الفصل التاسع والعشرون

هذه هي المدن، وهذه هي حركتها، وهنالك معامل، ولكن مع قليلِ مغازلَ في بلد القطن ذلك، ولا تَصْنَعُ تلك المعاملُ غيرَ واحدٍ في المائة من الإنتاج، وفي البلد قليلٌ من مصانع التَّبْغ مع أنه يُنْتِج أحسنَ تَبْغٍ في العالم، وفي بلدِ السكر ذلك قليلٌ من معامل السكر، فلا يقوم ما يُنْتِجه منه باحتياجاتِ الأهالي، وتَرَى بجانب تلك المصانع جاموسَ الفلاح يُدِيرُ دُولَابًا محرِّكًا رَهَّاصًا لقصب السكر فيؤدي ذلك إلى مَنْح الفلاح ضربًا من القَنْدِ١ يُفَضِّله على السكر الخالص.
ويَبْدَأ العملُ الفاوستيُّ٢ مرة أخرى في أقصى الدِّلتا من جنوب الإسكندرية الغربيِّ فتُكْتَسَبُ من السُّهْب رياضٌ وأَرَضون صالحةٌ للفلاحة، وتَرَى بالقرب من البحر عند حدود ليبية أعرابًا يَرْعَوْنَ أنعامَهم في سُهْب يروِّيه المطر في الشتاء أحيانًا، ويَزْرَعُون حبوبًا قليلةً قبل أن يُحْرِق الصيفُ كلَّ شيء، وذلك كما في نوبية الوسطى على بُعْدِ ثلاثة آلاف كيلومتر من مجرى النهر الفوقانيِّ، غير أن ما هنالك من الخرائب الرومانية والأطلال المصرية يُثْبِت كونَ ذلك البلدِ خصيبًا فيما مضى، ويَظْهَر من بقايا إحدى المناور أنها تَرْجِع إلى زمن كليوباترة، وتدلُّ بعضُ النصوص على أنها أرضُ غِلَالٍ، وليست كِسَرُ بعض الفَخَّار من غير أصلٍ نصرانيٍّ لما ترى بينها ما يشتمل على صورةِ قِدِّيسٍ بين جمليْن.

وأَحْيَا يونانيٌّ سابقَ عهدِ تلك البقعة التي كان البطالمةُ يَغْرِسون فيها الكَرْمَةَ، فقد أنشأ فيها مدينةً صغيرةً وطريقًا فسُمِّيَتَا باسمه: جناكليس، وهكذا يَخْلُف زارع التَّبْغ مَلِكًا كما يَخْلُف تاجرَ القهوة المقدونيَّ فيُوقِظُ ذلك البلدَ الناعس، ويُعَمِّر كفرعونٍ، وقد أنبت تحت ذلك الجوِّ البخيت، أنبَتَ بفعل نسيمه ومطره وقناةٍ مجاورةٍ له، أشجارَ برتقالٍ وزيتونٍ على كُثْبَانٍ مُرَكَّبةٍ من رملٍ وغِرْيَن، ويُخْرِج ما له من كرومٍ خمرًا مصريةً جديدة.

وهكذا يُمْكِن توسيع الدِّلتا بمقدارِ الخمس، وإدخالُ زراعة التبغ لمكافحة أزمة القطن المتزايدة، فيُعَاد إلى الفلاح ما نُزِعَ من سروره بما يُجْبَى من المُكُوس عن التَّبْغ الوارد، ويُرَى أن مُعَدَّلَ التدخين في مصرَ أربعُ سغاير في كلِّ يومٍ لكلِّ ساكنٍ من رجالٍ ونساء ووِلْدَان، وتستورد مصرُ في كلِّ عام من التَّبْغ ما قيمته عشرون مليونَ جنيه؛ أي ما يَزِيدُ على معدَّل ما يستورده أي بلدٍ آخر مع أن زَرْعَه هنالك يُنْتِج من التبغ ما هو أنفسُ مما في جميع بلاد العالم بفضل ماء النيل وبفضل هوائه على ما يحتمل.

ويَطْرُدُ القطنُ — وإن شئت فقل مَلِكُ مصرَ هذا — كلَّ شيء، ويَجْلِبُ الدقيقَ من أوسترالية في الوقت الحاضر هذا البلدُ الذي كان يَمِيرُ٣ نصفَ الإمبراطورية الرومانية بالحبوب. وإذا كانت الأسدادُ تُمِدُّ هذا البلدَ بأراضٍ جديدةٍ صالحة للفِلاحة فإنه لا يُبْذَر في هذه الأراضي حَبٌّ، وكان ١٢٠٠٠٠٠ فدان يُزْرَع حبوبًا و٨٠٠٠٠٠ فدان يزرع قطنًا في سنة ١٩٠٠، فلما حَلَّت سنة ١٩٢٦ لم يُزَدْ ما يُزْرَع من أفدنةِ الحبوب مع أنه خُصِّصَ مليونا فدانٍ لزراعة القطن.

وقد تضاعف عدد سكان مصرَ تقريبًا، وذلك من غير أن يَتَحَوَّل مقدارُ الخُبْزِ الذي تُنْتِجُه؛ وذلك لأن ثَرَاءَ البلد يُزَادُ على حساب استقلاله؛ وذلك لأن القطن — لا الحريةَ — هو الذي يسيطر، ويُصْدَرُ في سنة ١٩٢٥ من القطن وبذرة القطن ما قيمتُه ٦٢ مليون جنيه، ولكن مع إدخال ما قيمتُه اثنا عشرَ مليونَ جنيه من الحَبِّ والدقيق، وكان ما يصدر من القطن المصري — حتى في سنة ١٩٣٠، حتى بعد تدهور القطن — يعدل ٨٧ في المائة من مجموع ما تُصْدِرُه مصر، ويعود العقل في ذلك الحين إلى الرءوس فيُزْرَع ١٨٠٠٠٠٠ فدان من القطن ويُزْرَع ١٤٠٠٠٠٠ فدان من القمح.

ومع ذلك لا تكون تلك المضاربات مُجْدِيَةً في غير سِنِي الخير، ويُعطِي فدانُ القطن في الدِّلتا في كلِّ سنة ثلاثين جنيهًا، ويُعطِي فدان البرسيم في الدِّلتا في كلِّ سنة عشرة جنيهات فقط، ولكنه يُقَصُّ من البرسيم خمسَ مراتٍ في السنة الواحدة، وذلك إلى أن الأرض تُنْهَك بالإكثار من زراعتها، ومن ذلك أن القطن كان يُزْرَع — قبل الحرب — مرةً في كل عامين بدلًا من أربعة أعوامٍ، فنَقَصَ إنتاجُه وزالت خواصُّه، فالأرض تَضْنَى كالمرأة التي تَضَعُ ولدًا في كلِّ سنة.

وهكذا يَدُور كلُّ شيء حَوْلَ المَلِك الأبيض، حَوْلَ القُطْن، ويُرْسَل هذا الملك إلى الخارج؛ لأن الأجنبيَّ يُجْزِل الثمن بأحسنَ مما في الداخل، ولا يُغْزَل القطن ويُحَاكُ حيث يَنْبُت، بل يصدر على سفن كبيرةٍ إلى جُزُر بعيدة حتى لا تَجْلِبَه لَنْكَشير من الولايات المتحدة، حتى تبيعه لنكشير من المصريين منسوجًا، وبهذا تُدْفَع الملايين أجرةَ نقل على غير جَدْوَى، ويُفْرَض على الطبيعة المعادية نبات يحتاج إلى ماء السماء في بلدٍ عاطل من المطر، ثم تُجْتَنَى ثمرات هذا النبات ليُؤْتَى بها إلى جزيرةٍ ذات ضَبَاب فتُعِيدُها إلى العالم على شكل جديد، مع أن زُوسَ٤ كان يقوم بتَقَمُّصَاته في مكانه بما هو أسرعُ وأروع.

ويقال مع التوكيد إن القطن الذي يُنْتَج هنا كثيرُ النعومة على الأهالي، ولكن من الممكن أن تُعْقَد معاهدات تجارية لمبادلته، ولكن ألا يُوجَد مكانٌ للمصانع في الدِّلتا؟ إذا ما أُنْشِئ مصنعٌ في قريةٍ انتُفِع بألوف الأفدنة فكان كالكتاب الصغير الموضوع على مِنْضَدَتِنا والمشتمل على عالمٍ من الأفكار والأحلام. وإذا لم يُرَدْ صنع شيءٍ، أو كان هنالك من الوسائل ما يُحال به دون فِعْله، وُجِد من الأسباب الفنية ما يُفَسَّر به الامتناع عنه.

وهل أدى القطن إلى جعل الفلاح أكثرَ سعادة على الأقل؟

لقد أَثْرَى الباشوات في أثناء حرب الانفصال حينما افْتُقِدَ قطن تكساس، غير أن وطأة ذلك أُلْقِيت على عاتق الفلاح فنشأ عن تحرير العبيد في الولايات المتحدة ظهورُ عبيدٍ جُدُد في مصرَ. ولما وَضَعَت الحربُ العظمى أوزارها وتَعَدَّلَ كِيَان مصرَ الاجتماعي اغتنى بعضُ الفلاحين لبلوغ ثمن قنطار القطن أربعين جنيهًا وبلوغِ ثمن الأرض الجيدة ألفَ جنيه، ويَظْهَر أنه يوجد بين فلاحي الدِّلتا مَنْ يستطيع أن يبتاع ألفَ نخلةٍ فيَزِيد دخلُه السنويُّ على ألف جنيه، وليس بمجهول اسمُ أغناهم الذي اشترى أرضَ شركةٍ مُفْلِسة بأربعين ألفَ جنيه فوَصَلَ يوم إمضاء عقد البيع مع جماعةٍ من الحمير حاملة أكياسًا من الذهب، ويَسْخَر سماسرةُ الإنكليز من غباوة هذا الفلاح الذي تَرَك ذَهَبَه ينام في بيته المصنوع من الطين من غير أن «يُوَظِّفَه»، وذلك من غير أن يَعْلَم هؤلاء الإنكليز أنهم كانوا يَخْسَرُون هذا الذهب — لا ريب — بعد بضعِ سنين في شركةٍ فَخْمَةٍ ذات مكاتبَ فاخرةٍ وأوراقٍ مالية باهرة.

والفلاحُ زاهدٌ مقتصد، والفلاحُ يبتاع بيتًا أكثرَ جمالًا، وحمارًا أعظمَ عَضَلًا، كما يبتاع لامرأته قِلادةً ذهبية، ولكنَّ الفلاح يؤمن بالأرض التي يُرَوِّيها النيل فيَشْرِيها لنفسه ولأولاده، ولا يَذْهَبُ الفلاح المغتني ليُبَذِّر مالَه في القاهرة أو باريس حيث يَقْضِي المضاربون حياةَ الفراعنة بضعةَ أشهر. ومن النادر أن يُمَثِّلَ الفلاح المغتني دَوْرَ السيد الإقطاعيِّ أمام أمثاله الذين ظَلُّوا فقراءَ، ولا أحدَ من الفلاحين يَجْهَلُ القصةَ العربية القائلة: إن فلاحًا غنيًّا أتى بفلاحٍ فقير أمام قبر أبيه الرائع فقال الفلاحُ الفقير صائحًا: «سيكون أبي في الجنة قبل أن يقدر أبوك — بزمنٍ طويلٍ — على رفع هذا الحجر الرخاميِّ الثقيل.»

ويأتي الفلاحون — وفلَّاحو الدلتا على الخصوص — مُنْكَرًا مناقضًا لمزاجهم المَرِح لأسباب خفيةٍ لا يُمْكِن تفسيرها، وذلك أن المخدِّراتِ غيرُ منتشرةٍ في مكانٍ على شواطئ البحر المتوسط انتشارَها بين الفقراء من أهل مصرَ. والمخدِّرات مما يستعمله الأغنياءُ في العالم بأجمعه، فترى معاملَ في أوروبة الشرقية، وفي بلدانٍ تدعو إلى مكارم الأخلاق فتَضْرِب نقودًا عن حبٍّ للإنسانية وعن ديموقراطيةٍ، تَسُمُّ أولئك الأهلين سَمًّا منتظمًا، وتَرَى الألوفَ من التجار والمهرِّبين والوكلاء يعيشون من هذه التجارة المُحَرَّمَة، ومع ذلك يُسأل: هل صُنعُ الهروين — الذي يَمُنُّ على الإنسان بأحلامٍ مُسْكِرةٍ وبحسِّ سعادةٍ — أنفى للأخلاق من الغازات السامة التي تَقْتُلُه؟ ألا إن بعض الحكومات تَصْنَع هذه الغازات لتحقيق مطامعها وتُحَرِّم الهروين خَشْيَةَ نَقْصِ حرارة القتال لدى أبنائها.

وإذا ما ابتاع فلاحُ الدلتا أقراصًا ممنوعةً أو أعشابًا محظورةً مَخْفِيَّةً في التبغ والشكلاتة والفُلفُل راجيًا أن يُقَوِّي بها باهه وَجَدَ ما يُخَيِّب به ظنَّه على الدوام، وإذا ما اغتمَّ فلاحٌ وأَبْلَسَ٥ وَضَعَ قليلًا من الحشيش في نَرْجِيلَتِه ودَخَّن حتى يَسْقُطَ الأنبوب من يده ويَسْبَح في الرُّؤَى، ويؤدي تَتَبُّع المخدِّرات في السنوات الأخيرة إلى تضييق نِطاق استعمالها، وتَتَفَلت مقاديرُ كبيرةٌ من كلِّ بحثٍ عنها مع ذلك، ويبتدع التجارُ ما هو عجيبٌ طريفٌ من أنواع التهريب بعد أن اكتُشِف إدخالها إلى البلاد داخلَ خِفَافٍ، فانْتَهَوْا إلى دَسِّها تحت ما يُبْضع ويُخَاط من جلود الجمال حتى تُخْرَج في مكان أمين.

وتظهر العدالة عَرْجَاءَ مرةً أخرى، فبينما يُحْكَم على متعاطي المخدِّرات بالسجن سنواتٍ لا يُقْضَى بحبس تاجر المخدِّرات التركيِّ غيرَ بضعة أشهر، وذلك إلى أنه لا ينبغي لدولةٍ تَدَعُ ألوف الآدميين يَغُوصُون في بحرٍ من الفقر والجهل أن تجازِيَ أولئك إذا ما اشْتَرَوْا ببضعة قروشٍ نَصَبًا لذيذًا، إذا ما شَرَوْا حُلُمًا وسُلْوانًا.

ويجدر بأمراء القطن المَدِينين للفلاح بسلطانهم وثَرَائهم أن يَحْمُوه من الأمراض التي تأتي بها أسدادهم إلى البلد؛ وذلك لأن الإنسان يؤدي دومًا ما ناله من الطبيعة عن براعة، ومع ذلك ليس المُنْتَفِع هو الذي يَدْفَع على الدوام، وكان المصريون يعتقدون أنهم من السُّعَدَاء، وكانوا سُعَدَاء فعلًا؛ وذلك لأنهم كانوا في مأمن من البُرَدَاء٦ مع ما في بلدهم من مئات المستنقعات النَّتِنة، ومع ما رَوَى هيرودوتس وقيصر وجودَه عندهم من كِلَل٧ البَعُوض.
ومما يُعلَم أن الطبيعة انتقمت لنفسها في بابلَ عندما حاول الإسكندر الأكبر أن يُحْيِيَ بالعَزْق٨ أرضَ المناقع المحيطةَ بهذه المدينة فذهب ضحيةَ البُرَدَاء على ما يحتمل، والبرسيم هو الذي كان يُعْوِزه، والبرسيم هو الذي يَحْفَظ وادي النيل والدِّلتا من البُرَدَاء على الرغم من البِرَك ذوات المياه الراكدة، والخَطَر في الماء الطاهر، والغِرْيَن هو الذي يَحْرُس مصر، فلما عُدِلَ في البنغال عن الريِّ بماء الغِرْيَن إلى ماء المطر ظهرت البُرَدَاء، ولما قَصَدَ مصرَ ألوفُ المصابين المهاجرين من فلسطين في أثناء الحرب العظمى لم يَجْلُبوا ذلك المرضَ إليها.

والواقع أن مرضًا أُدْخِل إلى مصرَ منذ إقامة الأسداد، ولم يَصْدُر هذا المرض عن النيل، بل عن الإنسان الذي قَهَرَ النيل. ومما حَدَثَ أن ضَمِن المستشارون الكثيرون الذين بحث اللورد كرومر معهم عدمَ وجود خطرٍ من إنشاء الأسداد. ومما حدث أن خَصَّصَ أحدُ المهندسين الكبيرين — ولكوكس ومردخ مَكْدُنَلْد اللذين أقاما الأسدادَ وحَقَّقَا حلم فاوست — دورَ شَيْبَتِه لتلافي الضَّرَر الذي نَجَمَ عن عمله، ووِلْكُوكْسُ هذا كان مُحِبًّا للإنسانية فأزعج بإنذاراته ملوكَ القطن والوزراءَ من الإنكليز والمصريين الذين كانوا يُفَضِّلُون كتمَ الخطر على إبعاده، ويُبَيِّن وِلْكُوكْس أن قدماء المصريين جَلَبوا البرسيم من النيل الأوسط فكانوا يَجُزُّونَه في الغالب ليُزْهِر ثانيةً وليُطْرَد الذبابُ والبعوضُ بإزهاره، وذلك مع العلم بأن الفراعنة كانوا يَمْنَعون الفلاحَ الموظفَ في المصالح العامة وفي السجون من أكل الخُضَر بلا طَبْخ.

بيدَ أن الأسداد ونظامَ المياه الجديدَ رَفَعَا مستوى سِمَاط الماء في كلِّ مكان، وتصبح البلاليعُ مقرًّا للدِّيدان المعروفة بمقسومة البطن،٩ والتي لا تقتل الإنسان، بل تصيبه بالحُمَّى وبِبُثُور، وتُورِثُه من الآلام ما لا يُحْتَمَل أحيانًا، وتُضْعِف قوتَه وتُعِدُّه لأمراضٍ أخرى، وتَظْهَر مقسومةُ البطن — في الوقت الحاضر — في كلِّ مكان يَسُوده نظام الريِّ الدائم، تَظْهَرُ في مصرَ العليا حيث لا تُجَفَّف القَنَوَات لاشتمالها على ماء الشرب، وتَظْهَر في شمال الدِّلتا وشرقها حيث تَكْثُرُ المناقع والقَنَوَات ذواتُ المياه الوَحِلة القَذِرة.
ومن العبث أن يُحَاوَل إنكارُ ما يَشهَد به جميع الأطباء المستقلون الذين يقولون إن ٦٥ في المائة من الفلاحين مصابون بذلك المرض في حقول قَصَب السكر بكوم أمبو حيث الرِّيُّ دائمٌ، فإذا ما ابتعدتَ عن ذلك بضعة كيلومتراتٍ وغدوتَ في الأراضي ذواتِ الأحواض بأدفو لم تَجِدْ غيرَ قليل من المصابين بذلك المرض. وإذا ما كنتَ في مديرية جرجا — التي انفردت بحسن الريِّ بأحواضها — لم تَجِدْ مصابًا بذلك، وتَرَى مَرَضًا آخرَ من ذلك النوع في الدِّلتا حيث يَصْعُب تَفْرِيغُ المياه، ترى مَعقوفةَ الفَمِ١٠ التي تكثر في الأمعاء الرقيقة فيُصَابُ بها ٩٥ في المائة في الفلاحين كما يُصَابُ ٦٥ في المائة منهم بمقسومة البطن.
وكلما زادت الأسدادُ ارتفعَ ما تحت الأرض من سِمَاطٍ، ويكاد هذا السِّمَاط يَغْمُرُ البيوت في الدِّلتا، ومع ذلك ترى هنالك ما يُعَالَج به هذا الذي يُعَدُّ من جوائح مصر؛ وذلك بأن تُسْتَعْمَل هذه الأدوية وبأن يُدْفَعَ ثمنُها، وذلك بأن تُنْشَأ مراحيضُ عامةٌ وأن تُسَوَّى التِّلاع١١ وأن تُجَمَّمَ١٢ المغايض١٣ البلدية بالتراب وأن تُعَمَّقَ القَنَوات، وأن يُجْعَل ذلك السِّماطُ نافذًا إلى النيل نَفْعًا للأرض والقَنَوات، وأن تُغْلَق القنوات في الشتاء بدلًا من استعمالها واسطةَ اتصالٍ، وأن يُخْفَضَ مستوى ذلك السماط على هذا الوجه، وأن يَسْبِق التجفيفُ السقيَ دومًا، بَيْدَ أن هذه وسائلُ طويلةٌ تقتضي وقتًا كبيرًا.

وهنالك وسيلةٌ أخرى إذا ما اتُّخِذَتْ بسرعة — وعلى مقياس واسع — أَنْقَذَتْ أولئك الآدميين، وهي أن الديدان تهاجم هؤلاء الناس عند عملهم واقفين في الماء، فبما أن اثنين من كلِّ ثلاثة يَعْمَل في مصرَ واقفًا في الماء وَجَبَ حفظُ سيقان الجميع كما تُحْفَظُ سيقانُ الشُّرطة بجراميقَ من المَطَّاط دقيقةً عاليةً، ولا سيما في الأماكن التي يَنْبُتُ فيها البَرْدِيُّ.

وإذا كانت الشرطة والمهندسون اللابسون جراميقَ من المطاط لا تَنْفُذُها الموائع يَسْلمون من كلِّ عَدْوَى أمكن إحدى شركات القطن أن تأخذ من ميزانيتها ما تبتاع به ١٢٥٠٠٠ جرموقٍ من المطاط ﺑ ٢٥٠٠٠٠ جنيه على أن يَسْتَعْمِل هذه الجراميقَ إعارةً نصفُ مليون من الأشخاص، ولا يُكلِّفها هذا العملُ الموافق لتعاليم المسيح ثمنًا أغلى مما يكلِّفه مَنْ ترسلهم من مبشري القطن إلى الغابة البكر، وإذا كانت تلك الشركة لا تودُّ أن تُقْلِع عن ذلك الصراع المُثِيب ضِدَّ الخطيئة فما عليها إلا أن تُضِيف ذلك المبلغَ إلى الربح والخسارة فيَنْقُص الكسبُ في سنةٍ اثنين في المائة، فبذلك يكون مليونُ إنسان في مأمنٍ من الأمراض الثقيلة، وذلك المبلغُ الذي هو اثنان في المائة من الربح هو ثمن جراميقَ من المطاط تُنْقِذُ مليونَ فلاحٍ من المرض الذي ينهك قُوَاهم الحيوية فيُعَدُّ فِدْيَةَ المَلِك القطنِ.

١  القند: عسل قصب السكر إذا جمد.
٢  نسبة إلى بطل إحدى روايات غوته.
٣  ماره: أتاه بالطعام والمؤنة.
٤  هو الاسم الإغريقي لسيد الآلهة جوبيتر كما جاء في الأساطير.
٥  أبلس: انكسر وحزن ويئس.
٦  Malaria.
٧  الكلل: جمع الكلة، وهي غشاء رقيق يُخاط كالبيت يتوقى به من البعوض ويُعرف ﺑ «الناموسية».
٨  عزق الأرض: شَقَّهَا وأخرج منها الماء.
٩  البلهارزيا.
١٠  أنكلوستوما.
١١  التلاع: جمع التلعة، وهي ما علا من الأرض.
١٢  جمم المكيال: ملأه إلى رأسه.
١٣  المغايض: جميع المغيض، وهو مجتمع الماء ومدخله في الأرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤