الرسالة الثانية

ركبت القطار السريع إلى مجريط (مدريد) في وادٍ لا نبات فيه ولا زرع، بين سلسلتي جبال (نوفامورينا) في وادٍ جميع الأراضي عن يمينه وعن شماله قفر، حتى كأننا كنا نسير في تلك الصحراء التي وهبها أبو دلامة الشاعر للخليفة المنصور العباسي.١

ويتخلل هذه الصحراء بعض أراضٍ كانت مزروعة قمحًا بعد المطر، وقد حصدوه إذ ذاك، وهم يشتغلون بدرسه كحاله عندنا؛ فترى النَّوْرَج يدور على الكُدْس (الرمية)، إلا أن حيلانه (فلكاته) أقل ارتفاعًا. وقد ترى بجوار هذا الجرن آخر قد تم دِراسه، فيه المذرى بمُذْرَاةٍ كحاله عندنا تمامًا. وترى بجواره التبن وقد كدسوا بعضه على بعض مثل تكديسه في الصعيد، كأنه مقطوع من جهاته الأربع بمستوى أفقي.

ويتخلل هذا الوادي بعض أشجار من الجوز والبَقْس، وبعض حقول من العنب والزيتون، وكلما اقتربنا من مدريد قلت فيه المزارع ووحش منظره. وفي هذه الجهة ينزل الثلج مبكرًا، فيقصدها أهل مدريد للرياضة الشتوية والألعاب الثلجية (اسكيتنج). ومتوسط سير القطار السريع في هذا الوادي ٤٢ كيلومترًا؛ لأن المسافة بين سان سباستيان ومدريد ٦٣٠ كيلو، قطعها هذا القطار في ١٥ ساعة.

(١) مدريد

مدريد (والعرب يسمونها مجريط، وبعضهم يسميها مشريط) هي عاصمة إسبانيا الآن، وعدد سكانها ٥٥٠ ألف نفس. ولقد كانت إلى القرن العاشر بعد الميلاد قرية صغيرة غير مهمة، وكانت حصنًا يقع حينًا في يد القشتاليين وآخر في يد العرب، وأول شهرة هذه المدينة التاريخية من سنة ١٣٩٤م؛ إذ تُوِّج فيها الملك هنري الثالث ملك القوط، وفي النصف الثاني من القرن السادس عشر جعلها فليب الثاني عاصمة ملكه، ومن ثَمَّ أخذ عمرانها يتزايد، وخاصة بعد أن هدم سورها القديم. وجو هذ المدينة حار جدًّا في الصيف، بارد جدًّا في الشتاء، وخير الأوقات لزيارتها فصل الخريف، وكانت درجة حرارتها في أواخر أغسطس ٤٥ سنتجراد. وقد كنت أظن قبل زيارتي لها أنها مدينة غير عظيمة ليس فيها شيء من مظاهر المدنية الحديثة له قيمة، ولكني وجدت أحياءها الحديثة كأحسن مدائن أوربا في مبانيها، ومحالها التجارية، وفنادقها الكبرى، ومتنزهاتها وقهواتها البديعة. وأفخم أبنيتها قصر الملك، ويمكن السائح مشاهدته بتوصية من السفارة التي ينتسب إليها، ولم أستطع زيارته، كما حُرِمْتُ مشاهدة كثير من آثار هذه المدينة، وتكثر في شوارعها المراكب الكهربائية والقطر السريعة (المترو) التي تسير تحت الأرض، وهي أحسن منها شكلًا في ممالك أخرى، وفي وسط المدينة ميدان يسمى ميدان الشمس تتفرع منه شوارعها الكبيرة، وينتهي شارع القلعة (ALACALA) — وهي تسمية عربية — بشارع عظيم عمودي عليه اسمه (البرادو)، وهو على نظام شارع (شانزليزيه) بباريس إلا أنه أوسع، ويسير من جانبيه شارعان، أما أوسطه فكله رياض وأشجار صُفَّتْ تحتها كراسي كثيرة لجلوس الناس وخاصة وقت المساء، وهذا المكان هو محل رياضة القوم في مدة الصيف، فتجده غاصًّا بالناس من جميع الطبقات إلى فترة من الليل، وعلى حافتي هذا الشارع المباني الفخمة.
وهذه المدينة مشهورة بصناعة الصيني والسجاد والدخان، ولقد أعجبني فيها منظر مَسَّاحي الأحذية؛ لأنهم غاية في النظافة، وكل واحد منهم يحمل صندوقًا، ومعه وسادة (مخدة) يجعلها تحت ركبتيه لمزاولة مهنته التي يؤديها بكل دقة. ولشدة حر مدريد لم أتمكن من زيارة شيء غير متحف الصور، وهو آية في بابه، ومع صغره تراه من أحسن المتاحف التي من نوعه، والذي أعجبني فيه سيدات ورجال وشبان وشابات منهمكون في تصوير بعض الألواح المحفوظة بالمتحف، وكثير منهم يجيد صناعته، ولا عجب؛ فأوربا جميعها تعنى بالفنون الجميلة. وفي مدريد دار للكتب جميلة، وفيها كثير من الكتب العربية القيمة، وليس فيها شيء من آثار العرب إلا ما كان مجموعًا في دور الآثار بها من التحف الثمينة التي هي من عملهم والنقود التي ضربوها، سواء أكانت هذه المتاحف للحكومة أم كانت للأهالي، وخير ما للخاصة من ذلك متحف السنيور٢ أوسما الذي أقام له دارًا خاصة به، وقف عليها من مُلْكه ما تقوم غلته بنفقتها. وقد يلفت نظرك في هذه المدينة استعمال القلل الفخار، ويسمونها كرازًا وهي كلمة عربية،٣ فإذا لاحت منك التفاتة إلى موائد قهوة من القهوات أو مطعم من المطاعم، وجدت على كل واحدة قلة، فإذا جلست أتاك الخادم بكوب، وانتظر ما تأمر به من مشروب أو مأكول.

وعلى كل حال، إن جو المدينة غير صحي في الصيف لشدة حرارتها، وكثرة ذبابها وأتربتها التي تؤثر في الصدر، ولشدة جفاف هوائها الذي يؤثر في المزاج العصبي.

ويسير في وسطها نهر (ماندانار) وكان أحد سفراء ألمانيا يصفه من باب الفكاهة بأنه أحسن أنهار الدنيا؛ لأن الإنسان يقطعه ماشيًا أو راكبًا عربة أو دابة. وهو يشير بذلك إلى أن هناك نهرًا ولا ماء. ومن ألطف الإشارات التي من هذا القبيل أن مدريد أكثر عواصم أوربا ارتفاعًا؛ لأنها بُنِيت على جبل، وقد خرَّج القسوس من ذلك أن عرش ملوك إسبانيا بعد عرش الله (أعني في الارتفاع)، وبهذا أثروا في عقيدة الشعب، حتى إنه إلى الآن يُعتقَد أن عرش إسبانيا هو خير العروش بعد عرش السماء. وتكثر في هذه المدينة المراوح: فترى واجهات الدكاكين ممتلئة بها على أشكال مختلفة، وقد تراها في أيدي الناس عامة، ويندر ألَّا ترى سيدة جالسة أو ماشية أو راكبة إلا وفي يدها مروحة تحركها بلطف أخف من النسيم الذي تنشده. وعلى ذكر هذا الجنس اللطيف أقول إنه في هذه البلاد أكثر كمالًا منه في غيرها من مدن أوربا؛ فهن يتجملن غالبًا بالحشمة، ويُدْنِين عليهن من جلابيبهن (فساتينهن) إلى ما دون نصف الساق، وكثيرًا ما يضعن على رءوسهن — وخاصة أهل الأندلس — الشقة، وهي أشبه شيء بما يسمونه عندنا (الطرحة)، وهي إما أن تكون خفيفة من المخرم الأسود، أو من نسيج من الشاش السميك. وبعضهن يشتملن بملاءة كبيرة قد تصل إلى الركبة، وهؤلاء في الغالب من الراهبات. ونساء إسبانيا أقل صلة بالرجال الغرباء، ومع أنهن جميلات الوجه جدًّا قد تنقصهن رشاقة الجسم وخفة الحركة؛ وذلك لكثرة ملازمتهن منازلهن. وقد يكون ذلك لشدة حرارة الإقليم، أو أن هذا النوع من الحجاب موروث عن العرب. ويقال إن أحسن الجمال الإسباني في جهة بلنسية، ثم في غرناطة، ثم في برشلونة؛ ذلك لأن جمال طبيعة هذه البلاد أثَّر في أهلها، فأكسبهم من محاسن الخلقة ما لم يتيسر لغيرهم، وهو تعليل معقول.

وبالجملة إن نساء الإسبان في الغالب يكتفين بجمالهن الطبيعي الذي خُصَّ بهذه السمرة التي جمَّلتها يد الطبيعة بما ترى أثره الصناعي في وجوه الغانيات في كل جهة من جهات العالم المتمدين، ولكن هل يبلغ الظالع شأو الضليع؟ ومما يعجبني أن نساء الإسبان في الغالب لا يستعملن الأدهنة البيضاء في وجوههن، ولا الحمراء في شفاههن، ومن يستعملنها منهن فبخفة لا تظهر معها كلفة الصناعة؛ وبذلك أصبحن بعيدات عن التسمم الذي يحصل من كثرة استعمال هذه المحسِّنات الوقتية؛ لأنها كلها مركبات زرنيخية تؤثر على مر الأيام في بشرة الوجه بالذبول، وعضلة الشفة بالتقلص. وعلى كل حال إن هذا الجمال الصناعي — وإن أكسب المرأة رُوَاء مزيفًا في وقته — يتقدم بها إلى الشيخوخة قبل أوانها، بما لا تنفع معه عناية الطبيب ولا استعمال العقاقير.

حُسْنُ الحضارة مجلوبٌ بتطرية
وفي البداوة حُسْنٌ غير مجلوب

(٢) الإسكوريال

هو البناء الذي أقامه فليب الثاني ملك إسبانيا في النصف الأخير من القرن السادس عشر على قمةٍ ترتفع عن البحر ألف متر، وتبعد عن مدريد بواحد وخمسين كيلومترًا، وهو يشمل الكنيسة، والقصر، والمقبرة الملكية، والدير ومدرسته. وإذا عرفت أنه يحتوي على ١٦ حوشًا، و١٧١٠ نافذة، و١٢٠٠ باب، و٨٦ سلمًا توصل إلى أمكنة مختلفة؛ عرفت مقدار أهمية هذا البناء العظيم الذي بُنِي جميعه من الجرانيت الأزرق الذي أَتَوا به من جبال وادي رامة بإسبانيا.

وبناء الكنيسة على النظام القوطي، وهي — على خلوها من التأنق — تشعر فيها بعظمة في النفس لا يصل إليها ذلك التأنق الذي تراه عادة في الكنائس الكاثوليكية الكبرى، وشكلها من الداخل مربع، طول كل ضلع منه خمسون مترًا، وفي وسطها أربعة أعمدة من البناء المربع، عرض كل ضلع من أضلاعها ثمانية أمتار، وعليها أقواس ترتفع عليها قبة الكنيسة التي قطرها ١٧ مترًا، وفي دائر الكنيسة ٤٢ مُصلَّى. ويرتفع على سطحها منارتان، ارتفاع كل واحدة نحو ثلاثة وسبعين مترًا، ويعلو القبة صليب تبعد قمته عن أرض الكنيسة بخمسة وتسعين مترًا، وبجوار الكنيسة حوش مربع، يحيط به بهو عظيم رُسِمتْ على حوائطه بالزيت صور كثيرة كنسية مكبَّرة، وفي وسط هذا البهو من كل جهة أبواب إلى غرف في بعضها ألواح ثمينة من رسم أشهر المصورين في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وبعضها يصعد منه إلى الدير، وهو محل مسكن القسوس القائمين بحركة العبادة في الكنيسة. وفيه مكتبة عظيمة فيها خمسة وأربعون ألف كتاب، منها مجموعة من الكتب الدينية والأغاني الكنسية من القطع الكبير جدًّا، وقد وُشِيتْ كتاباتها وجلودها بالذهب، وبعضها مكتوب على رَقِّ الغزال ومزين بالرسوم الجميلة والنقوش القيمة، ومنها مجموعة ثمينة من المخطوطات العربية لا تقل عن ألفي مجلد.

وفي الدير تبقى جثة الملك خمس سنين قبل دفنها (بالبنتيون)، وهو المقبرة الملكية المتصلة بالكنيسة، ويُنْزَل إليها بسلالم هي وحوائطها من المرمر الوردي الثمين، تنتهي إلى غرفة مثمنة قطرها عشرة أمتار، وحوائطها وأرضها من المرمر، وفي كل ضلع منها ردهة وُضِعَ فيها ستة توابيت فيها جثث ملوك إسبانيا بعضها فوق بعض. وفي القاعة دهليز يوصل إلى عدة غرف فيها قبور بعض أعضاء الأسرة الملكية، وبالجملة هذه المقبرة — مع عدم أناقتها وخلوها من الزينة الكاثوليكية — تتناسب عظمتها مع عظمة المدفونين فيها.

وهنا مر بخيالي مقبرة جنوة العامة، وكنت زرتها منذ سنتين، وكيف وصل بالقوم تأنقهم وتطاولهم في فخامة مقابرهم بها إلى درجة لا يماثلها شيء آخر من نوعها، فترى القبور بعضها بجوار بعض، وكلها أو جلها من المرمر، وقد رُسِمتْ أو نُقِشتْ أو مُثِّلَ عليها صورة الميت ومِن حوله الملائكة ترفرف بأجنحتها، وتمد يدها إليه لتقوده إلى جنات النعيم، أو بعبارة أصح إلى الجهة التي ينتظره عمله فيها، وبعض القبور تجدها قد جمعت إلى هذا مختصر تاريخ الميت، ومصابيحها مُسْرَجة على الدوام، وبالجملة قد وصل فيها الإبداع وفخامة المنظر وجمال الصناعة إلى حدٍّ لم أره في غيرها، ويحيط بهذه المقبرة رياض نضرة فيها كراسي خشبية ورخامية يجلس عليها زوَّار المقبرة. وهنا ذكرت (قطع المره) وما إليه من جبانة المجاورين والعفيفي وغيرهما مما أرجو أن يعيره أصحاب الشأن وأولو الأمر بعض عنايتهم؛ حرمةً للأموات ورحمةً بالأحياء.

(٣) قصر الملك

وهنا أرجو القارئ عفوًا إذا رجعت به معي — بعد أن شط بي القلم — إلى قصر الملك، وهو يتصل بالكنيسة اتصالًا تامًّا، فماذا ترى؟ ترى بهوًا طويلًا عريضًا مرتفعًا ارتفاعًا عظيمًا وفيه باب القصر، ويدخل منه إلى طابق أرضي فيه حجرة نوم الملك وحجرة نوم ابنته، وليس بهما شيء من المبالغة في التأنق. نترك هذا وما إليه إلى الطابق الثاني، وندخل إلى قاعة المائدة، ثم إلى قاعة السفراء، ثم إلى المكتب الخصوصي، فنجد بها من حسن الرونق وجمال الشكل وبديع الصور التي نُسِجَتْ على قطع كبيرة من الحرير، يتكون منها لوح على قدر كل حائط من حوائط هذه الغرف، فنرى الحائط كله مشتملًا على لوح واحد رُسِمتْ فيه بالنسيج صورة مكبرة من أصل معروف لأحد المشهورين في فن التصوير، نرى هذه الصورة في بروزها، وظلالها، وألوانها، ودقة صنعها، وكمال صوغها، وتمام إبداعها، تمثِّل لك واقعة حربية أو حادثة تاريخية، ويكاد لسان حالها يقول: «ليس في الإمكان أبدع مما كان». ولقد أعجبني من ذلك صورة محاصرة بني مرين مع الدون جوبان لمدينة طريف، وقائدها إذ ذاك غوزمان، فأتى جوبان بأحد أبناء هذا القائد وهدده بقتله إن لم يفتح له أبواب هذه المدينة، فكان جوابه أن رمى له غوزمان بسيفه ليقتله به، وهذه شجاعة وأمانة يُضرَب بها المثل، كما ضُرِب بشجاعة السموءل وأمانته من قبلُ.

وقد فُرِشت هذه القاعات كلها بالحصير المصنوع حديثًا على مثال ما كان عليه في وقته، وهو أشبه شيء بما يُعمَل الآن في منوف والزقازيق من ذات الخطوط الضيقة المستقيمة. نترك هذا أيضًا إلى قاعة الصور الحربية، وهي بَهْوٌ كبير طوله نحو أربعين مترًا، وقد رُسِمتْ على حوائطه بالزيت واقعات حربية مختلفة، لفتت نظري واحدة منها بما اغرورقت له عيناي وجمد له قلبي، تلك هي الواقعة المشئومة التي حصلت بين القوط والعرب٤ في سهول غرناطة، نرى فيها الجيشين يسير كلاهما نحو الآخر بحال منتظمة، ثم لا يلبث أن يلتحم أحدهما بالآخر، ثم لا نعتم أن نرى هزيمة العرب، تلك الهزيمة التي كانت نتيجتها أن قُذِفَ بهم إلى ما وراء البحر الأبيض المتوسط، تاركين قصورهم وديارهم في الأندلس تنعى مَن بناها! تاركين وراءهم مُلكًا مجيدًا دام أكثر من ثمانية قرون، كانت كلها عظمة وفخامة! تاركين وراءهم الخراب بعد العمران، والوحشية بعد المدنية، والفقر بعد الرفاهية. والملك لله وحده سبحانه، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء.

(٤) قصر الأمراء

هو على بعد ثلاثمائة متر من قصر الملك، وهو بناء صغير في حديقة كبيرة معتنى بها كل الاعتناء. دخلت هذا القصر مع الداخلين، وكان الحارس يرشد القوم بلغته إلى ما فيه من أثر بما لم أفهم منه، لا كثيرًا ولا قليلًا، ولكني ماذا رأيت؟ رأيت صورًا من أبدع ما يرى الراءون، ألواحًا صغيرة من رسوم مختلفة وأشكال متغايرة غاية في الجمال، تمثِّل لك وقائع تاريخية شهيرة يعرفها أربابها، وبجوار هذه هنا وهناك قطع أثرية صُنِعَتْ من نحاس أو فضة أو عاج أو صدف، وهي تمثِّل مناظر بديعة جدًّا، تراها مع صغر حجمها كأنها واسعة شاسعة بما فيها من أشجار وأطيار وحيوان وإنسان، وكلها من قطعة واحدة، ولا يمكن أي واصف أن يصفها؛ لأنه إذا رآها وقف أمامها في حيرة عظيمة في حكمه عليها، أَمِنْ عمل الإنسان هي، أم من عمل الشيطان؟! ومن بين هذه الصور صورة للعذراء، وقد اشتملت بملاءة من المخرم (الدنتلا) تتصل حينًا بجسمها وتنفصل عنه أحيانًا كالوضع الطبيعي للجسم، وكل هذا من قطعة واحدة من العاج صُنِعَتْ مع سابقاتها في القرن الرابع عشر.

والآن نترك (الإسكوريال) إلى روما ونشاهد كنيسة القديس بطرس، ثم إلى باريس ونزور كنيسة نوتردام، ثم إلى لندره ونزور كنيسة القديس بولس، ثم نرجع إلى ما وراء التاريخ العصري ونزور (الأكروبول) في أثينا، ثم نعود إلى مصر ونذهب إلى أبعد من ذلك كله، وبعد مشاهدتنا أهرام الجيزة نزور هيكل الكرنك في الأقصر، ثم نتساءل: هل هذا كله من عمل الملوك من بني الإنسان، في زمن هو أبعد الأزمان عن العلوم والفنون، في وقت ليس فيه شيء من هذه الاختراعات الحديثة التي سهَّلت الصعاب، وفتحت من مختلف العلوم كل باب، وجعلت هذه الطبيعة القوية في يد الإنسان يحركها كيف يشاء؟ الجواب على كل حال إيجابي.

ثم إذا تساءلنا: وهل في قدرة الملوك في هذا الوقت إقامة هيكل من هذه، خصوصًا مع هذه الآلات الحديثة التي يعمل الإنسان الواحد بها في لحظة ما كان يعمله ألف شخص في أيام؟ فالجواب على كل حال سلبي.

وإذا نحن بحثنا عن السبب، عرفنا أن الأمم كانت مستعبَدة لإرادة أقيالها في الماضي البعيد، ومُسخَّرة لرغبات ملوكها ورؤسائها في الماضي القريب، حتى إذا قامت الثورة الفرنسية بعد منتصف القرن الثامن عشر، وعلى أثرها انتشرت الحرية بين الأمم الأوربية، ووقف الملوك في الدائرة التي رسمتها لهم دساتير بلادهم، وسارت الأمم في حدودها الشرعية أصبح الملك يعمل لبلاده، والناس يعملون لأنفسهم وُحْدَانًا ولبلادهم مجتمعين. وإذا كانت الملوك قد فقدت في هذا الطريق أيدي رعاياها فقد كسبت قلوبهم، وهذه الحال ولا شك من أجل نِعَم الله على الراعي والرعية.

(٥) للعبرة والتاريخ

مدريد هي عاصمة إسبانيا الآن، والبيئة الوحيدة التي يعيش في جوها علماء الإسبان، وتطلع في سمائه شموس عرفانهم وعلومهم وفنونهم. وهي مظهر مدنيتهم ومجلى حضارتهم التي لا شك أنها أثر مما تركه العرب في بلادهم: من علم جم، وفن راقٍ، ومدنية صادقة، وحضارة فائقة. ولقد كانت الفائدة منها تكون أعم، والنفع بها أتم، لو لم يكن في الإسبانيين ذلك التعصب الديني الشنيع، وبخاصة بعد أن وصلتهم بالعرب لحمة النسب، وامتزج دم الفاتحين بدم المغلوبين؛ فقد كانت فتوحاتهم بالأندلس موجِبة لوقوع كثير من أسيرات الإسبان في أيديهم، مما كان موجبًا لزواجهم منهن أو التسري بهن، حيث كن — في حكم الفاتحين — ملك يمين، وهي شرعة من شرائع الحروب البائدة، وفي هذه الحالة كانوا يسمونهن «أمهات أولاد».

ولقد كثر زواج ولاة الأندلس من العرب وأمرائهم بالإسبانيات، وأول من تزوَّجَ منهم عبد العزيز بن موسى بن نصير، فقد تزوج بالسيدة أيلونا أرملة لذريق ملك القوط، بعد أن مات إثر جروحه في واقعة شريش التي تغلَّب عليه فيها طارق بن زياد. وتزوج الأمير محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط بإسبانية اسمها مارية، ورُزِق منها بولده عبد الرحمن الناصر. وتزوج الحكم بن الناصر بالسيدة صبح البشكنسية، وأعقبت له هشامًا المؤيد. وتزوج المنصور بن أبي عامر بنت سانكو ملك نافاريا، وولدت له ابنه عبد الرحمن، وكانوا يسمونه سانكو الصغير لميله إلى ملاذِّه، وجرأته على الدين في سيرته الشخصية. وتزوج المأمون بن الناصر سلطان الموحدين إسبانية اسمها حباب، وخلَّف منها ابنه الرشيد. وتزوج السلطان محمد بن أبي الحسن بن الأحمر بالسيدة ثريا الإسبانية، وولدت له ابنه أبا عبد الله. وكانت أم عبد الحق بن أبي سعيد سلطان بني مرين إسبانيَّةً.

وقد فشا الزواج والتسري بالإسبانيات من القوط وغيرهم بين الأمراء والرؤساء من العرب، وكان لهذا العنصر الجميل شيء من التأثير فيهم، لم تكن تظهر نتائجه الخبيثة إلا عند ضعف الدولة، كما كان سببًا في استكانة هشام المؤيد إلى حاجبه ابن أبي عامر، تلك الاستكانة التي ساعدت عليها في أول الأمر أمه، فلما اختلفت مع المنصور بعد أن قويت شوكته، وظهرت عبقريته، وتوطدت دعائم سطوته، وقبض على مقاليد الحكم بيد من حديد، أخذت تضرم في قلب ولدها النار التي أطفأتها، وتثير في نفسه شيئًا من الحياة التي أماتتها، ولكنه كان في سن الأربعين؛ بحيث أصبح — والجبن ملء جسمانه — لا يهتم بشيء من أعمال الدولة، إلا ما كان يقوم بملاذِّه وشهواته!

وقد قضى في حياته على الدولة الأموية، وبموته عفا أثرها، وانمحى وجودها، ولا شك أن هذا أثر تلك التربية الأجنبية٥ التي ظهرت في المؤيد بالقضاء على الأموية، كما ظهرت في عبد الرحمن بن أبي عامر بالقضاء على الدولة العامرية، وفي الرشيد بن المأمون بضعف الموحدين، وفي عبد الحق بن سعيد المريني ملك المغرب بضياع الملك من بني مرين، وفي أبي عبد الله بن الأحمر بالقضاء على حكم العرب في الأندلس.

ولم يقف الزواج أو التسري بالإسبانيات عند الولاة والأمراء في الأندلس، بل تعداهم إلى عامة العرب، وقد ذُكِر أبناؤهم منهن بالإضافة إلى أمهاتهم مما لم يكن في طبيعة العرب، فقالوا: ابن الرومية، وابن القوطية، وهكذا.

ويظهر أن هذا التلقيح الطبيعي قد أثَّر في طبيعة العرب ولا سيما البربر، فرقَّق من أخلاقهم، وقلل من حدتهم، وكان فيهم سببًا للتسامح الذي أحسنوا به عشرتهم مع مَن بقي في وسطهم من القوط وغيرهم، سواء أأسلموا أم بقوا على ديانتهم، فتركوا لهم كنائسهم وبِيَعَهم وحريتهم في مزاولة شرائعهم، هذا التسامح الذي أثَّر بسرعة في طباعهم بما جعلها مستعدة لهذا الرقي السريع الذي ظهرت به ثقافتهم في كل مرافق مدنيتهم الجديدة. وإنَّا إذا تركنا جانبًا ذلك الأثر السياسي الذي أرضعه الأمهات الإسبانيات أبناءَهن، وخصوصًا في الطبقة العالية مما جرَّأ كثيرًا منهم على التهاون في القواعد الدينية والعصبية، فإنا نراهُنَّ من جهة أخرى قد أثَّرْنَ بلطافة أخلاقهن، وجمال عشرتهن، وليونة ملمسهن في نساء العرب اللواتي ظهر منهن كثيرات في عالم الأدب، وكان ظهورهن في أفق هذه البلاد من الأسباب التي جرت بالرجال إلى ميادين العرفان في كل نوع من أنواع العلوم، وخاصة الأدب الذي كان لهم فيه القِدْح المُعَلَّى، حتى لقد كانت لهم في عواصم البلاد أندية كثيرة تجمع بين الجنسين لمذاكرة العلم والأدب والنظم من شعر ونثر، وهذا لعمري آية الآيات، ونهاية البراهين على علو القوم في مدنيتهم. ولا نزال نجد البرهان الوحيد على رقي الأمم نبوغ الجنس اللطيف فيها؛ فإن النساء خير موصل لحقائق الكون ودقائقه إلى أبنائهن وهم في نعومة أظفارهم، فينشَئون بعقول سليمة وأفئدة ذكية وبداهة فائقة، وهي الأسس التي ينبني عليها مجد الأمم وعظمتها.

ويحسن بنا هنا أن نذكر لك بعض من نَبَغْنَ بالأندلس من الجنس اللطيف في عالم الأدب وتبريزهن في الشعر والنثر، بحيث أصبحن في مقدمة أهله لطفًا وظرفًا وبديهة ومتانة، حتى تكون عندك فكرة مما كان عليه هذا الجنس اللطيف فيها.

فمنهن أم العلاء الحجازية، وقد كانت شاعرة أديبة، ومن قولها:

كل ما يصدر منكم حَسَن
وبعلياكم تحلى الزمن
تعطف العين على منظركم
وبذكراكم تلذُّ الأُذُن
مَن يَعِشْ دونكم في عمره
فهو في نيل الأماني يُغْبَن

ومنهن أَمَة العزيز، ومن قولها:

لحاظكم تجرحنا في الحشا
ولحظنا يجرحكم في الخدود
جرح بجرح فاجعلوا ذا بذا
فما الذي أوجب جرح الصدود

ومنهن أم الكرام بنت المعتصم بن صمادح ملك المرية، ويقال إنها كانت تحب فتًى من عامة الناس، ومن قولها في ذلك:

يا معشر الناس أَلَا فاعجبوا
مما جنته لوعة الحب
لولاه لم ينزل ببدر الدُّجَى
من أفقه العلوي للترب
حسبي بمَن أهواه لو أنه
فارقني تابعه قلبي

ومنهن حفصة الركونية، وقد كتبت إلى عبد المؤمن بن علي سلطان الموحدين، وكان من عادتهم أن يبدءوا كتابتهم بقولهم «الحمد لله وحده»:

يا سيد الناس يا مَن
يؤمِّل الناس رِفْدَهْ
اُمْنُنْ عليَّ بطرس
يكون للدهر عُدَّهْ
تخطُّ يُمْنَاك فيه
الحمد لله وحده

ومن قولها في نفسها:

عيون مها الصريم فداء عيني
وأجياد الظباء فداء جيدي
أُزَيَّن بالعقود وإن نحري
لَأَزْيَنُ للعقود من العقود
ولا أشكو من الأوصاب ثقلًا
وتشكو قامتي ثقل النهود

وبلغت هذه الأبيات المقتفي أمير المؤمنين، فقال: اسألوا هل تصدق صفتُها قولَها؟ فقالوا: ما يكون أجمل منها. فقال: اسألوا عن عفافها؟ فقالوا: هي أعف الناس. فأرسل إليها مالًا جزيلًا لتستعين به على صيانة جمالها ورونق بهجتها.

ومنهن العبادية جارية المعتضد بن عباد، وكان المعتضد يحبها، وقد سهر ليلة بجوارها وهي نائمة فقال:

تنام ومُدْنَفُها يسهر
وتصبر عنه ولا يصبر

فأجابته بديهة بقولها:

لئن دام هذا وهذا له
سيهلك وَجْدًا ولا يشعر

ومنهن حمدونة، ويلقبونها بخنساء المغرب، ومن شعرها:

ولمَّا أَبَى الواشون إلَّا فراقَنا
وما لهم عندي وعندك من ثار
وشنُّوا على أسماعنا كل غارة
وقلَّ حُماتي عند ذاك وأنصاري
غزوتهم من مُقْلَتَيْك وأدمعي
ومن نفسي بالسيف والسيل والنار

ومنهن عائشة بنت أحمد القرطبية، وكانت من عجائب زمانها، وكانت تحسن الخط وتكتب المصاحف، ودخلت على المظفر بن المنصور بن أبي عامر وبين يديه ولده، فارتجلت:

أراك الله فيه ما تريد
ولا برحت معاليه تزيد
فقد دلت مخايله على ما
نؤمله وطالعه السعيد
تشوقت الجياد له وهز الـ
ـحسام هوى وأشرقت البنود
وكيف يخيب شبل قد نمته
إلى العليا ضراغمة أسود
فسوف تراه بدرًا في سماء
من العليا كواكبه الجنود
فأنتم آل عامر خير آل
زكا الأبناء منكم والجدود
وليدكم لدى رأي كشيخ
وشيخكم لدى حرب وليد

ومنهن مريم بنت يعقوب الأنصاري، ومن شعرها وقد كبرت:

وما يُرتجى من بنت سبعين حجة
وسبع كنسج العنكبوت المهلهل
تدب دبيب الطفل تسعى إلى العصا
وتمشي بها مشي الأسير المُكبَّل

ومنهن نزهون الغرناطية، وكانت تقرأ على أبي بكر المخزومي الأعمى، فدخل عليهما أبو بكر الكندي، فقال يخاطب المخزومي مستجيزًا:

لو كنتَ تُبْصِر مَن تجالسه

فأفحم وأطال الفكر، وما وجد شيئًا يجيز به، فقالت نزهون:

لغدوتَ أخرس من خَلاخِله
البدرُ يطلع من أَزِرَّتِه
والغصنُ يمرح في غَلائله

ومنهن ولادة بنت الخليفة المستكفي حفيد الناصر الأموي، قال ابن بشكوال: كانت ولادة أديبة شاعرة جَزْلة القول حسنة الشِّعر، وكانت تناضل الشعراء، وتساجل الأدباء، وكانت في نهاية من الأدب والظرف … إلى أن قال: وكان مجلسها في قرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعبًا لجياد النظم والنثر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهافت أفراد الشعراء والكتَّاب على حلاوة عشرتها، وعلى سهولة حجابها، وكثرة منتابها، تخلط ذلك بعلو نصاب، وكرم أنساب، وطهارة أثواب، ولها مع ابن زيدون أخبار كثيرة (ومن قوله وقت فراقه إياها):

ودَّعَ الصبرَ محبٌّ ودَّعك
ذائع من سِرِّه ما استودعك
يقرَعُ السنَّ على أنْ لم يكُنْ
زاد في تلك الخُطَا إذْ شيَّعك
يا أخا البدر سناءً وسنا
حفظ الله زمانًا أطلعَك
إنْ يطلْ بَعدَك ليلي فَلَكَمْ
بِتُّ أشكو قِصَرَ اللَّيْل مَعَك

وكان منهن مَن تكتب للأمراء، مثل لبنى كاتبة الحكم بن عبد الرحمن، ومزينة كاتبة الأمير الناصر، وقد ذكر ابن فياض في تاريخه «أنه كان بالربض الشرقي في قرطبة مئة وسبعون امرأة، كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي»، فكم كان إذن في كل أرباضها التي بلغت ٢٨ ربضًا ممن كان لهن مثل هذه الصفة من هذا الجنس اللطيف؟

هذا ما اقتصرنا عليه من ذكر أديبات الأندلس.

والآن نذكر لك بعض مَن نبغ من رجاله الذين لا يحصيهم العد.

ففي علوم الدين ظهر كثيرون منهم: عبد الملك بن حبيب السلمي الذي تُوفِّي سنة ٢٣٨ بلغت مؤلفاته نحو ألف كتاب، ثم عيسى بن دينار فقيه الأندلس، ثم يحيى بن يحيى الليثي أكبر علمائه في مذهب مالك، ثم منذر بن سعيد البلوطي قاضي القضاة بقرطبة توفي سنة ٣٣٥، ثم أبو القاسم الشاطبي إمام القراء، ثم أبو بكر بن العربي، ثم ابن شبطون فقيه الأندلس، ثم بقي٦ بن مخلد، وأبو الوليد الباجي، والوزير الفقيه أبو محمد علي بن حزم الذي بلغت تآليفه ٤٠٠ كتاب، وعثمان بن سعيد، والقاضي عياض، ومحيي الدين بن عربي الذي مات بالقاهرة، وأبو العباس المرسي الذي مات بالإسكندرية، وابن مالك الجياني صاحب الألفية والذي هاجر في النصف الثاني من القرن السابع إلى دمشق، ومات بها سنة ٦٧٢.

أما من ظهروا في عالم الأدب، فيكادون لا يُحصَون عدًّا، ويمكنك أن تطَّلع على بعضهم في قلائد العقيان وغيره من كتب الأدب والسير والطبقات والتاريخ، كالإحاطة ونفح الطيب، وإن كنت أرى أنهما إلى الأدب أقرب منهما إلى التاريخ. وقد برز من هؤلاء كثيرون، في مقدمتهم الوزير لسان الدين بن الخطيب، وابن عبد ربه صاحب العقد الفريد، والفتح بن خاقان صاحب قلائد العقيان، والشريشي شارح المقامات، والمنصور بن أبي عامر، وابن خفاجة، وابن هانئ، وابن زيدون، وابن عمار، والمظفر الأفطس ملك بطليوس الذي ألَّف كتابًا في الأدب في نحو مائة مجلد، والوزير ابن زمرك، وابن سِيدَهْ الذي ظهرت مواهبه في اللغة، وهو صاحب كتاب المخصص، وغيرهم وغيرهم ممن تحلَّتْ الطروس بسطورهم، والنفوس برائع كلماتهم وبديع آياتهم، مِن شعرٍ يأخذ بالألباب، ونثر يصل برقَّته إلى سويداء القلوب.

وكان عبد المجيد بن عبدون يحفظ جملة من كتب الأدب، ومنها كتاب الأغاني، وكان الخلفاء والأمراء يقترحون على الناس حفظ الكتاب الفلانيِّ ويقدِّرون لذلك جائزة لها قيمة، وكان هذا سببًا لشيوع الحفظ فيهم.

وكان الأمراء الأمويون أنفسهم في مقدمة رعيتهم فضلًا وعلمًا وأدبًا، ومنهم من كان له قدم عالية في الشعر، ومن قول الأمير عبد الله بن محمد، وهو غاية في الرقة وأظن أنه لم يسبقه غيره إلى هذا المعنى:

يا مهجة المشتاق ما أوجعك
ويا أسير الحب ما أخشعك
ويا رسول العين من لحظها
بالرد والتبليغ ما أسرعك
تذهب بالسر فتأتي به
في مجلس يخفى على من معك
كم حاجة أنجزت إيرادها
تبارك الرحمن ما أطوعك
ومنهم كثيرون اشتغلوا بالعلوم الرياضية، والفلكية، والكيمياوية، والنباتية، والزراعية بما ظهرت نتائجه القيمة في أواخر القرن الرابع الهجري. وقد نبغ من هؤلاء كثيرون أفادوا كثيرًا في رقي المدنية الإسلامية التي كانت مادة لشيء كثير من المدنية الأوربية الحالية: كابن الصفار،٧ وابن السمح،٨ وأبي القاسم مسلمة بن أحمد توفي سنة ٣٩٨، والكرماني،٩ ومحمد بن إسماعيل،١٠ وعبد الغافر بن محمد، وعبد الله بن محمد المعروف بالسريِّ، وعبد الرحمن بن إسماعيل بن بدر المعروف بإقليدس كان في أيام المنصور بن أبي عامر، وسعيد بن فتحون السرقسطي، وابن شهر،١١ وابن الليث،١٢ وعلي بن خلف بن أحمد، وابن الخياط،١٣ وأحمد بن جوشن، وموسى بن ميمون توفي سنة ٦٥٠، وابن البيطار المالقي، وابن مفرج١٤ النباتي، وأبو زكريا الإشبيلي، وابن باجه أبو بكر محمد بن يحيى الصائغ الغرناطي، استوزره أبو بكر يحيى بن تاشفين مدة عشرين سنة وتوفي سنة ٥٣٣، وابن جابر، وينسب إليه اختراع الجبر.١٥
ومن الذين اشتغلوا في الرياضيات عباس بن فرناس الذي اخترع آلة المثقال لمعرفة الزمن، ورسم في بيته هيئة السماء بما فيها من النجوم والغيوم والبروق، وهو أول من استنبط بالأندلس صناعة استخراج الزجاج من الحجارة، وفكَّر في إمكان الطيران١٦ وكان قبله لا تتسع له غير خرافات اليونان، فعمل له جناحين من ريش طار بهما مسافة في الهواء، ولكنه لم يحسن الوقوع لعدم تفكيره في عمل الذيل الذي ينظِّم حركة النزول ويمنع السقوط المروِّع، فسقط سقطة كان فيها حتفه سنة ٧٥٥.
أما الذين اشتغلوا بالمسائل الطبية ونبغوا فيها فكثيرون جدًّا، وقد وصل الطب في الأندلس إلى درجة لم يصل إليها في الشرق ولا في الغرب، نذكر منهم: ابن الجزار،١٧ وإسحاق بن سليمان توفي سنة ٣٢٠، وابن خلدون١٨ (غير المؤرخ)، وابن غلندو،١٩ والحراني،٢٠ وإسحاق٢١ بن عمران، ومحمد بن فتح، وأحمد بن يونس،٢٢ وإسحاق٢٣ الطبيب، ويحيى٢٤ بن إسحاق، وابن جلجل،٢٥ وابن باجه، وبني زهر، وابن رشد، وابن حفصون،٢٦ وابن المدور، والزهري،٢٧ وابن خاتمة الطبيب، وقد ألَّف كتابًا في الوباء ذهب فيه إلى وجود الجراثيم (الميكروبات) وتأثيرها في العدوى، وقد سبق في العثور عليها باستور العالم الفرنسي الذي مات سنة ١٨٩٥م.

ومن الذين نبغوا في الجغرافية ولهم مؤلفات فيها: الإدريسي، والبكري صاحب المعجم، وابن جبير، والحجازي صاحب المسهب. أما الذين ظهروا في التاريخ فهم كثيرون، منهم: ابن خلدون (أصله من إشبيلية)، وابن حَيَّان، وابن بَشْكُوَال، وابن سعيد، وابن الخطيب.

ولم يظهر الذين نبغوا في الفلسفة إلا في أواخر القرن الرابع؛ لأن الناس (وخاصة أهل الأندلس) كانوا إلى منتصف هذا القرن يتهمونهم بالزندقة بل بالكفر.٢٨ ويتطاولون عليهم بكل أنواع الأذى، بما كان يضطرهم إلى الاختفاء وإنكار الاشتغال بها، وكثيرًا ما كان الخلفاء من المرابطين والموحدين ينالونهم بالأذى تقرُّبًا للعامة، ومن ذلك أن المنصور يعقوب ملك الموحدين مع علو كعبه في العلوم والآداب سَجَنَ ابن رشد؛ لنسبة بعض كتب الفلسفة إليه، على الرغم من إنكاره لها، وكانت الفلسفة سببًا في فرار ابن هانئ الشاعر من إشبيلية خوف إيقاع الناس به. والذين ظهر منهم في سماء النبوغ فيها: ابن رشد، وابن الطفيل، والوقشي، وابن الصائغ المعروف بابن باجه، وابن حَيَّان، والمقتدر بن هود صاحب سرقسطة.

وقد برز في علم الموسيقى ابن فتحون، وابن باجه، ويحيى الخدج، ولهم فيها مؤلفات كانت أصلًا لترتيب النغمات الإفرنكية وتقييدها في مذكرتها الحاضرة (نوتتها).

ومما مر ذِكْرُه ترى أن الذي كان ينبغ منهم في مادة لا يمنع نبوغه فيها تبريزه في مادة أو مواد أخرى، كابن رشد مثلًا، فإنه كان عالمًا دينيًّا، وأديبًا، وشاعرًا، وطبيبًا، وكاتبًا، وفيلسوفًا، وكذلك ابن باجه، فإنه كان مع هذا كله موسيقيًّا.

ولولا التطويل الذي لا تتسع له هذه الكلمة لأكثرنا لك من هذه الأمثلة التي يخجل أمامها هؤلاء الذين يدَّعون جلال العلم من غير ما علم، وقد أصبح هذا من علل الشرق بعد أن كان فيه من علمائه من ينحني رأس التاريخ أمام أسمائهم إعظامًا وإكبارًا.

وبالجملة لقد أنجبت الأندلس من رجال العلم٢٩ مَن لا يقلُّون في كفايتهم وعلومهم عمن أنجبهم الشرق الإسلامي ممن قامت بتآليفهم هياكل المدنية في كل علم من العلوم المختلفة. وقد كانوا يفاضلون بين ابن رشد والطوسيِّ، وبين ابن زهر وابن سينا، وابن فرناس والفارابي، وبين يحيى الخدج وأبي الفرج الأصبهاني، وبين ابن هانئ والمتنبي، وبين ابن زيدون والبحتري، وبين ابن عبدون والأصمعي، وبين ابن ضمضم والخوارزمي، وبين أبي مروان البصير والمعري؛ لوجود الشبه بين كلٍّ في كثرة علومهم وعرفانهم، وفي معارفهم الخاصة التي برزوا فيها. وكانوا يفاضلون بين عبد الرحمن الداخل والمنصور العباسيِّ، وبين الناصر والرشيد، وبين الحكم بن الناصر والمأمون العباسيِّ؛ لكثرة الشبه بينهم في سياستهم، وبُعْد نظرهم، وكمال رياستهم، وغزارة معارفهم. كما كانوا يفاضلون بين قرطبة وبغداد، وبين إشبيلية وحمص، وبين غرناطة ودمشق؛ لكثرة الشبه بينها في ضخامة البنيان، وواسع العمران، وكثرة الزروع والأنهار، ورواج أسواق العلوم والآداب.

هوامش

(١) ذلك أنه دخل عليه يومًا مع الشعراء فأعجبته قصيدته، فأمر أن يُعطَى مائة جريب عامرة، ومائة جريب غامرة، فقال: وما هي الغامرة يا أمير المؤمنين؟ قال: هي التي لا نبات بها ولا زرع. قال: إذا كان الأمر كذلك فإني أعطيك يا أمير المؤمنين مائة ألف ألف جريب غامرة من صحراء كذا، وإن شئت زدتك منها.
(٢) السيد.
(٣) جاء في القاموس: كُراز كغُرَاب ورُمَّان: القارورة، أو كوز ضيق الرأس.
(٤) شكل العرب المحاربين في هذه الصورة على انتظام تام في هجومهم ولباسهم، وهو أشبه شيء بلباس الأتراك: سروال (بنطلون) واسع، وعليه شبه معطف (جاكتة)، عليه حزام، وعلى الرأس عمامة لُفَّتْ على قلنسوة مخروطية الشكل. وربما كان هذا اللباس شائعًا عندهم بين حربيين وغيرهم، على أنهم كان منهم كثيرون يَتَزَيَّون بلباس الإسبانيين، حتى بعض الخاصة، ومنهم محمد بن مردنيش: صاحب شرق الأندلس.
(٥) وقد بدأ ضعف الدولة الإسلامية الشرقية بأمهات الخلفاء الأجنبيات وتدخُّلهن في أعمال الدولة؛ فكانت أم المستعين العباسي صقلية، وأم المهتدي رومية، وأم المقتدر تركية، وكانت كثيرة التدخل في أمور الخلافة مدة ولدها، وكانت تجتمع بالوزراء والقواد في مجلسها، وتصدر إليهم أوامرها من غير علم من ولدها. ومن هذا الوقت أخذت أمور الدولة في الضعف، واستبد الأتراك بها.
(٦) بقي (بالياء) بن مخلد بن يزيد حافظ الأندلس في عصر بني أمية.
(٧) أحمد بن عبد الله بن عمر.
(٨) أبو القاسم أصبغ بن محمد بن السمح، توفي سنة ٤٢٦.
(٩) عمر بن عبد الرحمن القرطبي، توفي سنة ٤٥٨.
(١٠) المعروف بالحكيم، توفي سنة ٣٣١.
(١١) هو أبو الحسن مختار بن شهر الرعيني، كان بصيرًا بالهندسة والنجوم، متقدمًا في اللغة والحديث والتاريخ، شاعرًا أديبًا.
(١٢) محمد بن أحمد بن الليث، توفي سنة ٤٠٥.
(١٣) أبو بكر يحيى بن أحمد، أحد تلاميذ أبي القاسم مسلمة بن أحمد، توفي بطليطلة سنة ٤٤٧.
(١٤) ابن مفرج النباتي (هو أبو العباس أحمد بن محمد، ويُعرَف بابن الرومية، من أهل إشبيلية ومن أعيان علمائها وأكابر فضلائها، وصل سنة ٦١٣ إلى ديار مصر، وأقام بها وبالشام والعراق زمنًا، ولما وصل من المغرب إلى الإسكندرية سمع به السلطان الملك العادل أبو بكر بن أيوب، وبلغه فضله فاستدعاه إلى القاهرة وأكرمه، وعرض عليه الإقامة عنده فأبى، ولكن أقام لديه مدة ثم قصد الحجاز حاجًّا، وعاد إلى المغرب فأقام بإشبيلية.
(١٥) (وبعضهم ينسبه إلى جابر بن حيان الطوسي إمام المشرق في علم الكيمياء، الذي مات سنة ١٦٠ﻫ.)
(١٦) ذاع أمر الطيران في الفرنجة، فحذا حذو ابن فرناس دانت DANTE في أواخر القرن الخامس عشر، ثم أوليفييه OLIVIER في القرن السادس عشر، وعملا لهما أجنحة من الريش، ولكن كان حظهما مثل حظه في سقوطهما وإصابتهما برضوض وكسور. وأتى من بعدهما كثيرون فكروا في الطيران بواسطة آلات مدار حركتها على قوة ساعدي الشخص الطائر، ولكنها لم تنتج نتيجة صالحة. وفي سنة ١٨٩٣ اخترع الألماني لليانتال آلة طار بها بضع مئات من الأمتار، وانتهت تجاربه بموته سنة ١٨٩٦. وفي نهاية القرن التاسع عشر وصل العالم الرياضي لانجلي الأمريكاني إلى اختراع طيارة من الألومنيوم يحركها جهاز خفيف، فطارت تسعمائة متر بسرعة ١١ مترًا في الثانية. ثم وصل تانان وريشييه إلى اختراع طيارة صغيرة وزنها ٣٣ كيلوجرامًا، فكانت تطير بسرعة ١٨ مترًا في الثانية.
ومن ثم أخذ هذا الاختراع العجيب يزيد في صلاحيته حتى وصل إلى ما تراه الآن من نقل الركاب بين إنكلترا وفرنسا، وبين هذه وبلاد المغرب، ونقل البريد بين مصر وبغداد بطريقة منتظمة، ثم في قطع المسافات الشاسعة بين أوربا وأمريكا، وبينها وبين مصر والهند وأستراليا. ولا بد أن يأتي يوم تكون فيه حركة الطيارات في الهواء كحركة العربات على وجه الأرض.
وقد صنع الألمان أخيرًا منطادًا كبيرًا اسمه (جراف زبلن) تزيد مساحته عن مائة ألف قدم مكعب، وقد جُهِّزَ بخمسة محركات قوة، كل واحد منها ٥٥٠ حصانًا، وقطع المسافة بين ألمانيا ونيويورك ببضائع كثيرة وبثلاثين راكبًا بسرعة ١٣٥ كيلومترًا في الساعة.
والآن يعمل الإنجليز بالونًا يسع أكثر من مائة راكب، اسمه (ر١٠٠)، طوله ٧٢٤ قدمًا، وبه قاعات لنوم المسافرين، وفيه قاعة تسع خمسين نفسًا يجلسون فيها للطعام ولتمضية الوقت فيما يسليهم في سفرهم من قراءة وغيرها، وهو يقطع ١٨٠ ميلًا في الساعة.
(١٧) هو أحمد بن ابراهيم، من أهل القيروان، وهو ممن لقي إسحاق بن سليمان وصحبه وأخذ عنه.
(١٨) هو أبو مسلم عمر بن أحمد بن خلدون الحضرمي، من أشراف أهل إشبيلية، توفي سنة ٤٤٩.
(١٩) أبو الحكم بن غلندو الطبيب، وُلِد بإشبيلية ونشأ بها، وكان أديبًا شاعرًا، توفي بمراكش حوالي سنة ٥٩٠.
(٢٠) يونس الحراني هذا ورد من المشرق، وكان في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن الأموي، واشتهر بقرطبة.
(٢١) كان بغدادي الأصل، ودخل إفريقية في دولة زيادة الله بن الأغلب التميمي.
(٢٢) رحل إلى المشرق في دولة الناصر سنة ٣٣٠، وأقام به زمانًا لدراسة الطب، ثم انصرف إلى الأندلس في دولة المستنصر بالله سنة ٣٥١، فأسكنه مدينة الزهراء واستخلصه لنفسه.
(٢٣) والد الوزير ابن إسحاق، وهو مسيحي النِّحْلة، وكان مقيمًا بقرطبة في أيام الأمير عبد الله الأموي.
(٢٤) كان في صدر دولة عبد الرحمن الناصر لدين الله، واستوزره، ووُلِّيَ الولايات والعمالات.
(٢٥) سليمان بن حسان، كان في أيام هشام المؤيد بالله، وتوفي مدة المستنصر.
(٢٦) ابن حفصون (أحمد بن حكم)، كان طبيبًا فيلسوفًا حاذقًا، اتصل بالحكم المستنصر بالله، وتوفي في مدته.
(٢٧) لعله الزهراوي، وهو أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي المتوفى سنة ٥٠٠، كان أشهر أطباء زمانه، وهو أول من ألَّف في فن الولادة، ورسم في كتابه آلات الجراحة، و(الزهري) أيضًا هو الفقيه الطبيب أبو بكر بن أبي الحسن الزهري الإشبيلي، وخدم بالطب للسيد أبي علي بن عبد المؤمن صاحب إشبيلية وهو في أيام المستنصر.
(٢٨) ومن ذلك قيامة الأزهر على السيد جمال الدين الأفغاني عند حضوره إلى مصر في النصف الثاني من القرن المنصرم وتدريسه به أصول المنطق والفلسفة، فإنهم رموه بالزندقة، وقصدوه بأنواع الإهانة، مما اضطر معه إلى ترك الأزهر والاقتصار على التدريس في بيته لمن أراد من تلاميذه الذين كان منهم قادة الإصلاح الفكري والسياسي في القطر، ومنهم الإمام الشيخ محمد عبده.
(٢٩) لابن الفرضي كتاب لتاريخ علماء الأندلس إلى آخر القرن الرابع في جملة مجلدات، نشر الأستاذ كوديرا منها الجزأين السابع والثامن في مدريد سنة ١٨٩٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤