الفصل الأول

المنظر الأول

(فناء حديقة تُزينه تماثيل نصفية لشعراء الملاحم.)

(يظهر في مقدمة المسرح على اليمين تمثال فرجيل، وعلى اليسار تمثال أريوست.)

المشهد الأول

(الأميرة – ليونورا)
الأميرة :
ليونورا، أنتِ تنظرين إليَّ وتبتسمين
تم تنظرين إلى نفسك وتبتسمين من جديد.
ماذا بكِ؟ دعي صديقتكِ تعرف الخبو!
التفكير يبدو عليكِ، ومع هذا يبدو عليكِ السرور.
ليونورا :
أجل يا أميرتي، يسرُّني أن أرانا هنا
في زينة أهل الريف.
نبدو كالراعيات السعيدات
ويشغلنا ما يشغل السعداء.
نحن نعقد الأكاليل. هذا الذي يزدان بالزهور١
يكبر شيئًا فشيئًا في يدي،
وأنت بفكرك السامي وقلبك الكبير
قد اخترت الغار الرقيق النحيل.
الأميرة :
الأغصان التي جدلتها بالفكر والخيال،
سرعان ما وجدت رأسًا بها جديرًا.
إنني أضعها ممتنَّة على رأس فرجيل.

(تضع الإكليل على رأس فرجيل.)

ليونورا :
وها أنا أيضًا أثبت إكليلي المكتمل البهيج
على جبهة المعلم لودفيج العالية!٢

(تضع الإكليل على رأس أريوست.)

هذا الذي لن تذبل دعاباته
ليأخذ حظَّه من الربيع الجديد.
الأميرة :
شاءت مروءة شقيقي أن يُرسلنا
في هذه الأيام إلى الريف.
نستطيع أن نخلُدَ إلى أنفسنا ونقضيَ الساعات
ونحن نحلم في زمان الشعراء الذهبي.
أحب بلريجواردو، فكم من يوم بهيج.
من أيام الشباب عشته هنا في حبور،
وهذه الأوراق الخضراء، وهذه الشمس
تبعث في وجداني الإحساس بالزمن البعيد.
ليونورا :
أجل. إن عالمًا جديدًا يحيط بنا!
ظلال هذه الأشجار المخضرة أبدًا،
تغمر القلب بالسرور.
وخرير الأمواج يُسعد النفس من جديد.
الغصون الشابة تهدهدها ريحُ الصباح.
والزهور تتطلع إلينا من أحواض الزرع
وفي عيونها الطفلية نظرة ودود.
والبستاني يرفع مطمئنًا سقف البيت الزجاجي.
الذي غرس فيه الليمون والبرتقال.
السماء الزرقاء تمتد من فوقنا،
وعلى مدى الأفق يذوب الثليج.
على قمم الجبال البعيدة
ويُرسل أنفاس العبير.
الأميرة :
كم كنتُ أودُّ أن أرحِّب بالربيع
لو لم يسلب مني صديقتي.
ليونورا :
لا تُذكِّريني، في هذه الساعات الحسان
بأنني، يا أميرتي، سأرحل عن قريب.
الأميرة :
كل ما قد تهجرينه، سوف تجدينه مضاعفًا
في تلك المدينة الكبيرة من جديد.
ليونورا :
الواجب يدعوني، والحب يناديني،
للزوج الذي طال حرمانه.
سأُحضر له ولده، الذي أسرع نموه،
وزكت تربيته في هذا العام،
وأشاركه فرحة الآباء.
عظيمة هي فلورنسا ورائعة،
غير أن كنوزها المتراكمة
لا تعدل قيمتُها نفائس «فرارا».
إن الشعب هو الذي جعل من تلك المدينة مدينة،
أما «فرارا»، فبفضل أمرائها أصبحت عظيمة.٣
الأميرة :
بل الفضل للطيبين
الذين أقبلوا إلى هنا بمحض المصادفة،
وجمع الحظ بيننا وبينهم.
ليونورا :
من اليسير على المصادفة أن تفرق ما جمعت.
أما الإنسان النبيل فيجذب النبلاء إليه،
ويعرف كيف يحتفظ بهم، مثلما تفعلون
من حول شقيقك ومن حولك
تتآلف قلوب جديرة بكما
وأنتما جديران بآبائكما العظام
هنا توقدت في بهجة.
شعلة العلم وحرية الفكر الجميلة،٤
بينما كان التوحش يُلقي ظلَّه الكثيف
على العالم المحيط بكم
كنت لا أزال طفلة، عندما رنَّت أسماء هرقل
وهيبوليت في أُذُني.
كان أبي يكثر من الثناء
على «فرارا» ثناءه على روما وفلورنسه!
طالما اشتقتُ إليها، وها أنا ذا الآن أعيش فيها.
هنا حل بتراركا ضيفًا، وهنا لقيَ الرعاية،
وأريوست عثر هنا على نماذجه.
وما من اسم عظيم ذكرتْه روما
إلا وحل ضيفًا على هذا البيت.
وإنها لمزية أن تستضيف العبقري،
إن أنت قدمت له هدية
ردَّ لك الهدية بأحسن منها.
المكان الذي يحل فيه إنسان طيب
تحل فيه البركة؛ ولا تزال كلمته وعمله
ترددان في سمع الحفيد بعد مائة عام.
الأميرة :
هذا لو كان للحفيد مثل ما لك من إحساس حي؛
إني كثيرًا ما أغبطك على هذه النعمة.
ليونورا :
التي تستمتعين بها في هدوء وصفاء
متعة لا يعرفها إلا القليلون.
إن قلبي ليدفعني إلى الإفصاح
عما أحس به ملء الفؤاد.
أنت تحسين به أفضل وأعمق وتصمتين.
أنت لا يبهرك مظهرُ اللحظة العابرة،
ولا الذكاء يخلبك، عبثًا يحاول التملق
أن يلتصق بأذنَيك.
إن فكرك يظل راسخًا، وذوقك سليمًا
وحكمك صائبًا، وحظك من العظمة دائمًا عظيمًا،
فأنت تعرفينها كما تعرفين نفسك.
الأميرة :
أولى بكِ ألا تخلعي عليَّ هذا الملق الرفيع،
ثوب الصداقة الحميمة.
ليونورا :
بل الصداقة عادلة، فهي وحدها
التي تستطيع أن تقدرك حقَّ قدرك.
دعيني كذلك أذكر للحظ والمناسبة
دورهما في تكوين روحك،
إنك تملكينها حقًّا، وإنك أنت في النهاية هذه الروح،
والدنيا كلها تكرمك أنتِ وشقيقتك٥
وتُعلي قدركما فوق عظيمات النساء في زمانكما.
الأميرة :
كل هذا، يا ليونورا، لا يؤثر عليَّ كثيرًا،
كلما تذكرتُ أننا لا نساوي إلا القليل،
وأن هذا القليل ندين به لغيرنا.
إن معرفتي باللغات القديمة، وبأفضل ما خلفه
لنا العالم القديم شيءٌ أدين به لأمي.
ومع ذلك فلم تكن إحدى ابنتَيها لتدانيها
في علمها ولا في حكمها السليم،
ولو حاولت إحدانا أن تقارن نفسها بها،
لكانت لوكرسيا بذلك أولى مني.
كذلك أستطيع أن أؤكد لك،
أنني ما نظرت يومًا إلى ما وهبتني الطبيعة أو أولانيه الحظ
على أنه ملك لي، أو أنني جديرة به.
إن مما يسعد نفسي، حين أسمع الأذكياء يتناقشون:
أن أتمكن من فهمهم وتتبُّع ما يريدون.
قد يكون حكمًا على رجل من رجال العصر القديم،
أو على قيمة أعماله،
أو قد يدور الحديث عن علم نمتْه التجربة،
فنفع الإنسان وارتفع به في آنٍ،
في أي وجهة دار حديث هؤلاء النبلاء
وجدتني أتتبعهم؛ لأنني أحب أن أتابع الحديث،
أحب أن أشهد مناظرات الحكماء،
وأرى كيف يعبث في رقَّة بشفاه الخطباء
كلامهم عن القوى الصديقة أو القوى المخيفة
التي تحرك صدر الإنسان؟!
وأحب أن أرى كيف تصبح شهوة الأمراء
إلى الحكم والتوسع في الممتلكات
موضوعًا يتناوله المفكرون؟!
وكيف تستطيع الفطنة اللطيفة
التي يتعهدها اللبيب بالرعاية الدقيقة
أن تعلِّمنا بدلًا من أن تؤذينا؟!
ليونورا :
وبعد أن تنتهيَ مثل هذه الأحاديث الجادة،
يستريح السمع والوجدان
لتذوق قوافي الشاعر،
الذي يسكب أحبَّ المشاعر،
في النفس بأنغامٍ عِذاب.
إن روحك العالية تحيط بمملكة شاسعة،
أما أنا فأوثر أن أُقيم
في جزيرة الشعر التي تنمو فيها أشجار الغار.
الأميرة :
لقد أكدوا لي أن شجرة المر٦
هي التي تؤثر أن تنموَ في هذا البلد الجميل
أكثر من غيرها من الأشجار
وإذا كانت ربات الفن والجمال كثيرات العدد،
فيندر أن يبحث الإنسان بينهن عن صاحبة ورفيقة،
لأن لقاء الشاعر أحبُّ إلى نفسه.
إنه يتجنبنا، لا بل يبدو كأنه يهرب منا.
ويبحث عن شيء لا نعرفه.
وقد لا يعرفه هو نفسه في نهاية المطاف.
ما أجمل أن يلقانا عندئذٍ في اللحظة المواتية.
وأن يتعرف فينا، والبهجة تغمره،
على الكنز الذي طالما بحث عنه عبثًا في العالم البعيد.
ليونورا :
لا بد لي من قبول دعابتك،
إنها تصيبني حقًّا، ولكنها لا تصيبني في الصميم
إنني أقدِّر كلَّ إنسان وأعرف له فضله.
ولستُ أحسُّ لتاسو بغير العدل والإنصاف.
إن نظرته لا تكاد تستقر على هذه الأرض،
لكن أذنه تسمع ألحان الطبيعة المنسجمة.
كلُّ ما يقدمه التاريخ من كنوز، كل ما تهديه الحياة،
يتلقاه صدره بالحب والعرفان.
إن وجدانه يجمع كلَّ ما تباعد وتشتت،
وإحساسه يهَبُ الحياة لما لا حياة فيه.
كثيرًا ما يُضفي النبل على ما يبدو لنا وضيعًا،
والشيء الذي نقدِّره يصبح في عينَيه عدمًا وهباءً.
هذه هي الدائرة الساحرة،
التي يتجوَّل فيها هذا الرجل المدهش.
ويُغرينا على التجوال معه فيها
ومشاركته الحياة التي يحياها
إنه يبدو كأنه يقترب منَّا، ومع ذلك يظلُّ عنَّا بعيدًا،
ويبدو عليه كأنه يتطلع إلينا،
ومن يدري أي أشباح غريبة،
تتراءى له في مكاننا؟
الأميرة :
أراك صوَّرت الشاعر الذي يهيم في ممالك الأحلام العذبة
في صورة لطيفة ورقيقة،
ومع هذا يبدو لي أن الواقع
يجذبه كذلك إليَّ بقوة ويسيطر عليه.
هذه الأغاني الجميلة التي نلقاها،
معلقة هنا وهناك على الأشجار،
أشبه بتفاحات ذهبية، أو بنجمة المساء.
ألا ترَين أنها الثمار العذبة لحب حقيقي؟
ليونورا :
أنا أيضًا أبتهج بهذه الصفحات الحسان.
إن روحه الخصبة تمجِّد صورة واحدة
في كل أبياته وقصائده.
أحيانًا يفتنه سناها المضيء
فيرفعها إلى السماء المزدانة بالنجوم،
ويسجد أمامها سجود العابد؛
كما تفعل الملائكة فوق السحاب،
أو يَسترِق الخُطا، ليفتش عنها في المروج الناعسة،
ويعقد لها تاجًا من كل زهرة تصادفه.
فإذا ابتعدت المعبودة،
راح يبارك الدرب الذي وطئته قدمُها الجميلة.
إنه يتخفَّى كالبلبل بين أغصان الأيك
ليشدوَ من قلب موجع،
ويملأ المرج والهواء بشكواه العذبة الحنون.
إنَّ أغنيتَه الساحرة تجذب الآذان،
وكآبتَه المسعدة تجبر القلوب على الاستسلام.
الأميرة :
وإذا أراد أن يُسميَ محبوبه
فسوف يسميه ليونورا.
ليونورا :
إنه اسمك، كما هو اسمي
ولقد كان يسيئني أن يختار اسمًا سواه.
يسعدني أنه يستطيع بهذا المعنى المزدوج
أن يُخفيَ عاطفته نحوك.
كما يرضيني أن يتذكرني أيضًا
كلما نطق بهذا الاسم العذب.
بعيد عن خاطري الآن ذلك الحب،
الذي يريد أن يسيطر على المحبوب،
ويملكه بلا شريك، وتدفعه الغيرة
لأنْ يحميه من كل الأنظار.
إذا كان في ساعات الإلهام السعيد،
ينصرف إلى التأمل في سموِّ قدرك
فربما أسعده أن يلتفت
في بعض الأحيان إلى قدري الضئيل.
إنه لا يحبنا — واعذريني أن أقولها لك! —
بل يجمع ما يحبُّه من كل الأجواء؛
ليضعه في اسم واحد نحمله،
ويعبر به عن إحساسه؛
يخيل إلينا أننا نحب الرجل،
وما نحب في الواقع إلا اسمي،
ما يمكن أن نصلَ إليه بالحب.
الأميرة :
لقد تعمقتُ في هذا العلم يا ليونورا.
إنكِ تقولين لي أشياء لا تكاد تلمس إلا أذني،
ولكنها لا تنفذ أبدًا إلى روحي.
ليونورا :
أمثلكِ يا تلميذة أفلاطون لا تفهم٧
ما تجرؤ مستجدة على الثرثرة به؟!
لا بد أنني أُخطئ بالغ الخطأ،
ولكن لا، إنني لا أُخطئ تمامًا، وهذا ما أعرفه جيدًا.
إن الحب لم يكن يظهر في هذه المدرسة النبيلة
في مظهر الطفل المدلل كدأبه على الدوام،
بل كان الشاب الذي تزوج بسيخة٨
وجلس مع الآلهة يُدلي بالرأي والمشورة.
إنه لا يضطرب هنا وهناك
نزقًا من قلب إلى قلب،
ولا يعمه في ضلاله العذب.
ليتشبَّث بالشكل والجمال،
ولا يكفر عن نشوته العاجلة
بالسخط والاشمئزاز.
الأميرة :
ها هو ذا أخي مقبلًا!
فلنحاول ألا يفضحنا الحديث
حتى لا يسخر بكلامنا،
كما سخر من قبل بملبسنا.

المشهد الثاني

(السابقون – ألفونس)
ألفونس :
أبحث عن تاسو، الذي لا أعثر عليه في أي مكان،
وحتى هنا لا أجده معكما.
هل تستطيعان أن تُنبئَا بخبر عنه؟
الأميرة :
بالأمس رأيته لحظة، واليوم لم أره.
ألفونس :
إنه يقترف الخطأ القديم؛ إذ يسعى إلى الوحدة،
لا إلى صحبة الناس.
لئن غفرت له فراره من زحام البشر
وإيثاره الإخلاد إلى روحه، يُسامرها في حرية وهدوء،
فلن أستطيع أن أغفر له
أنه يبتعد بنفسه عن دائرة الأصدقاء.
ليونورا :
أيها الأمير، إن لم أكن مخطئة
فسرعان ما تحوَّل لومك إلى ثناء.
لقد رأيته اليوم من بعيد.
كان يحمل في يده كتابًا ولوحًا،
وكان يكتب ثم يمشي ثم يكتب من جديد.
كلمة عابرة قالها بالأمس لي
أحسستُ أنها تُعلن إتمام عمله.
لم تبقَ أمامه غير لمسات صغيرة
ويقدم لمروتك التي طالما أنعمت بها عليه
الهدية التي هي بها جديرة.
ألفونس :
مرحبًا به إن حملها إليَّ
ولينلْ عفوي إلى أمد طويل
بقدر ما أَبدى من الاهتمام بعمله،
وبقدر ما تسعد نفسي — ولا بد أن تسعد —
بهذا العمل العظيم،
فإن قلقي أيضًا يتزايد كل يوم.
إنه لا يفرغ منه، ولا يستطيع أن يُتمَّه،
بل يُغير فيه بلا انقطاع، ويتقدم ببطء،
ثم يتوقف من جديد، ويخيب فيه الرجاء
عسيرٌ على النفس أن يرى الإنسان
كيف تفلت منه المتعة،
التي ظنها قريبة منه.
الأميرة :
أما أنا فأُثني على هذا التواضع،
وأمتدح الحرص الذي يسير به
خطوة فخطوة إلى الهدف.
لم تكن أبياتُه لتتحد في مجموع حتى،
حتى ترضى عنه ربَّات الفن والجمال
وإن نفسه لا تصبو إلى شيء
كما تصبو إلى أن يكتمل قصيده في كل منسجم.
إنه لا يريد أن يكوم خرافة على خرافة
قد تشوق وتسحر، لكنها تخدعك في آخر الأمر
ويضيع صداها كما تضيع الكلمات المفككة.
دعْه يا أخي، فإن الزمن
ليس مقياسًا للعمل الجيد؛
وإذا كان للأجيال المقبلة أن تستمتع به،
فالواجب على الذين يعيشون مع الفنان أن ينسوا أنفسهم.
ألفونس :
فلنوحد جهودنا، يا شقيقتي المحبوبة،
كما فعلنا في أغلب الأحيان، لخيرنا المشترك!
إن تشددت عليه، فتلطَّفي أنت معه.
وإن وجدتك مفرطة التسامح، رحتُ أتعجله
ربما وجدناه عندئذٍ على حين فجأة،
وقد أدرك الهدف الذي طالما تمنيناه
هناك فليدهش الوطن، وليدهش العالم كله
لروعة العمل الذي أتمَّه.
سأنال أنا نصيبي من ذلك المجد،
وستتفتح له أبواب الحياة.
لا يستطيع الرجل النبيل أن يقتصر
في ثقافته على مجال محدود.
لا بد أن يؤثر الوطن
ويؤثر العالم كله عليه
لا بد له أن يتعلم
كيف يحتمل الثناء والهجاء
سوف يجد نفسه مضطرًّا
إلى أن يُحسن معرفة نفسه وغيره،
ولن تستطيعَ الوحدة أن تُهدهدَه
بأوهامها التي تتملَّقه.
وإذا كان العدو لا يُبقي عليه
فلا يجوز للصديق أن يراعيَه؛
هنالك يُجرب الشاب قدرته على الكفاح
فيحس بكيانه، ويشعر بأنه قد أصبح رجلًا.
ليونورا :
إذن فسوف تُقدم له، يا أمير، كلَّ ما تستطيع،
كما قدمت له الكثير حتى الآن.
إن الموهبة تتكوَّن في ظل السكون.
ودوَّامة الحياة هي التي تُربي الطباع.
ليت وجدانه يتعلم من دروسك كما تعلم فنه!
فلا يعود يتجنب الناس، ولا يتحول سخطه
في نهاية الأمر إلى الخوف والحقد!
ألفونس :
لا يخاف الناس إلا مَن يجهلهم،
ومَن يتجنبهم سرعان ما يُسيء فهمهم.
ذلك هو حاله، وكذلك يضطرب الوجدان الحر
ويحبس نفسه مع الأيام في الأغلال.
كثيرًا ما أراه يهتمُّ بنيل رضاي
أكثر مما ينبغي لمثله؛
ويسيء الظن بعدد كبير من الناس،
أعلم تمام العلم أنهم ليسوا أعداءه.
وإذا حدث أن فقد له خطاب
أو انتقل من عنده خادم ليخدم غيره
أو ضاعت إحدى أوراقه،
أسرع إلى الحكم بأن وراءها نية سيئة
وخيانة وحِيَلًا ماكرة
تريد أن تدمر مصيره.
الأميرة :
فلنحاول، يا أخي، ألا ننسى
أن الإنسان لا يمكنه أن يتخلَّى عن نفسه.
وإذا حدث لصديق ورفيق سفر أن جرحت قدمه،
ألا نفضل في هذه الحالة أن نمشيَ على مهل،
ونمدَّ له يدنا عن طيب خاطر؟
ألفونس :
الأفضل من ذلك أن نحاولَ شفاءه،
ونُسرعَ بتجربة العلاج الذي ينصح به الطبيب،
ثم نمضيَ فرحين مع الرفيق المعافَى،
على الطريق الجديد للحياة المستبشرة
ومع ذلك فإنني أرجو يا أحبائي
ألا يقال عني إنني تحملت وزرَ الطبيب القاسي.
إنني أفعل كلَّ ما أستطيع،
لكي أبثَّ في قلبه الثقة والأمان.
وأقدِّم له أمام الكثيرين
من الدلائل ما يؤكد رضاي.
فإذا جاء إليَّ شاكيًا، أمرتُ على الفور بالتحقيق،
كما فعلت أخيرًا حينما صوَّر له الخيال
أن اللصوص قد داهموا حجرته،
فإذا لم يتمَّ الكشف عن شيء
شرحت له رأيي في اتزان.
وكما أن على الإنسان أن يُجرِّب كل شيء،
فإنني أجرب الصبر مع تاسو، لأنه يستحقه.
وإني لأعلم أنكما تؤيِّداني
لقد أتيت بكما إلى الريف،
وسأعود إلى المدينة في المساء
سوف تريان أنطونيو لبضع لحظات،
إذ سيحضر من روما ليأخذني معه.
أمامنا أمورٌ كثيرة لا بد من بحثها والانتهاء منها،
وقرارات لا بد من اتخاذها، ورسائل لا بد من كتابتها؛
وكل هذا يدعوني للرجوع إلى المدينة.
الأميرة :
هل تأذن لنا بمصاحبتك؟
ألفونس :
بل ابقيا في بلرجواردو، وسافرا معًا إلى كونساندولي!٩
واستمتعا بالأيام الجميلة كما يحلو لكما.
الأميرة :
ألا يمكنك حقًّا أن تبقى معنا؟
وتُدبر هنا شئونك كما تدبرها في المدينة؟
ليونورا :
وهل تحرمنا على الفور من أنطونيو،
الذي ننتظر منه أن يرويَ الكثير عما شاهده في روما؟
ألفونس :
مستحيل ما تطلبانِ يا صغيرتيَّ،
ومع ذلك فسأعود معه، بأسرع ما نستطيع.
وعندئذٍ تستمعان إلى حكاياته، وتساعدانني على مكافأته،
وهو الذي يبذل في خدمتي الكثير.
فإذا فرغنا من الحديث،
فليأتِ الضيوف كجماعات النحل،
ليشيعوا الفرح في حدائقنا،
ولألقَ تحت الظلال الرطبة
الجمال الذي أُفتش عنه ويحنُّ قلبي إليه.
ليونورا :
سنحاول أن ننظر من خلال الأصابع.١٠
ألفونس :
وسترين إلى أي حدٍّ يذهب بي التسامح.
الأميرة (وهي تستدير ناحية المسرح) :
أرى تاسو يتقدم نحونا من مدة طويلة
إنه يسير بخطًى بطيئة، ويقف كالمتردد
فجأة بلا حراك.
تم يعود فيحث السير نحونا،
وها هو ذا يتوقف من جديد.
ألفونس :
حين تريانه يتأمل ويُبدع،
فلا تُزعجا أحلامه، بل اتركاه يتجوَّل كما يشاء.
ليونورا :
لا، لقد رآنا، وها هو ذا قادم نحونا.

المشهد الثالث

(السابقون – تاسو)
تاسو (ومعه كتاب مجلد بالرق) :
ها أنا ذا أتقدم في بطء، لأعطيَك كتابًا،
وما زلت أتردد في تسليمه إليك.
أعلم تمام العلم أنه لا يزال ناقصًا،
وإنْ بدا عليه أنه تمَّ وانتهى
إذا كنت قد أحسست بالهم
لأنني أهديه إليك قبل إتمامه،
فقد استولى عليَّ همٌّ جديد
من أن أبدوَ شديد الخوف،
أو أظهرَ في مظهر الجاحد.
وكما يستطيع امرؤ أن يقول: ها أنا ذا،
فيفرح به الأصدقاء ويسامحونه،
كذلك لا أملك أنا أيضًا إلا أن أقول: خذْه من يدي!

(يقدم له الكتاب.)

ألفونس :
أنت تفاجئني بهديتك،
وتجعل من هذا اليوم الجميل عيدًا.
ها أنا أحمل الكتاب أخيرًا بين يدي،
وأعدُّه على نحو من الأنحاء كتابي!
طالما تمنيت أن تحزم أمرك،
وتقول في النهاية: هاك الكتاب! لقد اكتفيت!
تاسو :
إن رضيتم به، فقد تحقَّق غرضي
لأنه كتابكم، من كل ناحية
لو أنني فكَّرت في الجهد الذي بذلته فيه،
ورأيت الخطوط التي رسمتْها ريشتي
لقلت لنفسي: إن هذا الكتاب كتابي
ولكنني كلما أمعنت النظر
وبحثت عما يعطي هذا القصيد
قيمته العميقة ومنزلته العالية
عرفتُ أنني لم أستمدَّه إلا منكم.
إن كانت الطبيعة الحنون قد وهبتني
نعمة الشعر الرائعة،
فقد شاء القدر العنيد
أن يبطشَ بي بطشَه القاسي؛
وإن كان العالم بكل ما فيه من جمال
قد سحر عيون الصبي الصغير،
فسرعان ما كدر روحه الشاب
ما حاق بأبويه الحبيبَين
من بؤس لم يستحقَّاه.١١
كنت كلما تفتَّحت شفتاي للغناء
انسكبت منهما الأغنية الحزينة،
ورحتُ أصاحب بالأنغام الهامسة
الآم الأب وعذاب الأم.
أنت وحدك الذي خلَّصتني من هذه الحياة الخانقة،
ورفعتني إلى سماء الحرية الجميلة.
أنت الذي أزحت الهموم عن جبهتي،
وحررت روحي فرفرف جناحاها بالغناء،
وسواء ما كان الجزاء الذي ينتظر كتابي،
فإنني أدين لك به؛ لأنه منك وإليك.
ألفونس :
تستحق الحمد مرتين،
فأنت تُكرم نفسك في تواضع،
وتكرمنا سمعك.
تاسو :
آه لو استطعت أن أعبِّر لك
عن إحساسي الخالص بأن ما أحمله لك
إنما يأتي منك أنت!
ذلك الشاب الذي لم يكن قد جرت شيئًا،
أكان في مقدوره أن يستمدَّ هذه القصيدة من نفسه؟
هل كان في استطاعته أن يُدرك
كيف تُدبر الحرب الخاطفة تدبيرًا حكيمًا؟
فنون البراعة في السلاح، التي يبديها الأبطال
في اليوم الموعود
ألمعية القائد وشجاعة الفرسان،
وكيف يتنافس الدهاء مع اليقظة في النِّزال،
ألم تكن أنت. أيها الأمير الحكيم الشجاع،
مَن بثَّ في نفسي هذا كله، وكأنك شيطاني الملهم
الذي يحلو له أن يكشفَ عن طبيعته السامية
في جسد إنسان فانٍ؟
الأميرة :
تمتَّع الآن إذن بالعمل الذي أسعدتنا به!
ألفونس :
ابتهج بحفاوة الطيبين!
ليونورا :
وافرح بالمجد الذي لا حدَّ له!
تاسو :
هذه اللحظة تكفيني
ما فكرت إلا فيكم، حين تأملت وكتبت،
رضاكم كان أقصى مناي،
وإسعادكم كان أسمى أهدافي.
من لا يرى العالم بعيون أصدقائه
لا يستحقُّ أن يلتفت العالم إليه
هنا وطني، وهنا دائرة الصحاب
الذين ترتاح نفسي إلى المقام بينهم
هنا تصغي روحي، وتلتقط كلَّ إشارة،
هنا تتكلم التجربة، والمعرفة، والذوق،
أجل، وهنا تضل الفنان وتملؤه ذعرًا.
أما مَن يشبهكم، فهو وحده الذي يفهم ويحس،
وهو وحده الذي يحقُّ له أن يحكم ويُثيب.
ألفونس :
إذا كنا نمثِّل العالم في الحاضر والمستقبل
فلا يخلق بنا أن نأخذ بغير أن نعطيَ.
العلامة الجميلة، التي تُشرِّف الشاعر
والتي يراها البطل نفسه — وهو الذي يحتاج إليها
على الدوام — تتوج رأسه فلا يشعر بالحسد،
أراها هنا تُزين جبهة سلفك العظيم.

(مشيرًا إلى تمثال فرجيل النصفي.)

أكانت هي المصادفة، أم هي يد الجان
التي عقدتها وجاءت بها؟ إني لا أراها هنا عبثًا.
أسمعُ فرجيل يقول: ما الداعي لتكريم الموتى؟
لقد لقوا في الحياة جزاءهم، وأخذوا نصيبهم من السعادة؛
إن كنتم حقًّا تعجبون بنا وتبغون أن تكرمونا،
فأعطوا الأحياء كذلك نصيبهم.
يكفي ما وضعوه على تمثالي المرمري من أكاليل،
أما الغصن الأخضر فقد خلق للحياة.

(ألفونس يشير إلى شقيقته فتنزع الإكليل من فوق تمثال فرجيل وتقترب من تاسو الذي يتراجع إلى الوراء.)

ليونورا :
أترفض؟ انظر أي يدٍ تُمدُّ إليك،
التاج الجميل الذي لا يذبل!
تاسو :
دعوني أتردد! فلست أدري
كيف يمكنني أن أعيش بعد هذه اللحظة.
ألفونس :
عشْ لتستمتع بالهدية الرائعة
التي أفزعك في اللحظة الأولى أن تنالها.
الأميرة (وهي ترفع الإكليل إلى أعلى) :
أتح لي السعادة النادرة يا تاسو،
لأعبر لك في صمت، عما يدور في فكري.
تاسو :
هذا العبء الجميل من يدَيك الغاليتَين
دعيني أتلقَّاه راكعًا على رأسي الضعيف.

(يركع على قدميه. الأميرة تضع التاج على رأسه.)

ليونورا (مصفقة) :
ليعِشْ من يتلقَّى الإكليل لأول مرة!
كم يُزين رأس الرجل المتواضع!

(تاسو ينهض واقفًا.)

ألفونس :
ليس إلا رمزًا لذلك التاج،
الذي سيُجلِّل جبهتك في «الكابيتول».
الأميرة :
هناك ستحييك الهتافات العالية؛
أما هنا فتكافئك الصداقة بشفاهٍ هامسة.
تاسو :
انزعوه من على جبهتي، أبعدوه!
إنه يلهب خصلات شعري!
كمثل شعاع الشمس الحارق الذي يقع على رأسي
أحسُّ به يُبدد قدرتي على التفكير.
وأشعر بحرارة الحمى تعصف بدمي.
أعذروني. إنه كثير عليَّ!
ليونورا :
بل إن هذا الغصن يحمي رأس شاعر
يسير في بلاد المجد الدافئة،
ويُرطِّب جبهته.
تاسو :
لست جديرًا بهذا الترطيب
الذي لا يُخلق إلا بجباه الأبطال.
أيتها الآلهة! ارفعيه بين السحب
حتى يظلَّ عاليًا خفَّاقًا لا يدركه أحد.
واجعلي حياتي سعيًا خالدًا نحو هذا الهدف!
ألفونس :
من نال متع الحياة الصافية في سنِّ الشباب،
تعلم في ربيع العمر كيف يقدر قيمتها العالية؛
ومَن ذاق طعمها وهو في عنفوان صباه،
لم يشعر بالحرمان مما امتلكه ذات يوم.
ومن ملك فقد تحصن.
تاسو :
ومن أراد أن يتحصن،
وجب أن يحسَّ في قلبه بالقوة التي لا تخونه أبدًا.
آه! إنها تخونني الآن!
هذه القوة المفطورة تتخلَّى عني،
وهي التي علَّمتني كيف أصمد للقدر،
وأواجه الظلم في كبرياء.
هل أذاب الفرح قوتي، هل بدَّدت النشوة النخاع من أعضائي؟
ركبتاي تسقطان بي! ها أنت ذي أيتها الأميرة
ترينَني راكعًا أمامكِ للمرة الثانية!
استجيبي لدعائي: انزعي هذا التاج عن رأسي
حتى أحس كأنني أستيقظ من حلم جميل،
لأبدأ حياة منتعشة جديدة.
الأميرة :
ما دمت قادرًا على حمل الموهبة التي أسبغتْها عليك الآلهة
بقلب متواضع رضِيٍّ،
فتعلم كذلك كيف تحمل هذه الفروع الخضراء،
فهي أجمل ما نستطيع أن نهديَه إليك.
مَن يلامس هذا الشرفُ رأسَه مرة،
فسوف يَرِفُ حول جبهته إلى أبد الآبدين.
تاسو :
إذن فاتركيني أغادر خجلًا هذا المكان!
دعيني أُخفي سعادتي في الغابة العميقة،
كما تعودت أن أخفيَ فيها أحزاني.
أريد أن أتجولَ هناك وحيدًا،
فلا تذكرُني عينٌ بالسعادة التي لا أستحقها.
فإذا رأيت صورة رجل يحمل تاجه الرائع،
منعكسة على مِرآة نبع صافية،
يتنكَّر في سكون بين الأشجار والصخور،
وتسقط عليه ظلال السماء الزرقاء،
فسوف يبدو لي كأني أرى الإليزيوم١٢
منعكسًا على صفحة المياه الساحرة.
هناك أتأمل في هدوء وأسأل نفسي:
ظلُّ مَن هذا؟ أهو الشاب الذي عاش قديمًا؟
أهو الذي يحمل تاجًا رائعًا على رأسه؟
من الذي يقول لي اسمه؟ من يحكي أمجاده؟
ويطول بي الانتظار فأتمنَّى
لو أن شابًّا آخر جاء، وبعده ثانٍ
وجمع بينهما حديث ودود!
آه لو أرى الأبطال، لو أرى شعراء العصر القديم،
مجتمعين حول هذا النبع!
آه لو استطعت أن أراهم هنا،
متحدين إلى الأبد، كما كانوا في عالم الأحياء
كذلك تؤلف قوة المغنطيس بين الحديد والحديد،
كما يؤلف النزوع الواحد بين البطل والشاعر.
لقد نسي هوميروس نفسه، ووهب حياته كلها
في تأمل رجلين اثنين،
والإسكندر لن يسعد في الإليزيوم
حتى يلتقيَ بأخيل وهوميروس.
آه لو استطعت أن أكون معهم،
لأرى كيف تتحد أعظم النفوس!
ليونورا :
أفِقْ! أفِقْ! لا تحملْنا على الإحساس
بأنك تُنكر الحاضر أو تتجاهله.
تاسو :
بل إن الحاضر هو الذي يسمو بي،
وإن بدوت في الظاهر غائبًا عن البال،
فإن روحي في أوْج النشوة.
الأميرة :
تُسعد نفسي حين أسمعك تُحادث الأرواح،
بصوت يفيض إنسانية، وأُنصت إليك في سرور.

(تتقدم إحدى الوصيفات من الأمير وتهمس شيئًا في أذنه.)

ألفونس :
لقد حضر! اختارِ اللحظة المناسبة!
أنطونيو! — أحضريه إلى هنا — ولكن ها هو قادم!

المشهد الرابع

(السابقون – أنطونيو)
ألفونس :
مرحبًا بك! يا من جئتنا
بشخصك وبالبشارة السعيدة.
الأميرة :
تقبَّل تحيتنا!
أنطونيو :
لا أكاد أقوى على التعبير عما يغمرني من فرح
وأنا أجد نفسي بينكم من جديد.
كل ما حرمته وطال حرماني،
أراه الآن مرة أخرى أمامكم.
يبدو عليكم الرضا بما فعلتُ، وما حققت يداي؛
وهكذا أراني، وقد كوفئت على ما لقيت من متاعب،
على أيام ثابرتُ فيها فارغ الصبر،
وأيام أضعتها عن قصد وتدبير.
الآن قد حصلنا على ما نتمنَّاه
ولم يعد هناك محلٌّ للنزاع.
ليونورا :
أنا أيضًا أحييك، وإن كان يحزنني
أنك لم تأتِ إلا في اليوم الذي ينبغي عليَّ أن أسافر فيه.
أنطونيو :
أَلكَي لا تتمُّ سعادتي
تسلبينها أجمل نصيب؟
تاسو :
وأنا كذلك أحييك! وأرجو أن أجد السعادة
بالقرب من الرجل المجرب الحكيم.
أنطونيو :
ستجد مني الصدق والإخلاص،
إذا استطعت أن تُلقيَ من دنياك نظرة على دنياي.
ألفونس :
على الرغم من أنك أخبرتني في رسالتك
بما بذلت من جهود وما حققت من نجاح،
فما زلت أريد أن أسالكَ
عن الوسائل التي أنجزت بها مهمتك.
هناك على تلك الأرض العجيبة
يتحتم على الإنسان أن يحسب خُطاه
إذا أراد أن يصلَ إلى الهدف المقصود.
ومَن لا يفكر إلا في مصلحة سيده،
يجد نفسه في روما في موقف عصيب؛
فروما تريد أن تأخذ كل شيء، ولا تعطي شيئًا،
وإذا قصدها الإنسان لينال شيئًا
لم يَفُز منها بغير ما جاء به معه،
والسعيد من لا يخرج منها فارغَ اليدين.
أنطونيو :
أيها الأمير! لم يكن سلوكي ولا براعتي
هما اللَّذان أعاناني على تحقيق مشيئتك.
فأيُّ إنسان مهما كانت فطنته،
لا يجد في الفاتيكان من يتفوق عليه؟
اتفقت ظروف كثيرة
استطعت أن أستغلها لصالحنا.
إن «جريجور»١٣ يُقدِّرك، ويحييك، ويباركك.
هذا الشيخ الهرم، أجدر من يحمل عبء التاج على رأسه،
يطيب له أن يتذكَّر ذلك اليوم البعيد
عندما عانقك وضمَّك إلى صدره.
هذا الرجل، الذي يفهم كيف يميز بين الرجال،
يعرفك جيدًا ويضعك في منزلة عالية!
ولذلك فقد دفعه حبُّه لك، على أن يفعل لك الكثير.
ألفونس :
يُسعدني أن يُحسن الظن بي
على قدر إخلاص نيته.
غير أنك تعلم تمام العلم
أن من يقف في الفاتيكان وينظر من عَلٍ إلى الممالك
يراها ضئيلة تحت قدميه،
فما بالك بمن ينظر إلى الأمراء والبشر؟
صارحني إذن، ما الذي أعانك في مهمتك؟
أنطونيو :
حسنًا! ما دمت تريد ذلك، فهي حكمة البابا العالية
إنه يرى الصغير صغيرًا، والعظيم عظيمًا.
ولكي يحكم العالم، يحلو له
أن يتساهل مع جيرانه عن طيب خاطر.
إنه يُقدِّر الأرض التي يتركها لك
كما يُقدِّر صداقتك حقَّ التقدير.
إنه يريد أن تظلَّ إيطاليا هادئة،
وأن يكون جيرانه أصدقاءه،
ويسود السلام على حدوده
حتى يستطيع المسيحيون أن يكونوا قوة
تتَّحد تحت قيادته، لتقضيَ على الأتراك والملحدين.
الأميرة :
هل هناك أحدٌ يعرف الرجال المقربين إليه،
والذين يؤثرهم بالمودة والألفة؟
أنطونيو :
الرجل المجرب وحده هو الذي يملك سمعه، والنشيط
هو الذي ينال ثقته ورضاه.
الدولة التي خدمها وهو شاب
يحكمها الآن ويؤثر على البلاط،
الذي رآه وعرفه، وكثيرًا ما ساس أموره
عندما كان رسولًا إليه منذ سنوات.
إنَّ نظرتَه النافذة تُحيط بالعالم كله،
كما تعرف مصلحة بلاده.
مَن رآه وهو يُدبِّر شئون الحكم أثنى عليه،
وأسعده أن تكشف الأيام
عما أعدَّه في صبر وصمت، حتى حققه.
ما من مشهد في العالم أجمل
من أن يرى الإنسان أميرًا يحكم عن بصيرة
ومملكة يُطيع فيها كلُّ فرد وهو فخور،
ويؤمن بأنه لا يخدم إلا نفسه،
لأنه لا يأمر إلا بالحق والإنصاف.
ليونورا :
ما أشدَّ شوقي لمعرفة هذا العالم عن قرب!
ألفونس :
وللمشاركة بالفعل فيه بغير جدال؟
فمثل ليونورا لن تقنع بالتأمل من بعيد.
كم يكون جميلًا يا صديقتي، في بعض الأحيان،
أن نشارك بأيدينا الرقيقة في لعبة الصراع
الدائرة بين الدولة. أليس كذلك؟
ليونورا (لألفونس) :
إنك تريد أن تُثيرني، ولكن بغير طائل.
ألفونس :
ألستُ مدينًا لك بهذا من قديم الأيام؟
ليونورا :
لا بأس، ولأبقَ أنا اليوم مدينة لك!
معذرة، ولا تُقاطع أسئلتي
(لأنطونيو): هل فعل الكثير من أجل أبوَيه؟
أنطونيو :
لم يفعل أكثر مما تقضي به التقاليد.
إن الحاكم الذي لا يعرف كيف يرعى شئون أهله،
يلومه الشعب نفسه على ذلك.
إن جريجور يعرف كيف ينفع أقاربه،
الذين خدموا الدولة كرجال أشداء،
في هدوء واعتدال؛
وبذلك يؤدي واجبَين متلازمَين
بلفتة واحدة.
تاسو :
هل تسعد المعرفة أيضًا، ويسعد الفن برعايته؟
وهل يحذو في ذلك حذوَ الأمراء العظام في قديم العصور؟
أنطونيو :
إنه يكرم المعرفة بقدر ما تفيد في تدبير شئون الحكم،
وتُعلم الإنسان أن يتعرف الشعوب؛
ويقدِّر الفن، بقدر ما يشيع الزينة والجمال،
ويُضفي البهاء والروعة على روما،
ويجعل من قصوره ومعابده معجزات على الأرض.
لأنه لا يسمح لشيء حوله أن يعيش في اللهو والفراغ.
فلا بد لمن يريد أن يُثبت قيمته من أن يعمل ويخدم.
ألفونس :
وهل تعتقد أننا نستطيع عن قريب أن نُنهيَ قضيتنا،
قبل أن يخلقوا لنا المصاعب هنا وهناك؟
أنطونيو :
إن لم يستطع توقيعك،
أو بعض الخطابات التي تُحرِّرها بيدك
أن تفضَّ هذا النزاع،
فلا بد أن أكون مخطئًا تمام الخطأ.
ألفونس :
فلْأحيَ إذن هذه الأيام التي أحياها
ولتكن أيام سعادة وفوز.
أرى حدودي قد اتسعت وأمنت.
أديت هذا العمل بغير أن تجرد سيفًا،
واستحققت عليه تاج المدينة.
أريد من سيداتنا أن يعقدنَه من فروع البلوط الناضرة،
وأن يضعنَه على جبهتك مع إشراقة الفجر الجميل.
تاسو أيضًا سخَا علينا في العطاء؛
لقد فتح لنا بيت المقدس، وأخجل بذلك المسيحيين،
وأدرك الهدف النائي والمقصد الرفيع
بالجهد الشاق والحماس البهيج،
وها أنت ذا ترى التاج يزين رأسه.
أنطونيو :
أنت بهذا تكشف لي اللغز.
فقد عجبت إذ رأيت رأسَين متوَّجين
وأنا في طريقي إلى هذا المكان.
تاسو :
إن كنت ترى سعادتي أمام عينيك،
فكم أتمنى لو استطعت أن ترى
بالنظرة نفسها وجداني الخجلان.
أنطونيو :
كنت أعرف دائمًا أن ألفونس
عندما يكافئ، يجاوز كلَّ الحدود،
وأنت الآن تتعلم بدورك
ما يعلمه المقربون منه.
الأميرة :
ستعرف عندما تطَّلع على العمل الذي أنجزه،
أننا كنا معتدلين منصفين.
لسنا هنا إلا أول الشهود
على المجد الذي لن يبخلَ به العالم عليه،
والذي سيغدقه عليه المستقبل عشرات الأضعاف.
أنطونيو :
إن رعايتكم له هي التي تضمن له المجد
ومن ذا يخامره الشك حين تكافئون؟
ولكن خبِّريني، من الذي وضع هذا الإكليل على رأس أريوست؟
ليونورا :
هذه اليد.
أنطونيو :
وقد أحسنت صنعًا فهو يزينه
بأجمل مما كان للغار نفسه أن يفعل.
كالطبيعة التي تُدثِّر صدرها الغني العميق
بثوب أخضر بهيج،
كذلك يُدثِّر برداء الخرافة المتألق
كلَّ ما يجعل الإنسان محبوبًا وكريمًا.
القناعة، والتجربة، والفهم،
قوة العقل، والذوق، والحس الصافي
بالخير الحق، تبدو في أغانيه كأنها رموز،
ومع ذلك تسري فيها حياة شخصية،
وكأنها تستريح في ظلال الأشجار المزدهرة،
تُغطيها ثلوج الزهرات الخفيفة الحمل، وتتوِّجها الورود،
بينما تحيط بها آلهةُ الحب العابثة،
وتلعب لعبها الساحر كالأطفال
نبع الفيض يهمس بجانبها
ويرينا أسماكًا عجيبة الألوان،
الهواء يزدحم بالطيور النادرة،
والأيكة والمرعى بالقطعان الغريبة.
الخبث يتصنَّت بين الأشجار، ويتكشَّف ثم يتخفَّى،
والحكمة التي يرن صوتها في سحابة ذهبية
تُرسل عباراتها السامية من حين إلى حين،
بينما يبدو كأن الجنون يهذي في وحشية
على قيثارة محكمة الأوتار،
ويلتزم مع ذلك بإيقاع الأنغام.
من أحسَّ أنه جدير بأن يضع نفسه بجانب هذا الرجل،
فقد استحق على جسارته هذا الإكليل،
اعذروني إذا كنت أحسُّ بالحماس يغمرني،
وأندفع كالملهم النشوان، فلا أفكر في الزمان أو المكان
ولا أتدبر ما أقول؛
فهؤلاء الشعراء، وهذه الأكاليل،
وهذه الثياب البديعة على نسائنا الجميلات،
تُنسيني نفسي وتنقلني إلى عالم غريب.
الأميرة :
مَن عرف كيف يُقدِّر فضلًا واحدًا،
لم يُعجزه أن يُقدِّر فضلًا آخر.
سيكون عليك أن تكشف لنا في قصائد تاسو
عما نشعر به وتفهمه أنت وحدك.
ألفونس :
تعالَ يا أنطونيو! ما زالت هناك أشياءُ كثيرة، أحبُّ
أن أسالك عنها.
بعدها تستطيع أن تفرغَ للنساء إلى أن تغرب الشمس.
تعالَ! الوداع.

(أنطونيو يتبع الأمير، وتاسو يتبع السيدتين.)

١  وجد جوته مشهدَ التتويج مصوَّرًا على غلاف الترجمة الألمانية لملحمة «تاسو» الشعرية «أورشليم المحررة»، التي كان يعرفها منذ صباه.
٢  المقصود به هو الشاعر الإيطالي لودفيكو أربوستو (١٤٧٤–١٥٣٣م)، وكان أبوه موظفًا في بلاط أمير «فرارا». درس القانون ثم عدل عنه إلى دراسة الحضارة القديمة وفن الشعر، وبدأ يكتب أشعارًا باللغة اللاتينية. اضطر بعد وفاة والده (١٥٠٠م) إلى رعاية شئون أسرته، فالتحق بخدمة الكاردينال «أبوليتو دسته»، الذي أرهقه بالعمل مما جعله يلتحق ببلاط «ألفونسو دسته»، حيث قضى بقية حياته هناك. ألَّف مسرحيات هزلية على نمط مسرحيات «بلاوتوس وتيرنس»، لتُعرض على مسرح البلاط، كما وضع عددًا كبيرًا من القصائد الانتقادية الساخرة، التي تُسمَّى بالساتير ينتقد فيها عصره وبيئته. ولكنه عُرف في تاريخ الأدب بملحمته الشعرية الكبرى «أورلاندو الغاضب» Orlando Furioso، التي ألَّفها في سنة ١٥٣٢م في ستة وأربعين نشيدًا، وتعد أكمل الأعمال المعبرة عن عصر النهضة.
٣  إشارة إلى أمجاد عائلة «إسته»، فقد استضاف جد الأمير الحاكم لمدينة «فرارا»، وهو هرقل فون إسته، الشاعر بوياردو في قصره، كما استضاف ابنه هيبوليت الشاعر أريوستو.
٤  تُعطي الأبيات التالية صورة معبرة عن الحياة العقلية والروحية في عصر النهضة الإيطالية.
٥  إشارة إلى لوكرتسيا شقيقة الأميرة، وقد كانت زوجة لولي عهد أوربينو، التي كان عقمها سببَ تعاستها «قارن في ذلك المشهد الثاني من الفصل الثالث».
٦  يقال: إنها الشجرة المقدسة عند إلهة الحب «فينوس».
٧  إشارة إلى تأثير أفلاطون في النهضة الإيطالية، وبخاصة في أكاديمية فلورنسة، وفي أعقابها أكاديمية «فرارا»، وكذلك إلى تأثير الفلسفة الأفلاطونية على هذه المسرحية وعلى تفكير جوته بوجه عام. ويستطيع القارئ أن يتبيَّن ذلك في تردد بعض الألفاظ المعروفة في محاورات أفلاطون، مثل الإيروس (العشق) والجمال والتذكر والإشارة المستمرة إلى عالم المثل (راجع المقدمة).
٨  أو النفس في اللغة اليونانية، وهي فيما تروي الأساطير زوجة إيروس أو الحب.
٩  أحد قصور المتعة والترف بالقرب من مدينة «فرارا».
١٠  أي سنحاول أن نُغمض أعيننا!
١١  إشارة إلى ما لقيه أبوه برناردو من قسوة القدر؛ فقد كان شاعر البلاط عند أحد النبلاء في نابولي، ثم أُهين وطُرد من البلاد، واضطرت زوجتُه إلى البقاء في مدينة «سورنت» لتعيش في بؤس مع طفلَيها توركوانو (وهو شاعرنا تاسو) وشقيقته كورنيليا.
١٢  هو في الأساطير الإغريقية جنة السعداء، ومقام المنعمين الخالدين.
١٣  المقصود هو البابا جريجور الثالث عشر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤