الرسالة الرابعة

من قرطبة إلى إشبيلية

المسافة بين هاتين المدينتين ١٣١ كيلومترًا، يقطعها القطار في أكثر من أربع ساعات في طريق عامرة بالمزارع الواسعة يتخللها بعض خلجان الماء ويسمونها مما يلي قرطبة بالمرج، وتكثر في هذه الطريق القرى الكبيرة، على الرغم من كل هذا ترى الحر شديدًا، حتى إذا وصلت إلى إشبيلية وجدته أشد ولا يكاد يُحتمَل، خصوصًا من الظهر إلى ما بعد غروب الشمس.

(١) إشبيلية

والعرب تسميها حمص تشبيهًا لها بحمص الشرقية في عمرانها وحضارتها، وكانت في مدتهم أحسن مدنهم عمرانًا وثروة وعلمًا وصناعة، وخاصة في مدة المعتمد بن عباد؛ فقد كانت في زمنه عروس المدائن الأندلسية، والشمس التي تنبعث منها أشعة العظمة والثروة والفخامة إلى جزيرتها، وبالجملة كانت إشبيلية مدة ملوك الطوائف أوسع بلادهم ملكًا وأكبرها قوة، وهي الآن مدينة عظيمة جدًّا، بل هي أحسن مدينة في جنوب إسبانيا بعد مجريط، وعدد سكانها ١٥٠ ألف نفس، وهو أقل من نصف عددهم مدة العرب، ويغلب الشكل العربي في كثير من مبانيها، إلا أنها خالية في الغالب من الرياض الصغيرة التي تجدها بحالة عامة في بيوت قرطبة، وقد دخل على شكل بعض أبنيتها شيء كثير أو قليل من الرسوم الإفرنجية، وعلى كل حال هي مدينة لا تزال عربية إلى الآن وإلى الغد؛ لأنهم لو كانوا رأوا أن هذا الشكل غير مناسب لوضع المدينة ولكثرة حرارتها لاستبدلوا به غيره من زمن بعيد كما ترى في مدريد وبرشلونة.

وهناك قسم من أقسام إشبيلية لا يزال على ما كان عليه مدة العرب، وشوارعه ضيقة جدًّا لا تسع غير عربة واحدة تسير فيه، وإن قابلتها عربة أخرى فلا بد لإحداهما أن تتقهقر حتى تجد الثانية مخلصًا للمرور، وقد قررت بلدية المدينة الاحتفاظ بهذا القسم على حاله والامتناع عن إدخال أيِّ إصلاح عليه؛ إبقاءً على صورةٍ أصليةٍ للنظام العربي القديم، وفي هذا القسم دارٌ بنَتها الجمعية الإسبانية الأمريكانية على النظام العربي، وجعلوها مزارًا للسائحين، والحق أنها جميلة جدًّا في نظامها، وإن لم يكن فيها شيء من الفن.

وشوارع المدينة بوجه عام ضيقة، وكثيرًا ما ترى في أعلاها مظلات من نسيج القلاع لتحجب الشمس عن أرض الشارع وعن الدكاكين التي فيه، وترى المحال التجارية منتشرة هنا وهناك في شوارع المدينة، وبعضها منَعَتْ العربات من المرور فيه كما هو الحال في الخان الخليليِّ بالقاهرة، وأحسن هذه الشوارع وأكثرها حركة هي التي تتصل بميدان القديس فرديناند، وهو ميدان لا بأس به، زُرِعَتْ على محيطه الأشجار وفيه أكبر فنادق المدينة، ويقرب من هذا الميدان (الكاتدرائية)، وهي الكنيسة الجامعة التي بُنِيَتْ مكان المسجد الجامع الذي كان بهذه المدينة قبل استيلاء سان فرديناند عليها في سنة ١٢٤٨م، ويقرب من هذه الكنيسة القصر (الكازار) وهو من أفخم ما يرى الراءون، وبطبيعة الحال كان المسجد يتناسب معه فخامةً ورُواءً، ولم يبقَ منه غير صحنه ومناره.

وقد لجأتُ إلى هذه الكنيسة من شدة الحر، وقديمًا كان الناس يلجَئون إلى بيوت العبادة، فدخلت من بابها الغربي إلى صحن واسع في وسط بركة من الرخام كانت للوضوء، وهذا الباب على شكل باب مسجد قرطبة النحاسيِّ الكبير، لولا أن قطعه النحاسية القائمة مكتوب فيها بالعربي لفظ الجلالة بأوضاع مختلفة.

وفي زاوية الصحن الشرقية مما يتصل بالكنيسة تلك المنارة العظيمة التي يسمونها الآن (La Tour de Giralda)، وترجمتها منارة لعبة الهواء.

وهذه المنارة بُنِيَتْ على شكل منارة مسجد الكتبية بمراكش (أو أن منارة مسجد الكتبية بُنِيَتْ على شكلها، وهو الأصح)، وأمر ببنائهما السلطان المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن من الموحدين (وهو الرابع من ملوكهم) في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي، وكان في أعلاها أربع تفافيح كبيرة من النحاس غُلِّفَتْ بطبقة من الذهب، بلغت نفقاتها وحدها أكثر من مائة ألف دينار، فأزال القوم هذه التفافيح بعد استيلائهم على المدينة، وبنوا مكانها على الدائرة التي كان يدور عليها المؤذن أبراجًا للنواقيس، وضعوا فوقها تمثالًا ارتفاعه أربعة أمتار، وزنته ١٢٨٨ كيلوجرامًا، بحال يتحرك فيها مع الرياح حيث سارت، ومنها أتت تسميتها بلفظ جيرالدا (لعبة الهواء)، وهذه المنارة مربعة الشكل، وكل ضلع من أضلاعها من جهة القاعدة طوله ١٣٫٦٠ مترًا، وبناؤها من الطوب الأحمر، وسمك حوائطها متران ونصف متر، وفيها إلى أعلى كثير من الفتحات التي تسمح بنفاذ الهواء والنور إلى داخلها، وارتفاعها ٧٠ مترًا، وهو ما بقي من عمل العرب فيها، ويُصعَد إلى قمة المنارة بطريق مائل في محيطها من الداخل يسع فارسين يسيران أحدهما بجانب الآخر، وترى من أعلاها منظرًا جميلًا جدًّا للمدينة، وقد تثبت في سقف دائرة الصحن مما يلي المنارة قبالة باب الكنيسة الداخلي تمساح (يقال إنه هدية من ملوك مصر)، وسِنُّ فيل كبير، وعصا، ولجام، ويقولون إن التمساح رمز للتروي، والسن للقوة، والعصا للعدالة، واللجام للوازع النفساني الذي يقف بصاحبه عند حده! وهي وإن كانت ذات مغزى جميل، لم أفهم معنى لوضعها هنا.

دخلت الكنيسة الجامعة التي بُنِيَتْ مكان الجامع الذي يمكنك تقدير فخامته من شكل منارته، ومما كانت عليه في أول وضعها، وأول ما صادفني مصلى إلى جانب المنارة في صدره ناووس القديس فرديناند، وهو من الفضة الخالصة، وفيه نقوش جميلة جدًّا، وفي وسطه من جانبه الظاهر دائرة من الذهب شكلها بيضي، نُقِشت فيها صورة فرديناند على حصانه، وأمامه ملك العرب يقدِّم إليه مفاتيح المدينة! وإلى جانب هذا المصلى من اليمين قبر زوجه، وإلى اليسار قبر ابنته التي يُنْسَب إليها هدم المسجد وبناء هذه الكنيسة مكانه، وبجوار هذا المصلى غرفة وُضِعت فيها جواهر الملك وتاجه وسيفه، وفي جانب آخر من هذه الكنيسة قبر كرستوف كولومب الذي كان مصدر حياة إسبانيا التجارية وعظمتها الاستعمارية، وعلى قبره الرخامي أربعة تماثيل كبيرة من المرمر تحمل نعشه الرخامي على قدره الطبيعي، وهي تماثيل ملوك الممالك الأربع التي تألفت منها الوحدة الإسبانية، وهم: ملك قَشتالة، وملك أراغون، وملك ليون، وملك نافاريا. ولم يدهشني أن هؤلاء الملوك يحملون نعش هذا الرجل الذي كان على يده ظهور هذا العالم الجديد (أمريكا)، وأصبحت إحدى دوله المتحدة، وبين شفتيها كلمة إسعاد دول العالم وإشقائها، وقد تم لها الآن دور الظهور على جميع الأمم؛ بما لها من ثروة واسعة، وجاه عريض، وقوة هي قوة المال والعلم والاختراع؛ وذلك ببركة ما في بلادها من المواد الأولية من ذهب، وفضة، وحديد، ونحاس، وقصدير، وفحم، وبترول، وغير ذلك، ولا أدري هل تُقدِّر أمريكا هذا الرجل العظيم قدره وتخلد ذكره.
figure
«لا جيرالدا» وهي منارة المسجد الجامع بإشبيلية الذي جعلوه كنيسة.

وعلى كل حال هذه الكنيسة غاية في الفخامة، ولا بد أن يكون القوم قد أزالوا المسجد مع جلالته وعظيم فخامته، حتى يقضوا على كل فكرة تحوم حول رجوع المدينة إلى المسلمين، مما ترى فيه التعصب الديني ممثَّلًا كل التمثيل، على أن مسجدًا فخمًا كهذا لو بقي لكان فيه فائدة كبيرة للعلم والفن والتاريخ، كما هو شأن مسجد قرطبة الذي رجعوا فيه الآن إلى غسل الأغلاط التي ارتكبوها في ستر نقوشه وتغيير بعض معالمه.

وهنا أقول إن تحويل الكنائس إلى مساجد، أو المساجد إلى كنائس، يجرح قلوب المغلوبين بما تبقى ندبة التحامه طول الدهر، وتنتقل من الآباء إلى الأبناء، ومن الأجداد إلى الأحفاد. وأصل مصائب الدولة العثمانية وتحرش نصارى أوربا بها هو تحويلها كنيسة أيا صوفيا إلى مسجد، وإذا كانت المساجد كلها لله، والدين كله لله، فخير للناس أن يتركوا للناس حريتهم في تعبدهم، والإنجليز لم ينجحوا في استعمارهم إلا باتباعهم هذه الطريقة واحترامهم لعقائد المستعمرين، على أن لهم في مصر زلة لا يريد الشعب أن ينساها، وهي إطلاقهم الرصاص على الأزهر وقت الفتنة، كما أنه لا يريد أن ينسى لنابليون بونابرت ربطه الخيل في صحن الأزهر على أثر ثورتهم على الفرنسيين أيام احتلالهم لمصر.
figure
قاعة السفراء بإشبيلية.

(٢) الكازار (القصر)

الكازار أو القصر هو بناء كبير يُدخَل إليه من بهو واسع مسقوف، في وسطه صفان من أعمدة الرخام، وليس فيه شيء من الزخرفة ولا من الفن، وتنتهي من اليمين إلى دهليز يُوصِل إلى باب في يمينه، له حوش فيه بحيرة صغيرة من الرخام تحيط بها زهرية جميلة، ومن دونها قاعة عالية مربعة الشكل، كل ضلع منها عشرة أمتار، وارتفاعها نحو ١٥ مترًا، قامت عليها قبة من الخشب الجميل الصنع، وحوائطها منقوشة من أعلاها بنقوش جصية، فيها (مقرنصات) جميلة مختلفة الشكل، وفي أعلاها مناور متصلة بالجو مباشرة للنور والهواء، وفي كل جهة ثلاثة مناور، وفي ظني أن هذه القاعة كانت مكان انتظار الزوار.

وينتهي ذلك الدهليز بباب إلى حوش كبير، ومن جهته اليسرى باب عظيم من الخشب البديع الصنع، يبلغ ارتفاعه نحو ٨ أمتار، ووجهة هذا المدخل تبلغ ١٥ مترًا طولًا في ٢٥ مترًا ارتفاعًا، وكلها بالنقوش الجصية الجميلة، تتخللها الأدهنة المختلفة، وقد وُشِيت بالذهب مما جعل لها منظرًا هو نهاية الفخامة، وربما كانت هذه الوجهة فذة في بابها، نادرة في مثالها.

ومن وراء هذا الباب بهو بديع جدًّا، فيه كثير من النقوش المختلفة، وهو يفضي إلى حوش يكتنفه ممشى يحيط به أربعون عمودًا من الرخام تحمل حنايا يقوم عليها سقف الممشى، وهنا ترى النقوش الغريبة في السقف وحوائط الحوش، وتجد في أسفلها (وزرة) من القاشاني الجميل على ارتفاع نحو مترين، وفي هذا الحوش باب يؤدي إلى قاعة الاستقبال.

وقاعة الاستقبال — ويسمونها قاعة السفراء — مربعة الشكل، وارتفاعها نحو ٢٠ مترًا، وكل ضلع منها لا يقل عن ١٢ مترًا، قامت عليها قبة من الخشب البديع الصنع، من تحتها مناور في كل جهاتها، ومن دونها ثلاثة أطباق متصلة بالدور العلوي من القصر، وفي كل جهة من جهاتها ما عدا جهة الباب عمودان من المرمر يحملان مع الحائط الذي يليها مقصورة جميلة، ويحيط بهذه القاعة خلف هذه المقاصير بهو عظيم، والقاعة والقبة والأبهاء الثلاثة آيات من آيات الله في جلالها، وفخامتها، وبديع صنعتها، وجميل نقوشها الذهبية التي تتخللها الأدهنة الحمراء والزرقاء والخضراء، بما يقف أمامها الإنسان مبهوتًا، فبينا يدهشك هذا الجدار بعظمته، يجذبك الجدار الآخر بفخامته، فيستهويك الثالث بكمال جماله، فيستلفتك السقف ببديع مثاله. وبالجملة ليس في الإمكان أن يتخيل الجنان أو يصوِّر البيان مقدار ما في هذا المكان من العظمة والفخامة.

وهذا القصر على الشكل الذي بناه عليه العرب، خصوصًا في زمن ابن عباد، لولا أن مساحته الآن على نصف ما كان عليه في مدتهم؛ لأنه كان يتصل بمنارة الذهب الموجودة على نهر الوادي الكبير مما يلي (الجمرك) المَكْس، وبينهما الآن مبانٍ واسعة، وينسبون شيئًا من أبنيته الحالية إلى الملك (بترو) الأول الملقب بالقاسي، ولكنهم لم يحددوها لنا، وعلى كل حال إن هذا الملك استقدم عمالًا من العرب بنوا القسم الذي بناه في القصر، أو قاموا بالإصلاح الذي أتمه فيه، وذلك من سنة ١٣٥٠ إلى سنة ١٣٧٠م.

وقد حدث فيه إصلاح وترميم أيضًا في زمن فرديناند وإيزابلا، وفي سنة ١٦٢٤ أصلحه جميعه فليب السادس بوساطة فنانين من البقية التي بقيت في البلاد من العرب، وكان نصيبهم بعد ذلك أن طردهم من أرض إسبانيا بحال شنيعة؛ حتى تخلو البلاد من شيء اسمه عرب، وكان جزاؤهم جزاء سنمار بعد أن بنى للنعمان قصر الخورنق، فلما رآه من العظمة بمكان أمر بيده فقُطِعتْ حتى لا يبني مثله لغيره، ولكنه عوَّضه عنها بأموال جمة حفظت حياته وحياة أسرته، وهذا العمل وإن كان قاسيًا، عمل فردي وفيه شيء من العوض، أما عمل الإسبان فهو ضد أمة بتمامها، دعا إليه التعصب الديني الذي لا يعرف شفقة ولا رحمة!

والجهة الأخرى من مدخل القصر تنتهي إلى بستان عظيم جدًّا في نظامه وترتيبه، وبعضه عالٍ وهو للأزهار، وفيه بحيرة واسعة من الرخام طولها ٢٠ مترًا، وعرضها ١٥ مترًا، وعمقها ٣ أمتار، وكانت حمَّام الملك الخصوصي ويسمونها البركة.

أما البستان الواطئ فتنزل إليه بعدة درجات رخامية، وفيه من كل فاكهة زوجان، وبه باب في بناء القصر يُوصِل إلى بحيرة بالخافقي (الغافقي) في داخله، طولها نحو ٥٠ مترًا، وعرضها نحو ٨ أمتار، وهي حمَّام النساء. وقد أخبرني مرشدي أنها كانت تستحم فيها مائة غانية مرة واحدة مدة ملوك العرب، ولكنه لم يقل كم غادة كانت تستحم فيها من هذا الجنس اللطيف مدة ملوك الإسبان.

(٣) قصر بيلانوس

بدأ بناء هذا القصر الدون بدرو سنة ١٤٩٢، وأتمته ورثته في أزمان مختلفة، وهو الآن يملكه واحد من هذه الأسرة الشريفة، ويُدْخَل إليه بأجر زهيد.

ولقد كنت أود أن أكتب كلمة عن هذا القصر الفخم الذي وشيت جميع حوائطه الداخلية بالنقوش العربية، وبرزت سقوفه في حلتها المختلفة الألوان والأدهنة بحسن صناعتها التي تدهش الأبصار، لولا سبق زيارتي للقصر (الكازار) الذي لم يبقَ بعده كلمة لقائل، ولا وصف لواصف، على أني زرت في هذا القصر جملة قاعات وأبهاء فيها من النقوش المختلفة ما يدهش الأبصار، ولا سيما المكتب الخصوصي وقاعة الحكم، ولعلهم كانوا يقضون فيها على الناس، أيام كانت الأحكام على الشعوب البائسة بين شفاه الأمراء والرؤساء. وبالجملة هذا القصر آية من آيات الصناعة والفن، سواء أكان ذلك في نقوش حوائطه وسقوفه، أم في القاشاني الثمين الذي يكسو حوائطه إلى ارتفاع مترين تقريبًا، هذا كله في طبقته الأرضية، أما الطبقة العلوية فهي خاصة برب المنزل، ولا يُسْمَح بزيارتها لأحد.

وأهم شوارع المدينة من خارجها شارع البرادو، وهو على نظام البرادو في مدريد تقريبًا، ترى فيه كثيرًا من القهوات والمتنزهات التي يقصدها الناس في المساء أيام الصيف على الخصوص لقضاء شطر من الليل هناك في الهواء الخالص، وكثيرًا ما ترى الأسرة منهم تجلس إلى ناحية من المتنزه وتتناول عشاءها البسيط الذي أتت به معها. ومما أعجبني جدًّا أني أردت أن أدخل فيه قهوة جميلة مفتحة المنافذ من كل جهة، وبها تمثيل (بالخيالة)، فاعترضني الحارس بما فهمت منه أنها خاصة بالأسرات ولا يدخلها رجل بمفرده، فعدت وأنا معجب بهذا النوع من الحجاب الذي يُحفَظ به كيان الأسرات من جميع آفات المدنية المطلقة، والتي لا حد لها. وقد وجدت في هذه الجهة التين الشوكي يباع مقشورًا، وهو ما انتقدته لتعرُّضه للتراب والذباب، ويظهر أن المسائل الصحية غير معتنى بها في هذه البلاد؛ فقد رأيتهم يبيعون الفاكهة وكثيرًا ما تكون عاطبة وعفنة، وقد شاهدت غير مرة الخيل تجر العربات مع ظَلْعها وهزالها من غير شفقة ولا رحمة، كما رأيت في الصحراء أكثر من مرة رجلين يركبان حمارًا مهزولًا يكاد ينوء بحملهما!

وشارع البرادو ينتهي إلى (البارك)، وهو بستان عظيم كبير، جميل التنسيق والتحديق، وفيه أشجار الفلفل والبرتقال والنارنج والنخل المختلف الأنواع، مما لا يثمر بهذه البلاد، وإن أثمر فلا يتم نضجه، ويكثر الرش في هذه المدينة، وخصوصًا خارجها لإنامة التراب وقتل الحر الذي لا يزال مستمرًّا إلى الساعة العاشرة مساء.

وأهل هذه المدينة بصفة خاصة والأندلس بصفة عامة يستسلمون إلى التشاؤم والتفاؤل، وأظنهما من ميراث العرب، وقد ترى في أغلب الطنوف الجميلة جريدة من النخل على طولها لمنع تأثير العين، وهم يهتمون كثيرًا بأوراق اللوتوريات (النصيب).

وإشبيلية لها عيد في الأسبوع المقدس من كل سنة في (أبريل)، فتجد سكان جميع الجهات المحيطة بها يقصدونها زرافات بملابس مخصوصة بيضاء في الغالب، ومزركشة بالمقصبات وغيرها من التطاريز الحريرية الكثيرة الألوان، ويسيرون في الطريق بهيئة مواكب كبيرة حاملين صورة العذراء مجملة مذهبة، وهم يرقصون ويتغنون ويلعبون حتى يصلوا إلى الكاتدرائية (الكنيسة الكبرى)، وتستمر هذه الحركة ثلاثة أيام، وفي هذه الأثناء ترى لهم أسواقًا يقيمونها في هذا الفضاء الواسع الذي يكتنف (البرادو) من جميع أطرافه، وترى لهم في كل نقطة من هذه الجهة مساكن من خشب أو خيم مختلفة الأشكال والأوضاع، وترى في هذه المنطقة هنا وهناك مغاني ومراقص وأمكنة لمصارعة الثيران، وملاعب وملاهي مختلفة، والبرادو هو المركز العمومي للمراكب الكهربائية في المدينة.

ويقصد إشبيلية في ذلك الوقت آلاف الآلاف من سياح أوربا وأمريكا، فتكتظ بهم المدينة إلى درجةٍ لا يتيسر معها للإنسان المشي في شوارعها إلا بكل مشقة، وهم يحجزون مكان مبيتهم أو محل إقامتهم في الفنادق أو المساكن قبل هذا الوقت بشهرين أو أكثر، وهناك شركات تقوم بتجهيز كل ما فيه راحة السياح لهذه الزيارة في كل جهة من جهات أوربا.

وبلدية المدينة تعد الآن معرضًا خارجها لسنة ١٩٢٨، وبينه وبين (البارك) خليج من نهر الوادي الكبير، وهذا المعرض على قسمين: قسم إسبانيٌّ، وهو آية في فخامته، وشكله من جهة البستان نصف دائرة واسعة الأطراف آية في الجمال، ووجهتها كلها من الصناعة العربية البديعة المنقوشة بالذهب والألوان المختلفة، والتي أخذوها من الأشكال العربية الموجودة في (القصر) الكازار وغيره، وتكثر الأعمدة الرخامية في مداخل المعرض من هذه الوجهة، كما تكثر صناعة الفسيفساء فيما يلى هذا القوس العظيم. أما أشغال القاشاني التي عُمِلت منها القناطر التي على هذا الخليج من أراضيها وسلالمها ودرابزيناتها، فشيء من الإبداع يحار فيه وصف الواصف، وقد قام على طرفي هذا القوس مناران على شكل المآذن الإسلامية المربعة، وهذا القسم من داخله مقسَّم إلى أقسام كثيرة للمعروضات.

أما القسم الثاني فأمريكانيٌّ، وهو مركَّب من جملة مبانٍ منفصل بعضها عن بعض، وهو أيضًا من خارجه جميل المنظر وعلى النظام العربي.

ومن هذا ترى أن أثر هذه الصناعة البديعة لا يزال في هذه البلاد بحال تشرح الخاطر وتسر الناظر، وهو من الدقة بحيث يجود فيه هذا الفن كل الإجادة.

(٤) للعبرة والتاريخ

لما دالت دولة الأمويين والعامريين من قرطبة، واقتسمت الأندلسَ ملوكُ الطوائف، أخذوا يبنون لأنفسهم وهو في شباب دولهم مجدًا أثيلًا، وذكرًا جميلًا، بما كان لهم من علم وفضل وكرم، وكان في مقدمة بلادهم إشبيلية؛ لما كان فيها من واسع العمران، وناصع الحضارة، وجليل الإمارة في زمن بني عباد، الذين راجت سوق العلم والأدب في دولتهم، ولا سيما أيام المعتمد آخر ملوكهم، فقد كان أوسعهم حزمًا، وأكبرهم هِممًا، وأكثرهم كرمًا، وأعظمهم سلطانًا.

ولقد كان بعواصم الأندلس منتديات علمية يتداولون فيها العلوم المختلفة، وكان ملوكهم يعملون على نشرها في دوائر حكمهم، وكثيرًا ما كانوا يحتفلون في مجالسهم الخاصة بالعلم والعلماء، ويفيضون عليهم من نعمتهم، فكان إعزازهم للعلم من أكبر الأسباب التي دعت إلى نشره بين الناس على اختلاف طبقاتهم؛ لذلك كانت البلاد في مدتهم فيَّاضة برجالات العلم، غاصَّة بذوي الدراية والعرفان، وخصوصًا إشبيلية التي ظهر في أفقها كثيرون ممَّن ذاع فضلهم وعلمهم في المشرق والمغرب، وكانت ملوك الأندلس يستقدمون أكابر علماء المشرق ويعقدون لهم المجالس؛ للمناظرة مع علماء بلادهم، ويفيضون نعماءهم على المبرزين منهم، وكان أهل إشبيلية يشتغلون بالأدب خاصتهم وعامتهم، وكانت لهم منتديات يتذاكرونه فيها، وكانت لهم متنزهات يخرجون إليها في وقت راحتهم من عملهم، كما هو الحال في البلاد المتمدينة الآن، وكانوا يتبادلون فيها كل ما راق لهم من الحديث من قديم وحديث.

ومن ذلك أن عبد الجليل بن وهبون المرسي الشاعر أعدَّ نزهة لأصحابه بوادي إشبيلية، أقاموا فيها يومهم، حتى إذا دنت الشمس إلى الغروب هبَّ نسيم ضعيف غضَّنَ وجه الماء، فقال مرتجلًا:

حاكت الريح من الماء زرد

ثم قال لأصحابه: أجيزوا. فقال علي بن رباح:

أي درع لقتال لو جمد

وهذا من أرق ما أتت به البديهة، ومن أحسنه وأبلغه.

ومن أحسن بديهات العامة أن الوزير ابن عمار مرَّ على دكان قصَّاب، فقال له:

لحم سباط الخرفان مهزول

فأجابه القصَّاب من فوره:

يقول للمفلسين مَهْ زولوا

ومنها أن ابن عمار مر على دكان ابن جامع الصباغ، فأراد أن يعلم سرعة خاطره، وكشف عن ساعده قائلًا:

ما بين زندٍ وزند

فقال الصباغ من فوره:

ما بين وصل وصد

فعجب الوزير من حسن ارتجاله، وكان هذا أول التنويه باسمه.

ومن هذا نعلم أن الأدب في الأندلس لم يكن محصورًا في المشتغلين بصناعته، بل كاد يكون عامًّا بين الناس، وقد ورد في ياقوت عند كلامه على مدينة شلب ما نصه:

وسمعت ممن لا أحصي أنه قال: «قَلَّ أن ترى من أهلها مَن لا يقول شعرًا ولا يعاني الأدب، ولو مررت بالفلاح خلف فدانه وسألته عن الشعر، قرض من ساعته ما اقترحت عليه، وأي معنى طلبته منه.»

وهنا نذكر لك شيئًا عن الخاصة في مجتمعاتهم؛ فقد صنع المعتمد بن عباد قسيمًا في القبة المعروفة بسعد السعود، فوق المجلس المعروف بالزاهي، فقال:

سعد السعود يتيه فوق الزاهي

واستجاز الحاضرين، فقال ولده الرشيد:

وكلاهما في حسنه متناهي
ومَن اغتدى سكنًا لمثل محمد
قد جل في العليا عن الأشباه
ما زال يبلغ فيهما ما شاءه
ودهت عداه من الخطوب دواهي

وهذا لعمري من ألطف البديهات وأظرفها.

ومنها أن ابن عباد خرج للنزهة بظاهر إشبيلية في جماعة من ندمائه، ثم أخذ في المسابقة بالخيل، فجاء فرسه سابقًا إلى شجرة تين أينعت وبرزت منها ثمرة، فسدد إليها عصاه فأصابتها وتثبتت على أعلاها، فالتفت إلى مَن لحقه من أصحابه وقال: أجيزوا.

كأنها فوق العصا

فأجاب ابن جامع الصباغ من فوره:

هامة زنجيٍّ عصى

فطرب المعتمد لسرعة بديهته، وأمر له بجائزة سنية.

ومن هذا تعلم مقدار عناية أمراء الأندلس في مجالسهم بالعلم والأدب، وكيف كانوا رحمهم الله يشحذون القرائح بطلبهم إلى الناس إجازة أقوالهم، أو تكليفهم الكلام في شأن من الشئون، ويجيزون المبرَّزين فيها؛ ففشا العلم في ديارهم، وطلعت شموس الأدب في فلك بلادهم، حتى شملت الصغير والكبير والنساء والرجال.

وقد كان كرم بني عباد يساعد على رقيِّ العلم في عمومه، والشعر في خصوصه، ولم يكن ذلك في دائرة ملكهم فحسب، بل كان يقصدهم الناس بمدائحهم من جميع الآفاق، فكانت إشبيلية في مدتهم كعبة القاصدين من المُجيدين، والسماء التي تطلع فيها دراري الأفكار، وشموس الابتكار.

وإني أكتفي بأن أقص عليك ما ذكره الحافظ الحجازي في المسهب، عن عبد الله بن إبراهيم الذي قال: قصدت المعتمد بن عباد وهو مع أمير المسلمين يوسف بن تاشفين في غزوته المشهورة للإسبان، فرفعت له قصيدة منها:

لا روَّح الله سربًا في رحابهم
وإن رموني بترويع وإبعاد
ولا سقاهم على ما كان من عطش
إلا ببعض ندى كف ابن عباد
ذي المكرمات التي ما زلت تسمعها
أنس المقيم وفي الأسفار كالزاد
يا ليت شعري ماذا يرتضيه لمن
ناداه يا موئلي في جحفل النادي

فلما انتهيت إلى هذا البيت قال: أما ما أرتضيه لك، فلستُ أقدر عليه في هذا الوقت، ولكن خذ ما ارتضى لك الزمان. وأمر خادمًا له فأعطاني ما أعيش من فائدته إلى الآن، وكنت ممن زاره في سجنه بأغمات، وحملتني شدة الحمية والامتعاض لما حل به أن كتبت على حائط سجنه متمثلًا:

فإن تسجنوا القسريَّ١ لا تسجنوا اسمه
ولا تسجنوا معروفه في القبائل

ثم تفقَّدتُ الكتابة بعد أيام، فوجدت تحت البيت: «لذلك سجناه.»

ومن يجعل الضرغام في الصيد بازه
تصيده الضرغام فيما تصيدا

أما شعر المعتمد وبنيه فقد وصل إلى مكانة عالية، وفي قلائد العقيان جملة صالحة منه، ترى منها مقدار سمو كعبهم في الأدب من شعر ونثر، يصعد بهم إلى مستوى أعاظم الشعراء والكُتَّابِ، وتتعرف منه حالهم من الرَّفَهِ ونعيم السلطان مدة حكمهم.

وكانت إشبيلية مدة ابن عباد عاصمة العواصم الأندلسية ومظهر المدنية الراقية، فكان فيها واسع الدُّور وعالي القصور، وفي محالِّها العمومية التماثيل المرمرية، كما هو الحال الآن في البلاد المتمدينة، وفي بعضها يقول شاعرهم:

ودمية مرمر تزهو بجِيدٍ
تناهى في التورُّد والبياض
لها ولد ولم تعرف حليلًا
ولا أَلِمتْ بأوجاع المخاض
ونعلم أنها حَجَر ولكن
تتيمنا بألحاظ مِراض

وكانت إشبيلية مشهورة بكثير من الصناعات، وخصوصًا النسيج، وعمل الأسلحة والسفن، وحِرَف البناء التي اتسع بها عمرانها في مدة بني عباد، وكانت ضواحيها كلها رياض رياحين وجنات أثمار، تنساب في نواحيها جداول الماء، وتنعقد في أرجائها أندية السرور والهناء، وهنا يجمُل بنا أن نذكر لك كلمة عن تاريخ بني عباد.

يتصل نسب بني عباد بالنعمان بن المنذر ملك الحيرة، وأول من نبغ منهم في الأندلس هو محمد قاضي إشبيلية جد المعتمد، وكان الناس يحبونه لفضله وعدله ولطفه وظرفه وأدبه وحسن سياسته، وآلَ أَمْرُه إلى أن انتخبه أهل البلاد سلطانًا عليهم لسوء سيرة المستعلي بن حمود ملك قرطبة، وكانت إشبيلية تابعة له، وتَسَمَّى بالظافر، ولم يزل بإشبيلية حتى مات سنة ٤٣٣ﻫ، وخلفه ابنه المعتضد بالله عباد، وقد جاء في بعض أوصافه في ابن خلكان ما ملخَّصه: كان سبط البنان، ثاقب الذهن، حاضر الخاطر، صادق الحديث، وقد أعطته سجيته ما شاء من تحبير الكلام وقرض الشعر … إلى أن قال: وأخبار المعتضد في جميع أفعاله وضروب أبحاثة غريبة بديعة، وكان كَلِفًا بالنساء، فاستوسع في اتِّخاذهن، وخلط في أجناسهن، فانتهى في ذلك إلى مدى لم يبلغه أحد من نظرائه.

ومن شعر المعتضد الذي يعطيك من شخصه صورة صادقة قوله:

شربنا وجفن الليل يغسل كحله
بماء صباح والنسيم رقيق
معتقة كالتبر أما بخارها
فضخم وأما جسمها فدقيق

ومن قوله سامحه الله:

وليل بسد النهر أنسًا قطعته
بذات سوارٍ مثل منعطف النهر
نضت بردها عن غصن بانٍ منعم
فيا حسن ما انشق الكمام عن الزهر

وتوفي المعتضد سنة ٤٦١ﻫ، وقام بالملك بعده ولده المعتمد، وكان أندى ملوك الأندلس راحة، وأرحبهم ساحة، وأعظمهم ثمادًا، وأرفعهم عمادًا، ملقى الرحال، وقِبلة الآمال، لم يجتمع بباب أحد من ملوك عصره من أعيان الشعراء وأفاضل الأدباء ما كان يجتمع ببابه، وكان المعتمد شاعرًا أديبًا، ومن شعره:

لولا عيون من الواشين ترمقني
وما أحاذره من قول حراس
لزرتكم لا أكافيكم بجفوتكم
مشيًا على الوجه أو سعيًا على الراس

وجاء في ابن خلكان أن المعتمد عزم على إرسال حظاياه من قرطبة إلى إشبيلية، فخرج معهن يشيعهن، فسايرهن من أول الليل إلى الصبح، فودَّعهن ورجع، وأنشد أبياتًا من جملتها:

سايرتهم والليل أغفل ثوبه
حتى تبدى للنواظر معلَمَا
فوقفت ثَمَّ مودِّعًا وتسلمت
مني يد الإصباح تلك الأنجما

وعلى كل حال إنه إذا كان المعتمد قد أعطى لنفسه ما طاب لها من لذاتها وشهواتها، فقد كان فيه من العقل والدهاء والكياسة والشجاعة وكبير الهمة وعظيم الصفات ما جعله أكبر ملوك الأندلس في وقته ملكًا، وأنفذهم رأيًا، وأعظمهم سلطانًا، وقد استعان على مدافعة الإسبانيين بابن تاشفين ملك المغرب، وقال حين حُذِّرَ من خطر اجتياح ابن تاشفين لملكه كلمته الخالدة: «رعي الجمال خير من رعي الخنازير.» ولكن ابن تاشفين فتك به آخِر الأمر، فأسره وأرسله إلى أغمات، وهي بلدة وراء مراكش بينهما مسافة يوم بالقافلة، وهو ما يقرب من خمسين كيلومترًا. ومما قال في قيده وهو في محبسه بها:

قيدي أما تعلمني مسلمَا
أبيت أن تشفق أو ترحما
دمي شراب لك واللحم قد
أكلته لا تهشم الأعظما

ومات المعتمد في محبسه سنة ٤٨٨، وقد رثاه الشعراء بقصائد مطوَّلات أنشدوها على قبره، ومنهم شاعره أبو بكر بن عبد الصمد، رثاه بقصيدة طويلة قال في أولها:

ملك الملوك أَسامعٌ فأنادي
أم قد عدتك عن السماع عوادي
لما نقلت عن القصور ولم تكن
فيها كما قد كنت في الأعياد
أقبلت في هذا الثرى لك خاضعًا
وجعلت قبرك موضع الإنشاد
وهذا لعمري أكبر شيء في الوفاء والشجاعة وعظم النفس، فرحم الله ابن عباد، ورحم الله شاعره أبا بكر، وإني لم أذكر لك ما ذكرت إلا للعبرة بصروف الزمان وتقلُّب الحدثان، وسبحان من بيده الأمر، يعز من يشاء ويذل من يشاء.
figure
مناظر مدينة غرناطة وفي أعلاها قصور الحمراء من اليسار وقصر جنراليف من اليمين.

وقد زار قبره لسان الدين بن الخطيب، فرآه على هضبة بمقبرة أغمات، فقال:

قد زرتُ قبرك عن طوع بأغمات
رأيت ذلك من أولى المُهمَّات
لِمَ لا أزورك يا أندى الملوك يدًا
ويا سراج الليالي المُدْلَهِمَّات
وأنت من لو تخطَّى الدهر مصرعه
إلى حياتي لجادَتْ فيه أبياتي
أنافَ قبرك في هَضْبٍ يُميِّزه
فتَنْتَحيه حَفِيَّاتُ التحيات
كرمت حيًّا وميْتًا واشتهرتَ عُلًا
فأنت سلطان أحياء وأموات
ما رِيءَ مثلك في ماضٍ ومعتقدي
أنْ لا يرى الدهر في ماضٍ ولا آت

وقول لسان الدين هذا في شخص مات قبله بثلاثة قرون ونصف تقريبًا، وليست له عليه أية يد، لأكبر دليل على أن ابن عباد كان من أكبر الملوك وأعظمهم، ومن يطَّلع في الجزء الثاني من نفح الطيب على هذه الجملة: «وبسبب قتل بني عباد لأبي حفص الهوزني تسبَّب ابنه أبو القاسم في فساد دولة المعتمد بن عباد، وحرَّض عليه أمير المؤمنين يوسف بن تاشفين حتى أزال ملكه، ونثر سلكه، وسبب هلكه رحمه الله»، يرَ أن هذا الملك العظيم قضى بيد الخشونة والظلم فريسة السعايات والوشايات الدنيئة.

هوامش

(١) القسري (خالد بن عبد الله بن يزيد البجلي القسري، كان أمير العراقين من قِبَل هشام بن عبد الملك، ووُلِّيَ قبل ذلك مكة سنة ٨٩، ثم عُزِل عن العراقين سنة ١٢٠، ووُلِّيَ مكانه يوسف بن عمر الثقفي، فحبس خالدًا (ولما كان في سجن يوسف مدحه أبو الشغب العبسي بأبيات في الحماسة، منها البيت المذكور)، وتوفي سنة ١٢٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤