الرسالة العاشرة

من غرناطة إلى برشلونة

كنت أود كثيرًا أن أسافر من غرناطة إلى برشلونة من شرقي الأندلس حتى أشاهد مالقة، والمرية، ومرسية، وبلنسية، تلك المدن التي كان لها شأن عظيم في الدول الإسلامية، ولكن مما يؤسَف له أن الطريق يكاد يكون غير مسلوك في الصيف على الخصوص؛ لقلة المسافرين، ولكونه يستدعي تغييرات كثيرة في فروع متعددة ليست أسباب الراحة متوفرة فيها؛ لذلك اضطررت إلى العودة إلى مدريد، ومدينة طليطلة على بعد تسعين كيلومترًا منها إلى الجنوب، وكانت عاصمة القوط، ففتحها طارق بن زياد سنة ٧١١م، وما زالت تحت حكم الخلفاء حتى استقل بها سنة ١٠١٢م إسماعيل ذو النون فيمن استقل من ملوك الطوائف، ثم استولى عليها القشتاليون سنة ١٠٨٥م، وجعلوها عاصمتهم ومكان قوَّتهم الحربية.

ومن آثار العرب فيها كنيسة سنتا ماريا التي كانت مسجدًا فخمًا، ثم كنيسة سنتا ماريا دي ترنزيتو وكانت مسجدًا جميلًا، وقد غيَّر اليهود الذين كانوا يعملون فيه وقت تحويله إلى كنيسة ما كان فيه من الكتابة العربية إلى كتابات عبرية. ومن آثارهم أيضًا فيها القنطرة التي على نهر التاج، ولا يزال اسمها «القنطرة»، وكان للمأمون بن ذي النون بطليطلة قصر في منتهى الجمال والفخامة، وفيه يقول أبو محمد المصري:

قصر يقصر عن مداه الفَرْقَد
عذبت مصادره وطاب المورد
نشر الصباحُ عليه ثوبَ مكارم
فعليه ألوية السعادة تعقد
وكأنما المأمون في أرجائه
بدر تمام قابلته أسعد
وكأنما الأقداح في راحاته
درٌّ جُمان ذاب فيه العَسْجَد

وقبيل مدريد محطة أرانجوويز، وللملك فيها قصر جميل اسمه «دار الفلَّاح»، ذكرتني بدار الفلاح التي أقامتها جريدة السياسة الموقرة في المعرض المصري في أوائل الربيع الماضي، وقد كانت هذه الدار لأحد الفلاحين، فاستحسن ملك إسبانيا مركزها فأهداها إليه ذلك الفلاح، ومع ما دخل عليها من الإصلاح الذي جعلها جديرة بسكن الملك، لا يزال يُطلَق عليها اسم «دار الفلَّاح».

وفي الساعة التاسعة صباحًا قام القطار السريع من مدريد إلى برشلونة، وسار في طريق صحراوي كانت تكثر فيه المزارع كلما قربنا من سرقسطة، وهي مدينة عظيمة في منتصف المسافة بين مدريد وبرشلونة، وتبعد عن مدريد بأربعمائة وواحد وأربعين كيلومترًا، وكانت هذه المدينة من أكبر المدن العربية وأشهرها، وما زالت في حكم العرب من مبدأ الفتح إلى سنة ١١١٨م، وفيها تغلَّب الفرنجة عليها فيما تغلبوا من شمال إسبانيا، فتركها بنو هود إلى طليطلة، وأقاموا فيها إلى أن سقطت هي أيضًا في يد القشتاليين. وفي سنة ١١١٩ هدم القوم مسجد سرقسطة وبنوا مكانه كنيستهم الجامعة (الكاتدرائية)، ولم يبقَ من آثار العرب في هذه المدينة غير قصر الجعفرية الذي بظاهِر المدينة، وفي جانب منه الآن ثكنة للجنود، ولا يزال بهذا القصر قبة جميلة كانت لمسجد القصر، ويُدْخَل إليها بإذن من القائد العسكري بهذه الجهة، وقد كان لهذا القصر باب جميل من النحاس البديع الصنع، وهو الآن بمتحف مدريد، وكان بجوار هذا القصر قصر السرور الذي يقول فيه المقتدر بن هود:

قصر السرور ومجلس الذهب
بكما بلغتُ نهاية الأَرَب
لو لم يحُزْ ملكي خلافكما
كانت لديَّ كفاية الطلب

وعلى طول هذا الطريق ترى تلالًا عليها بعض بقايا الحصون العربية التي كان يسكن إليها حُماة هذا الإقليم مدة حكمهم، وأهمها قلعة أيوب.

وما زال القطار سائرًا وعلى يساره الجبل، وعلى يمينه المزارع الجميلة التي هي أثر لنظام الري الذي عمله العرب في هاته الجهة، حتى وصل إلى برشلونة الساعة العاشرة مساء.

(١) برشلونة

يبلغ عدد سكانها ٥٤٤ ألف نفس، وهي ألطف مدينة إسبانية وأنظفها وأرقها، وهي العاصمة الثانية بعد مدريد، ولكن لمركزها على البحر الأبيض المتوسط تجد درجة الحرارة فيها لا تزيد عن ٣٠ سنتجرادًا في الصيف، ولا تنقص عن ٨ في الشتاء، وبالجملة فبرشلونة لا تُعَد من المدن الإسبانية، سواء في ذلك مناخها ومناظرها ورقة أهلها، مما جعلها موردًا للأجانب على اختلاف أجناسهم، هذا للنزهة، وذاك للتجارة، والآخر للترويح عن النفس تحت سمائها الصافية وجوها المعتدل.

وتنقسم المدينة إلى قسمين: المدينة القديمة، وشوارعها ضيقة بعض الضيق وأبنيتها على النظام القوطي، والمدينة الجديدة، وشوارعها واسعة وأبنيتها كلها على النظام الإفرنجي الجميل.

وفي برشلونة ميادين كثيرة، أهمها ميدان كتالوني، وهو مكان الحركة التجارية العمومية، وإليه تنتهي الفروع الكثيرة المختلفة لطريق المراكب الكهربائية والتي تخترق شوارع المدينة كلها، وهذه المراكب الكهربائية وكذلك الأنوار الكهربائية التي بالمدينة تستمد قوتها من التيار الكهربائي العظيم الذي تولِّده جنادل (شلالات) — ترومب — على نهر أبرة، وعلى بعد مائتين وثمانية كيلومترات من برشلونة، وتبلغ قوتها مائة ألف (فولت).

وتكثر في هذه المدينة الملاعب من كل صنف وكل نوع، وقد عددت في شارع واحد منها نحو عشرة يجاور بعضها بعضًا، مما يدل على أن مزاج أهلها ميال للسرور ميلًا عظيمًا، ويظهر أن حركة الناس لا تنقطع في الليل إلى قبيل الصبح؛ لأني استيقظت الساعة الثالثة بعد نصف الليل ونظرت من نافذة غرفتي، فوجدت الناس على إفريزَيْ الطريق، وهم في ذهابهم وروحاتهم كما كانوا تقريبًا بعد العشاء، ولو كان اليوم يوم أحد لقلت ذلك لهم لأنه يوم راحتهم من أعمالهم، ولكنه كان في وسط الأسبوع، ولا أقول إنهم يعملون ليلهم ويرتاحون نهارهم على قانون قره قوش في عصر الأيوبيين، لأني وجدت الحركة العمومية كعادتها غاية في النشاط في الساعة التاسعة صباحًا، ويظهر أن مسألة السهر عادة في بلاد إسبانيا كلها، أصبح القوم معها يكتفون في نومهم بقليل من الزمن.

وفي المدينة كنائس جميلة، وهم يبنون الآن كنيسة اسمها «سجرادا فامليا»، وقد تغالوا في تأنقهم في مبانيها بشكل لا يمكن أن تتم معه قبل خمسين سنة، وفي شمال المدينة جبل «تابيدابو»، ويُصعَد إليه (بالفنيكولير) في طريق طوله ١٥٠ مترًا بين غابة جميلة من الصنوبر، وفي سطح هذا الجبل ترى فندقين وقهوات وبعض الملاهي، منها مراكب كهربائية تسير معلقة في سلك القوة الكهربائية في الجو في طريق منعرجة إلى جانب الجبل، بحال تقف النفس أمامها بين راغبة في ركوبها وراهبة منها.

وفيه أيضًا أرجوحة من أراجيح الصناديق الحديدية، قُطْر دائرتها نحو خمسين مترًا، فإذا صعد الإنسان إلى أعلاها وجد منظرًا من أحسن المناظر، يطل من جهة على البحر الأبيض المتوسط، ومن أخرى على جبال (البيرينيه)، والمدينة بين هذا كله كأنها صحيفة جغرافية.

وإلى الجنوب الشرقي متنزه (بارك) غاية في الجمال في منحدر الجبل بمدرجات لطيفة، وفي وسط هذا المتنزه فندق «جراند أوتيل»، وفي وسطه أيضًا قام مثال إسباني، وهنا تذكرت عدم اهتمام بلادنا بالفنون الجميلة، ولولا عناية الأمير يوسف كمال بها وبفتح مدرستها من سنوات، لما كان لفنَّيْ التمثيل والتصوير ذكر في مصر.

وبالجملة إن برشلونة مدينة إفرنجية صرفة، وليس للعرب فيها من أثر؛ لأنهم استولوا عليها سنة ٧١٢ﻫ، ثم أخذها منهم شارلمان في سنة ٧٨٠، إلى أن أخذها منه الإسبان، لذلك أرجوك أن تسمح لي أن يُسَد باب الكلام عنها؛ لأنها لا تهمنا في موضوعها ولا في مدنيتها شيئًا.

وتقرب من برشلونة معادن الزئبق، وكيفية استخراجه أن تُغلى حجارته في آنية من الفخار، فيسيل ما عليها من الزئبق، ويصعد على وجه القدر، ثم يسير منها في أنابيب توصله إلى خزانات يجتمع فيها. وكانت العرب تستغل هذه المعادن زمن وجود هذه المنطقة في حكمهم. وتقرب من هذه الجهة مناجم البوتاس، وهي في يد شركة بلجيكية.

ولقد كنت عقدت النية على زيارة بلنسية من طريق برشلونة؛ لأنها في الجهة التي بلغت عناية العرب بها في مسائل الري كل مبلغ، فقد شقوا أنهارها، وحفروا ترعها، وأجروا خلجانها، وسيروا إليها الماء من جبال (سيرانوفادا) التي هي مقر الثلوج المستديمة في الجنوب الشرقي من الأندلس، وبنوا على الترع قناطر كثيرة لحجز المياه، ووصولها إلى المناطق العالية، حتى أصبحت هذه المنطقة جنة من الجنان، وكانت دورة الزراعة فيها ثلاثية في السنة في مدتهم، وهي للآن الجهة الوحيدة التي تتجلى فيها آثار العرب بكل مظهر في إسبانيا؛ لأن أرضها تنتج الزراعات المنتظمة في كل أدوار السنة، فتُزرَع فيها الفاكهة والقمح والذرة والبنجر والدخان والأرز والخضر، وخصوصًا البصل الذي بوفرته فيها قد يؤثر في حال البصل المصري في أسواق أوربا، والقوم الآن يجربون فيها زراعة القطن.

نعم، كنت عقدت النية على زيارة بلنسية التي دخلها العرب سنة ٧١٤م وبقوا فيها إلى سنة ١٢٣٨، حتى استولى عليها منهم چم الأول ملك أراغون بعد حصار طويل من البر والبحر، وهي إلى الآن لا يزال فيها الأثر الحيوي للعرب، ذلك الأثر الذي لا يمحوه الزمان، ولا يمكن أن ينكره الإسبان على ممر الأيام؛ لأنه مصدر حياتهم ومستقى ثروتهم، ولكني عندما حضرت إلى برشلونة كنت في شدة التعب من شدة ما عانيته في جنوب إسبانيا من الحر، وخاصة بعدما سمعت بأن جو بلنسية حار جدًّا، بل هو أشد في حرارته مما رأيته في قرطبة وإشبيلية، وهو الذي قال فيه عبد الرحمن الأوسط أمير الأندلس حين سار لغزو جِلِّيقِيَّة:

فكم قد تخطيت من سبسب
ولاقيت بعد دروب دروبا
ألاقي بوجهي سموم الهجيـ
ـر إذ كاد منه الحصى أن يذوبا

لذلك طويت صحيفة جولتي في هذه البلاد، وأنا آسف كل الأسف لهزيمة عزيمتي أمام قوة الطبيعة وشدتها، راجيًا أن يوفقني الله تعالى إلى عودتي إليها في أحد الربيعين، حتى أدرك في غدي ما فاتني في يومي.

والآن وأنا أكتب كلمتي الأخيرة عن إسبانيا، والجرائد الفرنسية تشير إلى ما فيها من أثر عصيان أقسام من رجال المدفعية في جملة من نواحيها، وينسبون ذلك إلى ما صادف ضباطهم من الغبن على أثر رقي الضباط الذين كانوا ولا يزالون في الريف، أسمح لنفسي أن أقول للقراء الحقيقة التي فهمتها وأنا في تلك البلاد التي لا تزال تحت عبء ثقيل من الأحكام العرفية؛ لهذا كنت ترى أهلها يكرهون المارشال دي ريفييرا الحاكم المطلق فيها، وقد بدءوا يتذمَّرون من الملك؛ لتسليمه أمور البلاد إلى هذا الطاغية، وقام منهم جماعة يعملون لإسقاط الملكية وإعلان الجمهورية، وجعلوا مركزهم مدينة سان جان دولوز الفرنسية، والتي بجوار الحدود الغربية الشمالية الإسبانية، وعملوا فعلًا للقبض على الملك في سان سباستيان في إحدى نزهاته بها لإرغامه على التنازل عن الملك، وقد مر بك في كلامنا على هذه المدينة أنه كثيرًا ما تراه يتنزَّه بها من غير حرس، ولكنهم لم ينجحوا في تدبيرهم لسفره إلى مدريد، وهنالك وضع يده في يد دو ريفييرا للقضاء على هذه الفتنة التي تشير البرقيات إلى انتهائها على خير، ولا يعلم إلا الله ما تحت رمادها الذي يظهر للناس هادئًا مطمئنًّا.

وهنا يجمل بي أن أشير إلى طرف من الأحكام العرفية وشدتها، مما لم أكن أريد التحدث به لولا هذه الحركة، لأنه لا يهمنا نحن المصريين في شيء، فإنه خارج عن موضوع سياحتي التي أعلنت الشرطة الإسبانية عنها أنها تاريخية محضة، وذلك أن الشرطة الملكية والعسكرية كانت تنتشر في عربات السكة الحديدية بعد قيام القطار من كل محطة رئيسية، ويسأل كل مسافر عن جواز مروره، سواء أكان من أهل البلد أم من الأغراب، ذكرًا كان أو أنثى، وقد يسألون الشخص عن الجهة التي يقصدها، وعن سبب سفره إليها، وعن مدة إقامته فيها، وقد صادفت وأنا في طريقي إلى برشلونة أن شخصًا بعينه سألني عن ذلك مرات على جملة خطوط أخرى، فأردت أن ألفت نظره إلى ذلك، ولكنه أجابني بكل هدوء: «نعم أعرف ذلك، ولكني أؤدي واجبي في معرفة وجهة كل مسافر.» فأذعنت لأمره، وبعد أن اطلع على جواز السفر، سألني عن وجهتي وعن المدة التي أقيمها فيها، وعن الفندق الذي أنزل به، فأجبته بما حسن سكوته عليه، وانصرف إلى غيري بسلام. وكان بجواري قسيس فطلب إليه جوازه، فاستنكر القسيس ذلك لما للقسوس من عظيم الجاه في بلادهم، ولكن رجال الشرطة يعرفونه حق المعرفة، فألح الضابط في ضرورة رؤية الجواز، واستمر القسيس في عناده، وهنالك انبرى له أحد الركاب في الديوان الذي كنا فيه بعبارات التوبيخ القارص حتى أذعن لأمر الضابط صاغرًا، وحمدنا الله على أن ترك القسيس بعدها الديوان وانصرف إلى غيره، ولعل ذلك من خجله، وقد عرفت بعدها أن الشخص الذي كان معنا من كبار الحكام.

أما في الفندق، فكانوا يطلبون الجواز وبعد أن يتحققوا من صورة صاحبه يأخذون رقمه وإقرار المسافر بخطه على كل ما فات من البيانات، ومن هنا تعرف أن شدة الأحكام العرفية هي من أسباب تلك الحركة التي لا يعلم إلا الله ما وراءها.

وهناك أثر آخر سيئ في نفوس الناس من الهزائم المتوالية في حرب الريف، سواء في ذلك أولها مدة عبد الكريم الذي خُدِعَ بمواعيد فرنسا الطويلة العريضة حتى نزل من سنام مجده، ومن منعة زعامته التي وصل بها في أول أمره إلى أسمى فخر وصل إليه الزعماء والرؤساء، وطبَّق صيته ما بين الأرض والسماء، فأسلم نفسه إلى فرنسا، لا بعامل الجبن والهزيمة والضعف، ولكن بعامل الطمع في تحقيق تلك الآمال التي فسحوا له في دائرتها بالوصول إلى سلطان أوسع، حتى انتهى أمره بالنفي إلى جزيرة صغيرة من جزر الأقيانوس هو وأسرته مقهورين غير مشكورين، لا من الفرنسيين ولا من غيرهم! وسواء في مدة الزعيم الجديد الذي لا يزال هو والقبائل التي بقيت معه يُصْلِي الدولتين نارًا، ويضرم في قلوبهم من متانة موقفه معهم جمرًا وشرارًا، بما جدد اليأس في قلوب الإسبان، وتحققوا معه أن ليس لهم بالاستمرار في الحرب مع هذا الزعيم الجديد يدان، بعد أن كانوا قد طووا صحيفتها مع الزعيم القديم، كل هذا أثَّر في الناس حربيين وغير حربيين، حتى ظهر دخان ثورتهم في وسط المدفعية، ومع أنهم يقولون إن دي ريفييرا قبض على ناصية الحركة في البلاد بيده الغشوم، لا يدري أحد ما لذلك من رد فعل، وأن الجندية تقهقرت لتهجم، والأمة ربضت لتثور، والله عليم بمصير الأمور.

(٢) للعبرة والتاريخ

قبل أن أترك أرض إسبانيا أرى من الفائدة ذكر كلمة عن تاريخها وحالة أهلها، يعرف من يطَّلع عليها أن إسبانيا العربية غير إسبانيا الحالية، سواء في ذلك مدنيتهما وقوتهما المادية والمعنوية.

إسبانيا تكوِّن مع البرتغال الجزء الممتد من جنوب أوربا إلى البحر، ومساحتها وحدها ٤٩٢٢٣٠ كيلومترًا مربعًا، وإذا أضفنا إليها ممتلكاتها في جزر البليار (ومساحتها ٤٩٩٤ كيلومترًا)، وفي جزر كناريا (ومساحتها ٧٦٢٤ كيلومترًا)، وفي مراكش (ومساحتها ٣٥ كيلومترًا)، كان مجموع مساحتها مع أملاكها ٥٠٤٩٠٣ كيلومتر مربع. أما عدد أهلها، فكما جاء في إحصاء سنة ١٩٠٠ «١٨٦١٧٩٥٦» من النفوس، وقد زاد هذا العدد نحو مليون نفس في مدة ٢٠ سنة، فتكون الزيادة في هذه المدة خمسة ونصفًا في المائة من السكان، وهي زيادة قليلة جدًّا بالنسبة لزيادة الأمم الأخرى.

وإذا وازنَّا بين زيادة الأنفس في إسبانيا وزيادتها في القطر المصري، رأينا أن تعداد هذا القطر في سنة ١٨٩٧، وهي المدة التي تقابل زمن تعداد إسبانيا تقريبًا، كان ٩٧١٧٢٢٨ من النفوس، وإن تعداده في سنة ١٩١٧ كان ١٢٧١٨٢٥٥ من النفوس، فتكون الزيادة في عشرين سنة هي ثلاثة ملايين نفس تقريبًا، وهي ثلاثة وثلاثون في المائة من عدد السكان.

وعلة عدم زيادة الأهالي في إسبانيا هي عدم عنايتهم بأطفالهم، لأنهم لا يهتمون بالمسائل الصحية، ويظهر أنهم ورثوا ذلك من زمن بعيد، حين كان القسوس يحرِّمون عليهم الاستحمام حتى لا يتشبهوا بالمسلمين في تطهرهم وفي وضوئهم، ولعلهم يشاركون بعض فلاحينا في عدم تنظيف أولادهم خشية عيون الحاسدين؟!

وترجع العلة من جهة أخرى إلى كثرة هجرتهم طلبًا للعيش؛ لأن أسباب الحياة تضيق بهم في بلادهم، إما لقحولة قلب البلاد لكثرة ما فيها من السلاسل الجبلية، أو لقلة الأنهر في الشمال والغرب، ولأن الموجود منها تجف مياهه في أكثر أيام السنة، وهذا لعدم اهتمام الحكومة بالمسائل العامة، لأنها في طول أدوار حياتها في يد قوم لا يهتمون إلا بأنفسهم، وهم الأشراف والقسوس ورجال الحرب، ولا يزال في أيدي الأشراف والقسوس أغلب الأراضي الخصبة، وهي تلك الإقطاعات الواسعة التي كان يجود بها الملوك على كل قبيل منهما، وهذا عدا الأوقاف الكثيرة التي كان الأهالي يرصدونها للكنائس، وكل ذلك غير ما تأخذه هاتان الطائفتان من المرتبات الشهرية التي لا تزال تبهظ ثروة الحكومة، وحسبك أن تعرف أن عدد القسوس في إسبانيا الآن يزيد على سبعين ألفًا، وأن في أيديهم التعليم في جميع طبقاته من ابتدائي وثانوي وعالٍ؛ ولهذا أصبح لهم النفوذ الشامل في البلاد من أقصاها إلى أقصاها.

وأول ما يعرفه التاريخ من أمر إسبانيا أنها كانت مسكونة بالبسك أو الفندال قبل أن يلتجئوا إلى جبال (البرينات)، ثم بالأيبيريين الذين قدموا من الجنوب.

وفي أواخر القرن الخامس قبل المسيح احتل الفينيقيون هذه البلاد، ثم أتى من بعدهم اليونانيون والروديسيون وأنشئوا الثغور التي على البحر الأبيض، مثل قادس ومالقة وغيرهما، مما كانت قواعد تجارية لهم يتبادلون فيها مع أهل البلاد ببضائع الشرق المعادنَ التي كان الأهالي يستخرجونها من أراضيها. وفي سنة ٢٣٨ق.م بدأ القرطاجيون باحتلال النصف الجنوبي من إسبانيا، ثم بنوا مدينة برشلونة في شمال الساحل الشرقي، وكانوا يسمونها مدينة برقة، باسم القائد الفاتح BARCA الذي بناها، وبنوا في جنوبها قلعة قرطاچنة، وفي سنة ٢١٩ق.م حاصر أنيبال مدينة ساجونت، وجر ذلك إلى الحروب الپونيقية الثانية.

وفي سنة ٢٠٤ق.م غزا الرومان إسبانيا وبنوا فيها مدينة إشبيلية، وما زالت تابعة لحكمهم إلى سنة ٤١٢م، وفيها استولى أتولف ملك القوط على برشلونة، وهو أول ملك قوطي بإسبانيا، وبقي القوط بهذه البلاد تارة مستقلين وأحيانًا تابعين للرومان، وقد ألزموا الفندال (ومنهم أتت كلمة فاندالوس أو أندلس) أن ينحسروا إلى جبال البيرينات، ولا يزالون بها إلى الآن.

وقد وصل حكم القوط من العظمة مدة مَلِكهم أوريك إلى أن وصلت فتوحاته إلى نهر اللوار بفرنسا، ودخلت النصرانية إسبانيا في مدته، وبعد وفاته اضطربت أحوال المملكة إلى أن حكم الملك أتانا جيلد سنة ٥٥٤م، وجعل طليطلة عاصمة له، واستولى بعده ولده ريكارد سنة ٥٨٦، ففتح أبواب مملكته للقسوس، واعتنق المذهب الكاثوليكي، وحارب الرومان وأجلاهم عن البلاد التي كانوا لا يزالون يحتلون منها الساحل الشرقي، ثم طرد اليهود من إسبانيا وعاملهم معاملة قاسية. وفي سنة ٧٠٩ انتخب رودريك (والعرب تسميه لذريق) ملكًا على البلاد، وفي مدته دخل العرب إسبانيا، ولعل اليهود المطرودين هم الذين أرشدوا العرب إلى سهولة فتحها.

وقد بقي ملك العرب بإسبانيا إلى أواخر القرن الخامس عشر من الميلاد، وفي غالب مدتهم كان السلطان العام في البلاد لهم، وكان حكمهم في عمومه كله مجدًا وعظمة، وكان ملوك الإسبان في أول أمرهم في منتهى الضعف، وكانوا يدفعون الجزية لأمراء المسلمين، ولكنهم كانوا على الدوام يحاربونهم بالدسائس والسعايات، وهي سلاح الضعيف، ولما قويت عصبيتهم على مر الأيام كانوا يحاربون العرب كثيرًا كلما آنسوا منهم خلافًا أو ضعفًا، وكان نصيبهم الخذلان في جُلِّ حروبهم معهم، حتى إذا بلغهم زحف الناصر محمد سلطان الموحدين بجيشه الهائل على إسبانيا، استغاث ملوك الإسبان بأمم النصرانية في أوربا في كل جهة، وأعلنوا الحرب المقدسة، فهرعت إليهم جيوش النصرانية، وبعد هزيمة الناصر صَلُبت شوكتهم وقويت عزيمتهم، ولم يضيعوا فرصة هزيمة العرب، بل أخذوا يتغلبون على أطراف البلاد، حتى إذا كانت سنة ١٤٩٢م استولى فرديناند ملك أراغون وإيزابلا ملكة قَشتالة على غرناطة التي كانت الملجأ الأخير للعرب، ثم طردوا المسلمين من أرض إسبانيا كلها، وبذلك أصبح لهما الحكم المطلق فيها، وبموتهما ورثت عرش البلاد ابنتهما چان، وتزوجت من فليب الأول ابن مكسيمليان الأول ملك النمسا، وهو أول ملك إسباني من أسرة هابسبورج، ولما أصيبت چان بالجنون آل الملك لولدها شارل الأول، الذي سمي فيما بعدُ بالإمبراطور شارلكان.

وقد كان الإسبانيون يكرهون شارلكان لتوجيه اهتمامه للنمسا وحدها، فشغلهم بالحروب ضد فرنسا وأمريكا، وفي مدة فليب الثاني (من ١٥٥٦ إلى ١٥٩٨) الذي كان ملكًا لإسبانيا والبلاد الواطئة والأملاك التي كانت له في إيطاليا وأمريكا، قضى بغشمه على الحرية الدينية والسياسية، وظهر في هذا الطريق بكل مظاهر الاستبداد، ولم يكن متعصبًا لدينه فحسب، بل كان متعصبًا لمذهبه الكاثوليكي تعصبًا أعمى، فقد حارب البروتستانت بلا جدوى، وكانت حروبه لإنجلترا وفرنسا وتركيا نتيجتها هزائمه المطلقة. وفي سنة ١٥٨٠ استولى على البرتغال عنوة، حتى إذا مات كانت البلاد في منتهى الضعف المادي؛ لسوء إدارته وخُرق سياسته التي جَرَّتْ على إسبانيا فَقْدَ أملاكها، وطرد من بقي في بلادها من المسلمين واليهود الذين أصلهم من جنس عربي، وكان عددهم يزيد على مئات الألوف، كلهم من أرباب الصناعات والمشتغلين بالزراعة.

واستمر بيت هابسبورج إلى أوائل القرن الثامن عشر، وانتهى بموت شارل الثاني من غير عقب، بعد أن عهد بملك إسبانيا إلى حفيد أخته ماري تيريزة التي كانت زوج لويس الرابع عشر ملك فرنسا، ويسمى فليب الخامس، فأعلنت النمسا حربًا على إسبانيا دامت اثنتي عشرة سنة، وكانت نتيجتها تنازله عن نابل وسردنيا للنمسا، ثم تنازل عمَّا كان يملكه في البلاد الواطئة، وبعد ذلك تنازل عن صقلية للسفواي، وعن جبل طارق وجزيرة ميورقة للإنجليز.

وفي سنة ١٨٠٥ تعاقدت إسبانيا مع فرنسا، واشتركت معها في حربها مع إنجلترا، فخسرت أسطولها في واقعة الطرف الأغر، وفي هذه السنة قامت ثورة البلاد ضد شارل الرابع بتدبير ولي عهده فرديناند، فتدخل نابليون الأول في الأمر ودخل بجيوشه أرض إسبانيا لتهدئة الفتنة، وهناك أعلن تعيين أخيه ملكًا على إسبانيا، فقام الأهالي بإيعاز إنجلترا ومساعدتها، وأعلنوا حرب الاستقلال التي انتهت بانسحاب نابليون، وبتنازل أخيه عن عرش إسبانيا. وفي مدة شارل خسرت إسبانيا جميع أملاكها في أمريكا، فاضطر إلى التنازل عن الملك، وعقبه فرديناند وتسمى بفرديناند السابع، وفي سنة ١٨٢٠ قام ضده الحزب الحر الذي تكوَّن في البلاد، فاستصرخ بفرنسا، فأرسلت إليه الدوق أنجوليم على رأس جيش لتسكين الفتنة وتأييد عرشه، ومات فرديناند سنة ١٨٣٣ بعد أن أوصى بالملك لابنته إيزابلا، فحرك ذلك من ضغينة أخيه الدون كارلوس، فقام بالثورة واشتغلت الحكومة بمحاربته إلى سنة ١٨٣٩.

وفي سنة ١٨٤٣ أُعْلِن رشد إيزابلا، فابتدأت الاضطرابات في أنحاء البلاد، وقامت الثورة في جميع أطرافها إلى سنة ١٨٤٨، ففرت إيزابلا إلى فرنسا، وانتخب الشعب سيرانو زعيم الحركة الوطنية رئيسًا للحكومة رياسة موقتة، وفي أول يونية سنة ١٨٦٩ أعلن سيرانو الدستور في البلاد لأول مرة، وأصدر قراره بالابتداء في الانتخابات النيابية.

وفي سنة ١٨٧١ تنازلت إيزابلا عن الملك إلى ولدها ألفونس، فلم يقبله الشعب، وعرض حزب الأحرار تاج البلاد على الدوق أميدا الابن الثاني لملك إيطاليا فتكور عمونايل، فقبله ولكنه استقال للاضطرابات التي قامت ضده، وهنالك أعلن الأحرار الحكم الجمهوري، ولم تطل مدته إلا من ١١ فبراير سنة ١٨٧٣ إلى ٢١ ديسمبر سنة ١٨٧٤؛ لأن الجمهوريين لم يستطيعوا إقامة حكومة تُسَيِّر حركة البلاد التي كانت في فوضى عامة.

وفي ٢٩ ديسمبر أعلن الجنرال كامبوس جلوسَ ألفونس الثاني عشر (ابن إيزابلا) على عرش إسبانيا، فقامت الثورة الكارلوسية ثانيًا إلى سنة ١٨٧٦، وبعد انطفائها قام ألفونس ببعض الإصلاح، ومات في سنة ١٨٨٥، فخلفته الملكة ماري كرستين في الحكم، وكانت حبلى، فلما ولدت بقيت وصيةً على ولدها ألفونس الثالث عشر، وفي مدتها عُطِّل الدستور، وقامت الحرب بين إسبانيا والولايات المتحدة سنة ١٨٩٨، وبها فقدت ما بقي من مستعمراتها في أمريكا (كوبا، وبورتوريكو، والفيليبين)، ثم باعت جزر كارولين إلى ألمانيا.

وفي سنة ١٩٠٢ أُعْلِن رشد ألفونس الثالث عشر (الملك الحالي)، وتسلم زمام الملك في وسط اضطرابات مالية وحربية، لدخول البلاد في حرب مع الريف الذي ينازع إسبانيا إلى الآن، فيما بقي لها في مراكش من ذلك الجزء الذي على المحيط، ذلك الجزء الذي كلفها من الأموال والدماء ما بهظ ثروتها وأفنى شبيبتها وحرك نيران الثورة في كل ناحية من أنحائها، ولولا أن البلاد ترزح تحت عبء الأحكام العرفية لكان لهيبها قد قضى على الرطبة واليابسة! ولولا أن سيف دورفييرا الذي قبض على أَزِمَّةِ البلاد مُصْلَتٌ على رقاب الناس من صغير وكبير بما فيهم الملك، وأن سواد ضباط الحرب الذين أصبحت موارد البلاد في أيديهم يشدون أزر هذا الزعيم المستبد لكانت إسبانيا تركت دارها البيضاء لكبير الريف منذ زمن بعيد، ورضيت من مناوشاتها وحروبها مع عرب مراكش، والتي كان نصيبها منها تلك الهزائم المتوالية في السنوات الأخيرة، بأوبة من بقي هناك من جيوشها (بسلامتهم)، ولكنها تخشى من عودتهم إلى إسبانيا إشعالهم نيران الثورة بسبب الاستغناء عن أكثرهم، لعجزها عن النفقة عليهم إذا وضعت الحرب أوزارها، ووضعت للضرائب حدودًا معقولة عادلة، وعلى الأخص إذا رفعت الأحكام العرفية.

مما تقدم تعلم أن الإسبان قد نَمَتْ في عروقهم جراثيم الثورة؛ لتعصبهم لرأيهم الذي هو أثر تعصبهم الديني، الذي كان القسوس يبثُّونه فيهم منذ كان العرب واليهود بين أظهرهم، هذا التعصب الديني الذي لا ينطبق على عقل ولا حكمة؛ لذلك كانت حربهم للعرب حربًا دينية لا وطنية، وأعقب ذلك حربهم يهود وطردهم من بلادهم، ثم حربهم للبروتستانت في البلاد الواطئة وغيرها، وقد ورث الأبناء هذه العاطفة السقيمة عن الآباء، وأخذها الأحفاد عن الأجداد، ولا يزال القسوس يبثونها في روح الناشئة لوجودها بين أيديهم في عامة المدارس، وبذلك أصبحت العاطفة الوطنية ضعيفة فيهم جدًّا، مما كان سببًا في هزائمهم في جميع حروبهم، وفَقْدهم لجميع أملاكهم التي نالوها في أمريكا، وقت أن كان سكانها لا فرق بينهم وبين الحيوانات التي كانت في دائرة بلادهم، ويظهر أن استيلاءهم عليها كان بعامل المصلحة الشخصية لا الوطنية؛ لذلك لما قامت مستعمراتهم في وجههم طلبًا لحريتها، لِمَا كانوا يلاقونه من كثرة مظالمهم لعدم معرفتهم بأساليب الاستعمار، انهزموا أمامهم لأنهم كانوا يحاربونهم أشخاصًا لا جماعات.

وليس أدل على تعصب الإسبان مما تركوه في بلاد الأرچنتين بأمريكا الجنوبية من بذور هذا التعصب الشنيع في المدة التي ملكوها فيها، من سنة ١٥٢٣ إلى سنة ١٨١٠م، التي أعلنت فيها هذه البلاد استقلالها.

فقد جاء في رحلة سمو الأمير الجليل محمد علي باشا لهذه البلاد في مايو سنة ١٩٢٦ ما نصه:

ومن الأمور المضحكة التي يجوز إثباتها في سجل السياحة على سبيل الفكاهة: أن قد وصلني كتاب من الأرچنتين يقول فيه مرسله إنه قرأ في الجرائد مدحي والثناء عليَّ، وحيث إن له عواطف نحوي فهو يشير عليَّ مراعاة لصالحي أن أكون كاثوليكيًّا؛ لأنه من الأسف الشديد أن يكون رجل مثلي بعيدًا عن طريق الهدى ومحجة الصواب، وإني إن لم أقبل ذلك دخلت الجحيم وعُذِّبت العذاب الأليم، وعلى ذلك ينصح لي بالإسراع إلى التوبة واعتناق الكثلكة الحقة، ذلك الدين القويم والصراط المستقيم.

وعقب الأمير ذلك بقوله:

هذا والإسبانيون كالإيطاليين والبرتغاليين متعصبون لدينهم، فلو كان مثل هذا الأمر قد حصل لأمير غربي وهو سائر في بلاد المشرق، لَعَدَّ ذلك تعصبًا من المسلمين، وكان ذنبًا عظيمًا لا يمحى ولا يغتفر.

ومن هذا وذاك ترى أن الشعب الإسباني أصبح من الفقر وضعف الإرادة بمكان لجملة أسباب:
  • أولًا: لتوزيع ثروة البلاد على الأشراف والقسوس، وملكهم لأغلب أراضيها الخصبة، واستيلائهم على وظائف الحكومة المهمة. ومرتبات القسوس السنوية وحدهم تبلغ مليونَيْ جنيه، وهو عُشْر مالية الحكومة تقريبًا.
  • ثانيًا: الجيش الذي يلتهم جل إيرادات الدولة بما تضطر معه إلى الاستدانة كثيرًا، وهي الآن ترزح تحت عبء دَيْنٍ ثقيل، لولا شدة الأحكام العرفية لظهرت آثاره السيئة مهددة لكيان البلاد.

    ودَين إسبانيا كما جاء في لائحة رسمية (انظر دائرة المعارف للبستاني) بلغ في سنة ١٨٧٤ (٤٠٤٨١١٤٠٨) ليرة إنجليزية، وفائدته السنوية (١٠٢٣١٢٢٨) ليرة إنجليزية، ولا بد أن يكون دَينها الحالي أكثر من هذا كثيرًا، وهو ما لم أُوفَّق لمعرفته.

  • ثالثًا: قلة المواصلات في البلاد وصعوبتها، ومع أن مساحة إسبانيا أكثر من ٤٩٢ ألف كيلومتر مربع، فالطرق الحديدية لا تزيد فيها عن ١٥ ألف كيلومتر على ما فيها من عدم توفُّر أسباب الراحة، مع أنها في مصر التي لا يبلغ المعمور فيها غير ٣٢ ألف كيلومتر مربع١ تزيد على أربعة عشر ألف كيلومتر.
  • رابعًا: حرب الريف التي كلفتهم نفقات باهظة جدًّا.
  • خامسًا: كسل الأهالي وعدم ميلهم إلى العمل؛ وذلك لاستسلامهم إلى الأفكار الساذجة التي أدخلها القسوس في عقائدهم، حتى أصبحوا أقرب الناس إلى الآخرة منهم إلى الأولى، وإن شئت فإلى الموت منهم إلى الحياة.
  • سادسًا: شيوع الأمية فيهم لقلة ما يُنْفَق على التعليم، بحيث لا يصل عدد القارئين منهم إلى ٤٠ في المائة على أكثر تقدير، وأشنع ما فيهم محاربتهم لتعليم البنات لفكرة سخيفة (لا يزال موجودًا بمصر شيء منها، وخصوصًا في جهات الصعيد)، اعتقادهم بأن كثرة العلم تؤدي بالشخص إلى الزندقة والإلحاد!

هذا هو شأن إسبانيا اليوم في عمومها، وإن وُجِد في عواصمها شيء من الحياة انطبق عليه المثل العربي: «كل الصيد في جَوْفِ الفَرَا.» وبالجملة إن الإسبانيين إذا كانوا يعيشون بجسومهم في القرن العشرين، فعقليتهم لا تزال تتصل بالقرون الوسطى.

وما دامت البلاد على ما فيها من فقر مُدْقِع٢ وتعصب سخيف، وعدم نشاط للعمل، ودم يغلي على الدوام ببخار الثورة، وحكومة مع فقرها لا تهتم إلا بقبيل من الناس دون الآخر تاركة أساليب الإصلاح فيها إلى الشركات الأجنبية من إنجليزية وألمانية وفرنسية وأمريكية، فمصيرها من غير شك لا يبشِّر بقرب مستقبل سعيد.

هوامش

(١) مساحة مصر مليون كيلومتر مربع، منها معمور ٣٢ ألف كيلومتر، والباقي صحاري غير معمورة.
(٢) بلغ من فقر الإسبانيين أنهم يبيعون غلات أرضهم في الغالب وهي على أرضها قبل نضجها، ولا يزال بمصر شيء من ذلك، إلا أنه في أرض المترفين من أبناء الأغنياء أكثر منه في أرض الفقراء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤