الفصل الرابع

حجرة

المشهد الأول

تاسو (وحده) :
هل صحوت من حلم
وتخلَّى عنك الوهم الجميل؟
أم هبط عليك النوم في يوم رائع البهجة
ولم يزل يأسر روحك ويخيفها بقيوده الثقال؟
نعم، أنت تحلم في اليقظة.
أين ذهبت الساعات التي كانت
تلفُّ حول جبهتك أكاليل الزهور؟
وأين الأيام التي كانت روحك فيها،
تعبر زرقة السماء على جناح الشوق الطليق؟
ومع ذلك فما زلت تعيش وتحس بوجودك،
تحس بوجودك ولا تدري إن كنت تعيش.
أهو خطئي، أم خطأ إنسان غيري
أن أحيا هنا حياة المذنبين؟
هل اقترفت جريمة، حتى يحقَّ عليَّ العذاب؟
أليس في خطئي كله فضلٌ يُحسب لي؟
رأيته فامتلأ قلبي بالأمل
وغرَّتني الإرادة الطيبة،
فظننت أن من يحمل وجه إنسان
لا بد أن ينطويَ على روح إنسان.
اندفعتُ إليه مفتوح الذراعين
فوجدت مكان القلب، القفل والمزلاج.
آهٍ! لقد كنت دبرت الطريقة التي أستقبل بها
ذلك الرجل الذي كنت أرتاب فيه من زمن طويل!
لتكن تجربتك مع ذلك ما تكون،
فعليك أن تتمسك بهذا اليقين
لقد رأيتها! لقد وقفت أمامي!
وتكلمت إليَّ، وسمعت كلامها!
نظرتها، وصوتها، ومعنى كلامها الرقيق
أملكها إلى الأبد، ولا يسلبها مني الزمان،
ولا ينتزعها القدر ولا الحظ الغدار!
وإذا كانت روحي قد سارعت بالتحليق في الأعالي،
وإذا كنت قد رعيت في قلبي اللهيب الذي يأكلني الآن،
فلست نادمًا على هذا، ولو دمَّر إلى الأبد حياتي
وهبت لها نفسي وأطعت الإشارة
التي دعتني إلى الهلاك وأنا فرحان.
ليكن! فقد أثبتُّ أنني جدير
بالثقة الغالية التي تعزيني
حتى في هذه الساعة التي تنفتح لي فيها
البوابة السوداء التي تتوالى منها الأحزان.
أجل، لقد تمَّ كلُّ شيء! وها هي شمس رضاه الجميل
تأفل فجأة وتغيب؛
والأمير يحرمني من نظرته الحنون،
ويتركني تائهًا على طريق ضيق كئيب.
ها هي الطيور البشعة تحوم حولي،
والموكب الملعون الذي يتبع الليل العجوز يدور حول رأسي.
إلى أين، إلى أين أحرِّك خُطاي،
لأفرَّ من هذه الأسراب الكريهة التي تحاصرني
وأنجوَ من الهاوية التي تفتح فوَّهتها لي؟

المشهد الثاني

(ليونورا – تاسو)
ليونورا :
ماذا جرى؟ أي غضب يا عزيزي،
وأي تهور دفعك إلى هذا؟
كيف حدث ما حدث؟
إننا جميعًا في ذهول
أين دماثتك وطبعك الرقيق،
ونظرتك النافذة، وعقلك السديد،
الذي يجعلك تؤدي لكل إنسان حقَّه،
وصبرك وجلدك الذي علَّمك أن تحتمل
ما يحتمله النبيل، وما يندر أن يتعلمه المغرور،
والتحكم الذكي في الشفتين واللسان؟
يا صديقي العزيز، إني أكاد أنكرك.
تاسو :
وإذا كان كل هذا قد تبدَّد الآن؟
وإذا كنت ترَين الصديق الذي حسبتيه غنيًّا
يقف أمامك الآن كما يقف الشحَّاذ؟
معك الحق، فلم أعد كما كنت،
ومع هذا، فما زلت كما كنت تعرفين
الأمر يبدو لغزًا، ومع ذلك فلا لغز فيه.
القمر الوديع، الذي يسعدك بالليل،
ويسحر نوره عينيك ووجدانك
سحرًا لا يقاوم، يلوح بالنهار
سحابة شاحبة ضئيلة تطوف بالسماء.
لمعان النهار قد أخفي ضيائي،
إنكم ترونني، وتعرفونني،
أما أنا فما عدت أعرف نفسي.
ليونورا :
لست أفهم يا صديقي ما تقوله لي
على النحو الذي تقوله. أوضحْ لي ما تريد.
هل كدرتك إهانة الرجل الفظ
إلى الحد الذي أصبحت معه
تسيء فهمَ نفسك وتسيء فهمنا؟
ضع ثقتك فيَّ.
تاسو :
لستُ أنا المهان ما دمتِ ترَين
أنني عوقبت عقاب المهين.
كان في استطاعة السيف أن يحلَّ الكثير
من عقد الكلام في خفة وسهولة،
غير أنني الآن سجين.
هل تعلمين — لا تفزعي يا صديقتي الرقيقة —
أن صديقك الآن في زنزانة؟
إن الأمير يؤدبني كما يؤدب التلميذ.
أنا لا أحاسبه، ولا أستطيع.
ليونورا :
يبدو عليك التأثير أكثر مما ينبغي.
تاسو :
هل تحسبينني ضعيفًا وطفلًا،
إلى حدِّ أن تُفسد هذه الحادثة عقلي؟
إن ما حدث لا يؤذيني في الصميم،
ولكن يؤذيني ما يعنيه بالنسبة لي
دعي حسَّادي وأعدائي يفعلون ما يشاءون!
فالميدان خالٍ ومتسع لهم.
ليونورا :
إنك ترتاب بغير حق في الكثيرين،
وقد استطعت أن أقتنع بنفسي بهذا،
وأنطونيو نفسه لا يعاديك كما تتوهم.
إن النزاع الذي حدث اليوم …
تاسو :
إنني أدعه جانبًا، وأكتفي بالنظر إلى أنطونيو
كما كان قديمًا، وكما هو الآن.
كانت تضايقني منه دائمًا حكمتُه الجامدة
وحبُّه لتمثيل دور المعلم على الدوام
بدلًا من أن يبحث إن كان عقل المستمع إليه،
قد اهتدى بنفسه إلى الطريق الصحيح،
تجدينه يعلمك يعظك بأشياء
تحسين بها أفضل منه وأعمق،
ولا يستمع إلى كلمة واحدة تقولينها،
بل يسيء فهمك على الدوام.
هكذا يساء فهمك، يساء فهمك من مغرور،
يعتقد أنه يستطيع أن يتجاهلك بابتسامته!
أنا لم أبلغ من العمر ولا من الحكمة ما يجعلني
أكتفي بالصبر وأرد عليه بالابتسام.
لم يكن من الممكن أن نستمرَّ على هذه الحال،
وكان لا بد أن نتصادم في وقت قريب أو بعيد،
ولو تأخر الأمر لازداد سوءًا.
لست أعترف إلا بسيد واحد، هو السيد الذي يطعمني.
إنني أخضع له عن طيب خاطر، ولست أريد سيدًا سواه.
أريد أن أكون حرًّا في تفكيري وإبداعي،
فالعالم يضع لأفعالنا ما يكفي من القيود.
ليونورا :
إنه كثيرًا ما يتكلم عنك بالتقدير والاحترام.
تاسو :
تريدين أن تقولي بالحيطة والاحتراس، في براعة وذكاء.
وهذا هو الذي يغيظني؛ ذلك لأنه يعرف
كيف يتلاعب بالألفاظ ويتحكم فيها
بحيث يصبح الثناء على لسانه هجاءً،
وبحيث لا يجرحك شيءٌ كما تجرحك
كلمةُ ثناء تخرج من فمه.
ليونورا :
وددتُ يا صديقي لو سمعت ما يقوله عنك،
وعن الموهبة التي أثرتْك بها الطبيعة الخيرة.
إنه يحسُّ بالتأكيد مَن أنت وماذا تملك
وهو يقدره كذلك حقَّ التقدير.
تاسو :
آهٍ، صدقيني! إن الوجدان الذي لا يحب إلا ذاته
لا يمكنه أن يتخلص من عذاب الحسد الخالق.
مثل هذا الرجل قد يستطيع أن يغفر لغيره.
الثروة والمكانة والجاه، لأنه يقول لنفسه
أنت تملك هذا كله، وتستطيع أن تملكه إن شئت،
وإن أصررت وكان الحظ في جانبك.
أما هذا الذي تمنحه الطبيعة وحدها،
هذا الذي لا يستطيع الجهد ولا التعب أبدًا أن يدركه،
ولا الذهب أو السيف أو الذكاء أن يغتصبه،
فذلك ما لا يمكنه أن يغتفره.
أتقولين إنه لا يحسدني على هذه الموهبة؟
هو الذي يظن أنه إذا أجهد عقله البليد
استطاع أن ينتزع الحظوة من ربات الفنون؟
وإذا جمع أفكارًا من بعض الشعراء
ظنَّ أنه قد أصبح شاعرًا؟
لا، إنه قد يسلم لي برضاء الأمير،
الذي يود لو يستطيع أن يقصرَه على نفسه،
ولكنه لن يُسلم لي بالموهبة التي أنعمت بها
ربات السماء على الشاب اليتيم المسكين.
ليونورا :
آهٍ! ليتك ترى مور بوضوح كما أراها
إنك تخطئ الظن به، فليس في الحقيقة كما تراه.
تاسو :
إن كنت أخطئ الظنَّ به، فما أحب هذا الخطأ إلى نفسي!
إنني أعده ألدَّ أعدائي، ولن يعزيني الآن
أن أخفف من نقمتي عليه. من الحمق أن يكون الإنسان
منصفًا في كل شيء؛ إن معناه أن يدمر نفسه بنفسه.
هل ينصف الناس في معاملتهم لنا؟ لا. لا!
إن الإنسان بكيانه المحدود
في حاجة إلى الإحساس المزدوج بالحب والكره.
ألا يحتاج إلى الليل حاجته إلى النهار؟
وإلى النوم كما يحتاج إلى اليقظة؟
لا. لا بد من اليوم أن أجعل هذا الرجل
موضوعًا لكرهي العميق؛ ولا شيء يستطيع
أن ينتزع مني لذةَ الإحساس بكرهه
وإساءة الظن به على مرِّ الأيام.
ليونورا :
إن كنت تريد الإصرار على هذا الرأي
فلست أدري، يا صديقي الغالي،
ما الذي يدعوك إلى البقاء في البلاط.
إنك تعلم منزلته فيه.
تاسو :
وأعلم، يا صديقتي الجميلة، منذ عهد طويل
أنني أصبحت هنا شيئًا يمكن الاستغناء عنه.
ليونورا :
لست كذلك، ولا يمكن أبدًا أن تكون!
إنك تعلم كم يحب الأمير، وكم تحب الأميرة أن تعيش معهما؛
وإذا جاءت شقيقتهما التي تعيش في أوربينو،
فهي تجيء من أجل شقيقتها كما تجيء من أجلك.
إنهم جميعًا يضمرون لك الخير،
ويثقون فيك ثقة بغير حدود.
تاسو :
آهٍ يا ليونورا! أي ثقة هذه!
هل تحدث معي مرة بكلمة واحدة في شئون الدولة،
بكلمة واحدة جادة؟
كانت كلما عرضت مسألة في وجودي
راحَ يستشير فيها شقيقته وبقية الحاضرين
ولا يسألني رأيي أبدًا. إنه لا يفتأ يقول
أنطونيو قادم! لا بد أن تبلغوا أنطونيو!
اسألوا أنطونيو!
ليونورا :
أنت تتهم، حيث ينبغي عليك أن تشكر.
إنه إن كان يحب أن يترك لك حريتك المطلقة،
فذلك لأنه يكرمك بقدر ما يستطيع.
تاسو :
بل يتركني على راحتي، لاعتقاده بأنني لا أفيد في شيء.
ليونورا :
لا يمكن أن تكون عديم الفائدة، لأن راحتك هي مصدر قوتك.
ها أنت منذ وقت طويل ترعى الهم والضيق
في قلبك، كما يفعل الطفل المدلَّل الحبيب.
لقد طالما فكرت في الأمر وعدتُ للتفكير فيه
على هذه الأرض الجميلة، التي يبدو كأن الحظ
اختارها لك،
لا يمكن أن تنموَ مواهبك أو تزدهر. آهٍ يا تاسو!
هل أشير عليك؟ هل أجرؤ أن أقول لك ما في نفسي؟
إن عليك أن تبتعد!
تاسو :
لا تترفق، يا طبيبي العزيز، بالمريض!
ناوله الدواء حتى ولو كان مرًّا
اسألي نفسك، يا صديقتي الحكيمة الطيبة،
إن كان يمكن أن يشفي!
إني أرى كل شيء بنفسي. وا أسفاه! لقد فات الأوان!
أستطيع أن أغفر له، أما هو فلن يغفر لي.
وهم محتاجون إليه، أما أنا فلا يحتاج إلي أحد.
وهو ذكي، وأنا لست على شيء من الذكاء.
وهو يؤذيني، وأنا لا أحب ولا أقوى على ردِّ أذاه.
أصدقائي يتغاضون عما يجري، وبعيون أخرى يرونه.
إنهم لا يبدون أي مقاومة، حين كان ينبغي عليهم أن يكافحوه.
أتعتقدين أنه عليَّ أن أذهب؟ أنا نفسي أعتقد هذا.
الوداع إذن! وسوف أصبر على هذا الامتحان
لقد تخليتم عني، فلأجد القوة والشجاعة
التي تعينني على أن أتخلى بدوري عنكم!
ليونورا :
آهٍ! إن الإنسان يميز على البعد في نقاء
ما يضل عقولنا على القرب.
ربما استطعت حينئذٍ
أن تعرف الحب الذي كان يحيط بك من كل جانب،
وربما استطعت أن تقدر قيمة الوفاء
الذي يصدر عن قلوب الأصدقاء الخلصاء،
وكيف أن العالم الواسع لا يغني
عن أولئك الذين وجدوا الطريق إلى قلبك.
تاسو :
هذا ما سوف نراه! فأنا أعرف العالم منذ الشباب،
وأعرف كيف يسهل عليه أن يتركنا وحيدين عاجزين،
ويواصل طريقه في غير اكتراث،
كما تفعل الشمس والقمر وبقية الآلهة!
ليونورا :
إذن أنصت إليَّ يا صديقي،
فلن تكرر التجربة الحزينة أبدًا
إن كان لي أن أُشير عليك،
فاذهب أولًا إلى فلورنسا
حيث تتلقاك صديقه أحرَّ لقاء.
لا تقلق! فأنا نفسي هذه الصديقة،
سأرحل في خلال أيام
لألقى زوجي هناك، وليس شيءٌ أحب إليه أو إليَّ
من أن نراك بيننا.
لن أقول لك شيئًا، فأنت تعرف بنفسك
ومن هو الأمير الذي ستعيش بقربه،
ومن هم الرجال والنساء الذين ترعاهم
هذه المدينة الجميلة بين ضلوعها.
ألا تقول شيئًا؟ فكر في الأمر! وصمم على رأي!
تاسو :
يجذبني ما تعرضينه عليَّ، ويتفق كلَّ الاتفاق
مع الرغبة التي أكتمها في نفسي؛
غير أنه شيء جديد عليَّ
أرجوك أن تتركي لي فرصة التفكير
وسوف أستقر على رأْيٍ عن قريب.
ليونورا :
سأذهب وفي نفسي أجمل الآمال
من أجلك، ومن أجلنا، ومن أجل هذا البيت.
فكِّر في الأمر، وإذا أحسنت التفكير
فسوف يتعذر عليك أن تجد خيرًا منه.
تاسو :
شيء واحد، يا صديقتي العزيزة!
خبريني، ما هو إحساس الأميرة نحوي؟
هل غضبت عليَّ؟ ماذا قالت؟
هل اشتدت في لومي؟ كوني صريحة معي.
ليونورا :
كان من السهل عليها أن تلتمس العذر لك، لأنها تعرفك.
تاسو :
هل فقدت تقديرها لي؟ تكلمي بغير تملق.
ليونورا :
رضا النساء لا يفقده الإنسان بهذه السهولة.
تاسو :
وإذا رحلت، فهل تتركني أمضي وهي راضية؟
ليونورا :
لا شك في هذا، إذا عرفت أن الرحيل في صالحك.
تاسو :
ألن أفقد عطف الأمير؟
ليونورا :
تستطيع أن تطمئن إلى كرمه.
تاسو :
وهل نترك الأميرة في هذه الوحدة؟
أنت سترحلين، وأنا، على قلة شأني،
أعرف مع ذلك أن لي مكانة في عينيها.
ليونورا :
إننا نظل ننعم بصحبة الصديق
ما دمنا نعلم أنه على البعد سعيد.
سيسير كلُّ شيء على ما يرام، فأنا أراك سعيدًا
ولن ترحل ساخطًا عن هذا المكان.
الأمير هو الذي أمر بهذا، وأنطونيو سيسعى إليك.
وهو يلوم نفسه على المرارة التي جرح بها إحساسك.
أتوسل إليك أن تستقبلَه بغير جفاء.
تاسو :
إنني أستطيع أن أواجهه في كل الأحوال.
ليونورا :
ولتوفقني السماء، يا صديقي العزيز،
أن أفتح عينيك قبل أن ترحل،
لأريَك أنه ليس في الوطن كله إنسان
يضطهدك أو يكرهك أو يتآمر عليك!
إنك تخطئ حقًّا! وكما تؤلف الشعر لتُسعد الآخرين
أراك الآن — ويا للأسف! — تؤلف نسيجًا غريبًا من الأوهام
لتؤذيَ به نفسك. أريد أن أفعل كلَّ ما أستطيع
لكي أمزقَ هذا النسيج، حتى تسيرَ حرًّا
على طريق الحياة الجميل.
وداعًا! وأنتظر منك ردًّا سعيدًا.

المشهد الثالث

تاسو (وحده) :
إذن فهذا هو الآن واجبي؟
أن أعرف أنه لا أحد يكرهني، ولا أحد يضطهدني،
وأن المكر كلَّه والدسائس الخفية كلها؛
إنما هي من نسيج خيالي!
أن أعترف بأنني أخطأت
وأنني أظلم كثيرين
لا يستحقون مني هذا الظلم!
وهذا في الوقت الذي يتجلَّى فيه
حقي المطلق وخيانتهم الدنيئة
واضحة أمام وجه الشمس!
عليَّ أن أشعر عميق الشعور
بأن الأمير يفتح لي صدره ويهبني رضاه،
ويُغدق عليَّ دون حساب عطاياه،
في حين أن أعدائي يستغلون ضعفه
فيعكرون نظرته إليَّ، ويقيدون بالطبع يديه!
هو لا يستطيع أن يرى أنه مخدوع،
وأنا لا أستطيع أن أُثبت أنهم خادعون،
وعليَّ أن ألزم الصمت، لا بل أنسحب من الميدان
لكي يخدع في هدوء،
ويضللوه على هواهم!
ومن الذي يقدِّم لي النصيحة؟
من الذي يلح عليَّ في رفق وإصرار وذكاء؟
إنها ليونورا نفسها، ليونورا سانفيتاله.
الصديقة الرقيقة! آه. إنني أعرفك الآن!
ما الذي جعلني أصدق شفتيها!
لم تكن أمينة حين جاءت تؤكد لي
إخلاصها ورقَّتها بكلماتها المعسولة!
لا، لقد كانت وستظل خبيثة القلب،
تتسلل بخُطًى خافتة بارعة لتتقرب مني.
كم من مرة خدعت نفسي بنفسي فيها!
وما خدعني في الحقيقة إلا الغرور
كنت أعرفها ولكنني كنت أداهن نفسي،
وأقول لها: هكذا تعامل غيركِ،
ولكنها معك صريحة ووفية.
الآن أراها بوضوح، وأراها بعد فوات الأوان
حين كنت أتمتع بالحظوة عند الأمير، كانت تتقرب مني
وتُبدي رقَّتها لي، أنا المحظوظ.
وما كدت أهوى، حتى أدارت ظهرها
عندما تنكَّر الحظُّ بدوره لي.
وها هي تقبل الآن، أداة في يد عدوِّي
تتسلل نحوي وتصفر أنغامها الساحرة كالحية الصغيرة،
كم كانت تبدو رائعة! أروع من كلِّ وقت مضى؟!
وما أعذب كلَّ كلمة كانت تخرج من شفتيها!
ومع ذلك فلم يستطع النفاق طويلًا
أن يخفيَ عني نيَّتَها الخبيثة. على جبهتها.
كنت أقرأ بوضوح عكس ما كانت تقوله شفتاها،
فسرعان ما أحسُّ بمن يبحث عن الطريق إلى قلبي
دون أن يكون صادقًا من قلبه.
أعليَّ أن أبتعد؟ أن أذهب إلى فلورنسا بأسرع ما أستطيع؟
ولكن لماذا أذهب إلى فلورنسا؟ إنني أرى الأمر بوضوح.
هناك يحكم بيت الميديشي الجديد،
صحيح إنهم لا يجهرون بالعداء ﻟ «فرارا»،
ولكن الحسد الصامت يفرق
بين القلوب النبيلة بيده الباردة.
وإذا حدث أن تلقَّيتُ من أولئك النبلاء
ما يدل على رضاهم السامي عليَّ
— وذلك ما أتوقعه عن يقين.
فما أسرع ما سيحاول رجل البلاط
أن يُثير الشك في ولائي وعرفاني،
وسهل أن يتمَّ له هذا.
نعم، أريد أن أذهب، ولكن لا كما تريدون؛
أريد أن أمضيَ بعيدًا، وأبعد مما تتصورون.
وماذا أفعل هنا؟ من الذي يحرص عليَّ؟
آهٍ! لقد فهمت كل كلمة تصيَّدتها من شفتَي ليونورا!
رحت أَحْدِس بمعناها، مقطعًا، بعد مقطع
وأعرف الآن تمامًا، ما تفكر الأميرة فيه.
أجل! أجل! كل هذا حق، فلا تيأس!
«ستتركني أرحل وهي راضية
إذا عرفت أن ذلك في صالحي»
لو أنها أحست بعاطفة في قلبها
ستدمر سعادتي وتدمرني!
الموت أحبُّ إليَّ من هذه اليد،
التي تتخلى عني في برود وجمود.
سأرحل! فحاذر الآن أن تنخدع
بالصداقة والطيبة. ولن يقوى أحدٌ على خداعك،
ما دمت لا تخدع نفسك.

المشهد الرابع

(أنطونيو – تاسو)
أنطونيو :
ها أنا يا تاسو قد جئت لأتكلم معك،
إن أردت واستطعت أن تستمع إليَّ في هدوء.
تاسو :
إن الفعل، كما تعلم، محرم عليَّ؛
فخليق بي الآن أن أنتظر وأسمع.
أنطونيو :
إنني ألقاك هادئًا، كما كنت أتمنى
وأحب أن أتحدث إليك بقلب مفتوح.
وأبدأ فأنزع عنك باسم الأمير
القيد الواهي الذي بدا أنه يقيدك.
تاسو :
التعسف هو الذي قيدني، وهو الذي يفكُّ الآن قيدي.
إنني أقبل ما تعرضه عليَّ، ولن أطالب بالتقاضي.
أنطونيو :
إذن دعني أتكلم الآن عن نفسي،
ربما جرحتْك كلماتي
جرحًا كان أعمق وأبعد من أن أحسَّ به.
كنت في ذلك الحين معذَّب القلب بالأحزان
على أن كلمة واحدة مهينة
لم تفلت من شفتي بلا تدبر،
ولن تجد فيها كرجل نبيل ما تثأر له
ولن تبخل كإنسان عليها بالغفران.
تاسو :
لن أبحث الآن إن كانت الإهانة
أو كان السبُّ أشدَّ إيذاءً؟
فتلك تنفذ إلى النخاع، وهذا يخدش الجلد.
إن سهم السبِّ يعود فيصيب
مَن ظنَّ أنه أصاب غيره بالجراح،
والسيف الذي يجد اليد التي تُحسن تسديده،
من السهل أن يرضي رأي الآخرين.
أما القلب المهان فمن العسير أن يجد الشفاء.
أنطونيو :
الآن أرى من واجبي، أن ألحَّ عليك وأقول:
لا ترجع إلى الوراء، وحقِّق رغبتي،
التي يريدها منك، كذلك الأمير.
تاسو :
أنا أعرف واجبي، وسوف أطيع.
ولقد صفحت، بقدر ما أستطيع.
إن الشعراء يحكون لنا عن رمح
يستطيع بملمسه الرقيق
أن يشفيَ الجرح الذي أصابه١
إن لسان الإنسان يملك هذه القدرة؛
ولن أجعل الحقد يغلق دونها فؤادي.
أنطونيو :
أشكرك وأرجوك أن تضع رغبتي
في خدمتك على الفور موضع الاختبار.
قل لي: هل أستطيع أن أؤدي لك خدمة؟
إنني أرحب بهذا كلَّ الترحيب.
تاسو :
إنك تقدِّم لي ما كنت أتمناه.
لقد أعدْتَ إليَّ حريتي، وأرجوك
أن تعطيَني القدرة على استخدامها.
أنطونيو :
ماذا تقصد؟ أوضحْ ما تقول.
تاسو :
أنت تعلم أنني انتهيت من قصيدتي
ولكنها لا تزال بعيدة عن الكمال
لقد سلمتها اليوم للأمير
وكنت أرجو أن أشفعَها بالتماس.
إن عددًا كبيرًا من أصدقائي
مجتمعون اليوم في روما
وقد كتبوا إليَّ على حدة
برأيهم في بعض الفقرات،
استطعت أن أُفيد بكثير من هذه الآراء،
ولكن لا يزال الكثير فيما يبدو لي بحاجة إلى التفكير.
ولست أحب أن أغير في مواضع كثيرة،
قبل أن ألقى منهم مزيدًا من الإقناع.
ولا بد من وجودي لأحلَّ عقدة بالحديث
فكَّرت اليوم أن أطلب هذا من الأمير،
غير أنني لم أجد الفرصة سانحة؛
وليس من حقي الآن أن أتجرَّأَ بالسؤال
لهذا أرجو أن أحصل على هذه الإجازة عن طريقك.
أنطونيو :
لست أرى من العقل أن تبتعد الآن
بعد أن أنجزت عملك الذي يُرضي عنك الأميرة والأمير.
إن يوم الرضا كيوم الحصاد
إذا نضجت الثمار كان على الإنسان أن يعمل،
ولو ابتعدت الآن، فلن تكسب شيئًا،
بل ربما خسرت ما كنت قد كسبت.
إن الحاضر إلهة قوية وقادرة،
فتعلَّم أن تعرف تأثيرها، وابقَ هنا!
تاسو :
لست أخاف شيئًا؛ فألفونس نبيل،
وقد كان دائمًا كريمًا معي؛
وما أرجوه منه أحبُّ أن أناله من قلبه فحسب،
ولست أحب أن أتسول رضاه؛
لا أريد أن آخذ منه شيئًا
قد يندم لأنه أعطاني إياه.
أنطونيو :
لا تطلب منه إذن أن يسمح لك بالرحيل؛
إنه لن يفعل ذلك إلا كارهًا
وأخشى ألا يفعله على الإطلاق.
تاسو :
سيرضى إذا عرف الإنسان كيف يرجوه
ولن يستطيع هذا، إذا شئت، سواك.
أنطونيو :
ولكن قلْ لي: ما هي الحجج التي أقدمها إليه؟
تاسو :
دع كلَّ مقطع من قصيدتي يعبر لك عنها!
إن ما أردته جدير بالحمد والثناء،
وإن ظلَّ الهدف أبعد من أن تدركه قواي.
إنني لم أبخل عليها بالجهد والعناء.
كم من نهار جميل مشمس،
وكم من ليلة عميقة هادئة
وهبتها لهذه الأغنية التقية.
كنت أرجو، على تواضع حالي، أن أقترب
من أولئك المعلمين الكبار القدماء،
وتجاسرت أن أوقظ المعاصرين الأحياء
من نومهم الطويل لينهضوا بأعمال البطولة
ويشاركوا مع الجيش المسيحي العظيم
في أمجاد الحرب المقدسة وأخطارها.
فإن استطاع نشيدي أن يوقظ أفضل الرجال
فلا بد كذلك أن يكون جديرًا بهم.
إنني أدين لألفونس بما فعلت؛
وأحب الآن أن أشكره على إتمامه.
أنطونيو :
ولكن الأمير هنا، ومعه كثيرون
يستطيعون أن يهدوك كما يفعل أهل روما.
أتمم قصيدك هنا، فهنا المكان الذي يلائمه.
فإن أردت التأثير على الناس، فأسرع بعدها إلى روما.
تاسو :
كان ألفونس أولَ من بعث فيَّ الحماس للقصيدة،
وإذا لم أجد حكمًا سواه، فسوف أستمع يقينًا إلى نصيحته.
أما رأيك، ورأي الحكماء الذين جمعهم البلاط
فتأكَّد من أنني سأعرف قدره وقيمته،
عليكم أن تقرروا إن كان أصدقائي
لم ينجحوا في إقناعي بالسفر إلى روما،
ولكن لا بد لي أن أراهم.
إن جونزاجا قد ألَّف المحكمة التي ينبغي عليَّ
أن أقدم نفسي إليها، ولست أطيق الانتظار.
فلا مينيودي نوبيلي، أنجيليودا بارجا.
أنطونيانو وسبيرون سبيروني!٢
لا شك أنك تعرفهم جميعًا.
يا لها من أسماء رائعة! تبعث الثقة
كما تشيع الخوف في روحي،
التي ستخضع لرأيهم عن طيب خاطر.
أنطونيو :
أنت لا تفكر إلا في نفسك وتنسى الأمير.
أؤكد لك أنه لن يوافق على رحيلك؛
وإذا فعل، فسيكون ذلك بغير رضاه.
فهل تطلب منه مالًا يحب أن يعطيَه؟
وهل أمدُّ يدي للتوسط في شيء
لا أستطيع أنا نفسي أن أحبِّذَه؟
تاسو :
أترفض أن تُقدم لي الخدمة الأولى،
التي أريد أن أختبر بها الصداقة التي تعرضها عليَّ؟
أنطونيو :
إن الصداقة الحقة هي التي تعرف
كيف ترفض في الوقت المناسب،
وكم يجلب الحب من أضرار،
كلما استجاب لنزوة الصديق بدلًا من مصلحته.
يبدو لي أنك في هذه اللحظة
تعدُّ ما تتلهف عليه خيرًا،
وتريد أن تحقق في طرفة عين
ما تشتاق إليه نفسُك.
إن من يخطئ ويضل الطريق،
يضع العنف والجموح
مكان الحقيقة والقوة
اللتين يفتقر إليهما.
إن من واجبي، بقدر ما أستطيع
أن أخفف بالاعتدال من الغلواء
التي تؤذيك وتجني عليك.
تاسو :
طغيان الصداقة هذا، أعرفه من وقت طويل،
وهو عندي أشد ألوان الطغيان.
إن تفكيرك يختلف عن تفكيري،
وهذا ما يجعلك تعتقد بأنه هو التفكير الصحيح.
إنني أعترف بأنك تريد الخير لي؛
فلا تطلب مني أن أسير على طريقك كي أفتش عنه.
أنطونيو :
وهل تطلب مني أن أسعى في برود إلى أذاك
وأضرك عن اقتناع كامل وواضح؟
تاسو :
أحب أن أخلصَك من هذا الهم!
فلن يصدَّني عن هدفي شيء مما تقول.
لقد أعدت إليَّ حريتي، وهذا الباب
الذي يؤدي إلى الأمير مفتوح أمامي.
أنت أو أنا! إنني أترك لك الخيار.
الأمير ينوي السفر. وليست هناك لحظة نضيعها في الانتظار.
اختر على وجه السرعة! فإذا لم تذهب أنت؛
فسأذهب أنا إليه، وليكن ما يكون.
أنطونيو :
دعني أطلب إليك أن تتريث قليلًا،
وتنتظر على الأقل حتى يعود الأمير،
لا تذهب اليوم إليه!
تاسو :
بل سأذهب إليه الساعة، إن استطعت!
إنَّ نعليَّ يلتهبان فوق هذا الرخام،
ولن تستريح روحي حتى يثورَ الغبار
ورائي على طريق الحرية. أتوسل إليك!
أنت ترى كم يتعذر عليَّ في هذه اللحظة
أن أحسن الحديث مع مولاي،
أنت ترى — وكيف لي أن أخفيَ هذا؟ —
أنني لا أستطيع في هذه اللحظة أن أتحكم في نفسي،
ولن تستطيع قوةٌ على الأرض أن تسيطر عليَّ
الأغلال وحدها هي التي تقيدني الآن!
ليس ألفونس طاغية، فقد أعاد إليَّ حريتي.
وما أحب إلى نفسي أن أطيع أوامره
لولا أنني اليوم لا أستطيع!
دعوني أتمتع بحريتي اليوم فحسب
حتى أعودَ إلى نفسي! وسوف لا أتأخر عن أداء واجبي.
أنطونيو :
أنت تثير الحيرة في نفسي. ماذا أفعل؟
أرى الآن أن الخطأ يعدي.
تاسو :
إن أردت مني أن أصدِّقَك، إن أردت حقًّا أن تُعينني
فافعل ما أطلبه منك وما تستطيع،
عندئذٍ يوافق الأمير على سفري
دون أن أفقد عونه أو رضاه.
وسأحفظ لك هذا الجميل بالشكر والعرفان.
أما إن كنت تطوي في صدرك حقدًا قديمًا،
أو كنت تريد أن تنفيَني من هذا البلاط
وتجنيَ على سعادتي إلى الأبد
وتلقيَني إلى العالم الشاسع بغير معين،
فابقَ على رأيك وقفْ في طريقي!
أنطونيو :
ما دمت يا تاسو تريد أن أؤذيَك،
فسوف أختار الطريق الذي اخترتَه بنفسك.
وستكشف النهاية عمن المخطئ منَّا والمصيب!
أنت تُصِرُّ على الرحيل! فاسمع رأيي الآن.
لن تُديرَ ظهرك لهذا البيت، حتى يحنَّ قلبُك للرجوع،
ويدفعَك عنادُك على طريق الهروب،
العذاب والاضطراب والاكتئاب
تنتظرك في روما،
وستُخطئ الهدف هنا وهناك.
على أنني لا أقول لك هذا لأنصحَك؛
وإنما أتنبأ بما سيقع عن قريب،
وأدعوك مقدمًا، من هذه الساعة
أن تثقَ بي في أسوأ الأحوال.
وسأذهب الآن إلى الأمير
لأتكلم معه كما تريد.

المشهد الخامس

تاسو (وحده) :
نعم! اذهب الآن وأنت على يقين
من أنك أقنعتني بما تريد.
سأتعلم أن أضعَ قناعًا على وجهي،
فأنت المعلم الكبير، وأنا التلميذ الذي يفهم بغير عناء.
هكذا تضطرُّنا الحياةُ أن نتظاهر،
لا بل أن نكون كأولئك الذين
كان في مقدورنا أن نحتقرَهم بجسارة وكبرياء.
الآن تتضح لي كلُّ ألاعيب البلاط!
أنطونيو يريد أن يطردني ولا يريد
أن يظهر كأنه هو الذي يطردني.
إنه يمثل دور المتسامح الحكيم
حتى يُبيِّنَ للناس أنني مأفون ومريض.
ويفرض وصايته عليَّ، كي يجعلَني طفلًا
بعد أن أعجزَه أن يجعل مني عبدًا.
وهكذا ينشر الضباب حول جبهة الأمير
ويُعكِّر نظرة الأميرة إليَّ،
لا بد من التمسك بي، هذا ما يفكر فيه؛
فقد أهدتني الطبيعةُ موهبةً جميلة،
لكنها، ويا للأسف، قد قرنت الهدية
بألوان من الضعف التي أسات إليَّ
بالغرور الجامح، والحساسية المفرطة
والشعور المتجهم العنيد.
لا حيلة لنا، فهكذا صوَّر القدر هذا الرجل الفريد،
وعلينا الآن أن نقبلَه على علَّاته،
ونصبرَ عليه، ونحتملَه، وليس ببعيد،
أن يأتيَ اليومُ الجميل الذي نستمتع فيه
بالبهجة التي لم نكن ننتظرها منه.
وبعد هذا فلنترك له أن يعيش
أو فلندعْه كما ولد يموت!
أهذا هو ألفونس وعزمه المكين،
الذي يُرغم الأعداء بالشجاعة ويحمي الأصدقاء بالوفاء؟
أأستطيع الآن أن أتعرَّف عليه،
وهو يعاملني هذه المعاملة؟
أجل! إنني أعرف الآن شقائي كلَّه!
هذا هو قدري الذي يجعل كلَّ إنسان
يتغيَّر نحوي في نفَسٍ واحد ولحظة واحدة.
بينما يظلُّ مع غير الصديق الوفي الأمين.
ألم يكن ظهور هذا الرجل كافيًا،
ليُحطِّم مصيري كلَّه في لحظة واحدة؟
أليس هو الذي هدم سعادتي
من أساسها ولم يترك حجرًا على حجر؟
هل كان حتمًا أن أقاسيَ هذه التجربة،
هل كان حتمًا أن أقاسيَها اليوم؟
نعم. كان الجميع يتدافعون عليَّ
والآن يتخلَّى عني الجميع،
وكلُّ من كان يحاول أن يشدَّني إليه،
وكلُّ من كان يريد أن يستأثرَ بي
يصدُّني الآن عنه ويتجنَّب طريقي.
وما السبب في هذا؟ أترجح كفتُه في الميزان
كلَّ ما كنتُ أحظى به من حب وتقدير؟
نعم! كلُّ شيء يهرب الآن مني.
حتى أنتِ! حتى أنتِ! يا أميرتي المحبوبة
تتخلين الآن عني!
إنها لم ترسل إليَّ في هذه الساعات الكالحة
بعلامة واحدة تُنبئ عن رضاها.
أكنتُ أستحقُّ هذا منها؟ يا قلبي المسكين!
يا من فُطرت على عبادتها!
كنت لا أكاد أسمع صوتها، حتى ينفذ
إلى قلبي شعورٌ لا سبيلَ للتعبير عنه!
ولا أكاد ألمحها حتى يُظلمَ في عينيَّ
ضوء النهار الوضاح؛
تسحرني عيناها وشفتاها،
قدماي لا تعودان تحملاني،
وأهيب بكل ما فيَّ من قوة الروح
كي أتماسكَ أمامها ولا أسقط عند قدميها؛
وما من شيء ينقذني من هذا الدوار.
تَثبَّتْ يا قلبي! وأنت يا عقلي المنير،
لا تدع الضباب يلفك ويغشاك؛
نعم! هي أيضًا! أأَقولها بلساني؟ ولا أكاد أُصدِّق!
بل إنني أُصدِّق، وأريد لو أخدع نفسي بالكتمان.
حتى هي! حتى هي! اعذرْها من كل قلبك،
ولكن لا تُخفِ الحقيقة عن نفسك،
حتى هي! حتى هي!
آهٍ من هذه الكلمة، التي كنت أريد
أن أرتابَ فيها،
ما دام تردَّد في صدري نفَسٌ من الإيمان،
أجل، هذه الكلمة، إنها خاتم القدر
الذي يحفر رسمَه على إطار من حديد
في لوحتي التي امتلأت سطورُها بالعذاب.
الآن سُلبت إلى الأبد من كل قوة.
وكيف أحارب، وهي تقف في جيش أعدائي؟
وكيف أصبر، وهي لا تمدُّ يدَها إليَّ من بعيد؟
ونظرتُها لا تستجيب لدعائي؟
لقد تشجعتَ على التفكير، واستطعتَ أن ترفع صوتك،
وها هو الأمر حق، وبأسرع مما كنت تخشى!
يكفيك قبل أن يقبضَ اليأسُ على عقلك
ويمزِّقَه بمخالب من حديد،
أن تشكوَ القدر المرير
وتكرر لنفسك: حتى هي! حتى هي!
١  إشارة إلى إحدى الخرافات الإغريقية، التي تقول إن الملك «تليفوس» الذي أصابه رمح أخيل فجرحه لا يمكن أن يُشفى حتى يلمسَه هذا الرمح مرة أخرى.
٢  أسماء شعراء إيطاليين عرفهم جوته من كتاب سيراسي «مؤرخ حياة تاسو» الذي أشرت إليه في المقدمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤