الفصل الثالث والعشرون

ويصحو الفلاح في أسوأ ساعات استعباده، ولم يَنْهَض الفلاح وحدَه كما صَنَعَ أجداده منذ ٤٥٠٠ سنة، بل اتَّبَعَ من يقوده من الزعماء للمرة الأولى، وقد صَدَرَت القوميةُ المصرية من الأدنى لأول مرةٍ بعد أن أتى محمد علي — هذا الغريب — بها من الأعلى، وتُقَوِّض الزوبعةُ ذلك السرادقَ الحريريَّ الذي أَوْلَمَ الخديو فيه لدائنيه فأبصرَه الفلاح يَصْنَع ذلك، ويَطُوفُ بعض رجال في القرية بعد الأخرى مُلْقِين خُطَبًا نارية ضِدَّ الأجنبي، ويُدْرِك الفلاح أن تلك الأقوالَ تَهْدِف — أيضًا — إلى الباشوات الذين كانوا يغتنون بفضل الأجنبيِّ. وهكذا يَتَقَوَّى العِصيان السياسي بالحقد الاجتماعي، ومن القاهرة أناسٌ ساخطون كانوا يتكلمون عن جمهوريةٍ على غِرَار الديموقراطية السويسرية، فترتبط فيها سوريةُ والحجاز، وقد قال أحدهم: «أرجو ألا أموتَ قبل أن أرى الجُمهوريةَ المصرية، فجميعنا نودُّ رجوعَ العصر الذهبيِّ.»

وكان زعماءُ تلك الحركة من علماء الأزهر المعترضين على الأوراد القرآنية القديمة، ومن الضباط الساخطين على محاباة الترك في الجيش، ومن رجالٍ ذوي آراءٍ مختلفة، ولكن مع كَوْن الجميع من المصريين الأصليين الذين هم من الطبقة الوسطى والذين كان محمد علي قد دَعاهم إلى تمثيل دورٍ في المجتمع فحَرَمَهم خَلَفُه حقوقَهم. وكان محمد علي أولَ من جَعَلَ من الفلاحين ضباطًا، ولم يستأصِل محمد علي المماليكَ تمامًا مع ذلك، فقَتَلَ اثنان منهم خليفتَه، وكان نائبو السلطان يَلْعَبُون مع السلطان لُعْبَةَ الهِرِّ والفأر، وكانوا يُحَاطون بتُرْكٍ في الغالب، ويَبْرُز ضابط بين العُصَاة الذين يريدون أن تكون «مصر للمصريين».

كان عرابي فلاحًا ابنًا لشيخ قرية في الدِّلتا، ووُلِدَ في عهد محمد علي ونَشَأَ في إحدى المدارس الأولى التي شادها محمد علي، ودَرَسَ في الأزهر القرآنَ والسياسة الجديدة معًا، وصار جنديًّا ثم ضابطًا ثم مرافقًا لنائب السلطان — سعيدٍ — في أثناء حَجٍّ، ويُرْوَى أن سَوْرَةَ غضبٍ اعترت سعيدًا في ذلك الحين فرَمَى من خيمته كتابًا عن «حياة نابليون» فجَمَعَه عرابي فألهبه هذا الكتابُ حماسةً، والواقع أن مطالعة سيرةِ نابليون تؤدِّي إلى نتائجَ خَطِرَةٍ في الغالب.

وكان عرابي قائدَ مائة عند موت حاميه، ولمَّا صار إسماعيلُ يَمْلِك مستعينًا بالأغنياء والغرباء على الفلاحين والمصريين كان عرابي في الخامسة والعشرين من سنيه فانحاز إلى النَّشَاطِ من الرجال الذين أخذوا يفكِّرون في خَلْعِ إسماعيل منذ ذلك الحين، ويُلْقِي خطبة ناريةً تحت نوافذ القصر فيجرِّده مجلسٌ حربيٌّ من رُتْبته، ويُجْلَد بالسوط على الأرجح، ويُصِيبُه مثلُ ذلك في أثناء حرب الحَبَشة، وتُجْرَح كرامته ضابطًا مصريًّا فلاحًا، ويَبلُغ من النُّضْج ما يصير معه زعيمًا شعبيًّا، ويكفيه أن يكون قادرًا على الكلام.

وكان عرابي طويلَ القامة، بطيءَ الحركة مشابهًا للفلاح أكثرَ مما للجنديِّ متوانيًا صموتًا له نظرُ الحالم. ولم يكن عرابي موفَّقًا ضابطًا ولا سياسيًّا، ولم يكن عرابي ذا تأثير في غير مخاطبة الجمهور، ويَرَى الفلاح فيه طرافةً لم يَسْمَع بمثلها، ويَعُدُّه الفلاحُ ابنَه الذي يحدِّثه عن آلامه بلَهْجته فيَشْعُر الفلاح بتحقق حُلُمٍ كما يَشْعُر بصدورِ سائلٍ من الحماسة عن هذا الرصين الصادق الذي يستشهد بالقرآن فيدلُّ على حُسْن إسلامه وصلاح مصريته، ويَظْهَر عرابي من جميع الوجوه على النقيض من ذلك الزعيم الذي أَعلن في السودان أنه المهديُّ المنتظر، فرأينا في جزءٍ آخرَ من هذا الكتاب ما كان يتَّصِف به من خِدَاعٍ وخُبْثٍ ورِثَاء.

وكان منظر الشارع يوحي إلى عرابي في كلِّ يوم بما يجب أن يخاطِب به الشعب إيقاظًا له، فيتكلم عن إسرافِ إسماعيلَ، عن تبذير هذا التركيِّ، هذا الأجنبيِّ، كما يتكلم عن امتيازاتِ الترك وبؤسِ الفلاح مُضِيفًا إلى ذلك إخلاصَه للخليفة وقَسَمَه بالقرآن وبسيفه، مفاخرًا في كلِّ مكان بإمضائه: عرابي المصري، ولم يَبْقَ له أن يَعْمَل كثيرًا حتى يصبح شعبيًّا خَطِرًا، فلم يَلْبَث أن صار «الوحيدَ»، وصار المُلْحِفون والناصحون يَغْشَوْنَ منزله، ولما هاجم الحكومةَ وطالب بتأليف جيش وطني كبير لم يُدْرِك الشعبُ غيرَ أمرٍ واحد، غيرَ عزمه على طرد المرابي الأجنبي، غيرَ طرد اليونانيِّ، فيَهْتِف له، ومما قال مُجَلْجِلًا١ ذاتَ يوم: «نَذْكُر — نحن الجنودَ — أن الخليفةَ عمرَ في مشيبه قال للناس ذاتَ مرةٍ: من رأى منكم فيَّ اعوجاجًا فليقوِّمه، فسَمِعَ مَنْ يقول له: واللهِ لو وَجَدْنَا فيك اعوجاجًا لقوَّمْنَاه بسيوفنا.»
ويحاول توفيقٌ — هذا الخديو الجديد — هذا الوارثُ لديون أبيه وما أدى إليه أبوه من كُرْهِ الأجانب، أن يُدَارِيَ ذلك الزعيمَ الشعبيَّ الخَطِر فيعيِّنه زعيمًا٢ في الجيش، بَيْدَ أن عرابي يَرفض إرسال رجاله للعمل في قَنَوات أملاك الخديو الخاصة، فيُوقَف ويُطلِقه جنودُه، ويصير بعد الآن زعيمَ مصرَ الثائرَ على الطاغية التركيِّ والبطلَ الوطنيَّ.

ولكنه لم يكن غيرَ نصفِ بطلٍ، وإن الخديو — وإن لم يكن بطلًا — كان يُمْكِنه — على الأقلِّ — أن يعتمد مناوبةً على السلطان وعلى الدول العظمى؛ أي على ناحيتين تَعُدَّان كل ذلك ضربًا من تمرُّدِ الجنود، ويَزْحَف عرابي ذاتَ عصرٍ من شهر سبتمبر سنة ١٨٨١ إلى القصر مع ٢٥٠٠ رجل، وينتظر الخديو، ويتوقف كلُّ شيءٍ على جُرْأَة كلٍّ من الخصمين، وإذا ما صدَّقْنَا المرافق الإنكليزيَّ الذي كان مع الخديو وجدنا وَضْعَ الخديو مثيرًا للضحك، وإذا ما صدَّقنا قولَ عرابي نفسِه ظَهَرَ عرابي لنا ناصحًا لا حاسمًا.

figure
بين قناتين.
وكان الخديو أصغرَ سِنًّا من عرابي باثنتي عشرةَ سنةً، وكان خِلْوًا من الروح العسكرية، فسأل الإنكليزيَّ مُخَافِتًا عما يجب أن يَفعل، فيُسِرُّ إليه الإنكليزي بأن يأمر الزعيمَ٣ أن يترجل، وأن يغمد سيفَه، ويُطِيع عرابي، بَيْدَ أن الخديو لم يكن من الشجاعة ما يَعْمَل معه بنصيحة مرافقه فيَطلُب من عرابي أن يسلِّم إليه سيفَه، وذلك لِمَا كان يَبْدُو من روح التهديد على خمسين ضابطًا متجمِّعين عند باب القصر، ويَعْرِض عرابي عليه مطاليبه السياسية، ويشتدُّ الخديو بالإنكليزي فيقول: «إنني سيدُ هذا البلد، وسأصنعُ ما يَرُوقني.» ويُجِيب عرابي عن ذلك بقوله: «لسنا عبيدًا، ولن يُتَصَرَّف فينا بعد الآن بحق الوِراثة.» وهنا يَدْخُل الخديو قصرَه ويرتدُّ الجنود.

وذلك المنظر الذي رُئِيَ ما هو أعظمُ منه أمام قصور العواصم الأخرى هو وحيدٌ في تاريخ مصرَ منذ ستة آلاف سنة، وهو نصفُ قهرٍ للملك شبيهٌ بما تمَّ ببرلينَ في شهر مارس سنة ١٨٤٨، ولكن الثوريين نالوا في القاهرة أكثرَ مما نالوا في بروسية؛ وذلك لأن الخديو في ذلك اليوم أجاب زعيم الفتنة إلى جميع ما كان يَطْلُبُه حزبُه تقريبًا؛ أي عزلِ الوزارة وتقوية الجيش ودعوة مجلسٍ للنواب ووَعدٍ بسنِّ دستورٍ، ويُعَيَّن عرابي وزيرًا للحربية. والأمر الوحيدُ الذي مَنَعَه مولاه هو عَرْضُ الجنود في الشوارع في ذلك المساء مع عَزْف المُوسِيقَى.

ومن الطبيعيِّ أن يَحْذَرَ كلٌّ من الرجليْن صاحبَه، فيقول الخديو لعرابي: إن قلبَه كان مع الثائرين ويقول للدائنين: إنه سيقضي على الفتنة، وكان السلطانُ يَلْعَب مع الخديو وعرابي عينَ اللَّعِب.

ومع ذلك كانت الآلهة القوية؛ أي حكومتا إنكلترة وفرنسة، تقاتل في السُّحُب فوق هؤلاء المصريين وهؤلاء الترك كما وقع أمام تروادة فيما مضى، وكما كان القَدَرُ الثابت على العرش يَجْلِس فوق تلك الآلهة، فتَرْمي لجنةُ الدائنين رَعْدًا وصواعقَ بين الآلهة والناس لإنقاذ خمسين في المائة على الأقلِّ من ديون إسماعيلَ خلافًا لإرادة الشعب المتزايدة، وتُحِسُّ فرنسة ما يكون من غَلَبِها في مصرَ فتخفُّ إلى احتلال ولاية تونس التركية، وتتفق هي ومنافِستُها إنكلترة فتُعْرِب للخديو عن حمايته تجاه كلِّ حركة ثورية، ويُرَاد استدراج زعماء الفتنة فيُطْلَب عزلُ عرابي، ولا يوفَّق لغير إضرام الشعب سُخْطًا ضدَّ الأجانب، ويَهِيمُ ألوف الناس خوفًا من الفَتْكِ بالنصارى ويَعْزِم السلطان على إرسال سفينةٍ في نهاية الأمر، ولا تُنْزَل من السفينة إلى البرِّ مدافعُ، بل يُنْزَل صُندوقٌ ضيقٌ مشتملٌ على ٢٥٠ وسامًا مع تخصيص عرابي، مع تخصيص الثوريِّ التقيِّ الذي ما فَتِئَ يعترف بسيادة الخليفة، بأهمِّها، وهذا ما كان يُخَيَّل للبَلاط القديم أن يَقِفَ الثَّوْرات به! ومع ذلك يَتَدَخَّل الدائنون، يَتَدَخَّل ممثلو الأسلوب المعاكس بشدةٍ، لدى حكومتيْهم فيحملونهما على إرسال أسطول إلى الإسكندرية، فتُلْقِي مراكبُ حربيةٌ أجنبية مراسيَها في مصبِّ النيل، ويذهب الفرنسيون من فورهم، ويَخْفِق العلم البريطانيُّ وحدَه في الهواء.

هكذا يُحْمَل عرابي على أعمالٍ يتطلب القيامُ بها رجلًا أشدَّ بأسًا منه، وينحازُ الخديو إلى الأجنبيِّ في الحال فيعزل عرابي كخائنٍ لبلده، ويقابل عرابي الخديو بمثل ذلك، ويتعذرُ الحُكْم بإنصافٍ في الأمر؛ وذلك لأنه لا يُجَاب عن السؤال «ما هي الخيانة العظمى؟» بغير قول شِيلِّر: «إذا ما نجح صُفِحَ عنه.»

ولما اعتُقِدَ أن بضعَ طَلَقَاتِ مِدْفعٍ تكفي لإعادة النظام إلى نِصَابه وُجِدت كلُّ ذريعةٍ صالحة، ويتضارب مالطيٌّ وحَمَّارُه في شارعٍ بالإسكندرية من أَجْلِ أُجْرَةٍ، ويَبلُغ هياج الجُمهور غايتَه بعد ساعة، ويُقْتَل مائتا شخص، ويُجْرَح القنصل الإنكليزي، وتُنْهَب أموالُ الألوف، وتَنْشَأ هذه الحوادث عن وجود مراكبَ حربيةٍ إنكليزيةٍ أغضب وصولُها المصريين من كلِّ طبقة، ويَضْبِط عرابي نفسَه في ذلك الحين فيُنْذِر الإنكليزَ بقوله: إن أول قذيفة مِدْفَعٍ يُطْلِقونها تؤدي إلى خَلَاص الشعب المصريِّ من دَيْنه، ويسأل في نفسه عن انضمام سُفُنِ السلطان الحربية إلى الأسطول الإنكليزي ويجهِّز حصونَه بالسلاح على عجلٍ، ويحافظ على اعتدال دمه مع ذلك، ويأمل فيتنادر هو وصحبُه ويتبادلون الأهاجيَّ ليلةً بأسرها، ولكن مع عَطَلٍ من خطَّة قتال مقرَّرة، ويَفِرُّ من الأجانب من يستطيع الفِرار، ويستعدُّ الترك للرَّحيل، وكان أربعةَ عشرَ ألفًا من النصارى قد غادروا البلاد، وكان ثلاثون ألفًا منهم قد هَرَبوا إلى أقسام مصرَ الأخرى.

وكان عرابي فاقدَ الحَزْم في الساعة الحاسمة كما يلوح، وهل كان المِدْفَعُ أو الإيمان هو الذي يُعْوِزُه؟ وهل كان يَذْكُر حَرْقَ موسكو، كما يَزْعُم الإنكليز، فأضرمَ النار في المدينة، أو أن الحريق كان نتيجةَ انفجارِ غَيْظ الأهالي؟ إن الذي لا رَيْبَ فيه هو أن الإنكليز ضَرَبُوا الإسكندرية بالمدافع ودَخَلُوها حين كانت تأكلُها الفوضى، وإن الذي لا ريبَ فيه هو أن المصريين قاوموا ذلك الغزو الأجنبيَّ في أسابيعَ بحَمِيَّةٍ لم يُبْدُوا مثلَها في ألوف السنين، كما أنهم أظهروا من العزم والشعور القوميِّ ما لم يُظهِروا مثلَه تجاه أيِّ غزوٍ أجنبيٍّ وَقَعَ في جميع تاريخهم الطويل.

وتنزل كتائبُ إنكليزيةٌ إلى البَرِّ لحماية قناة السويس، ويستردُّ الفرنسيون مراكبَهم. والحقُّ أن الفرنسيين تَرَكُوا البرزخَ الذي صار طريقًا عالميةً بعد أن أفلتت أسهمُ إسماعيلَ منهم، والحق أن الدولَ الثلاث التي يهمُّها الأمرُ لم تكن لتُبْصِرَ مقدارَ المسائل الخطيرة التي فُصِلت في تلك الأيام القليلة.

وكان عرابي مقاتلًا — لا قائدًا — ويَخُوض غِمار أول معركةٍ، ويسير وَفْقَ طلبِ فِرْدِينَاند دُولسِّبس وأناسٍ آخرين لم يكونوا ليبالوا بحرية مصرَ مبالاتَهم بقناة السويس فلم يُحَاصِر هذه القناةَ مع أنه كان يجب عليه أن يَسُدَّ الطريق في وجه السُّفُن الإنكليزية، ومع ذلك يَقِف جيشُه المؤلفُ من فلاحين زَحْفَ الجيش الإنكليزيِّ العصريِّ مدةَ شهرين، ولكنَّ ما حَدَثَ من خِيانة ضُبَّاطٍ تبرطلوا أدَّى إلى هزيمة عرابي ورجالِه وهروبِهم إلى القاهرة، ويُقْبَض عليه ويُحْكَم بإعدامه ويُعْفَى عنه ويُنْفَى إلى سيلان.

وكان عرابي في الثانية والأربعين من عمره في ذلك الحين، ويَعُود إلى بلده ابنًا للستين من سنيه، فيموتُ في القاهرة سنة ١٩١١ فَلَّاحًا مَنْسيًّا مُهْمَلًا، فقيرًا كما كان دَوْمًا، ويَرَى الإنكليزَ الذين قاوم نزولهم إلى مصرَ يسيطرون عليها بأسرها، ويمارسون فيها من السلطة ما لم يَتَّفِقْ مثلُه للسلطان قبل ذلك قَطُّ، وما أسوأَ ما بَدَأَ به الإنكليز، ويقول ضابطٌ إنكليزيٌّ بعد حين: «إن بُدَاءةً سيئةً على أرضٍ صالحة خيرٌ من بُدَاءةٍ حسنة على أرض سيئة.» وما كان للإنكليز أن يعامِلوا عرابيًّا كما يعامِلون العصاة، فهو لم يكن عاصيًا ما كان الخديو قد سَلَّمَ إليه جيشَه، أو كان يجب عليهم أن يُعْلِنوا حمايتَهم من فَوْرِهم كما صنعوا ذلك في بلاد أخرى، وما اتَّخَذَه غلادِسْتُن، هذا القائل بعدم التوسُّع الاستعماريِّ، جَعَلَ المصريين يَرَوْنَ — بحُكْمِ الضرورة — أن كلَّ ما تكترثُ له إنكلترة هو قناةُ السويس ورقابةُ ما تحتاج إليه مصانعُ لَنْكَشِير من القطن.

وفيمَ كان عرابي الشائبُ يفكِّر وحيدًا بغرفته الحقيرة بمصرَ القديمة حينما يَسمَع صوتَ عَرْضِ الكتائب الإنكليزية في شوارع القاهرة ويُبْصِر ما تَمَّ على يد الإنكليز من تقدمٍ بعد عشرين سنةً من توطيدهم السلم والنظامَ اللذين صرَّحوا بأنهم أتوا من أجلهما؟ وهل كان في سبيل سعادة مصرَ أو شقائها ما أعطاه «عرابي المصريُّ» من ذَرِيعَةٍ للإنكليز حتى يسوِّغوا نزولَهم إلى وطنه ذلك؟ أفلم يكن وَجْدِيًّا أكثرَ من أن يكون جنديًّا؟ أَوَلم يكن عليه أن يخاطِب الإسكندرية سيدًا لمصرَ ما أصبحت مصرُ قبضته؟ أَوَلم يكن عليه أن يُغْلِقَ قناةَ السويس منعًا لوصول نَجَدَاتٍ بريطانية؟ وما صَرَّحَ به لموظفٍ إنكليزيٍّ ذاتَ يوم فمن قوة الإخلاص كدفاعه بعد القبض عليه، غير أنه كان من شِدَّةِ الشرف وكثرةِ الجهل بالعالَم ما لم يَسْطِع معه أن يَحُولَ دون أَشْراك البنوك الأوروبية. وإذا كان عرابي أولَ فلاحٍ قام بشئون الحكم بمصر فإنه لم يكن فلَّاحًا بدرجة الكفاية، وكانت الساعاتُ الطويلة التي يَقضِيها في أثناء حربه أليقَ بالطالب الأزهري مما بالجنديِّ.

ولم يتكلم عنه أحدٌ بأحسنَ مما تَكَلَّم عنه الاسكتلندي النزيهُ الجنرال غُوردُون في أثناء تلك المعارك وقبل استيلاء كتائب الإنكليز على القاهرة، قال غوردون:

ومهما يُصَبْ به عرابي فإنه سيعيشُ قرونًا في ذاكرة الشعب الذي لن يقول ثانيةً: خادمكم الخاضع.

١  جلجل الرجل: صوت شديدًا.
٢  Colonel.
٣  Colonel.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤