الفصل السادس والعشرون

يُعَيِّن النِّضَالُ في سبيل الذهب وفي سبيل الحرية مصيرَ مصرَ منذ صارت قبضةَ بريطانية العظمى. وكلا الأمرين يُرَدُّ إلى مبادئ الإنسان، وإن لم يكونا قديميْن قِدَمَ النيل، ولم يجاهد قدماءُ المصريين في سبيل الحرية قَطُّ، ولم يَعْرِفُوا الثورات. والانقلاباتُ الكبيرة في المراتبِ الاجتماعية — لا الطبقات العليا — هي التي تَدْفَع الشعبَ إلى نيلِ الحرية. ومما يزيد المسألة المصرية تعقيدًا هو أن الكفاح في سبيل الحرية مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا في الكفاح دفاعًا عن القطن؛ فالمصريون من كلِّ طبقة، وإن كانوا يريدون الخلاصَ من الإنكليز (لِمَا ليس لغير الأقلِّين فائدةٌ من وجودهم) تَرَى من يَقُومون بخدمة القطن منهم يبالون بالسُّوق العالمية أكثرَ من مبالاتهم بمصير الفلاح.

ويتوقَّف أمرُ زارع القطن في الدِّلتا والتاجر في الإسكندرية والمحامي والمتموِّل والمُصْدِر والمستورد — ويبلغ عددهم مليونين — على القطن، فيَشْغَل القطن بالَهم صباحَ مساء، ولا تجد لمشاريع هؤلاء وبصرهم بالأمور أيةَ صلةٍ بصحة الفلاح ورفاهِيَتِه، وإن كان الفلاح ضروريًّا للقطن كالنيل، وترى هؤلاء الناس — حتى في منامهم — يَشغَلون أذهانَهم — دومًا — بالبُرْصَة١ وبتحول الأثمان في السوق العالمية لعلاقة ذلك بسعادتهم، وكل ما يرجوه الألوف من أهل ضفاف النيل هو أن يصيب الله، بفضل من لدنه، نبات قطن الكافرين في فلوريدة بالدودة، وأن تقضي حربٌ في آسية الوسطى على منافس، وأن يذعن الحاكة المضربون في لنكشير من غير أن ترفع أجورهم رفعًا موجبًا لنزول الأسعار، وأن يكون فيضان النيل معتدلًا فلا يعرض السد القديم للخطر، ولو فرض أن حياتهم تقوم على السكر أو التبغ أو البسط أو البناء لعين دخلهم بثمن قطن السكلاريدس في البرصة التجارية، وتعد العناصر والأزمات التي من شأنها الخفض أشباحًا ترهب الراصدين في الظلام، وتستطيع أن تهز شعبًا كما يؤدي إليه خسران معركةٍ على شاطئ بعيد.

تلك هي قوة النيل عند نهايته، ويتوقَّف محصول القطن على أهواء المطر في الحَبَشَة، وعلى جهود المهندسين من الإنكليز الذين لولاهم لم يُمْكِنْ الانتفاع بأَزَمَات الهند الحادَّة كثيرًا، بَيْدَ أن سكان المدن الكبرى لا يبالون بذلك، كما أن الرجال المنهمكين في أعمالهم لا يَعْبَئون بعلائم المرض الكامن لهم والذي قد يَقْضِي عليهم. والفلاح وحدَه هو الذي يعيش مع النيل ويُقَدِّس فيه المعبودَ القديم هابي الذي يَرْفَعُهُ أو يهلكه، والفلاحُ مع نسائه وأولاده هو الذي يَسْقِي الشجيرة الثمينة ويَتَعَهدها ويُشَذِّبُها ويَجْنِي ثمرها ويُسَلِّمه، ولا يكاد الفلاح يَسْمَع حديثًا عن تلك الآلهة الأجنبية، عن «السُّوق العالمية»، غير أن على الفلاح أن يَخْشَى عُبُوسَها لتأثير انعكاسها في أُجرته.

إِذَنْ، يتبع الأغنياءُ والفقراءُ غاياتٍ مختلفةً في النضال من أجل الحرية، ويُرِيد الفلاح — الذي لم يغيِّر القطنُ حياتَه ولم يحسِّنها — حريةَ بلده فقط، ويَبْدُو الفلاح — بذلك — مستقلًّا في آماله مع أنه أُمْعِنَ في استعباده، ويَحُول حُمَاتُه وروحُ العصر دون سقوطه مرةً أخرى تحت سَوْطِ الباشا الذي ألغاه الإنكليز، ولا يَحْرِمه ذهابُ الإنكليز شيئًا ما ضَمِنَ النيلُ عَيْشَه حتى عندما يؤدي ارتباكٌ في السوق العالمية — أو تَغَبُّرٌ بين الدول العظمى — إلى تهديد ثمن القطن الذي يَتَوَقَّف عليه رَخَاءُ الأغنياء الظاهر، ويَبْقَى الفلَّاح فقيرًا منذ بدأ محمد علي جهودَه — قبلَ قرنٍ — في تحويل بلد الحبوب هذا إلى بلدِ قطن، فزادت الثروة العامة بذلك، وما جاءت به المصالحُ الإنكليزية مصرَ وما أخذته منها فلم يُغَيِّر شيئًا من البيت المصنوع من طينٍ مُجَفَّف والمطليِّ بمِلاطٍ كِلسيٍّ، ولا من حَسَاء البصل والجِلْباب الأزرق؛ أي من الأمور الثلاثة التي كانت تحدِّد رغائب آباء الفلاح في عهد الفراعنة.

والفائدة الوحيدة التي نالها الفلاح هي الأبجدية، وما وَزَّعه منها آخِر خديو وأول ملك أكثرُ مما وزَّعَ الإنكليز، وهي تُعَدُّ مِفْتاحًا خَطِرًا لفتح أبواب المعرفة، وهي تُعَدُّ رمزًا حقيقيًّا كزعيمَي الاستقلال الأولين عرابي وزغلول اللذين وُلِدَا فلاحين في قريتين من الدِّلتا ورُبِّيَا في مدارسَ جديدةٍ تَعَلَّمَا فيها حَلَّ الخطِّ الأجنبيِّ وسببَ استعبادِهما.

ولما كانت دعوة الجمعية التشريعية الأولى في سنة ١٩١٣ أولَ نتيجةٍ لتعليم الشعب المصريِّ ساد الارتباكُ هذه الجمعيةَ لنقص الحرية، وكان يُمْكِنُ فَضُّ هذه الجمعية بضَغْطٍ من الأجنبيِّ وعدم دعوتها في سنواتٍ أو حملها على أعمالٍ خارجة عن دائرة اختصاصها، وما تَمَّ من انتخاباتٍ قد أسفر عن أكثرياتٍ قومية ساحقة مطالِبة بِجَلَاءِ الإنكليز، ويَبْلُغُ الحقد على الأجنبيِّ منذ خمسين عامًا — ومنذ عشرين سنةً على الخصوص — درجةً من القوة لا يجرؤ أحدٌ على مقاومته معها، وتقترح الحكومة تمديد إجارة قناة السويس إلى سنة ٢٠٠٨ فيُرْفَض مشروعُها بالإجماع خلا صوتٍ واحد، فيهُزُّ ذلك التصويتُ مصرَ بأسرها، ويُثِيرُ كتشنرُ — الذي دارى الفلاحَ بقوانينه — استياءَ فريق الشعب المُنَوَّر بما اتخذه من وضعِ مقيمٍ إنكليزيٍّ لدى بَلَاط أمير هندوسيٍّ تابع، ولا يُطِيقُ هذا الفريق المصري حلمَه الأبويَّ لتذكيره بحلم أبناء جنسه تِجاه القبائل الوحشية.

ويَزِيد ذلك النفور — الذي يحدث مثلُه في كلِّ نظامٍ للحماية — بسوء ما بدأ به الإنكليز في مصر وبما يتصف به الإنكليزُ من طَبْع، فما يُجَدَّد دَوْمًا من وعدٍ بالجَلَاء عن وادي النيل يوجب مع الزمن ضَرْبًا من سرعة الغضب مشابهًا لِمَا يَشْعُر به رجلُ العمل من انزعاجٍ بنظرِ سيدةٍ زائرة لابسةٍ مِعْطَفَهَا وقُبَّعَتَها إلى سِوَارِ ساعتها بلا انقطاع قائلةً إنها مستعجلة وإنها لن تمكثَ أكثرَ من دقيقةٍ واحدة فتبقى عِدَّةَ ساعاتٍ من غير أن يستطيع مخاطبُها أن يَحمِلَها على الذهاب، ولا تَجِدُ مصريًّا في الوقت الحاضر يعتقد رحيلَ الإنكليز طَوْعًا.

ولا تُقَاسُ روح التنافي لدى الإنكليز في القاهرة بروح التآلف لدى الفرنسيين الذين يَدْعُون إلى مائدتهم رفيقًا من لونٍ آخر؛ أي من أبناء المستعمرات، أو يَجْعَلُون منه وزيرًا بباريس. وماذا تكون مشاعر موظفٍ أهليٍّ إذا ما انقطع الأجنبي عنه زاهيًا بعد مغادرة المكتب الذي يَعْمَلَانِ فيه معًا كلَّ يوم؟

ويُعفَى الشاب الإنكليزي من كلِّ ضريبة في القاهرة، ولا يُمْكِن أن يُعْزَل، ولا يستطيع الشرطي المصري أن يَقْبِض عليه، ويَقَعُ هذا على مَسْمَعٍ ومرأى من المصريين الذين هم أكثر منه تجربةً ومعرفةً بأمور البلد، ويَلْعَب الإنكليزي لُعْبَة التِّنِس ولعبة الكرة والصولجان مع أبناء جِلْدَتِهِ وحدَهم تقريبًا، فيُحْظَر على السيد الوارث لحضارة العرب العظيمة دخولُ نادي الجزيرة كما لو كان سائسًا عند إنكليزي.

ولا يجوز عَدُّ نظام الحريم مسئولًا عن ذلك الوَضْعِ لحَصْرِ النادي الإنكليزيِّ في الرجال فقط، وتُسْتَقبل — مع ذلك — فَتَيَاتٌ من الطبقة الراقية المصرية في بَلَاطاتِ أوروبة، لا في دار المندوب السامي البريطانيِّ بالقاهرة، ويُمْكِن آباءَهن أن يشتركوا في سِبَاق خيلٍ من أصابلهم، فإذا ما خَرَجَ حِصانهم فائزًا في السِّباق تَعَذَّرَ إعطاؤُه قطعةَ سكرٍ لعدم دخولهم نِطاق المَوازين. وهكذا تُفْسَد النتائج الطيبة التي تَصِل إليها الإدارة البريطانية بذلك الوَضْع الذي ينطوي على ازدراء المصريين، وذلك إلى أنه يَسْهُل على المجتمع الراقي أن يلائم العكس.

ويظلُّ النيل أعظمَ عاملٍ لسوء الظنِّ مع ذلك، وإذا ما حُسِبَ النيلُ نهرًا مصريًّا يَقَع منبعُه في أُسوان رُجِعَت المشاريع الخاصة به إلى إسماعيل، غير أن هذه المشاريعَ حُقِّقَت على أوسع مقياس في العهد الإنكليزي. وقد طَبَعَت ستةُ أسدادٍ طابعَ المجد البريطاني على أكبر أنهار العالَم وأكثرها غرابةً، ويَنِمُّ بضعُ مئاتٍ من الكُوَّات تُفْتَح تبعًا للفصول على نشاط البريطان وعنادهم. وإذا كانت هذه الكُوَّات مدينةً بوجودها للفكر الذي يسيطر على الأنهار الأخرى في الوقت الحاضر فإن نتائج عملها لا تَبْدُو عظيمةً مُؤثِّرةً في غير النيل وواديه.

وإذا كان العلَم البريطانيُّ والعلَم المصريُّ يَخْفِقان معًا في البِقاع البعيدة التي يأتي النيلُ منها فإن العلَم الإنكليزيَّ حاضرٌ غائبٌ في النيل الأدنى على الدوام، ويُسْفِر الحكم الثنائيُّ، يُسْفِر طِرَازُ الحكومة الغريبُ هذا، عن سيادة كلتا الدولتين الشرعية على السودان فيَشْعُر المصريون — وهم الفريق الأضعف — بإضرار الفريق الأقوى — بريطانية العظمى — إياهم في كلا البلدين، ويُسْكِنُهم القَدَرُ مجرى النيل الأدنى، وتتوقف حياةُ أربعةَ عشرَ مليونًا من السكان على فيضانٍ وافٍ فيَحْذَرُ المصريون — بحكم الضرورة — ذلك الحاميَ المرهِقَ المهيمن على النيل الأعلى والمتصرفَ فيه كما يشاء، فالأجنبي — وإن لم يُلْق سمًّا في ذلك الماء — يمكنه أن يَحْبِسَه بأسداد جديدة.

وقد بَيَّنَّا استحالةَ هذا الافتراض فَنِّيًّا في جزء آخرَ من هذا الكتاب، ولكن خَطَرَ الإضرار لم يُبْعَد، فهنالك ألفُ وجهٍ لمنع جريان المياه طليقةً من غير أن تُحْبَسَ بسدٍّ حَبْسًا تامًّا، فيمكن إنكلترة — والحالة هذه — أن تُلاعِبَ مصرَ كامرأةٍ تَتَمَنَّع وتوافق قاصدةً أن تَرُوقَ وتسيطرَ معًا، وإليك ما قاله اللورد ملنر قبل سنة ١٩٠٠:

من المؤلم أن تكون كلُّ مصلحةٍ للمياه منتظمةٍ ضروريةً لحياة مصر معرَّضةً دومًا لبعض الأخطار ما دام مجرى النهر الأعلى غيرَ تابعٍ لذلك البلد، غيرَ خاضعٍ لرَقابته، ومن يَدْرِي أن إحدى الدول العظيمة — أو إحدى الحكومات التي تساعدها أمةٌ متمدنة — لا تقوم ذات يومٍ بأعمال كبيرة على النيل فتُحَوِّل — لسقي أراضيها — هذا الماءَ الضروريَّ لمصرَ عن مصرَ. أجل، إن هذا أمرٌ بعيد جدًّا أو أمرٌ غير محتمل، ولكننا — قبل أن نهزأ به — يجب علينا أن نَتَمَثَّلَ مشاعرَ بلدٍ آخرَ — كبلدنا مثلًا — فنُبْصِر وجودَ احتمالٍ بعيدٍ حولَ قدرة دولةٍ أخرى على حَبْس المطر السنويِّ عنا.

ويدلُّ هذا التصريح الرسمي — الذي صَدَرَ كثيرٌ من البيانات مثله في إنكلترة — على اتِّزَانٍ كبير، ويَكشِف هذا التصريحُ عن حال المصريين النفسية وعن مخاوفهم، ويُضِيفُ الإنكليزُ إلى احتجاجهم باسم الأخلاق كونَهم محتاجين إلى قطن الدِّلتا الممتازِ الذي تفتقده مصانع الغزل في لَنْكَشير إذا ما أوجبت أسدادُهم في مجرى النهر الفوقانيِّ قبل الخرطوم نَقْصَ الفيضان أو تأخرَه في الدلتا. ومع ذلك يُمْكِن العملُ الذي عضزَاه اللورد مِلْنر إلى دولةٍ أخرى أن يُصْبِحَ أداةَ تهديدٍ نافعةً في يد الإنكليز عند الاختلاف، ومن ذلك ما وَقَعَ بُعَيْدَ قتل السِّرْدَارِ بالقاهرة في سنة ١٩٢٤ حين طالب الإنكليز كغرامةٍ عدمَ تحديد مِساحة الأرض التي تُسْقَى في الجزيرة الواقعة بين النيل الأزرق والنيل الأبيض بدلًا من الأرض المُحَدَّدَةِ في معاهدةٍ سابقة. وتمضي أيامٌ قليلة فيُقْلِع الإنكليز عن هذا الطلب المضادِّ للأخلاق، بَيْدَ أن هذا يكفي لإثبات نوع الوسائل التي يُمْكِن العدوَّ الساخطَ أن يتمسك بها.

وزعيمُ المصريين المعاصر الذي فتح باب مكافحة الخصم على مصراعيه — كعرابي — هو أصغرُ سنًّا من عرابي بعشر سنين فقط، والفرق بينهما هو كون عرابي بدأ كفاحه في الأربعين من عمره وكونُ زغلول بدأ كفاحه في السبعين من سِنِيه (؟) ومن هنا كان نصفُ القرن الذي يفصل بين نَفْيِ بطلي الحرية المنتسبيْن إلى جيل واحدٍ من الآدميين.

وزغلول من فلَّاحي الدِّلتا كعرابي، وهو يُرَى بجانب هذا كما يُرَى القفقاسيُّ بجانب العربي، ويتصف زغلول بطول قامته وبنُحُوله وببرُوز وَجْنَتَيْهِ كالمغوليِّ ووجهه الطليق وعينيه الزرقاوين واستقامة بصره وبأنسه، فتكفي هذه الأوصاف لهدم نظرية العروق التي تكاد تصبح أُلعوبةَ المجتَمَع في قِسمٍ من أوروبة، وعلى ما بين الرجلين من اختلافٍ بَيِّنٍ في المثال كانا مصريين حقيقيين مُوَلَّدَيْن من امتزاجاتٍ يَجْهَلها ذلك البلدُ الذي هو ملتقَى كثير من الأمم، وإن شئت فقل إنهما كانا وليدي الأرض لا الدَّم؛ أي كانا ابنيْن للنيل، لهذا النهر الذي أوحى إلى زغلول بأكثرِ خُطَبه تأثيرًا.

ويُنَشَّأ زغلول في الأزهر، ويُوَفَّق لزواجٍ ذي غنًى، ويَتَعلم من أصله بؤسَ الفلاحين، ويَطَّلع بمهنة المحاماة التي مارسها طويلًا على خُبْث الباشوات وخِداعهم، ولم يكن في بدءِ أمره مع ذلك، ولم يكن حتى بلوغه الخمسين من سِنيه مع ذلك، غيرَ مصريٍّ معتدل عاطل من النفوذ، ويُعَيِّنه اللورد كرومر وزيرًا للمعارف العامة في سنة ١٩٠٥ حتى يُجَرِّب في شخصه وطنيًّا رصينًا. ويقول اللورد كرومر: «يتصف زغلول بجميع الصفات اللازمة لخدمة بلاده، فهو صادقٌ مستقيمٌ كَفِيٌّ مقتدرٌ شجاع، وهذه صفاتٌ يجب أن يتقدم صاحبُها كثيرًا.»

ولو بَقِيَ كرومر حيًّا في القاهرة لرآه قد تَقَدَّمَ أكثرَ مما كان يريد.

وتنحاز تركية إلى ألمانية والنمسة منذ أوائل الحرب العظمى، ويُظْهِر الخديو عطفَه لهذه الدول، وتَبْدُو درجةُ احتياج مصرَ الشديد إلى الغِلال الأجنبية، ويُمْكِن وصف هذا الوضع بالفاجع نتيجةً للطمع في الذهب وما أوجبه هذا من استبدال القطن بالحَبِّ.

ويَحِيق خطر المجاعة عند الحصار بفريق السكان الذي يَمْقُت الإنكليز أكثر من مَقْتِهِ التركَ ما دام النصارى يَقْبِضون على زمام الحكم أكثرَ من المسلمين المسيطرين نظريًّا، ولا يُعْلَم ماذا تَصنع إنكلترة بخَزَّان أُسوان، وكانت بريطانية العظمى منذ سبعين سنةً مضت قد مَنَعَت مصرَ محمد عليٍّ من الانفصال عن تركية. والآن تتخذ هذا العاهلَ شاهدًا للوصول إلى هذا الانفصال، والآن تَدْفَع المصريين إلى محاربة أبناء دينهم مع أن السلطان أعلن الجهاد المقدس.

ولم تَجِدْ إنكلترة وسيلةً صالحة لإظهار قوتها بَعْدُ. وفي سنة ١٩١٤ كان يمكنها أن تَضُمَّ مصرَ إليها أو أن تَجعلَها من الممتلكات أو أن تُعْلِنَ استقلالَها مطالبةً إياها بأن تكون حليفةً لها، غير أن إنكلترة لم تنتحل سيادةَ تركية لنفسها، ولم تَمْنح الاستقلالَ الذي وَعَدَتْ به منذ زمن طويل، غير أن إنكلترة صنعت العكسَ فخَلَعَت الخديو ونصبت في مكانه رجلًا آخرَ مع لقبِ سلطان، وأَجَّلَت الجمعية التشريعية إلى وقتٍ غير معين، وأنبأت الشعبَ بأنها لا تَحْمِلُه على الحرب.

وما قام به الترك من هجومٍ على قناة السويس فقد حَمَلَ الإنكليز — مع ذلك — على جَمْعِ الفلاحين باسم «العمال المتطوعين» متخذين أساليبَ المماليك في القهر آخذين آخرَ جَمَلٍ لديهم بثمنٍ تاركين إياهم بلا حيوان حَلُوب سائقين إياهم من خلال الصحراء لإنشاء خطوط حديدية، وكان ذلك آخرَ سُخْرَةٍ في تاريخ مصرَ. وأشدُّ من ذلك ما كان بعد ذلك من سَوْقِ مائة ألف حرٍّ مصريٍّ إلى سورية وثمانيةِ آلاف حُرٍّ مصريٍّ إلى العراق وعشرةِ آلاف حرٍّ مصريٍّ إلى فرنسة ومن جَمْع إعاناتٍ من المسلمين للصليب الأحمر.

ولا شيءَ بعد النصر أشدُّ إيذاءً لسُمْعَة بريطانية العظمى من إنكار أية مساعدةٍ قامت بها مصرُ. ويطالب زغلول في شهر نوفمبر سنة ١٩١٨ باستقلال بلده مكافأةً على ذلك، فيُمْنَع من السفر إلى لندن، ويكون ذلك نذيرَ الفتنة، ويَصْرُخُ مديرو الفتنة قائلين: ألا تدركون الآن أن إنكلترة خدعتكم؟ أذلك ما تُكَافَئُون به على إنشائكم خمسةَ كيلومتراتٍ من الخطوط الحديدة يوميًّا من خلال الصحراء المشتعلة مقاتلين إخوانَكم في سبيلِ كِلَاب النصارى؟ ولِمَ لَمْ نَثُرْ ولم نَنْضَمَّ إلى الترك الآتين من سورية لطرد الإنكليز؟ نحن ساعدنا على نَيْلِ النصر! لقد أقام كلٌّ من جارينا الحسينِ وفيصلِ دولةً جديدة وَفْقَ برنامج الرئيس الأمريكيِّ! وأما نحن فقد بَقينا عبيدًا وحدَنا، هم لا يَلْبَثُون أن يَحْرِمونا الماءَ بأسدادهم الجديدة في الخرطوم فيميتونا جوعًا.

ويَتَمَيَّزُ زغلول من الغَيْظِ أيضًا، ويُظْهِر ما هو خلافُ العادة فيتحول هذا السياسي المعتدل في شبابه إلى متطرفٍ في مشيبه ويُلْقِي خُطَبًا ناريةً، ويَقْبِض الإنكليز عليه ويُبْعِدونه إلى مالطة ثم إلى سيشل كما صنعوا بعرابي منذ خمسين سنة. وتشتدُّ الفتنة ويُقتل ضباطٌ من الإنكليز وتُخَرَّب أسدادٌ وتشتعل نيران، ويؤلَّف حزبٌ قوميٌّ عظيم، يُؤَلَّف الوفد، ويتَّحِد المسلمون والأقباط لمكافحة إنكلترة معًا، ويبدو انعكاس ضباط الإنكليز مُرًّا على وزارة الخارجية بلندن عندما يَحْرُسون البريدَ على ظهور البغال من خِلال الصحراء حيث خُرِّبَ الخطُّ الحديديُّ.

ورُئِيَ من الواجب أن يُوَافَقَ على استقلال مصرَ بعد ثلاثة أعوامٍ طَيْش وقتلٍ ثم عقوبةٍ، وبعد جعل شهيدٍ من زعيم الحزب القوميِّ، غير أن الدولة الحامية احتفظت بكثيرٍ من الامتيازات مؤخِّرةً بذلك زمن التفاهم.

ويعود زغلول إلى بلده، ويُصْبِح بَطَلًا قوميًّا، ويزيد مع العمر تَشَدُّدًا، فلما سأله مكدونلدُ عن المكان الذي يودُّ أن تُرَدَّ إليه كتائبُ الإنكليز أجابه عن ذلك قائلًا: «إلى إنكلترة، يا سيدي الوزير.» ويخيِّب مكدونلدُ أملَه، ويُبْصِر زغلول أن إنكلترة لن تتأخر خطوةً، ويُقتَل سَرْدَارُ السودان في القاهرة، ويأتي اللورد أَلِنْبي مع حَرَسٍ عسكريٍّ مَهيب ويسلِّم إنذارًا إلى رئيس الوزراء زغلول، ويَنْظُر زغلول من النافذة ويسألُ قائدَ الحرس الإنكليزي بقوله: «ما الأمر؟ أتريد إنكلترة شَهْرَ الحرب على مصرَ؟» وما هذا الكلامُ الذي وُجِّهَ في تلك الدقيقة إلى ذلك الشخص إلا دليلٌ على اعتدال دَمٍ وإباءٍ نادريْن في التاريخ الحديث.

ويُتَوَفَّى زغلول بعد زمن قليل (١٩٢٧) ولم يَحْدُث أن شُيِّعَ مصريٌّ إلى مقرِّه الأخير بمثل ما شُيِّعَ به زغلول، فكانت جنازتُه جنازةَ فرعونٍ وصديقٍ للشعب معًا، وتسيرُ أمةٌ بأسرها مع تابوته المشتمل على فلاحٍ مولودٍ في كوخٍ مُظْلمٍ مصنوع من طينٍ مجفَّفٍ بين الدَّجاج والحَمَام والحِمار والجمل ومُجَهَّز بطَلْسَم ساحرةٍ يَعْدِل مالًا، وما أكثرَ ما تَعْلُو أبراجُ صاحب حياةٍ كتلك كيوبسَ (خوفو) وهَرَمه العظيم!

وكذلك الملك — الذي عاد إلى القاهرة من رِحلة رسمية بُعَيْدَ موت زغلول — ينال حُظْوةً لدى الشعب، وتزيد هذه الحُظوة في عشر سنين نتيجةً لِمَا بدا له من آراءٍ جميلة كتقسيم أراضي الدولة بين الفلاحين على أن يُدْفَع الثمنُ بأقساطٍ سنوية، وكإنشاء مدارسَ ومشافٍ وكتوجيهِ نظر أوروبة إلى ما أقامه من مشاريعَ علميةٍ.

ولكنه لم يَسْطع أن يُنْزِل العلَم البريطانيَّ من فوق القلعة، وإذا مَرَّ مصريٌّ أمام الثُّكْنَة الإنكليزية الكبرى بالقرب من جسر الجزيرة الكبير وَقَفَ وشاهَدَ بمرارةِ المغلوبِ تدريبَ الجنود، ويُتَّفَق في شهر يوليو سنة ١٩٣٦ على نقل الجنود إلى القناة، والقناةُ أرضٌ مصرية.

ويُوصَلُ الآن — في صيف ١٩٣٦ — إلى اتفاقٍ لا تُحَقَّق به جميعُ آمال المصريين؛ وذلك لأن الإنكليز سيَقْضُون سنينَ طويلةً لإنشاء بضعِ ثُكَنٍ، ولأن الجَلَاء عن القاهرة لا يؤدي إلى الجَلَاء عن قناة السويس، ومع ذلك تسير مصرُ لتستقلَّ هي والسودان، ويتوقف كلُّ شيءٍ في السنوات الآتية القليلة على أحد البلدين الذي يَظْهَر فيه القطبُ السياسيُّ الأعظمُ اقتدارًا، فسيَعْرِف هذا السياسيُّ كيف ينتفع بالحرب القادمة لحلِّ تلك المسألة.

١  Bourse.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤