الرسالة الأولى

كدت أترك مصر وأنا معتزم أن أمضي برهة من الزمن في جبال البرينيات أو الثنايا (كما كان يعرفها العرب) ترويحًا للنفس وارتيادًا للصحة، فلفَتَ نظري أحد إخواني إلى زيارة إسبانيا التي لم أكن أعرفها، مع أني جبت تقريبًا أكثر أقطار أوربا شرقًا وغربًا وشمالًا، وكان عدم معرفتي باللغة الإسبانية يمنعني من هذه الزيارة، ولا سيما أن في هذه البلاد البقية الصالحة من آثار ذلك المُلْك العربي الفخم؛ ولهذا يقصدها كل سنة عشرات الآلاف من السيَّاحين من أوربا وأمريكا وألمانيا على الخصوص. وكان أحد إخواني قد سهَّل عليَّ عدم معرفتي لغة القوم بما أخبرني من شيوع اللغة الفرنسية فيهم؛ وحينئذٍ قويت عزيمتي وأخذت جواز سفر في أول أغسطس (سنة ١٩٢٦) أقطع به السكة الحديدية الإسبانية من شمالها إلى جنوبها، ومن غربيها إلى شرقيها، مارًّا بأهم البلاد التي كان للعرب أثر فيها.

وأول ما مررنا بعد أن تركنا الحدود الفرنسية بمدينة (إيرن) وهي أول حدود إسبانيا الشمالية الغربية، وبعد التفتيش العسكري على أجوزة المرور (لأن البلاد تحت الأحكام العرفية)، ثم التفتيش (الجمركي) على أمتعتنا؛ سار القطار إلى سان سباستيان، وهنا تجلَّت لي حيرتي بعدم معرفة لغة البلاد؛ لأنه على الرغم من أن هذه المدينة متصلة بالحدود الفرنسية، وعلى الرغم من أنها مدينة من أشهر حمامات البحر في أوربا، وجدتني غريبًا فيها لعدم معرفتي باللغة الإسبانية. ولما لم أجد لي مخلِّصًا من هذا المأزق إلا التشبه بالإنجليز في جمودهم، نذرت لله صومًا فلن أكلم اليوم إسبانيًّا، ويومي هذا على النصف من يوم مريم؛ لأن يومها كان شهرًا على ما يقولون، ولأني كنت قدرت لسياحتي في هذه البلاد نصف شهر، هنالك أصبحت عزلتي ضرورية لأني لا أفهم الناس والناس لا يفهمونني، حتى أحتفظ بكرامتي بعدم ظهوري بينهم بمظهر الجاهل، وهم لو أنصفوا لوجدونا كلينا هذا الرجل.

إذا ما التقى ذو شملة عربية
بذي عُجْمة فالكل في النطق أعجم

وهنا أقول إنه من الضروري للعالَم وجود لغة أخرى تكون الثانية لكل إنسان حتى تتكون بها الحلقة التي تربط جميع أفراد العالَم بعضهم ببعض، فتسهل عليهم أمورهم، وتقوى رابطتهم العلمية والمالية والتجارية والصناعية. ولقد فكَّر في ذلك القومُ بأوربا، واشتغلوا بوضع أصول لغة جديدة سموها (الإسبيرانتو)، ولكنهم لم يُنضِجوها بعدُ، أو أنهم لم ينجحوا في وضعها أو في تعميمها بين الناس، وهم لو نجحوا لأحدثوا بها تقدمًا كبيرًا وسريعًا في كل مرافق الحياة، وفي كل طرف من أطراف العالم، ولاستغنى الناس بها عامة عن تعلُّم عدة لغات ربما لا تصلح لشيء إذا هي انتقلت من بيئتها التي تعيش فيها. على أنه لا حاجة لكل هذه المتاعب في خلق لغة جديدة، وحسب الناس الاتفاق على لغة من اللغات الكثيرة الانتشار في العالم لتكون هي اللغة الثانية لكل أمة.

(١) سان سباستيان

هي أعظم مدن إسبانيا البحرية على الأقيانوس الأطلنطي وعلى خليج (غسقونية)، وعدد أهلها خمسون ألف نفس، وهي مصيف ملوك إسبانيا. وترى قصر الملك في قمة جزيرة صغيرة جميلة في مدخل المرفأ تُسمَّى جزيرة كلارا، وهذه الجزيرة بوضعها الطبيعي تخفف عن المرفأ هجمات أمواج الأقيانوس؛ ولهذا يكون الاستحمام في مياهها مأمونًا وليس فيه شيء من الخطر، وفي هذا المرفأ حمامات عامة فخمة وخاصة جهة الجنوب.

ومن الناس من ينصبون لهم على الشاطئ خيمات صغيرة يقضون فيها يومهم بملابسهم البحرية طول نهارهم.

وهذا المرفأ على شكل هلال يقوم على طرفه الشمالي جبل (أرجيله)، وعلى الطرف الجنوبي جبل (إيجالدو)، وهما أشبه شيء بحارسين يمنعان نفوذ العواصف إلى داخل المرفأ؛ فالمدينة في حرز حريز بهما من عواصف الشتاء، ولهذا كانت مدينة شتوية أكثر منها صيفية.

ويحيط بالمرفأ رصيف جميل جدًّا، وهو وإن كان ضيقًا بعض الضيق قد بلغ الغاية من النظافة واللطافة، وقامت عليه الأبنية الجميلة من فنادق وغيرها من مساكن الخاصة. وكنت أرى في طريق (الكورنيش) بمرسيليا شيئًا من الجمال، ولكن هذا الرصيف وكذلك الرصيف الذي يحيط بجبل أرجيله أنسيانيه بل أنسياني رصيف الإسكندرية الذي على الميناء الشرقية، والذي كلَّف المدينة أكثر من نصف مليون من الجنيهات؛ لأنه ينقصه تمام العناية به لتنظيفه على الخصوص مما فيه من الحشرات الإنسانية، حتى يصبح للخاصة نصيب من التنزه عليه.

وتكثر في المدينة الميادين اللطيفة، قامت عليها أشجار جميلة تتخللها رياض الورود والرياحين والأزهار المختلفة، مما يجعل كل ميدان جنة زاهرة وروضة باهرة. ويفصل مباني المدينة نهر (أيروما)، وترى لمياهه عند اتصالها بمياه الأقيانوس شكلًا بديعًا يكسو صفحة الماء زَبَدًا فضيًّا دائمًا، وتسمع للأمواج في هدوئها أصواتًا كأصوات القُبَلِ تُهيج الأشجان بهذه الموسيقى الطبيعية، ولعل لهذا الزبد الأبيض الذي تراه هنا على طول الشاطئ الأطلنطي معنى في تسميته بالشاطئ الفضِّيِّ. وعلى حافتي النهر من جهة الجنوب مسرح (تياترو) فيكتوريا، ومن جهة الشمال ملعب الكورسال، وقد دخلتُ هذا الأخير فوجدته أفخم شيء في بابه. والمدينة القديمة تقع على يمين المرفأ في سفح جبل (أرجوله)، ومما يؤسَف له أن هذه المدينة قذرة، وعامة أهلها من الصيادين؛ فترى نساءهم ينسجْنَ شباك الصيد منشورات على الأرض، وبعضهن يعملن في تمليح السردين١ على رصيف المرفأ الشمالي. وهذا القسم كقسم الأنفوشي بالإسكندرية قبل إنشاء الرصيف، وهو الوصمة الوحيدة في جبين هذا المرفأ الجميل. وفوق هذا الجبل قلعة قديمة لا يُسمَح بالصعود إليها، وبجوارها مقبرة لبعض الضباط الإنجليز الذين ماتوا في احتلالهم لهذه المدينة بين سنتي ١٨٣٦ و١٨٣٧ في أثناء ثورة الدوق كارلوس.
أما طرف المرفأ الجنوبي، فهو غاية في النظافة وحسن النظام، وأبنيته جميلة، ويصعد إلى جبل إيجالدو بواسطة الفونكيلير funiculaire،٢ ويحيط به في أعلاه بَهْوٌ كبير واسع له كُنَّات أو أطناف (بلكونات) تشرف على المدينة كأنها صفحة جغرافية، وتشرف من جهة أخرى على الأقيانوس فتراه في عظمته لا يحده غير اتصال الماء بالسماء في أفق يتخلله شيء من القتام على الدوام حتى في أيام الصفاء. وفي أعلى الجبل فندق فيه ما لذ وطاب، من أكل وشراب، ومخاصرة على نغمات الموسيقى خصوصًا (بعد العصر). ودون الفندق على الجبل مكان فيه طائفة من الزنوج يضربون على الطنبور ويرقصون ويشربون نوعًا من المريسة، وهم إنما يمثلون أفريقيا للناس بهؤلاء المتوحشين الذين لا يزالون في الحلقة الأولى من الإنسانية! وكان أولى بهم أن يعرضوا في مكانهم بعض أسرى الريف الذين ظهروا للعالم وللتاريخ بكبير شهامتهم، وهم لا يزالون يدافعون عن كرامتهم وحوزتهم تلقاء هاتين الدولتين الضخمتين مع قلة عُددهم وعَددهم.
ولقد صادف اليوم الذي أزمعت فيه سفري من هذه المدينة الإعلان عن مصارعة الثيران،٣ وذكروا اسم من يتولى الصراع في هذه الحفلة، وهو الدون أنتونيو كثيرو أعظم فرسان هذه الحلبة عندهم، كما ذكروا أن الملك سيحضرها مع الأسرة المالكة. ولمَّا لم يكن قد سبق لي رؤية هذا الصراع إلا في صور الخيالة (الصور المتحركة) أخَّرتُ سفري لمشاهدته في أكبر ميادينه وأعظم مظاهره. وهذا الصراع قديم في هذه البلاد، يتدرب منهم قوم على مصارعة الثيران التي تُربَّى لهذه الغاية، فتجد الثور على منتهى ما يكون من الوحشية، عظيم الهامة، قوي العضل، ويبلغ ثمنه عندهم أضعاف ثمن مكافئه من غير ذات الصراع.
figure
بناء لمصارعة الثيران في سان سباستيان.

وللمصارع شهرة كبيرة في قومه تتناسب مع قوة صراعه، وله فيهم احترام كاحترام كبار الرجال وعظمائهم، وكثيرًا ما تراه محمولًا على الأعناق من الشعب بعد انتصاره على خصومه من هذه الحيوانات الفظيعة، أما إذا صرع الثور خصمه فتلك الطامة الكبرى والحزن العام والكآبة الشاملة، غير ما يُحدِثه ذلك من الذعر في نفوس القوم، وعلى الخصوص القريبين منه في جلوسهم. وقد يعتري الثور في هذه الحالة شبه جنون؛ فيهجم على الحاجز الخشبي الذي يفصل بين المصارعين والنظَّارة، فينشأ عن ذلك خلل واضطراب في بعض صفوفهم، فيسقط بعض الناس على بعض، وينشأ عنه ضرر كبير يصحبه موت الكثيرين تحت أقدام الفارين من الهلع والخوف. وهنا أرجو أن تسمح لي بأن أقص عليك ما رأيت.

وصلنا إلى هذا المكان فوجدته دائرة أرضية يبلغ قطرها ثلاثين مترًا على أقل تقدير، وهي مكان الصراع، ويحيط بها سياج خشبي متين على ارتفاع نحو مترين، وفيه باب يدخل منه المصارعون من إنسان وحيوان، ومن دونه أبواب غرف الثيران، لكل واحد غرفة، ومن وراء هذا السياج قامت أمكنة المتفرجين، وهي تتدرج إلى ثلاث درجات بعضها فوق بعض يميل إلى الوراء، وفي القسم العالي من جهة الغرب مقاصير جلالة الملك والأسرة المالكة وكبار رجال دولته، وهذا غير أعلى المسرح الذي لا مجالس فيه للنظَّارة، بل يبقون فيه وقوفًا على أقدامهم، ويسع هذا المكان عشرين ألف نفس على أقل تقدير، ولقد كانت جميع مجالسه مكتظة بالناس من نساء ورجال، فلما جاءت الساعة المضروبة، دخل المصارعون راجلهم وفارسهم، وعليهم الحلل المقصَّبة البراقة، ولما وصلوا قبالة مقصورة الملك سلَّموا السلام اللائق، ثم وقفوا في أماكنهم مستقبلين الجهة التي يدخل منها الثور، وهنالك فُتِح باب غرفة على المسرح، فاندفع منها ثور هائل بحالة تُوقِع الرعب في قلب من لم يتعود مثل هذا المنظر، وكأني به وقد وقف برهة والشرر يطير من عينيه وهو يجيل نظره في خصومه يتخيَّر الجهة التي يهجم منها، ثم لا يلبث أن يهجم على أحد المصارعين، فإن كان من المترجِّلين قابله بملاءته الحمراء التي لا يكون في يده غيرها، وفي هذا الوقت تُدْهَش من خفة هذا الرجل في زوغانه عن مسقط قرني الثور بحركة خفيفة جدًّا، ينتقل بها من يمين رأس الثور إلى يساره، وهو من قرنيه الثائرين قاب قوسين أو أدنى. ولا يزال يطمعه بهذه الحركات المدهشة الدقيقة حتى يعجزه فيتركه الثور إلى غيره، فيقابله هذا بمثل حركات الأول محرضًا له على الهجوم على الفارس الذي ترى في يده رمحًا طويلًا، فإذا هجم عليه قابله الفارس بالرمح في قفاه بقوة قد تدفع الثور إلى الوراء فتوقفه عن الهجوم، وهنا تظهر كفاية الفارس ومقدرته، وقد تصدق هجمة الثور فيدخل رأسه تحت بطن الفرس ويرفعه على قرنيه، فيخرُّ الفارس وفرسه جميعًا على الأرض، وعندها تظهر أحشاء الفرس الذي يفارق الحياة لوقته. هنالك يشغل أحد المصارعين الثور بملاءته عن الفارس الذي يقصده طائفة من الخدم لإقامته من تحت حصانه، وقد يؤتى إليه بحصان آخر، فيكون نصيبه نصيب الأول. وقد رأيت في هذا اليوم ثورًا بقر بطن خمسة من الخيل في نحو ٢٠ دقيقة، وفي هذه الحالة قد يكون الثور في أشد هيجانه، فيقصده فارس الحلبة راجلًا وفي يده سهمان، فإذا رآه الثور هجم عليه بشدة، فيزوغ الرجل منه واضعًا سهميه بين كتفيه، وهكذا يكرر هذه الفعلة، حتى إذا تعب الثور هجم عليه بملاءته الحمراء من تحتها سيفه، ولا يزال يغري الثور بنفسه بحركات مختلفة غاية في الدقة والخفة، ثم يهجم عليه ويُدخِل سيفه في وريد العنق، فإن صدقت الضربة سقط الثور صريعًا يتضرج في دمه، وهنالك تنتهي الموقعة بين التصفيق الحاد من كل جهة، مع عزف الموسيقى تحيةً للمنتصر. وقد ترى القوم في أثناء هذا الصراع متحمسين للمنتصر من الخصمين ناقمين على المنخذل، فيصفقون للثور أحيانًا ويصفرون لخصمه كلما جبن في كَرَّاته أو أتى بحركة غير قانونية. وكثيرًا ما تصدر منهم كلمات الازدراء أو عدم الاستحسان موجَّهةً لأحد الخصمين.

والذي يدهشني في تلك الحفلة منظر السيدات وهن باشات مسرورات برؤية الحصان يمشي خطوات وهو يجر أحشاءه؛ هذا المنظر الذي قد ترتاع له نفس الرائي من غير الإسبانيين لأول وهلة. ولا شك أن هذه العادة قد أَلِفْنَها حتى أصبح منظرها لا يؤثر فيهن إلا بحال متناقضة مع أثرها الطبيعي؛ ولهذا السبب يحظرون هذا الصراع في فرنسا إلا في مدينتين اثنتين: الأولى نيم؛ لأن أهلها ألفوه من زمن الرومان، ومسرحه فيها من زمنهم. والثانية بوردو؛ لمجاورتها لإسبانيا، وقد يُقِيمون صورة مصغرة منه في بلاد أخرى مثل (فيشي) وغيرها. وقد كان الصراع في هذه الحفلة مع ثمانية من الثيران قُتِلتْ جميعًا بعد أن قَتَلَتْ أكثر من خمسة عشر حصانًا.

والذي لاحظته هنا أن الملك حضر من أول الصراع إلى آخره، من الساعة الخامسة تمامًا إلى منتصف الساعة الثامنة بعد الظهر، ولا أدري أكان هذا ناشئًا عن شوقه لرؤية هذا النزال، أم أنه يحترم ميول شعبه، فيُظهِر لهم أنه معهم في عواطفهم وشعورهم من البداية إلى النهاية، وهي سياسة رشيدة، ربما كانت السبب في حفظ عرشه في الأزمات الحربية والسياسية التي مرت بالبلاد لعهده.٤ وعلى كل حال ترى الشعب الإسباني يحب ملكه؛ لأنه كان يؤاسيه كثيرًا مدة الحرب، فيعود مرضاهم ويعطف على المنكوبين منهم؛ لذلك كثيرًا ما كنت تراه يتنزه وحده على طَوار٥ هذا المرفأ عن غير ما حرس أو رقيب، اللهم إلا قلوب شعبه ومهجهم، وهل للملوك سعادة في الأرض غير هذه العاطفة؟

هوامش

(١) العسير، أو العرم.
(٢) سكة حديدية مسننة تتسلق الجبال، وتُشَدُّ عرباتها بواسطة حبل مكون من أسلاك حديدية مرنة، وذلك إما بضغط الماء أو بآلة رافعة في محطتها العليا.
(٣) هذا النوع من الصراع قديم في بلاد إسبانيا، ولا يدرون أَمِنْ طريق الرومان دخل إليها، أم من طريق القرطاجيين؟ ويقول بعضهم إنه ظهر في إسبانيا بعد دخول العرب، فإن كان هذا صحيحًا، فإنه يكون من طريق البربر الذين أخذوه عن القرطاجيين لما بينهما من التبعية أو الجوار، أما العرب فلا نعلم عنهم في تاريخهم أنهم اشتغلوا بمثل هذا الصراع. وعلى كل حال كان صراع الثيران إلى القرن التاسع من الميلاد يدخل في أنواع الفروسية التي كانت تظهر فيها بطولة المصارع بإسبانيا؛ فقد كان ينزل إلى الميدان الذي به الثور المتوحش ويهجم عليه ويأخذ بقرنيه، ولا يزال به حتى إذا غلبه على أمره وألقاه إلى الأرض كان له شرف الانتصار على خصمه، فإذا كانت الغلبة للثور هجم عليه بعض المتفرجين بخناجرهم وأثخنوه جراحًا يقع منها صريعًا، وربما أنقذوا الرجل من تحت قرنيه وفيه رمق من الحياة، فيقوم وهو يتعثر في خجله. وكثيرًا ما كان ينزل المصارع إلى هذا الميدان فارسًا، فيقتتل مع الثور وتكون النتيجة القضاء على أحدهما.
ولم يتغير شكل هذا الصراع إلى صراع فني مداره على خفة المصارع ومرونته في حركاته إلا في القرن الثاني عشر الميلادي، وبالجملة إن صراع الإنسان مع الحيوانات المفترسة كان منتشرًا في الدولة الرومانية.
وملعب (الكوليزيوم) لا يزال أثره موجودًا في روما، وكان يسع ثمانية آلاف نفس، وقد كان افتتاحه سنة ٨٠ ميلادية مدة الإمبراطور نيوليس الذي أمر فأُدْخِل في ساحة هذا الملعب خمسة آلاف من الحيوانات المفترسة، وأرغم المسيحيين المساكين الذين منوا باضطهاده على قتالها. وكان أهل روما يجتمعون في أعيادهم في هذا المكان لمشاهدة الألعاب المختلفة التي كانت تقام فيه، ومنها مصارعة بعض الرجال للوحوش، ولقد كانوا يلقون ببعض العبيد إلى ميدان هذا الملعب وهم عُزَّل من كل شيء، ثم يرسلون عليهم بعض الأسود من خبها من باب له على هذا الميدان، فيأخذ المساكين في دفعها عن أنفسهم بحكم طبيعة النضال الحيوي، ولكنهم لا يلبثون أن يُصْرَعوا وتأخذ السباع في نهش أجسادهم، وهنالك كنت تسمع رنات السرور والإعجاب من النظَّارة.
وكثيرًا ما كان الملك يأمر فيُلْقَى ببعض من يغضب عليه من القواد إلى هذا الميدان ومعه آلة كفاحه، ويرسلون عليه بعض الآساد، فيدفع القائد خصمه بشدة.
وقد يتغلب عليه ويصرعه، وهنالك يمحو دم الأسد ما كان له من جريمة، فيصفق له الناس من كل جهة هاتفين له بكلمات الاستحسان، وعند ذلك يضطر الملك إلى العفو عنه ويرجعه إلى قيادة جيوشه بعد تهنئته بهذا الظفر العظيم.
ومن هذا وذاك ترى أن شدة فرح الناس بالظفر في هذه الميادين كانت تنسيهم فظاعة تلك الدماء التي تسيل على أرضها من أحد الخصمين مما إذا رأوها في غير هذا المكان أخذتهم الشفقة والرحمة واستدعوا جمعية الرفق لإسعاف صاحبها.
وقد كان يكثر الصراع في الأزمنة الغابرة بين حيوان وآخر من نوعه، فقد كان بين الثيران كما كان بين الكباش والدِّيَكة، وكان الصراع في هذين النوعين إلى زمن قريب بمصر.
أما الصراع بين إنسان وآخر فقد كان من الألعاب الرياضية التي كانت تستعملها اليونان والرومان، وبها كانت تظهر قوة الشخص المادية، وهي كل شيء في تلك الأزمان، فيكون له بها شرف البطولة التي يحرز بها في قومه المجد الأعلى والشرف الأسمى، وقد يصل بها إلى عرش الملك، بل إلى عرش الألوهية في نظرهم.
أما الآن فاشتغال الناس بهذه الألعاب الرياضية قد أصبح عامًّا في البلاد المتمدينة، ولكن على قاعدة «العقل السليم في الجسم السليم»، وقد أصبح لأبطالها المحترفين لألعابها شيء من هذا الشرف يتردد صداه في أنحاء المسكونة، وهذا غير ما يكسبونه من مادة الرهان على انتصاراتهم، مما تكون لهم به ثروة قد تُقدَّر بالملايين.
(٤) كتبتُ هذه الرسالة قبل الحركة الثورية التي ظهرت في البلاد ضد السلطات الحاكمة.
(٥) رصيف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤