية متزمتة لا مكان فيها للرغبة أو الطموح، وأنها قد عرفت — والمعرفة مريرة — فأخذت نفسها بفضائل الصبر والاحتمال والحرمان. إن أكثر أحاديثها مع «تاسو» تشهد على ذلك؛ فهي تحاول أن تهديَه إلى التعقل والاتزان. وتحاول أن تريَه الواقع البائس على حقيقته، وهو لا ينفك سادرًا في أحلامه. تائهًا في ضلال حبِّه. ومع أنها تشعر بغربتها عن العالم المحيط بها. وتحسُّ بوحدتها في البلاط وعزلتها عن الدوقة «ليونورا سانفيتاله» أقرب الناس إليها. فهي لا تتردد مع ذلك في الإيمان بالقيَم والتقاليد التي تتحكم في عالم البلاط الذي نشأت وتربَّت فيه. وإذا كان هذا الإيمان هو الذي يجمع بينها وبين شقيقها الأمير، والوزير «أنطونيو» والدوقة «ليونورا». فهو كذلك ما يفرق بينها وبينهم. ذلك أنها تعتقد أن القيَم والعادات السائدة في حياة القصر شحيحة في هذه الفترة المحدودة من الزمن. وتعتقد في الوقت نفسه أن هناك قيَمًا أعلى منها لم يئن أوان تحققها في عالم الواقع. ولعل هذه العقيدة هي التي تجمع بينها وبين «تاسو» وتجعلها تقف منه موقف الإعجاب الصامت، والحب الزاهد الحنون. وإذا جاز لنا أن نتحدث عن خطأ «تاسو» أو خطيئته، فإن في استطاعتنا أن نقول إنهما يكمنان في إساءة فهمه للحظة المناسبة، ومحاولته اليائسة للتوفيق بين المثال والواقع، والتوحيد بين الروح والفعل، في زمن قدر عليه أن يشهد الفراق الحاسم بينهما. إنه يريد أن يُثريَ عالمًا حكم عليه بالفقر، ويحقق المطلق على أرض الواقع النسبي. ومن هنا فإن المسرحية تفرض ثلاث مراحل زمنية، تتابع واحدة بعد الأخرى على نحو يشبه ما نجده في تصور أفلاطون:

فهناك زمن الوحدة المثالية أو الأسطورية بين عالم مثالي وآخر واقعي، يتبعه زمن تمت فيه الفرقة بينهما فكان الانقسام إلى جسد وروح، وفعل وفكر، وقد يأتي بعدهما زمن ثالث يتحقق فيه الصلح من جديد، وتتلاشى الثنائية الظالمة في نعيم الوحدة والسعادة الخالدة.

وليست للإنسان يدٌ في هذا اللحن الزمني المتتابع. وليس عليه كذلك إلا أن يعترف ويندمج فيه. أما أن يقف منه موقف الاعتراض والاحتجاج، فلن ينتهيَ منه إلا إلى نهايته. ولن ينتجَ عنه سوى الندم أو الجنون أو السقوط في هاوية المأساة.

•••

وقد أشار كثيرٌ من النقاد في هذا الصدد إلى أوجه التشابه العديدة بين «تاسو» ومسرحية سوفوكليس «أوديب ملكًا»٢ وراحوا يفتشون عن عناصر الاتفاق بينهما في الموضوع والأسلوب والحوار. ولعل الدافع لهم على ذلك أن «تاسو» من الأعمال الفنية القليلة، التي تُبين لنا كيف يترك الزمن أثره على الإنسان، فيحدده ويطبعه بطابعه ويصبح قدره ومصيره. ومن هنا كانت للحياة الوجدانية والنفسية، بما فيها من عذاب الفراق والتذكر والانتظار والأمل والحنين إلى الماضي، أهمية كبيرة في هذه المسرحية، شأنها في ذلك شأن مسرحيات جوته التي تهتمُّ بعالم الباطن أكثر بكثير من اهتمامها بعالم الظاهر والأحداث الخارجية. ولعل هذا أيضًا هو الذي جعل الشاعر يلجأ في بناء مسرحيته إلى الشكل الإغريقي القديم ليصبَّ فيه موضوعًا أو مشكلة حديثة، يتركز الصراع الحقيقي فيها في باطن الإنسان.

ومع أن «مأساة أوديب» في صميمها مأساة ميتافيزيقية خالصة، ومأساة «تاسو» مأساة تاريخية مرتبطة بزمن معين إلا أنهما متشابهان من حيث الشكل التحليلي الذي يتميز به بناؤهما الدرامي. فالأمر يدور في «تاسو» وفي «أوديت» حول الكشف التدريجي عن مشكلة أو مظهر فاسد كامن في طبيعة البطل نفسه، تزيده حيرتُه وتَخبُّطه تعقيدًا على تعقيد. ومن ثم كان العذاب الوجداني في «تاسو» وفي «أوديب» أهم من الفعل، والمعرفة المريرة التي تتكشف شيئًا فشيئًا أخطر بكثير من التطور التاريخي؛ ولذلك نجد البداية والنهاية في كليهما أشبه بصورتين متقابلتين. ﻓ «أوديب» في بداية المأساة هو منقذ الجميع، وفي نهايتها المنبوذ من الجميع، و«تاسو» في بداية المسرحية هو الشاعر الذي يحتفل الجميع بتتويجه، ولكنه في نهايتها المطرود الذي حُكم عليه بالدمار والانكسار. وإذا كان هناك فرق بينهما فإن أوديب قد حَكم عليه قدر ظالم مجهول بالتردي في أخطاء لا ذنب له فيها، بينما أخطأ «تاسو» بخياله الجامح وعاطفته المتهورة في حق الزمن ونظامه، وحاول أن يفرض الحقيقة الشعرية على الواقع العملي الذي لم يتأهب لها. ولكن البطل هنا وهناك بدأ عظيمًا في مجده وانتهى عظيمًا في انهياره، وذلك هو جوهر المأساة.

•••

ماذا نقول عن هذه القصيدة الطويلة الحزينة التي نُسمِّيها تاسو؟ أهي دراما أم مأساة، أهي قديمة أم حديثة؟ إننا نحار أمام هذا النسيج الرقيق الدقيق الذي لا يكاد يحدث فيه شيء، ومع ذلك فكأن الضرورة هي التي نسجت خيوطه، ونعيش في عالمه الأنيق الجميل، ومع ذلك يترك في نفوسنا شيئًا يشبه الفزع الذي تتركه فينا المآسي الإغريقية حين تشعرنا بقسوة القدر الظالم المجهول. كيف يمكن أن تكشف هذه الحياة المنمقة الزاهية عن هوة من الحزن بلا قرار. وكيف يؤدي كل ما فيها من جمال ونظام وسمو في الأخلاق والتقاليد إلى تحطيم نفس رقيقة حساسة؟ أيمكن أن تمرض هذه النفس وتيأس في عالم يحبها ويرعاها ويُدلِّلها ويكاد يؤلِّهها؟ أم أن هذه الحياة المهذبة الراقية ليست إلا واجهة مصطنعة تُخفي العداوة الحقيقية للشاعر الأصيل، وتكره عالمه المترفع عن عالمها الغارق في التكلف والتظاهر والمنافع والأغراض؟ ثم من المذنب في مأساة شاعرنا؟ أهم سكان البلاط الذين لا ندري إن كانوا أصدقاءه أو أعداءه ولا نعرف إن كانوا يُضمرون له الشر أو الخير؟! أهم جماعة يتعاون كل فرد فيها على إنماء موهبته أم يتآمر على عبقريته فيستغلها لمصلحته، ويبطش بها إذا وجد أنها لم تَعُد تحقق أهدافه؟ أم يكون الشاعر نفسه هو المذنب، لأنه تجاوز الحد الذي كان عليه أن يلتزم به، وراح يغوص في وهم خداع جعله يقضي على سعادته ويُلقي بالمسئولية على المحيطين به؟ ألا نحطم بذلك صورة الشاعر الذي يحمل رسالة فريدة ويعيش — وهذا حقه — في عالم لا يصح أن نتدخل فيه أو نحاول تشكيله على هوانا؟ ألا نُسيء إلى الشعر نفسه حين نصور «تاسو» رجلًا مريضًا يسوقه الفشلُ النفسي خطوة فخطوة إلى الدمار؟ إن الأمر في «تاسو» كما قلنا يتعلق بالكشف لا بالتطور، وبالمعرفة لا بالحدث، وبالعذاب لا بالفعل. ولكن ما الذي يتكشف هنا ويُعرف ويُعانى؟ لو دققنا النظر في النص الشعري الذي بين أيدينا لتبيَّن لنا أن الأمر فيه ليس أمرَ صراع درامي عادي، بين نفس عاطفية حساسة وعالم الدسائس والمؤامرات المحيط بها، بل إن موضوع المسرحية هو العذاب الذي يكابده الشاعر، والحديث الذي يدور بينه وبين نفسه المنطوية، والتناقض الخفي الذي كان يخفيه في صدره فساعد الوسط المحيط به، بإرادته أو بغير إرادته، على كشف الغطاء عنه. وبذلك تكون «تاسو» مأساة حديث ذاتي (مونولوج)، أو لحنًا فاجعًا وحيدًا لا تقوم فيه بقية الشخصيات إلا بدور الأصوات المصاحبة، التي تُغطي عليه أحيانًا وتبرزه أحيانًا أخرى.

إنها لا تمثل شخصيات تصطدم بالبطل أو تقف معه، كما هو الحال في الفعل الدرامي المعتاد. وإنما هي أشكال وصور تنعكس عليها نفسه وتشدُّها إلى وجدانها الوحيد وتفسرها تفسيرًا شعريًّا خاصًّا بها، ولا يمنع هذا من أن تحتفظ بشخصيتها المستقلة، وكيانها الواقعي الذي يعجز الشاعر عن فهمه، ويرى نفسه مستبعدًا منه. وليس من المهم أن تكون هذه الشخصيات معه أو عليه — فالواقع أنها جميعًا تشجعه وتسترضيه وتخطب ودَّه — بل المهم أن لكل منها وجوده الواقعي الذي يختلف عن وجوده الشعري الحالم، وأن هذه الحقيقة وحدها هي التي تدمر حياته وتكشف له عن مأساة موقفه، وذلك بمجرد أن يتضح له أن الموهبة لا بد أن تصطدم مع الحياة. وهكذا لا تقول المسرحية كلها أكثر من أن الوجود الشعري وجودٌ مأساوي. لا يقتصر ذلك على مدينة «فرارا» وحدها، بل كذلك كان الأمر، وكذلك سيكون في كل مكان وزمان. ويزيد من قسوة هذا الإحساس أو من مرارة هذه المعرفة أن شاعرنا يعيش في وسط مدني مهذَّب راقٍ — ولقد أوهم نفسه بأنه وجد في هذا الوسط الحالم الأنيق (على الأقل من الظاهر) ما يستجيب لصوته الشعري الباطن. ولكن المأساة كلها لم تصبح مأساة إلا لأنها تكشف النقاب شيئًا فشيئًا عن هذا الوهم، وتبين أن الذوق والتمدن لا يكفيان لإنقاذ الشاعر الذي كتب عليه أن يحيا ويموت وهو استثناء عظيم. تلك هي المعرفة التراجيدية التي يتعلَّمها «تاسو» ونتعلمها منه. وذلك هو سبب هذا الحزن الهادئ الفاجع الذي تملؤنا به هذه المسرحية، على الرغم من أننا نعلم أن الشخصيات كلها — بما في ذلك الوزير «أنطونيو» إذا أحسنَّا فهمه — تتضافر على حمايته وتتنافس في رعايته ومكافأته والعطف عليه. ولكنها لا تعلم أنها بذلك تزيد حياته تهديدًا، وأنها بوجودها الواقعي وعالمها غير الشعري تزيده إحساسًا بوحدته في عالمه الخيالي المثالي غير المحدود.

•••

ما قيمة الشاعر بالنسبة لذلك العالم وما دوره فيه؟ إن المشهد الأول من المسرحية يرمز للإجابة عن هذا السؤال. فتاسو يظهر حاملًا في يده ملحمته الشعرية التي فرغ من كتابتها، وإن لم يفرغ بعد من التشكك فيها والتفكير في إكمالها! وتتقدم الأميرة لتضع على رأسه إكليلًا من الغار، كان المفروض أن يُزيِّن تمثال الشاعر الروماني الأكبر فرجيل. فإذا تأملنا هذا المشهد من ناحية البلاط وجدناه مظاهرة للتفاخر والإعلان، ومرآة تعكس زينته وأبَّهته. إن الأمير «ألفونس» محتاج إلى موهبة الشاعر لأنه سيظل بدونها في صف البرابرة المتوحشين، ولأنها تزيد أمجاده الواقعية أمجادًا أخرى في عالم الشعر والخيال. إنه يستطيع الآن أن يقول للناس: انظروا! إن عندي، إلى جانب القصور والجيوش والآثار القديمة والخدم والحشم، شعراء وكتَّابًا وفنانين، والدوقة «ليونورا سانفيتاله» محتاجة إليه، لأنها تريد أن ترى نفسها منعكسة على مرآة روحه الجميلة، ولأنها — وهي الأنانية المغرورة بفتنة الأنوثة — تستطيع أن تضيفَه إلى الزوج والأطفال وتُجرجرَه خلفها كأنه ذيل ردائها الأنيق … إنها سيدة المجتمع الرائعة التي يهمها أن تضيف إلى ثروتها شاعرًا موهوبًا مسكينًا! وإذا كانت تلجأ إلى المؤامرة التي لا ضرر منها، فلأنها تريد أن تستأثر به لنفسها، وتظهر مهارتها في إتقان ألعاب القصور. أما الأميرة فهي في حاجة إليه، لأن حياتها التي عانت من المرض والعذاب محتاجة لمن يردُّ إليها الحياة، ولأنها — وهي تلميذة أفلاطون — تعلم أن الشاعر وحده هو الذي يستطيع أن يسموَ بها إلى عالم التجانس والصفاء والنقاء. فالشعر بالنسبة إليها هو الوسيلة الوحيدة التي بقيت أمامها لاحتمال الحياة المسرفة في المادية والغلظة والجهامة. إن الأميرة لا تتظاهر كغيرها، وهي أبسط نفسًا وأرقُّ حسًّا من أن تُهين الشاعر بالعطف عليه. ذلك لأن أهم ما يميزها هو البساطة والسمو والكبرياء، حتى لتكاد كلُّ كلمة تقولها وكل إشارة تصدر عنها أن تنطق بالترفع والابتعاد. إنها أفلاطونية تفكر تفكير الفيلسوف العظيم، وتشتاق إلى الجوهر الباقي وراء المحسوس المتغير، وموقفها من كل ما هو مادي موقف الترفع والتعفف، وحديثها إلى «تاسو» حديث روح إلى روح، لا حديث امرأة إلى رجل. فإذا ظنَّ الشاعر في عنفوان عاطفته الملتهبة أنها تُبادله حبًّا بحب، أسرعت تزجره عنها في رفق تارة، وفي عنف تارة أخرى؛ ذلك لأنه لم يكن بالنسبة إليها ولن يكون أكثر من واسطة إلى «العهد الذهبي» الذي مضى، ولن يُعيدَه إلا الأخيار والطيبون. صحيح أنه «وسيلة» إلى هدفها، ولكن ما أعظم الفرق بين هذا الهدف وبين أغراض المحيطين بها في البلاط!

إذا كان هذا هو موقف الجميع من مشهد التتويج، فما أشد ما يختلف موقف «تاسو» منه! فليس الخيال والشعر بالنسبة إليه تجميلًا للحياة أو زخرفة لها، بل إن الحياة عنده هي الخيال، والشعر هو الوجود؛ ولذلك فإن التتويج يفقد عنده قيمته المؤقتة المحدودة، وينقله إلى عالم غير واقعي، إلى وطن النشوة الخلَّاقة والتجربة الشعرية الذي يوجد في كل مكان، ولا يوجد في أي مكان؛ ولذلك فهو يدهش الجميع بتردده عن قبول الإكليل، ويغضبهم برعبه المفاجئ الذي يجعله يقول:

دعوني أتردد، فلست أدري
كيف يمكنني أن أعيش بعد هذه اللحظة.

وتنقلب لحظة التكريم إلى شقاء لا حدَّ له. فهو يحسُّ، كأن الإكليل يحرق شعره، ولهيب الحمى يعصف بدمه. ويشعر أن التاج الذي لم يكد يستقر على جبهته، قد انتقل به إلى جنة الخالدين، وطار به إلى مملكة قديمة مسحورة يتحد فيها البطل والشاعر، وتتعانق الفروسية والفن. ولكنه يشعر كذلك شعورًا خفيًّا بأنه قد صار غريبًا عن كل الوجوه التي تنظر فيه أو تبتسم له، وبأن «فرارا» ليست هي وطنه الذي كان يحلم به، بل إنه ككل الشعراء لا وطن له، حُكم عليه بمحض وجوده كشاعر أن يعيش مهددًا، ضائعًا، يتحدث فلا يُفهم، ويقول فلا يُسمع.

ويتضح الدور الذي يمكن أن يقوم به الفن عامة، والشعر بوجه خاص في مثل هذا المجتمع، عندما يظهر الوزير «أنطونيو» في المشهد الرابع الذي يلي المشهد السابق.

فالأضواء تُسلط على الجانبين السياسي والعملي في حياة البلاط، بحيث لا يعود هناك مجال للشك في أن العلم والفن والشعر لا وزن لها، إلا إذا كانت وسيلة لخدمة السياسة وزينة على صدور الحكام. وإذا كان «أنطونيو» — وهو الوزير الناجح الذي ابتعد عن البلاط فترة من الزمن في مهمة ناجحة — يُعبِّر عن غضبه وسخطه المكتوم على «تاسو»، فليس ذلك لأنه يشعر بأنه غريمه الذي أوشك أن يحتل مكانه في البلاط أو في قلوب النساء، بل لأنه يشعر كذلك بفطرته أن عالم «تاسو» غير الواقعي يُهدد عالمه الواقعي، وأن الخيال والشعر خطر عليه أي خطر. إنه يدافع بغريزته عن حياته، ويريد أن يحميَ نفسه من عالم الشعراء والموهوبين، الذي يحسُّ أنه غريب فيه. وليس في الأمر شيءٌ من سوء النية أو الحقد أو الاعتداء، بل إنه تصرف طبيعي، تمليه ضرورةُ عمله وحياته؛ ولذلك فلا يصح أن نستكثر عليه موقفه النبيل في آخر المسرحية حين يرى «تاسو» مشرفًا على الهاوية، فيمدُّ له يدًا مخلصة عاطفة.

أما «تاسو» فهو يتصرف كذلك بما يتفق مع طبيعته فينظر إلى عالم السياسة المحيط به بمنظار الحلم والخيال.

إنه يحاول تحت إلحاح الأميرة أن يلتقيَ ﺑ «أنطونيو»، ويمدَّ يده إليه في حماس لإيمانه بأن البطل والشاعر يمكن أن يلتقيَا ويتحدَا، وهو شيء لا يمكن أن يحدث إلا في العالم الذهبي المسحور الذي يحيا فيه، ويفزعه تردُّدُ أنطونيو وتحفُّظُه ويُسرع إلى التشكك والتوهم. وتزداد شكوكُه وأوهامه يومًا بعد يوم، حتى تنتهيَ به إلى الكارثة المحتومة.

ولو أنه قنع بعالمه أو سلَّم باختلافه عن العوالم الأخرى، لما فقد ثقته في نفسه ولا كانت هناك ضرورة إلى حزنه الجارف المؤثر الذي لا عزاء فيه.

فما أقسى أن يرى نفسه ملكًا في مملكة الخيال، ورفيقًا للأبطال والشعراء الخالدين، ثم يرى نفسه مع ذلك يسير في دنيا الواقع والمنافع كالشحاذ اليتيم!

ولو استطاع هذا الخيالي المسكين أن يقفز القفزة المناسبة من عالمه المسحور إلى عالم الواقع، لانتشل نفسه من مهاوي العدم وحقَّق السعادة في الدارين! ولكن هل كان يستحق منا عندئذٍ أن نسميَه شاعرًا، أم كان يصبح انتهازيًّا ممن تمتلئ بهم حياتنا الفنية اليوم؟!

إن الخلاف بين «تاسو» و«أنطونيو» خلافٌ أساسي بين الشاعر ورجل الحكم، تصطدم فيه العاطفة الجارفة بالعقل الناقد المتزن. ويصل الشقاق بينهما إلى حدِّ تبادل الألفاظ الجارحة، فيُجرِّد «تاسو» سيفه ويطالب «أنطونيو» بالنزال. ويتدخل الأمير بينهما، ويعاقب «تاسو» بالحبس الانفرادي في غرفته.

هنا نستطيع أن نقول إن شيئًا قد حدث، وهو أمر نادر في هذه المسرحية! فهذا الحادث الضئيل كان وحده كافيًا للإلقاء ﺑ «تاسو» في هاوية الحزن والوحدة التي لا مخرج منها. إنه لم يرتكب خطأً في حق النظام الأخلاقي، بل اصطدم بالقواعد الشكلية. و«الشكل» في مثل هذه المجتمعات هو كل شيء؛ ولذلك فالأمير لا يحاول أن يعرف المخطئ من المصيب. وإذا عاقب فعقابه شكلي. لقد عفا بالفعل عن المذنب، وترك له أن يحرس نفسه بنفسه؛ أعني أن يهرب من هذا السجن الشكلي إذا شاء. وقد كان من الممكن أن تمرَّ العاصفة لو أن «تاسو» خضع لإرادة هذا النظام الشكلي. ولكنه لا يقدر على ذلك ولا يمكن أن يقدر عليه؛ ذلك لأن وجوده كله كشاعر إنما هو تمرُّد على الشكل. فالشكل قالب مصطنع نفرضه على الحياة، والشاعر يعيش على الخيال الذي يفجر القوالب ويكسر الحواجز والحدود. ولو اعترف بها لأنكر نفسه. فهو الممسوس الذي تسيطر عليه قوًى أقوى منه؛ ولذلك فليس في قدرته أن يسلم بالحدود التي تفصل بين إرادة الذات وبين الالتزامات الواجبة نحو المجتمع.

لقد عميت عينه عن رؤية الواقع؛ لأن كل ما نسميه بالواقع، قد تحوَّل عنده إلى خيال. إنه كالممثل على المسرح، يسمع الكلمة التي يبدأ عندها في إلقاء دوره ولكنه لا يكاد يسمع ما يقوله سواه. ولذلك يصعب عليه أن يخرج من نفسه، أو يعرف الموقف المحيط به على حقيقته. ولو قارنَّا بينه وبين «أنطونيو»، لوجدنا الأخير على حقٍّ دائمًا، فهو يملك كلَّ ما يفتقر إليه «تاسو» من إحساس صائب بالواقع، وفهْم لما يليق في المجتمع وما لا يليق.

غير أنه يفتقر إلى مملكة الشعر التي أغلقت بابها في وجهه كما تعوزه القدرةُ على الإبداع والحماس والانطلاق. ومع ذلك فعلينا أن ننصفه فنقول: إنه يدرك ما سميناه من قبل تنافر الموهبة مع الحياة، ويحاول أن يكفكف من غلواء «تاسو» ويقاوم تطرُّفه ويعيده من جديد إلى أرض الواقع والمجتمع.

غير أن محاولاته النبيلة تبوء بالفشل؛ لأنها موجهة إلى تاسو «الإنسان»، إلى تاسو «الشاعر»، ولأنها تطبق معيارًا يصلح للقاعدة لا للاستثناء، وللكل لا للفرد، ولو استمع «تاسو» إلى نصحه، لما كان هو «تاسو» ولا كان من حقنا أن نتحدث عن مأساته. فإذا كانت قوة «أنطونيو» في خضوعه للنظام والتزامه بالأصول والحدود؛ فإن قوة «تاسو» وضعفه في آنٍ واحد في تمرده على كل المقاييس والأشكال، وخضوعه لضرورة الخلق والإبداع.

وإذن فقد ظلَّ صادقًا مع طبيعته كشاعر وإنسان فريد، ولو أحنى رأسه، لأصبح واحدًا من مئات الشعراء الذين ازدحم بهم الأدب العالمي (والأدب العربي بوجه خاص) وعاشوا وماتوا كالشحاذين على صدقات الأمراء والسلاطين.

إن من أعز أشواق الإنسانية أن يحيا الشاعر والفنان مع المجتمع في وئام. ولكن لا ينبغي أن ننسى أن الشاعر والفنان لا يستطيع إلا أن يكون شاعرًا وفنانًا، أعني أن يعيش في صراع دائم مع القيود والحدود، ويحيا في عالم خاص به يبعده بوجه من الوجوه عن المجتمع ويبعد المجتمع عنه.

فكلُّ من جعل من الإليزيوم (جنة الخالدين) وطنه ومسكنه، لا بد له أن يحيا غريبًا على الأرض مثل «تاسو». ومع أن بلاط «فرار» قد قدم لشاعرنا أقصى ما يقدم من واجبات الضيافة والرعاية، فقد أوضح مع ذلك بصورة مفزعة أن التفاهم بين الشاعر والمجتمع يقوم دائمًا على سوء تفاهم ضخم؛ لذلك تُحسن المجتمعات صنعًا، إذا تركت للشعراء حرية الرفض والاحتجاج وكفلت لهم حقَّ التفرغ والاعتزال؛ ذلك لأنهم لا يحتجون عليها إلا حبًّا فيها، ولا ينعزلون عنها إلا ليزدادوا قربًا منها ومعرفة بها. كان هذا هو حقَّ القواد والرواد دائمًا، ومن أحق بالقيادة والريادة من الفنانين والشعراء؟!

لا بد أن يكون لدى الشاعر أو الفنان ما يقوله. ولعل «جوته». لم يُردْ بمسرحيته «تاسو» أكثر من أن يقول إن وجود الشاعر عذاب. لقد صوَّر فيها حالة نفس مريضة ولكنه لم يقصد تصوير المرض النفسي لذاته، بل ليوضح من خلاله طبيعةَ الإحساس الشعري بالحياة، وهو إحساس يستمدُّ قوته من ضعفه وتعرضه الدائم للخطر والدمار؛ فالشعر هنا والفن عمومًا ليس هو الحالة السوية. بل هو شيء غريب، مضيع ومريض. ولا شك أن هذه نظرة رومانتيكية أو عاطفية. ولا شك أيضًا أنها أثَّرت في تصور الرومانتيكية للشاعر والفنان كما عبَّرت في السنوات الأخيرة عن نفسها أوضح تعبير في أعمال كاتب كبير، مثل «توماس مان». وطبيعي أن يكون «جوته» قد صور في مسرحيته جانبًا من حياته وآلامه الشخصية، وإن لم يمنع هذا من أن تنفرد الصورة بحقيقتها المستقلة. لقد سبق أن فعل ذلك في رواية شبابه «فرتر»، فكانت تسجيلًا لعذابه وخلاصًا من هذا العذاب في وقت واحد. وهو قد فعل الشيء نفسه في «تاسو»، فتجاوز همومه إلى هموم الشعراء بوجه عام، وبيَّن أن الشاعرية في صميمها نوعٌ من العذاب الذي يُكابده الشاعر في العالم وفي ذاته، ينشأ عن إفراط في الخيال وتفريط في الواقع. فمن طبيعة المخيلة أن تعلوَ وتتجاوز باستمرار، وتتحرك حركة جارفة متدفقة تتخطَّى «الهُنا» و«الآن»، ولا تعترف إلا بالماضي أو المستقبل. وقد أورد «إكرمان» حديثًا له مع «جوته» في اليوم الثامن من شهر مارس سنة ١٨٣١م، أي قبل وفاته بسنة واحدة، يمكن أن ينطبق على «تاسو» بصورة مباشرة؛ فقد قال له «جوته»: «إنه لا شك أن في الشعر وبالأخص في غير الشعوري منه، شيئًا شيطانيًّا لا يدركه الفهم ولا العقل، ويؤثر من أجل ذلك تأثيرًا لا يمكن تصورُ مداه». ولا بد أن «جوته» قد أراد أن يحدَّ من خطر رومانتيكي كان يتهدده ويغريه بالانسياق وراء الخيال الجامح والبعد عن الأرض ونظمها وأشكالها. ولا بد أنه وصل بذلك إلى الهدوء والاتزان الذي تميَّز به في حياته وأعماله.

ولكن هل وصل «تاسو» نفسه إلى شيء من هذا الهدوء والاتزان؟ هل وجد في النهاية بعضَ العزاء عن حزنه المنكسر الأليم؟ وهل كان في قدرته على التعبير عن هذا الحزن أو في شاعريته نفسها، ما يعوضه عن فشله وهوانه في العمل والحياة؟

لا بد أنه أحس بما يُشبه العزاء الميتافيزيقي عن تحطم وجوده التعيس، حين قال عن نفسه في نغمة لا تخلو من الفخر والكبرياء إن الله قد أعطاه القدرة على التعبير عن عذابه، حين حرم غيره من هذه القدرة وتركه أخرس من الألم:

لم يبقَ إلا شيء واحد: الدموع التي أعطتها لنا الطبيعة
وصرخة الألم التي يُطلقها الإنسان
حين يعجز عن الاحتمال.
وأنا الذي احتفظتُ بهذه الهدية السامية
تركت لي في الألم اللحن والخطاب
لأشكو همومي كلها في نشيدي:
وإذا ما أخرس الإنسان عذابه
وهبني الربُّ أن أعبِّر عن عذابي.

ما أجمل هذه النعمة التي وهبتْها له السماء، وما أعظم المعرفة التي تفيض — على مرارتها — بالحكمة والصفاء، والتضحية التي قدَّم بها حياته قربانًا للشعر والشعراء!

١  توركواتو تاسو (ولد في سورنت في سنة ١٥٤٤م ومات في روما في سنة ١٥٩٥م) من أكبر الشعراء الإيطاليين، ومؤلف الملحمة الوطنية الكلاسيكية في أواخر عصر النهضة. كان أبوه «برناردو» شاعر ملاحم وموظفًا في البلاط، درس القانون والفلسفة والبلاغة في «بادوا وبولونيا»، ثم التحق في سنة ١٥٦٥م بخدمة الكاردينال «لويجي دسته» في مدينة «فرارا»، واكتسب صداقة الأمير «ألفونس الثاني» وأصبح شاعر البلاط، وعاش محاطًا بالرعاية والتكريم حتى انتابته الشكوك الدينية والنفسية فأصيب بجنون الاضطهاد أو بجنون الكآبة وهرب سرًّا إلى شقيقته «كورنيليا» في مدينة «سورنت». رجع مرتين إلى «فرارا»، غير أن حالات الجنون عاودته فأُدخل في مستشفى «سانتا أنا» في سنة ١٥٧٩م، وبعد أن غادر المستشفى في السنة نفسها، عاش بقية حياته شريدًا هائمًا على وجهه. ألَّف عددًا كبيرًا من القصائد التي حاول فيها إحياء التراث الشعري الإيطالي الذي أسَّسه «بتراركا»، وبعد أن ألَّف مأساة على غرار أوديب كان نصيبها الفشل، وضع مسرحيته «الرعوية أمينتا» في سنة ١٥٧٣م التي تميزت ببساطتها وصدقها ولغتها الموسيقية، وتُعدُّ في نوعها من أنجح الأعمال الشعرية في الأدب الإيطالي. أما عمله الرئيسي فهو ملحمته الوطنية القدس المحررة La Gerusalemme liberata (١٥٨١م)، وتصور تحرير جيش الصليبيين تحت قيادة «جوتفريد فون بويون» لمدينة القدس. والملحمة نسيج كبير من حكايات البطولة والحب والفداء، ولكنها تدور أساسًا حول هذه الحملة الصليبية. وقد تردَّد «تاسو» طويلًا في نشر ملحمته وراح يأخذ آراء كبار الشعراء في عصره حتى وصل به الأمر إلى تقديم نفسه لمحكمة التفتيش لتختبر إيمانه وتجيز ملحمته. وقد ألَّف في أواخر حياته (١٥٩٣م) ملحمة أخرى بعنوان القدس المفتوحة La Gerusalemme conquistata، وهي ملحمة دينية خالصة ليست لها قيمة شعرية تُذكر. وتعكس أشعار «تاسو» مشاكل عصره التي كانت سببًا فيما أصابه من كآبة وتشكك، انتهيا به إلى الجنون والضياع نتيجة انتشار الإصلاح الديني المضاد وغلبة التشكك في أمور الدنيا والآخرة.
٢  كارل رينهارت، الأعمال والأشكال، جودسبرج ١٩٤٨م، ص٤٤٤ وما بعدها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤