الرسالة الثالثة

من مدريد إلى قرطبة

يسير القطار بين هاتين المدينتين في مسافة طولها ٤٤٠ كيلومترًا يقطعها في عشر ساعات في صحراء (تقريبًا) كالتي بين مدريد وسان سباستيان، وترى على القطار لوحًا مكتوبًا عليه (الأندلس) يعني أنه يتجه إلى جهة الجنوب، وهو أشبه شيء بقطر الفروع الصغيرة عندنا قبل أن يدخل عليها الإصلاح، ومن ذلك تعرف أن السفر إلى هذه الجهة ليس فيه أي ضمان لراحة الركاب، وليست فيه بطبيعة الحال عربات للنوم ولا للأكل. وكنا كلما سرنا إلى الجنوب رأينا الأراضي الزراعية تكثر في هذا الوادي كما تكثر الأبنية التي هي أشبه شيء بالدساكر والقرى الصغيرة، وبعض هذه الأبنية باللبن النيء، وكذلك تكثر حول المباني الآبار وعليها دلاؤها بشكلها المعروف، وقد ترى بعض السواقي المعينة تدور بحصان وعصاميرها (قواديسها) من الزنك، ومن حولها بعض مزارع الخضر، وقد ترى بجوار القرى أُتُن الآجُرِّ (قمائن الطوب الأحمر) المحروق بالفحم. ولشدة الحرارة في هذه الجهات ترى في كل محطة من محطات الأندلس بعض الرجال أو البنات أو الصبيان يحملون قللًا وينادون (اغوا اغوا)، وهم أشبه شيء بتلك الصبية التي تراها في بعض المحطات عندنا مدة الصيف وهم يصرخون (ماياه)، أو ما تراه في صحراء الحجاز من العرب الذي يحملون القرب الصغيرة وهو ينادون (الما الما). وفي الساعة السابعة مساءً وصلنا إلى قرطبة.

(١) قرطبة

كانت قرطبة قبل العرب عاصمة الأندلس مدة القوط، فلما لحق موسى بن نصير بمولاه طارق بن زياد بعد الفتح أقام بها، ودعا فيها للوليد بن عبد الملك الخليفة بدمشق، وما زالت حتى استولى عليها عبد الرحمن الداخل الأموي في مبدأ الخلافة العباسية بالمشرق وجعلها عاصمة ملكه، وأصبحت منذ زمن عبد الرحمن الناصر مقر الخلافة العربية بإسبانيا. وكانت مدة الأمويين على أكبر ما تكون من العظمة، وكان قصر الخلافة في مبدأ أمره جنوبي المسجد الجامع الذي بناه عبد الرحمن الداخل، وهو باقٍ إلى الآن في مكانه لا في رُوائه وفخامته، وهو مقر البطريق الكاثوليكي في هذه الجهة. وقد بنى الخلفاء الأمويون قصور الزهراء خارج المدينة، وكانت أشبه شيء (بفرساي) بجوار باريس، لكل خليفة منهم زيادة فيها، إلا أن تعسُّف المرابطين وأيدي السلبة من جهة، ويد الغاصب وحِدَّة التعصب الديني في محو كل أثر للمسلمين بعد استيلائهم على المدينة من جهة أخرى، وكونها كانت بعيدة عن حصون قرطبة، وقد يتحصن فيها المسلمون إذا هجموا على قرطبة من جهة ثالثة، كل ذلك قضى على هذه القصور التي وصلت من فخامة الملك وأُبَّهة الخلافة العربية إلى ما لم يصل إليه شيء في بابها. وقد كانت تبلغ في طولها ثلاثين كيلومترًا بغياضها ورياضها مما وصفه مؤرخو العرب بما لم تبلغه قصور الخلافة الشرقية في دمشق وبغداد.

وقد بلغت هذه المدينة من العظمة ما سبقت به بغداد في ثروتها وحضارتها وعلومها وفنونها، ولم يبقَ لنا من آثارها غير تلك الذكرى المؤلمة، وذلك الجامع البديع الذي لا يبلغ فخامته شيء آخَر في بابه.

(٢) المسجد الجامع بقرطبة

دخلنا المسجد من باب المنارة، وهو بابه العمومي الكبير النحاسي، ويبلغ طوله نحو ثمانية أمتار، وارتفاعه نحو عشرين مترًا، ووجهة البناء من الرخام المنقوش بنقوش عربية عجيبة أشبه شيء بالمخرم (الدنتلا)، وفي وسطها وأعلاها كتابة عربية لم أستطع قراءتها، ويتكون هذا الباب من ظاهره من قطع نحاسية طولها ١٥ سنتيمترًا في عرض نصفها تقريبًا، وهي مثمَّنة الشكل، بعضها عمودي على الآخر، وقد رسم القوم في وسط القطعة القائمة صلبانًا بعد استيلائهم على المدينة وتحويلهم المسجد إلى كنيسة. والمنارة في الزاوية القبلية الجنوبية من المسجد، وهي مربعة الشكل، وطول كل ضلع منها ١٢ مترًا، وارتفاعها ٩٣ مترًا، وهي خمس طبقات، في كل طبقة عدد كبير من الأجراس، وقد استوجب هذا التغيير الجديد بعض تغيير في نظامها القديم، ومن دون باب المنارة صحن المسجد، وهو فناء واسع في وسطه إلى الآن ثلاث برك: واحدة في الوسط وهي الكبرى، واثنتان صغيرتان: واحدة عن يمينها، وأخرى عن يسارها، وكانت ثلاثتها للوضوء، ومن دون الصحن المسجد.
figure
أحد أبواب مسجد قرطبة.

وقد كان مكان هذا المسجد كنيسة، فأراد عبد الرحمن الداخل أن يبتني مكانها مسجدًا لحسن موقعها، فعوَّض النصارى عنها أرضًا واسعة وأموالًا جمة (وذلك بشهادة مؤرخي الإفرنج)، ثم بنى مكانها مسجده هذا على نظام المسجد النبوي الذي بناه الوليد بن عبد الملك بالمدينة المنورة (وهذا ما تدلني عليه مشاهدتي الشخصية).

وقد وصل خلط بعض الناس في أفكارهم وأقوالهم إلى الحد الذي لا يتفق مع الحقائق البدهية؛ فإن بعضهم نسب إلى عبد الرحمن الداخل أنه إنما بنى مسجده بقرطبة بهذه الفخامة حتى يستغني الناس بحجهم إليه عن حجهم إلى الكعبة المكرمة بمكة، وهذه تهمة أقل ما فيها أن الرجل بعمله هذا يهدم ركنًا من أركان الإسلام الخمسة، وحاشا لله أن يهم مثله بذلك، فما علمنا عليه من سوء.

ولو علمت أنهم ذكروا أن مالكًا رضي الله عنه سأل بعض حجاج الأندلس عن عبد الرحمن الداخل فقالوا له: «يأكل الشعير، ويلبس الصوف، ويجاهد في سبيل الله. فقال: ليت عندنا في حرم الله مثله.» وكانت هذه القولة سبب محنة مالك من العباسيين؛ لعرفت أن مثل عبد الرحمن الداخل لا يأتي بما اتهمه به هؤلاء الذين لا يعون ما يقولون.

وقد اتهموا في ذلك الوقت وبهذه التهمة نفسها المنصور العباسي، حينما بنى القبة الخضراء ببغداد.

وقد كان المنصور وعبد الرحمن الداخل في زمن واحد، وهما تهمتان كاذبتان لا تنطبقان على صفتي هذين الرجلين العظيمين اللذين إنما كانا يستمدان سلطانهما من قوة الإسلام ومن شرائع الإسلام، في وقت كان منار الإسلام فيه أصله ثابت في الأرض وفرعه في السماء، وفيه كان أمراء المسلمين وخلفاؤهم يأتون إلى مكة سعيًا على الأقدام من بلادهم لحج بيت الله تقربًا إليه وزلفى.

وقد زاد في المسجد الحكم بن الداخل والخلفاء من بعده، ولكن الزيادة الكبرى التي بُنِيت في الجهة الشمالية بناها المنصور بن أبي عامر الذي توفي سنة ٣٩٣، وزير الخليفة هشام المؤيد، وهذه الزيادة تبلغ ثلثي المسجد الأصليِّ، وتتميز عنه بأن ميول خطوط أعمدتها تتجه من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي، أما ميول أعمدة المسجد الأصلي فتتجه من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي، وعلى كل حال إن الذي ينظر إلى الأصل والزيادة يرى الفارق بينهما عظيمًا؛ لأن الأصل بُنِيَ على نظام وافٍ، وفيه من الأعمال الفنية ما يقف أمامه الإنسان مبهوتًا معجبًا، ولا سيما أعمال القِبلة والمحراب والمقصورة التي كانت من المسجد الأصليِّ مكان مقصورة الرسول من مسجده، ولا بد أنها كانت مكان صلاة الخلفاء؛ لأن بابها تجاه الباب الذي كان يدخل منه الخليفة إلى المسجد قبالة باب القصر، وهي بناء مربع مرتفع مزين بنقوش جصية بديعة جدًّا، وعليها كتابات قرآنية وأحاديث نبوية، وقد وُشِيَتْ من داخلها بالأدهنة الذهبية، ولها فتحات على المسجد، وقد كان القسوس بنوا حولها حائطًا تحجبها عن الأنظار بعد أخذهم المدينة، ولكنهم فطنوا إلى هذه الأغلاط التي ارتكبوها فجنوا بها على التاريخ، وهم الآن يزيلونها ويرجعونها إلى أصلها.
figure
منارة مسجد قرطبة وقد وضعوا فيها النواقيس بعد تحويله إلى كنيسة.
أما القبلة فهي شيء لا يصل إليه وصف الواصف ولا مبالغة الناعت، ويحيط بها الآن (درابزين) من الحديد ليمنع الناس عنها، وقد قدَّرْتُها بسبعة أمتار طولًا في ١٢ مترًا ارتفاعًا، وفي وسطها المحراب، وكل هذه الوجهة صنعت من الفسيفساء١ الصغيرة جدًّا والدقيقة في صناعتها؛ فهي من قطع رخامية من ألوان كثيرة يدخلها قطع صدفية وذهبية، وقد صيغت بشكل ينشأ عنه صورة فذة في بابها: إذا نظرت إليها من جهة اليمين رأيت مناظر غير التي تراها من جهة الشمال؛ وذلك بسبب انعكاس الضوء فيها بحال تستهوي الألباب وتسلب العقول بجلال هذه الصناعة العربية. وفي دائرة القبلة والمحراب كتابات كوفية قرآنية كثيرة مما تراه عادة على أمثالها، وعن يمين القبلة ويسارها بابان لغرفتين صغيرتين: إحداهما لتَعَبُّدِ الإمام، والثانية لوضع لوازم المنبر الذي لا يوجد له الآن أثر. والمحراب واسع من داخله، وتعلوه قطعة واحدة من الرخام المقعر تكون سقفه، وكانوا يضعون فيه المصحف العثماني الكريم،٢ حتى إذا ما استولى الموحدون على الأندلس نقله عبد المؤمن بن علي إلى مراكش في سنة ٥٥٢ﻫ، واحتفل بدخوله إلى المغرب أيما احتفال.

وما زال هذا المصحف الشريف بخزائن ملوك المغرب في مركز إجلال وإعظام، وكانوا يستصحبونه في غزواتهم، حتى ذهب أبو الحسن المريني ملك فاس إلى إفريقية (تونس)، وبينما كان عائدًا في سنة ٧٥٠ﻫ من طريق البحر غرقت مراكبه، ومن جملة ما غرق فيها هذا المصحف الشريف، وهذا آخر العهد به.

وقد كان القوم أيضًا أقاموا على القبلة حائطًا ليحجبوها عن أنظار الناس، إلى أن أُزِيلت في القرن الثامن عشر. وطول المسجد من الشمال إلى الجنوب ١٧٥ مترًا، ومن الشرق إلى الغرب ١٣٤ مترًا، وارتفاعه يصل إلى ٢٠ مترًا، وقد كان بالمسجد ١٢٩٣ عمودًا كلها من الرخام، وتيجانها منقوشة بنقوش مختلفة، وكانت قُبَّته قائمة على ٣٦٥ عمودًا من المرمر، ولما أراد القوم بناء كنيستهم من داخله أزالوا القبة، وأزالوا معها ١٦٣ عمودًا من وسط الجامع، وأزالوا ما كان عليها من الحنايا، وبنوا فيها كنيستهم التي تراها الآن وسط المسجد إلى جهة الشمال الغربي، وامتدادها من الشمال إلى الجنوب، وهي منه كالنقطة السوداء في وجه الحسناء، لا أدري أتجملها أم تخملها. وقد كانوا أزالوا بعض سقف المسجد الجميل المنقوش بالأطلية الجميلة واللِّيقة الذهبية، ولا يزال موجودًا منه جزء عظيم جهة القبلة، ووضعوا بدله حنايا أقاموا عليها عقود كنيستهم، وقد عوَّلُوا الآن على رفعها وإعادة باقي السقف إلى ما كان عليه، مع إزالة جميع المصليات الصغيرة التي أقاموها في محيط المسجد، وهم الآن يزيلون البناء الذي كان يحجب الأبواب الخارجية، وقد ظهرت منها ثلاثة أبواب مما يقابل القصر، وهي غاية في كمال نقشها وفخامة منظرها. وكان بالمسجد مصابيح من الفضة الخالصة، بقي إلى أوائل القرن الثامن عشر منها أربعمائة مصباح أخذها الفرنسيون عند دخولهم قرطبة في زمن نابليون الأول.
figure
قبلة المسجد الجامع بقرطبة وهي آية الآيات في الصناعة العربية.
وقد رأيت بين أعمدة الجامع عمودًا إلى الغرب يكاد يكون بين المسجد الأصلي وزيادة ابن أبي عامر، وقد حُفِرتْ في جانبه الخلفي صورة صغيرة للمسيح مصلوبًا، ومن دونها في الحائط مثال رأس إنسان وضعه القسوس، ويقولون إنه مثال هذا الرجل الذي رسم تلك الصورة بظفره، وكان ينافق بإظهار إسلامه، وقد خطر ببالي أن هذا وأمثاله كانوا من أسباب هزائم المسلمين في حروبهم مع القوط وغيرهم؛ لأنهم كانوا يرشدون العدو إلى مواضع الضعف فيهم.٣
وإذا ذهبنا إلى أبعد من هذا، وجدنا أمثال هذا الرجل سبب مصائب الإسلام حتى في صدره الأول؛ لأن اليهود الذين أسلموا ولم يحسن إسلامهم كانوا من المنافقين الذين كانوا شرًّا على الإسلام من أعدائه، وقد حاربوا الإسلام بمادة الإسلام وهو في قوته؛ فأخذوا يبتدعون الأحاديث المكذوبة، ويتقوَّلون على النبي ما لم يَقُلْهُ، حتى اختلط الصحيح بالفاسد، وما زال الأمر كذلك حتى قام رجال الدين في العصر الثاني٤ وطهروا الأحاديث من الدخيل والموضوع، وأبانوا صحيحها من ضعيفها بالسند الصحيح الذي لم تَحُمْ حوله أية شبهة. ثم انظر إلى مَن لم يحسن إسلامهم من الفرس تَرَهُم حاربوا الدين بمادة الدين من جهة أخرى، فابتدعوا التشيع، وغالوا في بعض مذاهبه حتى أخرجوها عن الإسلامية، ثم حكَّمُوا أهواءهم في فهم أصول العقائد، وغالوا في ذلك حتى أخرجوا به الدين عن جوهره، وإذا تركنا الدين إلى جانب ونظرنا في أعمال هؤلاء الدخلاء السياسيين في الدولة العثمانية مثلًا، وليس عهدها ببعيد، نرى أن هؤلاء الذين كانوا من دم صربي أو بلغاري أو روسي أو رومي وبِيعوا في الأستانة مماليك وأسلموا، وتربوا في حضانة كبار القوم حتى وصلوا إلى مكانة عالية وأصبح منهم الوزراء والرؤساء القواد، يميلون بطبيعتهم إلى خدمة جنسيتهم الأولى، وقد تستعملهم دولهم الأصلية لمساعدتها ضد هذه الدولة التي نشَئوا في عزتها، وكانوا لا يزالون يعيشون في نعمتها هؤلاء كانوا سبب هزائم الدولة في كثير من حروبها، وكانوا علة فساد سياستها وضعف ثروتها، حتى كاد يتلاشى أمرها لولا أن أسعفها الله بالكماليين أعانهم الله على ما فيه خير بلادهم.

ولو عرفنا أنه قد كان بقرطبة غير هذا المسجد الجامع العظيم ما يقرب من ألفي مسجد، وعرفنا أن المساجد كانت ولا تزال في الدول الإسلامية تُستعمَل مدارس للعلوم المختلفة، كما هو الشأن إلى الآن في الحرمين الشريفين بمكة والمدينة، والأزهر بمصر، والمسجد الجامع ببغداد، والمسجد الأموي بدمشق، وجامع الزيتون بتونس، ومسجد الكتبية بمراكش، وجامعي السلطان أحمد والسلطان محمد بالأستانة، ومسجد عمر بالقدس أمكننا أن نتخيل ما كانت عليه قرطبة زمن العرب، من تبريزها في العلم والعرفان إلى ما لم تلحقها فيه مدينة أخرى إسلامية أو غير إسلامية في عصرها، وأمكننا من جهة ثانية أن نقدِّر عدد سكانها في ذلك الوقت بما كان يزيد كثيرًا على نصف مليون نفس.

أما قرطبة الحالية فشكل مبانيها يكاد يكون عربيًّا صرفًا؛ فقد ترى الباب الخارجي من بيوتها ومن دونه دهليز يوصل إلى حوش يفصل بينهما باب من حديد في الغالب، وفي الحوش ترى روضة جميلة زُرِعَ فيها شيء من نخل الأريكا أو الكنتيا (من أنواع النخل الفرنجي) يتخللها شيء من الأزهار والورود، وترى في وسط هذه الروضة بركة من الرخام عالية أو واطئة عن أرض الحوش، صغيرة أو كبيرة بنسبة سعته أو ضيقه، وقد ذكَّرني هذا الحوش بالقاعات الحورانية التي كانت بمصر وقضى عليها النظام البنائي الفرنجي الجديد، ولا يزال شيء منها في البيوت القديمة بجهة سوق السلاح.
figure
منظر من الحنايا والعقود الفنية البديعة بمسجد قرطبة.

وعلى يمين الداخل من الحوش ترى قاعة الاستقبال، وهي أشبه شيء بالمنظرة (المندرة) في ديارنا القديمة، وفي ناحية منها السلم إلى الطبقة الثانية، والنساء يجلسن في هذا الحوش في شيء من الحجاب، وحيطان الطبقة الأرضية على الخصوص في دائرها القاشاني المختلف الألوان والأشكال إلى ارتفاع مترين، ولا شك أن هذه الرسوم بقيت في المدينة من مدة العرب، وقد بقي فيها بيت واحد قديم يقرب من المسجد الجامع لم أتمكن من زيارته لعدم وجود أصحابه فيه. ونساء المدينة محتشمات يغلب عليهنَّ الحياء وغض البصر، فإذا أبصرت واحدة منهن ترى عينيها متجهة إلى الأرض ولا تحدق بنظرها فيك مطلقًا، ومع أن بلادهم حارة جدًّا لا تكاد ترى صدورهن عارية، ومن غريب ما رأيت في هذه المدينة أن سيدة كانت تتوارى وراء باب منزلها الخارجي، وتنظر إلى الخارج من فرجة صغيرة بين مصراعي الباب، كما كنت تشاهد في الأحياء الوطنية عندنا إلى عهد قريب.

وقرطبة على الشاطئ الغربي من نهر الوادي الكبير، وهو في زمن شرقه لا ترى فيه غير مياه راكدة هنا وهناك على هيئة برك صغيرة تحيط بها أراضٍ جافة إلى الشاطئ الآخر، وفي قبالة المسجد قنطرة طولها ٢٤٠ مترًا بناها يوليوس قيصر قبل الميلاد بخمسين سنة، وقد جددها السمح بن مالك عامل عمر بن عبد العزيز على الأندلس، ورمَّها الإسبانيون، وهي تنتهي من الطرف الشرقي بقلعة من بناء العرب، لها برجان عظيمان، تسمى إلى الآن بالقلعة الحرة، وفيها نقطة للشرطة، وفي وسط النهر قريبًا من القنطرة أربعة أبنية كانت طواحين مائية مدة العرب، وقريبًا منها أبنية قديمة على الشاطئ كانت في مدتهم حمامات نهرية، وقد بنى القوم بين المسجد والقنطرة عمودًا عاليًا عليه تمثال القديس روفائيل حامي المدينة؛ لذلك تجد المدينة — وسكانها ثمانون ألف نفس — أكثرُ من نصف رجالهم اسمهم روفائيل، كما هو الحال في طنطا وما إليها من البلاد في كثرة اسم السيد. وشوارع المدينة ضيقة، والشارع الذي به القهوات والمحال التجارية واسع بعض السعة، ينشرون في أعلاه خيمة تظله من شمس النهار، ذكَّرتْني بالخان الخليلي والصاغة عندنا، لولا أنها هنا أوسع وأنظف، وأكبر شوارعها هو شارع الكروية، وأترك لك الحرية في قراءته بالتحريف الذي تريده، وعرضه على ما أرى ٢٠ مترًا، منها عشرة لإفريزه من كل جهة، وفيه بعض الفنادق والمقاهي، ومبانيه في الغالب على الطراز الفرنجي. أما الأبنية التي هي خارج المدينة فليست بهذا ولا بذاك، ويكثر حولها التراب ممتدًّا إلى مسافة بعيدة؛ مما يدل على أنها قد كان فيها أبنية قديمة محتها يد الأيام.
figure
منظر داخلي لمسجد قرطبة الجامع.

ويظهر أن رجال المدينة عملهم قليل؛ لذلك ترى القهوات على كثرتها عامرة غاصَّة بهم طول النهار، وأظن أنَّ لشدة الحرارة أثرًا في ذلك، ويكفي أن أقول لك إني كنت أدخل الحمام ثلاث مرات في اليوم في هذه المدينة، وكنت أجلس في الماء البارد أكثر من ساعتين وقت الظهر، وفي هذه الأثناء تذكرت المرحوم داود باشا مدير قنا لعهد إسماعيل، وكان يقضي غالب يومه في فنطاس ممتلئ بالماء، ومن دونه الختم، فإذا كانت أوراق هامة أتى رئيس الكتاب (الباشكاتب) وختمها وانصرف إلى سبيله. ولكن أين قرطبة من قنا، وفيها أشجارها ونيلها يلطِّفان من شدة حرارتها كثيرًا، ولو بعد غروب الشمس؟!

ولقد كانت قرطبة مدة العرب جنة زاهرة وروضة ناضرة لنظام الريِّ الذي أحدثه العرب فيها، فلما استولى الفرنجة عليها سنة ١٢٣٦م طردوا أهلها وجعلوها حصنًا على حدود مملكتهم، وأهملوا ترعها وخلجانها وكذلك الماء الذي سيَّره العرب إلى قصورها من الجبل، وبذلك أصبحت هذه المروج النضرة قفارًا لا يسكنها إلا البوم، ولا تسير فيها إلا لفحات السموم، وكان حالها كحال العراق الذي بعد أن كان جنة الأرض مدة العباسيين، أصبح بعد أن دالت دولتهم صحراء لا نبات فيها ولا زرع، ولا يسكنه الآن غير قوم من العرب الرُّحَل الذين ينتقلون وراء الكلأ، ولا شك أن البلاد تسعد أو تشقى بأهلها.

وإذا نظرتَ إلى البلاد وجدْتَها
تشقى كما تشقى الرجال وتسعد
وقد كانت الدولة العلية في أواخر أيامها فكَّرت في وضع نظام للري في العراق، واستقدمت المستر ويلكوكس المهندس الشهير بمصر، فذهب إلى العراق ومعه نخبة من المهندسين المصريين، وبعد أن وضعوا له النظام الوافي بالغرض أهملته الدولة لكثرة النفقات التي تلزمه، ولا تزال رسومه على ما أظن في خزانة وزارة النافعة التركية (الأشغال) إلى الآن.
figure
منظر داخلي للمسجد الجامع بقرطبة.

ولعل الإنجليز — وقد اصطلحوا مع الترك على الموصل، وصار العراق بحدوده الجديدة في أمن من الأتراك ومناوآتهم — يعملون على تنفيذ هذا المشروع، فيُرجِعوا إلى العراق شبابه الأول ورفاهيته المنصرمة، وإن كانت هذه الأمنية مما يهدد مصر في كيانها الزراعي (وهو كل شيء فيها)، وخاصة بعد المكوار، ومشروع جبل الأولياء، ونظام الري الذي يراد عمله في سواكن والأريترة، وهو المتفق عليه بين الإنجليز وإيطاليا على حساب الحبشة ومصر، فلا يعلم إلا اللهُ ما يكون مخبوءًا وراء هذا كله لبلادنا. وعلى كل حال ليس للفلاح المصري مخلِّص من كل هذه المهددات لحياته غير اهتمامه وعنايته بترقية زراعته حتى ترجع إليها شهرتها الأولى، ويرتفع القطن المصري إلى رتبته التي كانت له منذ عشرين سنة، بحيث لا يعدله قطن أية بلاد أخرى.

وبهذا وحده تخلص مصر من جميع المهددات التي تكتنفها من الشرق والغرب والشمال والجنوب، ولا سيما إذا لاحظنا أن الأتراك يفكرون في تعميم زراعة القطن في بلادهم، وأظنهم قد تفرغوا الآن للعمل في أمورهم الداخلية بعد صَفُّوا كل مسائلهم الخارجية أو جلَّها، وأن الإسبان من جهة أخرى يزاولون التجارب العديدة لزراعة القطن في بلادهم، وقد استقدموا فعلًا بعض المصريين لهذه الغاية، ومكان هذه التجارب الآن بلنسية وإشبيلية، ولكنهم لم ينجحوا فيها لشدة حرارة إسبانيا صيفًا، وللتغيرات الجوية الفجائية التي قد تنتقل بالجو من حار إلى بارد من غير وسط بينهما في جنوب هذه البلاد، وخاصة أيام شهر سبتمبر.

(٣) للعبرة والتاريخ

في زمن الوليد بن عبد الملك دخل العرب أرض إسبانيا فاتحين سنة ٩٢ﻫ تحت إمرة طارق بن زياد، ثم موسى بن نصير، ولما انتهوا بالفتح إلى برشلونة عاد موسى ومعه طارق إلى المغرب، ومنها إلى المشرق بعد أن ولَّى عليها ابنه عبد العزيز بن موسى بن نصير، وما زالت تختلف عليها الولاة من قِبَل بني أمية ويُخْطَب لهم فيها إلى أن انتهى حكمهم في المشرق سنة ١٣٢ﻫ. ومن خيرة ولاتهم عبد العزيز بن موسى، وخير ما يُذْكَر به أنه أمر بإنشاء ديوان للتوفيق بين الشريعة السمحة ومصالح البلاد المُفتَتَحة، وتشجيعه أمر الهجرة إلى الأندلس، فوفد عليه الناس من الشام والعراق ومصر وغيرها، وكان يُقْطِع كل قبيل جهة من الجهات، فكان ذلك سببًا في انتشار علوم المشرق وصناعاته في البلاد التي وفدوا إليها. ومن خيرة عُمَّالهم أيضًا السمح بن مالك الذي نهض بالفتح إلى جنوب فرنسا، ومات في حصاره لمدينة طولوشة (تولوز)، ثم عنبسة بن سحيم الذي غزا قرقشونة ونيما وغيرهما من جنوب فرنسا، ومات عنبسة في كمين عُمِلَ له في جبال (البرينات)، ومنهم عبد الرحمن الغافقي الذي بدأ بإصلاح ما فسد من داخلية البلاد، ثم سار إلى (أرل)، وبعد استيلائه عليها سار إلى (بوردو) فاستولى عليها، ثم قصد (ليون) (وبيزانسون) فأخذهما عنوة، ثم قصد (تور) فدخلها فاتحًا، وهنالك قابلته جيوش النصرانية تحت إمرة قارلة (شارل مارتل)؛ فارتد عبد الرحمن بجيشه إلى السهول التي كانت بين تور وبواتييه، وفيها حصلت بينهم وقائع يشيب منها الوِلدان، كاد النصر يكون فيها للعرب لولا أن صرخ صارخ في جيوشهم بأن الإفرنج قصدوا إلى معسكراتهم وفيها غنائمهم، وقد يكون شارل لبعد نظره ومعرفته بالوتر الحساس في أصحاب هذه الغنائم التي كانت تملأ السهل والوعر، أرسل إلى معسكرهم فرقة من عسكره لإزعاجهم على ما ملكت أيديهم من الغنائم والأسلاب، أو أن (البشكنس) قاموا بهذه الخدعة؛ حتى إذا انهزمت العرب خلصوا من سلطانهم عليهم، وعلى كل حال قد حصل الاضطراب في صفوفهم لهذه الفكرة، وبينما كان أميرهم عبد الرحمن يحاول تثبيتهم وتشجيعهم على القتال أصابه سهم فخَرَّ منه قتيلًا، وهنالك وقع الخلل في صفوفهم واختلف أمراؤهم، فكانت النتيجة أن صمموا على العودة إلى إسبانيا مكتفين بما في أيديهم من الغنائم، وفي أثناء الليل تركوا معسكرهم إلى الجنوب مُثْقَلِينَ بما كان في أيديهم من الأموال، والعدو يضرب في أقفيتهم إلى أن أجلاهم عن أرض فرنسا.
figure
الواجهة الخارجية لأحد أبواب مسجد قرطبة.

وعندي أن الغافقي رحمه الله — مع شجاعته الخارقة للعادة، وإقدامه الذي لا مثيل له، ومعرفته بأساليب الحرب في جميع أبوابها — كان يجب عليه قبل أن يتغلغل بجيوشه في فرنسا أن يُنفِّذ رأي ابن زياد في تطهير جزيرة إسبانيا وجبال (البرينات) إلى منحدراتها الشمالية من القوط (والنفاريين) وغيرهم من العناصر التي كانت لا تزال تسكن شمال الجزيرة، حتى كان يُخلِّص بلاده من هذا العدو الذي كان يسكن منه بين البشرة والأدمة، هذا العدو الذي كان في حال ضعفه يعمل لكل هيجان في داخلية البلاد ينتهي غالبًا بإضرام نار الثورة بين قبيل وآخر من العرب، بل كان يصل تدخله إلى بيت الإمارة نفسه، فكان يُفسِد بين الأخ وأخيه، والابن وأبيه، وكانت أيام العرب كلها في الأندلس جذوة نار لا تطفأ، (وبركان) اضطرابات لا يهدأ، حتى إذا صلب ريشه وقوي ساعده، أخذ يحارب العرب إلى أن أخرجهم من ديارهم بحال من القسوة لا تزال تبكي لها الإنسانية.

نعم، كان يجب على الغافقي بعد دخوله بلاد فرنسا أن يجعل حدًّا لسيل هجومه قبل أن يقف الضعف الطبيعي لهذا السيل عند الحد الذي انقلب به الفتح خذلانًا، والنصر هزيمة. نعم، كان يجب أن يكون لتيار انتصارات هذا الفتح العظيم حدٌّ في بلاد قد اتسعت سهولها، وتشعبت حُزُونها، وانفسحت أمامه فيها دائرة الفتح، وامتد فيها خط هجومه إلى حد لم يمكنه مع قلة أساليب المواصلات في ذلك العهد أن يحكم أمره فيه، أو يدلي برأيه إلى طرفيه، ومسافة ما بينهما لا تقل عن مائتي كيلومتر (بين ليون والأطلنطي)، وكان خيرًا له ألا يتَّعدى نهر (الدوردوني DORDOGNE) بل يجعله حده الشمالي من جهة الغرب، وهو على الدوام فَيَّاضٌ بمائه؛ لعِظَم المد الذي يأتيه من الأقيانوس، وأن يجعل جبال (الأوفرني AUVERGNE) حدًّا آخر إلى مدينة ليون، ويكون نهر الرون حده الشرقي إلى خليج مرسيليا التي كانت في يده، وهنالك كان يقف في خط دفاعٍ، أوله من الشرق مدينة ليون، وآخِره من الغرب مدينة رويان ROYAN. وبذلك كان يتفرغ لتنظيم البلاد التي افتتحها ويقسمها بين الفاتحين؛ فيشغل كل قبيل منهم بالدفاع عن ملكه، وربما كان عدوه يحسن سكوته على وقف هذا الهجوم الذي كاد يطير بألباب أوربا هلعًا، ويفتت من أحشائها جزعًا، وكان شارل مارتيل يرضى بأن يقبع في بيته ولا يُلقي بنفسه في لهيب تلك المخاطر التي كانت تتجسم أمامه هاويتها، وبذلك كانت تصبح في يد العرب مملكة تبلغ ألفًا ومائتي كيلومتر طولًا، في نحو نصفها عرضًا، ليس فيها دخيل يُنْغِص عليهم حياتهم بسعاياته، أو عدو يهدم كيانهم بخياناته.

ولقد أحدث انكسار العرب في فرنسا قيام الثورات الداخلية في إسبانيا الإسلامية؛ فكانت الحروب الأهلية مستمرة أحيانًا بين المضرية واليمنية، أو بين الشامية والمضرية، أو بين البربر والمولَّدين، أو بين جملة عناصر منهم ضد آخرين، مما كان سببًا في الاضطراب العام في الأندلس، قُتِلَ فيه آلاف من المسلمين وغير واحد من أمرائهم.

وقد ساعد على تأجج نيران هذه الثورات ضعف الخلافة الأموية في الشرق، ثم سقوطها بين يدي العباسيين بعد واقعة الزاب التي انتصرت فيها المسودة شيعة بني العباس على جيوش مروان الثاني سنة ١٣٢ﻫ، وهنالك أمعن السفاح أول خلفائهم في تقتيل الأمويين، فهرب منهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك حتى دخل الأندلس في سنة ١٣٨، وكان عاملها من قبل العباسيين عبد الرحمن الفهري وكان من المضرية، وهو الأمير العشرون من يوم دخل العرب إسبانيا، وفي أول ولايته اختلفت اليمنية مع المضرية على الولاية، ثم اتفقوا على أن يكون من المضرية أمير لسنة ومن اليمنية أمير لسنة أخرى، فلما انتهت سنة المضرية لم يقبل الفهري النزول عن الولاية، وصادف ذلك ظهور عبد الرحمن الأموي، فانتصرت له شيعة الأمويين مع اليمنية، وانضم إليهم البربر مع زنانة؛ لأنهم أخواله، وسار إلى قرطبة واستولى عليها، ومن ثَمَّ أخذت أطراف البلاد تبايعه واحدًا بعد الآخر، وكان يثور عليه بعضها بتحريض الإسبانيين، فكان يقضي على الثورة بهِمَّةٍ لا تعرف الملل، ثم انتصر على جيوش شارلمان التي حاربته مساعدةً للعباسيين، كما انتصر على الجيوش التي كانت تأتي لحربه من المغرب، وانتهى أمر البلاد كلها لطاعته، فشيَّد بها ملكًا أمويًّا جديدًا، وصل من أبهة السلطان وجلال المجد إلى أرقى ما وصلت إليه العظمة الإسلامية ثروة وجاهًا وعلمًا وصناعة وزراعة وتجارة، ومن آثاره بقرطبة مسجدها العظيم، وقصرها الفخم الذي لا يزال قائمًا تجاه المسجد، وكان يدعو أولًا للمنصور العباسي الذي كان يسميه بصقر قريش، حتى إذا توطد سلطانه قطع ذكره من الخطبة، واستمر له الحكم المطلق في البلاد حتى توفي رحمه الله سنة ١٧٣، بعد أن عَهِد بالإمارة إلى ولده هشام.
figure
المقصورة بجامع قرطبة.
وكان هشام أميرًا جليلًا عادلًا ذهب مذهب العُمَرَيْنِ في سيرته، فكان يسير في الطرقات ليسمع بنفسه مظالم الناس، ويرسل بمن يَثِقُ به إلى البلاد ليتعرف أحوال عماله، وكان يأخذهم بما يقع منهم من ظلم أو حَيف، وهو الذي أدخل مذهب مالك إلى الأندلس، وكانوا على مذهب الأوزاعي،٥ وكان يفسح لعلماء الدين في مجلسه، وزاد في المسجد الذي بناه أبوه، وجدَّد بناء قنطرة الوادي الكبير، وكان رحمه الله وَرِعًا، تقيًّا، رفيقًا على الناس رحيمًا بهم، شديدًا على أعدائه، ومات في سنة ١٨٨ﻫ بعد أن أوصى بالخلافة إلى ولده الحكم، وكان يحب الصيد ويميل إلى شيء من اللهو ويجالس الشعراء والأدباء والمغنين، ويعمل لأبهة الملك بكل وسائل البذخ، فأكثر من المماليك الصقالبة، ومن ربط الخيل المُطَهَّمة، ومَنَعَ تدخُّل علماء الدين في حكومته، فشنعوا عليه سيرته، وكثرت الثورات بتحريضهم، ووصل بغضهم له إلى أن ساعدوا الإسبان على قيامهم ضده، وأثاروا عليه أهل قرطبة، ولكنه شمَّر عن ساعد الجد، وقبض على كل ثورة بيد من حديد، وما زال في عزة الملك وفخامة السلطان حتى مات سنة ٢٠٦ﻫ، وخَلَفه ابنه عبد الرحمن الأوسط بعهد منه، وكان لطيف الجانب، عظيم الخلق، ميَّالًا للعلم والعلماء على اختلاف مذاهبهم، وكانت أيامه خيرًا على البلاد، هدأت فيها الثورات الداخلية، وزادت الموارد المالية، غير أن النورمانديين هاجموا إسبانيا في أواخر حكمه، ونهبوا بعض البلاد التي في الشمال الغربي، وقامت بعض الثورات من النفاريين، وزادت فتنهم في مدة ولده محمد، ثم الظافر بن محمد، وعبد الله بن محمد الذين حكموا من سنة ٢٣٨ إلى سنة ٣٠٠ﻫ. وكان يزيد في خطر ذلك كله تلك الاضطرابات الداخلية، وبالجملة قد كانت البلاد في مدتهم كلها شعلة نار، فكلما أطفَئُوها في جهة تأجَّج لهيبها في جهة أخرى، حتى نهكت الحرب قوى الجند وأنفدت ثروة البلاد.

ولما مات عبد الله تولى بعده حفيده عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط، وكان الناس يرقبون سقوط الأموية لقيام الثورة في كل جهة واشتداد سعيرها، خصوصًا في جهة الشمال، فأخذ الناصر يعمل ليله ونهاره في تجهيز الجيوش وإرسالها غربًا وجنوبًا لإطفاء فتنة العرب، وشمالًا لمحارب النفاريين، وهو في أثناء ذلك يدبر أمور مملكته بعقل راجح وفكر ثاقب، وقد أقام في إطفاء نيران هذه الثورات والوقوف في وجه أعدائه من القشتاليين والبشكنس (البسك) وغيرهم نحو خمس عشرة سنة.

وهنالك أسعفته المقادير باختلاف ملوك الإسبان وإعلانهم الحرب بعضهم على بعض، وأقاموا في تيار هذه القطيعة مدة طويلة انطفأت فيها جميع الثورات الداخلية في الأندلس بحسن سياسة الناصر، وتمشَّتِ الطمأنينة بين جميع العناصر الإسلامية، وحينئذٍ أخذ الناصر في ترتيب داخلية بلاده، وفي تنظيم جيوشه البرية والبحرية وما يقتضيه ذلك من زيادة الأسطول وتقويته، ومن ابتداع الأنظمة التي ترقَّت بها مملكته في جميع مرافقها، وظهرت بها مواهبه للناس من أقصى البلاد إلى أدناها، فثبتت محبة الناس له لعدله وفضله وكرمه وعلمه وشجاعته وسياسته، ووقعت هيبته من قلوبهم ليقظته وحزمه، ولِمَا كان فيه من المزايا التي اتَّصَفَ بها حكمه بأنه الحكم الذهبي للعرب في الأندلس.

ولما بلغ الناصر في سنة ٣١٧ﻫ أن مؤنسًا الخادم قتل الخليفة المقتدر بالله العباسي بالمشرق لم يُضِعْ هذه الفرصة، فأعلن خلافته في الأندلس بمنشور أرسله إلى جميع الجهات٦ وتَسَمَّى بأمير المؤمنين، وضُرِبَتِ السكة باسمه، وخُطِبَ له على منابر البلاد بهذا اللقب الجديد الذي بقي في خلفائه إلى سقوط الأموية في الأندلس.
وفي سنة ٣٢٥ ابتدأ في بناية الزهراء، ولما تمت جعلها مركزًا للخلافة٧ وجر إليها الماء من جبال قرطبة في أقنية من البناء مرفوعة على حنايا تختلف ارتفاعًا وانخفاضًا حسب طبيعة الأرض (وترى شكلها بالقاهرة بين النيل والقلعة من عمل محمد علي ويسمونها العيون).

وكان لعبد الرحمن من جلال الملك وعظيم السلطان وهيبة الذات وسامي الصفات ما زاد في أبهة الخلافة وفخامتها؛ فامتدت إليه أيدي الملوك شرقًا وغربًا طلبًا للتقرب منه، ووفدت عليه ملوك قَشتالة وأرغون وليون التماسًا لرضاه، وقدَّموا إليه طاعتهم وتبعيتهم، وهاداه ملوك القسطنطينية ومصر، وأرسلوا إليه وفودهم ليوثِّقوا له دعائم محبتهم ومتين صلتهم.

وأرسل إليه قسطنطين كتابًا رقيقًا يوثِّق به علاقته معه، ويستفزه فيه إلى حرب العباسيين حتى يسترد منهم ملك آبائه؛ وغرضه بذلك أن يضرب المسلمين بعضهم ببعض حتى يُضعِفهم بسلاحهم ويقوى هو بضعفهم، ويكون في أمن منهم جميعًا، ولكن دسيسته لم تَجُزْ على الناصر، بل أرسل إليه هدية نظير هديته مع سفير خاص. وبعد ثلاثين سنة من حكمه ظهرت معالم الثروة في جميع طبقات البلاد، وكان دخل المملكة في هذه الآونة حسب ما أجمعت عليه التواريخ العربية المعتَبرة ما نكتفي منه بذكر ما جاء في تاريخ ابن خلدون، قال:
خَلَّف الناصر في بيوت الأموال خمسة آلاف ألف ألف ألف، مكررة ثلاث مرات،٨ ثم قال: وقال غير واحد إنه كان يقسِّم الجباية أثلاثًا: ثلثًا للجند، وثلثًا للبناء، وثلثًا مدَّخرًا. وكانت جباية الأندلس يومئذٍ من الكور والقرى ثمانية وأربعمائة ألف وخمسة آلاف ألف دينار، ومن السوق والمستخلص خمسة وستين وسبعمائة ألف دينار، وأما الأخماس والغنائم العظيمة فلا يحصيها ديوان.

وكان الناصر عالمًا فاضلًا عاقلًا، بعيد النظر في السياسة والرياسة، شجاعًا ناهضًا برقي أمته، ساهرًا على شئون دولته، وكان كاتبًا، شاعرًا، كبير الهمة، عظيمًا في نفسه، كبيرًا في كرمه، ومن قوله:

ما كل شيء فقدت إلا
عوضني الله عنه شيَّا
إني إذا ما منعت خيري
تباعد الخير من يديَّا
من لي نعمة عليه
فإنها نعمة عليَّا

وهذا لعمري أرقى درجات الكرم والشجاعة، وقد وُجِد بخطه أن أيام سروره كانت أربعة عشر يومًا، وهي يوم كذا من سنة كذا، ويوم كذا من سنة كذا … إلخ، وتوفي الناصر رحمه الله سنة ٣٥٠ﻫ بعد أن حكم خمسين سنة، وطَّد فيها دعائم الخلافة لولده الحَكَم الذي تولَّى بعده بعهده إليه، فثارت عليه ملوك النصرانية لأول حكمه، فحاربهم بنفسه واستولى على بعض بلادهم، فطلبوا صلحه على ما كانوا عليه مدة والده، ثم أرسل جيوشه إلى نواحٍ كثيرة شمالًا وغربًا؛ ففتحوا مدنًا كثيرة، منها قُلُمْرية من بلاد (البشكنس)، وأرسل أسطوله بقيادة أمير البحر عبد الرحمن بن رماحس إلى مياه البرتغال، فطرد النورمان الذين كانوا يهددون السواحل، وأجاز جيوشه إلى العدوة، فنزل له الأدارسة عن ملكهم فيها وفي الريف.

وكان الحَكَم يميل إلى السلم حتى يتفرغ لنشر المعارف والعلوم المختلفة بين أمته، وكان يرسل إلى جميع البلاد شرقًا وغربًا لشراء الكتب النادرة بأثمان عالية، حتى جمع منها مبلغًا عظيمًا، وكوَّن دار كتبه الشهيرة التي كان بها ٤٠٠ ألف مجلد من ثمين الكتب، وكانت على أغلبها تعليقات بخَطِّهِ، ورتب لها الخدم والمغيِّرين تحت إمرة مولاه تليد الخصي، وكانت لخزانة دواوينه وحدها أربعة وأربعون فهرسًا، وفي كل فهرس عشرون ورقة ليس فيها إلا أسماء الدواوين. وأقام الحَكَم للعلم والعلماء سوقًا نافقة جُلِبَتْ إليها بضاعته من كل قطر، واستمرت هذه المكتبة ينتفع بها الناس عامة إلى أن تبددت وبيعت بأرخص الأثمان مدة الفتنة زمن هشام المؤيد، بأمر الحاجب واضح مولى المنصور بن أبي عامر.

وكان الحكم عالمًا فاضلًا، بل كان أعلم بني أمية على الإطلاق؛ لأن والده استحضر لتثقيفه جلة العلماء من الشرق والغرب، ومنهم أبو علي القالي، وكانت كل لذته في مطالعاته ومذاكراته مع العلماء في مختلف العلوم، وفي مدته نَفَقَتْ سوق العلم والعلماء الذين أصبحوا مشمولين بإحسانه وفي حمايته وتحت رعايته، فظهرت آثارهم في كل علم، وتُرْجِمَتْ كتبهم إلى الإسبانية أو اللاتينية، وكان كثير من أهل البلاد المسلمين واليهود على علم تام بهما، فينقلون العلوم الأجنبية إلى العربية، كما كان كثير من القوط وغيرهم يعرفون لغة العرب لضرورة علاقتهم بالدولة العربية في محرراتهم ومعاهداتهم وسفاراتهم وغير ذلك، فكانوا يترجمون الكتب العربية إلى لغاتهم؛ ومن هنا انتشرت مدنية المسلمين وعلومهم في ممالك الفرنجة، فاستفادوا منها كل الفائدة، وجعلوها مصدرًا أخذوا عنه علومهم المختلفة من رياضية، وفلسفية، وزراعية، وفلكية، وطبية، وكيمياوية. وبالجملة إنَّ الدولة الأندلسية العربية كانت واسطة في نقل علوم العرب من شرقية وغربية إلى أوربا، فبنوا من مادتها شيئًا كثيرًا من علومهم ومدنيتهم الحالية، ولولا ذلك لكانت أوربا متأخرة بمئات من السنين عن الدرجة العلمية التي وصلت إليها الآن.

وما زال الحَكَم في أبهة الخلافة وجلالها تتقرب الملوك إليه بالهدايا والسفارة من كل جهة حتى مات سنة ٣٦٦ بعِلَّة الفالج، وكان الأمر من بَعْدِه لأخيه المغيرة، فعمل وزيره المصحفي بتدبير الحاجب بن أبي عامر على الفتك به من ليلته، وبذلك خلا الجو لهشام بن الحَكَم من السيدة صبح البشكنسية، التي كان لها الفضل في ترقية ابن أبي عامر وحظوته عند الحَكَم حتى وصل إلى درجة الوزارة. واجتهد ابن أبي عامر في أخذ البيعة له وهو لم يتجاوز سن العاشرة، وأصبح يعمل باسمه في رسوم الخلافة، وباستشارة والدته قضى على جميع مناوئيه وحاسديه من رجالات الدولة، وكان بدهائه يقتل بعضهم بسلاح بعض، حتى أصبح صاحبَ الحَوْل والطَّوْل والكلمة النافذة، وهنالك استبد بالسلطة وحجر على المؤيد في قصره بحيث لا يراه أحد، وأخذ يكوِّن لنفسه عصبية من جند البربر والصقالبة وغيرهم، وكان يقطع الألسنة عنه بكرمه وحسن إدارته وجميل سياسته، وتَسَمَّى بالمنصور، وأمر بأن يُحيَّا بتحية الملوك، وقد كثرت غزواته بحيث بلغت سبعًا وخمسين غزوة، وكان يقودها بنفسه، ويعود منها منتصرًا غانمًا، فيفيض على الناس مما أفاء الله عليه، فيأسرهم بإحسانه. وكان المنصور نصيرًا للعلم، محبًّا للعلماء، وكان يفسح لهم في مجلسه، وكان له يوم في الأسبوع للاجتماع بهم للمذاكرة في مختلف العلوم، بل كان يستصحب الكثيرين منهم في غزواته ويستأنس برأيهم، فكانوا يذيعون عنه دينه وورعه وعدله وفيضه وبره، ويتحدثون عنه بكل محمدة، ومن دهائه أنه أمر — سامحه الله — بحرق بعض كتب الفلسفة تقربًا للعامة، وكان ذلك يزيد في سلطانه ويؤكد من محبته في قلوب الناس.

وبنى المنصور الجهة الشمالية من الجامع الأموي بقرطبة، ثم قنطرة على الوادي الكبير وأخرى على نهر (شِنِيل)، وبنى قصر الزاهرة وجعله محل سلطانه وحكمه بعد أن جعله من الفخامة والجلالة لا نظير له، ووصلت جيوشه إلى قلب المغرب الأقصى بقيادة ولده عبد الملك، وخطب له على منابره.

وعلى الجملة قد كان المنصور بن أبي عامر من أكبر ملوك الأندلس سلطانًا وعلمًا وفضلًا وإحسانًا، وله في سياسته القِدْحُ المُعَلَّى، وفي إدارته المثل الأعلى، وكان الناس يتحدثون في جميع الجهات بما كان له من جميل النعوت، وعظيم الصفات، وبُعْد النظر، وثاقب الفكر، وكان كاتبًا شاعرًا بليغًا، ومن قوله:

رميت بنفسي هول كل عظيمة
وخاطرت والحر الكريم يخاطر
وما صاحبي إلا جنان مشيع
وأسمر خطي وأبيض باتر
فَسُدْتُ بنفسي أهل كل سيادة
وفاخرت حتى لم أجد مَن يفاخر

وما زال المنصور في أبهة الملك وعظيم السلطان حتى مات رحمه الله في غزوة من غزواته سنة ٣٩٢ﻫ، ودُفِن في مدينة سالم، وهي مدينة على الطريق الحديدي بين مجريط وسَرَقُسْطَة، وكُتِبَ على قبره:

آثاره تنبيك عن عزماته
حتى كأنك بالعِيَان تراه
تالله لا يأتي الزمان بمثله
أبدًا ولا يحمي الثغور سواه

وقام بأمر الحجابة بعده ولده عبد الملك بعهده إليه، فسار على سيرة أبيه من الحَجر على المؤيد واستبداده بأمور الملك، وكان شهمًا، كبير الهمة، عظيم الهيبة، ومات بعد سبع سنين من حكمه، كانت كلها خيرًا وبركة وغزوات موفَّقة.

وخلَفه أخوه عبد الرحمن بن محمد بن أبي عامر، فشدَّد في الحجر على المؤيد، وأرسل إليه مَن هدده في حياته، حتى كتب إليه عهده بالخلافة من بعده، وأشهد على ذلك رجالات الدولة، فأغضب ذلك بقية الأمويين من أحفاد الناصر، وأثار عوامل الحقد في قلوب المضرية ومَن كان من شيعتهم، فقاموا بالثورة وبايعوا محمد بن عبد الجبار بن الناصر ولقبوه بالمهدي، وكان عبد الرحمن بن أبي عامر في غزوة له، فلما سمع الخبر عاد أدراجه، فانصرف عنه الناس لسوء سيرته، وقتَلَه بعضُهم وذهب برأسه إلى المهدي، وبه طُوِيَتْ صحيفة آل بني عامر. ومن هذا الوقت اشتعلت نار الفتنة في الأندلس، وأصبحت الخلافة محل وثُوب كلِّ مَن استأنس بحق فيها من بقية الأمويين وبني حمود، حتى انتهى أمرها إلى هشام بن محمد الملقب بالمعتمد، وكان ضعيفًا فخلعه الجند في سنة ٤٢٢، ففر إلى لاردة وهلك فيها سنة ٤٢٨، وبه انقضى أمر الأموية من الغرب كما قُضِيَ عليها في الشرق. وبالجملة قد كانت بلاد الأندلس كلها فوضى من سنة ٤٠٠ إلى سنة ٤٢٣ﻫ.

ولقد تولى الخلافة في هذه المدة اليسيرة من الأمويين ستة، هم: المهدي، والمستعين، والمرتضي، والمستظهر، والمستكفي، والمعتمد. وتولاها من بني حمود في هذه المدة ثلاثة: علي، والقاسم، ويحيى. وانتهى أمر البلاد إلى تفرُّق الجماعة وانقسامها إلى ملوك الطوائف، وكان نفر من بني حمود لا يزالون يتقاتلون على الخلافة إلى سنة ٤٦٠، وربما كان منهم أربعة يحكمون في منطقة صغيرة لا تزيد على ثلاثين فرسخًا، كلهم يحمل لقب الخلافة، ومنهم: الواثق، والمتأيد، والمهدي، والمستعلي، حتى قال في ذلك ابن شرف القيرواني أبياته المشهورة:

مما يزهدني في أرض أندلس
ألقاب معتصم فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخًا صورة الأسد

وفي أثناء هذه الفتنة هدم الثائرون قصور الخلافة بما فيها الزهراء والزاهرة، ونهبوا ما فيها من الأموال والتحف التي لا يتيسر تقديرها، بل ولا تصوُّرها إلا لمن قرأ، وقال مؤرخو العرب عنها إنها من الحقائق التي هي أشبه شيء بالقصص منها بالتاريخ، وانتهت هذه الفتنة بمحو الخلافة، وبتقسيم البلاد بين ملوك الطوائف.

وكانت قرطبة كالكرة يتلقفها كل غالب، ثم آلت إلى حُكْم ابن جهور حينما انقسمت الأندلس إلى ملوك الطوائف، وما زالوا بها ولم يتعدوا لقب الوزارة حتى غلبهم عليها المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، وآل أمر ملوك الطوائف إلى أن كانوا يدفعون الجزية لملوك الإسبان خوفًا منهم على ما في أيديهم، وكلهم كان يخطب ود ابن عباد، ويطلب مرضاته لقوته ومنعته، ولم يطل ملكهم حتى تغلب عليه المرابطون في سنة ٤٨١، ثم الموحدون سنة ٥٣٩، وفي أواخر حكمهم أخذ ملوك الإسبان يستولون على أطراف البلاد ونواحيها، حتى لم يبقَ للعرب غير غرناطة التي بقيت في يد بني الأحمر إلى آخر القرن التاسع الهجري، ثم آل أمرهم إلى أن طردهم الإسبان من الأندلس، ممَّا تراه مفصَّلًا في مكان آخر.

هوامش

(١) أصلها كلمة يونانية فسيفوسيس PSEPHOSIS ولعل كلمة موازييك MOSAIQUE أصلها عربي «مزوق»، فاستعمل العرب الأولى واستعمل الإفرنج الثانية.
(٢) خلط الناس كثيرًا في نسبة بعض المصاحف إلى عثمان رضي الله عنه، وادَّعَى بعضهم أن المصحف الذي في جهته هو مصحف عثمان، وأضاف إلى هذه الدعوى دعوى أخرى، وهي أنه هو الذي على بعض صفحاته دم هذا الشهيد؛ فمن يتكلم عن مصحف قرطبة يقول إنه هو الذي كان يتلو فيه عثمان وقت أن قتله الثائرون، والذي بالشام يدَّعي هذه الدعوى، والذي بالأستانة أو العراق لا تقل دعواه عن ذلك، ولا تعدم مصر من يقول بهذا القول. والحاصل أن عثمان رضي الله عنه لما جمع القرآن كتب منه ستة مصاحف (أو عشرة) وأرسلها إلى الجهات الإسلامية، فكتبوا منها كثيرًا من المصاحف التي أذاعوها في بلادهم، وهذه كُتِب عنها غيرها وهكذا، ويمكن أن تحسب كل مصحف منها مصحفًا لعثمان، لا أنه نفسه المصحف الذي كان يقرأ فيه وقت أن اعتدت عليه تلك اليد الأثيمة وسال دمه على صفحاته في سنة ٣٥ﻫ، ولا أنه هو المصحف الذي أرسل به إلى بعض الجهات، على أنه لا يُعْقَل أن ينتقل مصحف عثمان الأصلي من المدينة إلى الأندلس؛ لبعد الشُّقَّةِ وعدم تيسر الطريق لنقله؛ لأن مصر في مدة الأمويين بالمغرب كانت تابعة للخليفة العباسي، ولا يُعْقَل أن كتابًا عظيمًا كهذا — يقول بعضهم عنه إن نقله ينوء بحمله رجلان — يخرج من مصر التي هي الطريق الوحيد إلى الأندلس، ولا يعلم به عاملها الذي لم يكن يسمح بخروج أثر كريم مثل هذا من بلاده، على أنه لا يبعد أن بعض تجار الكتب يستنسخ مصحفًا كبيرًا ويلون بعض صفحاته بدم، ويبيعه بهذه الدعوى الفاسدة؛ إكبارًا له، حتى يضاعف له في ثمنه، كما يفعل تجار الآثار في هذا العصر.
(٣) وبحسبك الحكاية الآتية برهانًا على ذلك:

قال المَقَّرِيُّ: قال ابن حيان: «إنه كان جالسًا مع المنصور بن أبي عامر في بعض الليالي، وكانت شديدة البرد والريح والمطر، فدعا بأحد الفرسان وقال له: انهض الآن إلى فج طالس وأقم فيه، فأول خاطر يخطر عليك سِقْهُ إليَّ. قال: فنهض الفارس وبقي في الفج في البرد والريح والمطر واقفًا على فرسه، إذ وقف عليه قرب الفجر شيخ هرم على حمار له ومعه آلة الحطب، فقال له الفارس: إلى أين تريد يا شيخ؟ فقال: وراء حطب. فقال الفارس في نفسه: هذا شيخ مسكين نهض إلى الجبل يريد حطبًا، فما عسى أن يريد المنصور منه؟ قال: فتركته فسار عني قليلًا، ثم فكرت في قول المنصور وخفت سطوته، فنهضت إلى الشيخ وقلت له: ارجع إلى مولانا المنصور. فقال له: وماذا عسى أن يريد المنصور من شيخ مثلي؟ سألتك بالله أن تتركني أذهب لطلب معيشتي. فقال له الفارس: لا أفعل. ثم قدم به على المنصور، ومثل بين يديه وهو جالس لم يَنَمْ ليلته تلك، فقال المنصور للصقالبة: فَتِّشُوهُ. ففتشوه فلم يجدوا معه شيئًا، فقال: فتشوا برذعة حماره. فوجدوا داخلها كتابًا من نصارى كانوا قد نزعوا إلى المنصور يخدمون عنده، إلى أصحابهم من النصارى ليضربوا ويقتلوا في إحدى النواحي المستوطنة، فلما انبلج الصبح أمر بإخراج أولئك النصارى، فضُرِبَتْ أعناقهم، وضُرِبَتْ عنق الشيخ معهم.

(٤) أول مَن دَوَّنَ الحديث الإمام مالك المتوفى سنة ١٧١ﻫ في مُوَطَّئِهِ، باقتراح وإرشاد الخليفة المنصور، وقيل ابن جريج المتوفى سنة ١٥٠ﻫ، ثم توالت بعد ذلك المجموعات الشهيرة بالكتب الستة الصحيحة، وهي: مجموعة البخاري التي جمع فيها ٩٢٠٠ حديث، وكان يحفظ مائة ألف حديث صحيحة، ومائتي ألف غير صحيحة، وتوفي سنة ٢٥٦ﻫ، ومجموعة مسلم المتوفى سنة ٢٦١ﻫ، ومجموعة أبي داود المتوفى سنة ٢٧٥ﻫ، ومجموعة ابن ماجه المتوفى سنة ٢٨٢ﻫ. ومجموعة النَّسَائِيِّ المتوفى سنة ٣٣٣ﻫ، ومجموعة الدَّارَقُطْنِيِّ المتوفى سنة ٣٨٥ﻫ، وإليهم ينتهي أمر الاجتهاد في الحديث.
(٥) أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي، إمام أهل الشام، وكان يسكن بيروت، وتوفي سنة ١٥٧.
(٦) منشور الخلافة:

أما بعد، فإنا أَحَقُّ مَن استوفى حقه، وأجدر مَن استكمل حظه، ولبس من كرامة الله ما ألبسه، للذي فضلنا الله به، وأظهر أثرتنا فيه، ورفع سلطاننا إليه، ويسَّرَ على أيدينا إدراكه، وسهَّلَ بدولتنا مرامه، وللذي أشاد في الآفاق من ذكرنا، وعلو أمرنا، وأعلن من رجاء العالمين بنا، وأعاد من انحرافهم إلينا، واستبشارهم بدولتنا، والحمد لله ولي النعمة والإنعام بما أنعم به، وأهل الفضل بما تفضَّل علينا فيه. وقد رأينا أن تكون الدعوة لنا بأمير المؤمنين، وخروج الكتب عنَّا وورودها علينا بذلك، إذ كل مَدعُوٍّ بهذا الاسم غيرنا منتحل له، ودخيل فيه، ومتَّسِم بما لا يستحقه، وعلمنا أن التمادي على ترك الواجب لنا من ذلك حق أضعناه، واسم ثابت أسقطناه، فَأْمُرِ الخطيب بموضعك أن يقول به، وأَجْرِ مخاطباتك لنا عليه إن شاء الله، والله المستعان.

(٧) ابتدأ الفرنجة يعترفون بفضل الخلافة العربية بالأندلس، فقد ورد بتلغراف الأهرام الخصوصية في ٢٤ يناير سنة ١٩٢٩ ما نصه:

إحياء ذكرى الخلافة في قرطبة. باريس في ٢٣ يناير سنة ١٩٢٩، ورد من مدريد أن جامعة قرطبة نظمت حفلات تقام بين ٢١ و٢٦ يناير بمناسبة ذكرى مرور ألف سنة على عهد الخلافة في قرطبة، وأن لجنة تنظيم هذه الحفلات مؤلَّفة من مستشرقِين مشاهير، في مقدمتهم جوليان ريبيرا، والأستاذ المستعرب ميجل آزين بلاكيوس، الذي نشر منذ بضع سنين كتابًا عن الرواية الإلهية التي هي تأليف دانتي ألجييري، أثار جدالًا شديدًا؛ إذ إن الموضوع الذي كتب فيه دانتي كان قد سبقه إليه أحد كتاب العرب قبل بضعة قرون.

ويقام في أسبوع هذه الحفلات في قرطبة معرض للفن العربي من عهد عبد الرحمن الثالث إلى عهد المنصور، وإقامة هذا المعرض تدل على تطور الأفكار في إسبانيا وتوسعها في الحرية والتسامح. وقد نشرت جريدة «صوت مدريد» مقالة افتتاحية قالت فيها: إن أسبوع هذه الحفلات لا يتناول ذكرى تنحصر في قرطبة؛ فإن عهد الخلافة لم يكن أزهر وأزهى عهد في تاريخ قرطبة وحدها، بل إن إسبانيا كلها كانت في ذلك الزمن في مقدمة المدنية.

(٨) لم يذكر ابن خلدون أكان ما تركه الناصر من الدنانير أم من الدراهم (وإن كان غيره قيَّدَها بالدينار)، فإذا كان من الدنانير (وقد يقدرون الدينار بنصف الجنيه المصري الحالي) فيكون ما تركه الناصر في خزائن الأموال ألفين وخمسمائة مليار من الجنيهات المصرية، وإذا كان من الدراهم — وكان الدينار في القرن الرابع الهجري يساوي تقريبًا ١٧ درهمًا — فيكون ما تركه الناصر نحو ثلاثمائة مليار من الجنيهات، وهو في كلتا الحالتين لا يتصوره العقل، وأظن أن هناك ألفًا مكررة، وأن ما أراد ابن خلدون أن يقول هو: ٥٠٠٠٠٠٠٠٠٠، فإذا كانت من الدنانير يكون ما خلَّفه الناصر مليارين ونصف مليار من الجنيهات المصرية، وإن كانت من الدراهم يكون ما تركه ثلاثمائة مليون جنيه، وهو ما يمكن أن يتصوره العقل.
غير أن من يَطَّلِع على ما ذكره ابن خلدون وغيره من وصف هدية ابن شهيد إلى الناصر — وكان من وزرائه — مما يدل على عظيم ثروة الرجل، يرى أن ثروة الدولة على هذا القياس ربما بلغت الحد الذي ذكره المؤرخون من العرب، ونحن نتخيل أنهم مبالغون فيها، وإليك بعض ما جاء في هذه الهدية:
٥٠٠ ألف مثقال من الذهب، وما قيمته خمسمائة ألف دينار من سبائك الفضة، و٤٠٠ رطل من التبر، و٤٠٠ رطل من العود العالي (لعلها القاقلي)، ومائة أوقية من المسك، ومائتا أوقية من العنبر، وثلاثمائة أوقية من الكافور، وثلاثون شَقَّة من الحرير المرقوم بالذهب كلباس الخلفاء، ومائة جلد سَمُّور، و٤٨ من الملاحف لكسوة الخيل من الحرير والذهب، وقرية قفل آلافًا من أمداد الزرع، ومن الصخر للبنيان ما اتفق عليه في عام واحد ثمانون ألف دينار (ولعل ذلك أيام اشتغال الناصر ببناء الزهراء)، وعشرون ألف عود من الخشب قيمتها خمسون ألف دينار، وغير ذلك من السرادقات، والبسط المختلفة الألوان، والسلاح، والنبال، والخيل المُطَهَّمة والبغال، والوصائف والمماليك والجواري، إلى آخِر ما قالوا! وكانت هذه الهدية سببًا لإبلاغ الناصر رِزقَ ابن شهيد إلى ٨٠ ألف دينار في السنة!
وقد قدَّر المؤرخ نيكلسون إيرادات الأندلس مدة الناصر بمبلغ ٦٢٤٥٠٠٠، وقدر ما كان في بيت المال سنة ٩٥١م بعشرين مليون جنيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤